أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   الخيمة الإسلامية (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=8)
-   -   الأربعون النووية ( بالفلاش ) مع الشرح .. (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=37866)

الوافـــــي 05-03-2004 03:11 PM

مما يتصل -أيضا- بهذا الحديث، والكلام على البدع والمحدثات يطول، لكن ننبه على أصول فيها، مما يتصل به من الفرق بين مُحْدَث ومُحْدَث، أن هناك محدثات لم يجعلها الصحابة -رضوان الله عليهم- من البدع؛ بل أقروها، وجعلوها سائغة، وعُمِلَ بها، وهذه هي التي سماها العلماء -فيما بعد- المصالح المرسلة، والمصالح المرسلة للعلماء فيها وجهان من حيث التفسير، ومعنى المصالح المرسلة أن هذا العمل أرسل الشارع حكمه باعتبار المصلحة، فإذا رأى أهل العلم أن فيه مصلحة فإن لهم أن يأذنوا به لأجل أن الشارع ما عَلَّق به حكما، وهذا يأتي بيان صفاته .
قال العلماء : المصالح المرسلة تكون في أمور الدنيا، لا أمور العبادات، وفي أمور الدنيا، في الوسائل منها التي يُحَقَّقُ بها أحد الضروريات الخمس، يعني: أن الشريعة قامت على حفظ ضروريات خمس معلومة لديكم: الدين، والنفس، والمال، والنسل، والعقل.
هذه الخمس وسائل حفظها -هذه من المصالح المرسلة- وسائل حفظ الدين مصلحة مرسلة، لك أن تُحْدِثَ فيها ما يحفظ دين الناس، مثل تأليف الكتب ، تأليف الكتب لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأُحْدِثَ تأليف الكتب، تأليف الردود، جمع الحديث ما كان، نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُكْتَب حديثه، ونهى عمر أن يُكْتَب حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم كُتِب.
هذا وسيلة لم يكن المُقْتَضِي لها في هذا الوقت قائما، ثم قام المقتضي لها، فصارت وسيلة لحفظ الدين، صارت مصلحة مرسلة، وليست بدعة.
فإذن من المهمات في هذا الباب أن تُفَرِّق ما بين البدعة، وما بين المصلحة المرسلة؛ فالبدعة في الدين، متجهة إلى الغاية، وأما المصلحة المرسلة فهي متجهة إلى وسائل تحقيق الغايات، هذا واحد.
الثاني: أن البدعة قام المقتضي لفعلها في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم تُفْعَل، والمصلحة المُرْسَلَة لم يقمْ المقتضي لفعلها في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم.
فإذن إذا نظرنا -مثلا- إلى جمع القرآن، جَمْعُ القرآن جُمِعَ بعد النبي -عليه الصلاة والسلام-، في عهده -عليه الصلاة والسلام- لم يُجْمَع، فهل نقول جمع القرآن بدعة؟
العلماء أجمعوا -من الصحابة ومن بعدهم- أن جمع القرآن من الواجبات العظيمة التي يجب أن تقوم بها الأمة، هنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما قام المقتضي للفعل؛ لأن الوحي يتنزل، فلو نُسِخَ القرآن كاملا لكان هناك إدخال للآيات في الهوامش أو بين السطور، وهذا عرضة لأشياء غير محمودة.
فكان من حكمة الله -جل وعلا- أنه ما أمر نبيه بجمع القرآن في كتاب واحد في حياته -عليه الصلاة والسلام- ؛ وإنما لما انتهى الوحي بوفاة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- جمعه أبو بكر، ثم جُمِعَ بعد ذلك .
وفي أشياء شتى من إنشاء دواوين الجند، ومن استخدام الآلات، ومن تحديث العلوم، ومن الاهتمام بعلوم مختلفة، وأشباه ذلك من فتح الطرقات، وتكوين البلديات والوزارات، وأشباه هذا في عهد عمر رضي الله عنه وفي عهد أمراء المؤمنين فيما بعد ذلك .
إذن فالحاصل من هذا أن المصلحة المرسلة مُحْدَثَة، ولكن لا ينطبق عليها هذا الحديث: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) لأن هذه ليست في الأمر؛ وإنما هي في وسيلة تحديث الأمر، فخرجت عن شمول هذا الحديث من هذه الجهة.
ومن جهة ثانية أنها إحداث ليس في الدين؛ وإنما هو في الدنيا لمصلحة شرعية تعلقت بهذا العمل.
سمَّاها العلماء مصالح مرسلة، وجُعِلَتْ مطلوبة من باب تحقيق الوسائل؛ لأن الوسائل لها أحكام الغايات، فهي واجبة ولا بد من عملها؛ لأن لها حكم الغايات.
العبادات قسم من الشريعة، والمعاملات قسم من الشريعة، فالعبادات إحداث أمر في عبادة على خلاف سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم محدث وبدعة في الدين.
وكذلك في المعاملات، إحداث أوضاع في المعاملات على خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو أيضا مردود؛ لأنه مُحْدَثٌ في الدين.
مثاله: أن يُحَوِّلَ -مثلا- عقد الربا من كونه عقدا محرما إلى عقد جائز، فهذا تبديل للحكم، أو إحداث لتحليل عقد حَرَّمه الشارع، أو يبطل شرطا من الشروط الشرعية التي دَلَّ عليها الدليل، فإبطاله لهذا الشرط مُحْدَثٌ أيضا، فيعود عليه بالرد.
أو أن يُحَوِّلَ -مثلا- عقوبة الزنا من كونها رجما للمُحْصَن، أو الجلد والتغريب لغير المحصن، إلى عقوبة مالية، فهذا رد على صاحبه، ولو كانت في المعاملات؛ لأنها إحداث في الدين ما ليس منه، وهذا يختلف عن القاعدة المعروفة أن: الأصل في العبادات التوقيف، والأصل في المعاملات الإباحة وعدم التوقيف.
هذا -يعني- فيما يكون في معاملات الناس، أما إذا كان هناك شرط شرعي أو عقد، شرط شرعه الشارع، وأمر به واشترطه، أو عقد أبطله الشارع، فلا يدخل فيه جواز التغيير؛ وإنما جواز التغيير، أو التجديد في المعاملات، وأنها مبنية على الإباحة والسعة، هذا فيما لم يدل الدليل على شرطيته، أو على عقده، أو على إبطال ذلك العقد، وما شابه ذلك.
وعلى هذا قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث بريرة المشهور : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط ) .
فهذا الحديث يأتي في جميع أبواب الدين، يأتي في الطهارة، وفي الصلاة، وفي الزكاة، والصيام، والحج، وفي البيوع والشركات، والقرض، والصرف، والإجارة إلى آخره ، النكاح والطلاق، وجميع أبواب الشريعة، كما هو معروف في مواضعه من تفصيل الكلام عليه.

إنتهى شرح الحديث الخامس

تحياتي

:)

muslima04 05-03-2004 04:07 PM

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،

جزاك الله عنا كل خير أخي الوافي.

واسمح لي أخي بسؤال بارك الله فيك.

أنطلق بإذن الله من هذا الحديث الشريف:قال -عليه الصلاة والسلام- : ( إنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ ؛ فإن كل محدثة بدعة ) .

فهذا الحديث يشمل كل التفسير،لكن هناك شيء لم أفهمه،أنظر إلى هذا المقطع:
إقتباس:

يعني: أن الشريعة قامت على حفظ ضروريات خمس معلومة لديكم: الدين، والنفس، والمال، والنسل، والعقل.
هذه الخمس وسائل حفظها -هذه من المصالح المرسلة- وسائل حفظ الدين مصلحة مرسلة، لك أن تُحْدِثَ فيها ما يحفظ دين الناس، مثل تأليف الكتب ، تأليف الكتب لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأُحْدِثَ تأليف الكتب، تأليف الردود، جمع الحديث ما كان، نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُكْتَب حديثه، ونهى عمر أن يُكْتَب حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم كُتِب.


يعني حسب ما فهمت،هذا لا يعد بدعة لأنه شيء لا يتعلق بالدين،يمكن أن نحدث فيه،نعم لكن هل هذا لا يعد عصيان؟ يعني سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وكذلك سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه،لكن رغم ذلك فعل،فما حكم ذلك،يعني الله يقول أن ننهى عن ما نهانا هو ورسوله،والرسول صلى الله عليه وسلم يقول أن نتبع الخلفاء الراشدين أيضا،فلماذا أحدثنا هذا الأمر؟

إقتباس:

فإذن إذا نظرنا -مثلا- إلى جمع القرآن، جَمْعُ القرآن جُمِعَ بعد النبي -عليه الصلاة والسلام-، في عهده -عليه الصلاة والسلام- لم يُجْمَع، فهل نقول جمع القرآن بدعة؟

أبدا،وما هي علاقة هذا بذاك؟ فجمع القرآن لم ينهى عنه الرسول،ثم إنه جمع في عهد الرسول على يد الخليفة أبو بكر الصديق،وقد أشاره على ذلك سيدنا عمر رضي الله عنه على إثر موت عدد كبير من قراء الصحابة وحفظة القرآن في معركة اليمامة من حروب الردة،ثم إن سيدنا أبو بكر لم يبدأ في ذلك الأمر حتى تبين له وجه المصلحة وشرح الله له صدره لذلك العمل الجليل،ثم أرسل إلى زيد بن ثابت وعرض عليه الأمر،ففعل بعد أن تررد،لكن شرح الله له صدره لذلك الأمر،إضافة إلى أنه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان كل واحد يملك قرآنا مكتوب بيده،يعني يكتبون ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من آيات ليحفظونها،ولم ينهى عن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم،ثم إذا رجعنا إلى الحديث في الأعلى،فكيف لنا أن نقول أن جمع القرىن الكريم بدعة وفعله الخلفاء الراشدين؟؟؟

لكن نهى الرسول صلى الله عليه وسلم و سيدنا عمر أن يكتب الحديث،لكن رغم ذلك فعل،فلم يجوز القول عن هذا الأمر أنه غير بدعة رغم أنه فيه مصلحة للناس،لكن يعني ما نهى عنه الرسول،ثم الخليفة عمر إلا ووراءه حكمة،لابد أن يكون خطأ فعله،فلم فعله لا يعتبر بدعة؟؟؟

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

الوافـــــي 01-04-2004 07:50 PM

أختي / مسلمة

لو رجعتي لتفسير الحديث فستجدين إجابةً لكل تساؤلاتك
ولكني سأجيب هنا بإختصار

القرآن الكريم لم يتم جمعه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصحف واحد
ولكنه دون في عدة رقاع
ولم يتم البدء في جمعه إلا في زمن سيدنا أبو بكر وانجز في زمن سيدنا عثمان
وقد جاء في الشرح ما يلي
إقتباس:

العلماء أجمعوا -من الصحابة ومن بعدهم- أن جمع القرآن من الواجبات العظيمة التي يجب أن تقوم بها الأمة، هنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما قام المقتضي للفعل؛ لأن الوحي يتنزل، فلو نُسِخَ القرآن كاملا لكان هناك إدخال للآيات في الهوامش أو بين السطور، وهذا عرضة لأشياء غير محمودة.

وأما الحديث فقد جاء في الشرح ما نصه
إقتباس:

جمع الحديث ما كان، نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُكْتَب حديثه، ونهى عمر أن يُكْتَب حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم كُتِب.
هذا وسيلة لم يكن المُقْتَضِي لها في هذا الوقت قائما، ثم قام المقتضي لها، فصارت وسيلة لحفظ الدين، صارت مصلحة مرسلة، وليست بدعة.
فإذن من المهمات في هذا الباب أن تُفَرِّق ما بين البدعة، وما بين المصلحة المرسلة؛ فالبدعة في الدين، متجهة إلى الغاية، وأما المصلحة المرسلة فهي متجهة إلى وسائل تحقيق الغايات، .

أشكر لك مرورك أختي الكريمة وتفاعلك بهذا الموضوع
وأسأل الله أن ينفعنا بما علمنا

تحياتي

:)

الوافـــــي 01-04-2004 08:03 PM

الحديث السادس

إن الحلال بين وإن الحرام بين

وعن أبي عبد الله النعمان بن البشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الحلال بَيِّن وإن الحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) رواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث -حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه عَدَّه العلماء ثلث الدين أو ربع الدين ؛ فإن الإمام أحمد قال: أحاديث الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: ( إنما الأعمال بالنيات ) وحديث عائشة السابق: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وحديث النعمان بن بشير.
وذلك أن حديث النعمان دَلَّ على أن الأشياء منقسمة إلى حلال بَيِّن، وإلى حرام بَيِّن ، وإلى مشتبه.
فالحلال البَيِّن والحرام البَيِّن واضح الحكم، والمشتبه جاء حكمه في هذا الحديث، والحلال يحتاج إلى نية، وإلى متابعة، وعدم إحداث فيه من أمور العبادات والمعاملات ، وكذلك الحرام يحتاج إلى نية في تركه حتى يؤجر عليه، إلى آخر ذلك .
فصار هذا الحديث ثلث الإسلام.
وأبو داود صاحب السنن جعل الأحاديث أربعة، وزاد عليها حديث: ( الدين النصيحة ) الحديث الذي سيأتي بعد هذا -إن شاء الله تعالى.
هذا يدل على أن هذا الحديث موضعه عظيم في الشريعة؛ فهو ثلث الدين لمن فهمه
ففيه أن الأحكام ثلاثة:
حلال بَيِّن واضح لا اشتباه فيه
وحرام بَيِّن واضح لا اشتباه فيه
وثالث مشتبه لا يعلمه كثير من الناس، ولكن يعلمه بعضهم.

فالحلال البَيِّن الواضح من أتاه فهذا على بينة، بين للناس، والحرام البين الواضح أيضا بَيِّن للناس، لا اشتباه فيه، فمن انتهى عنه فهو مأجور، ومن وقع فيه فهو مأزور.
وهناك ما هو مشتبه، ومن أجل هذا المشتبه جاء هذا الحديث من الرءوف الرحيم -عليه الصلاة والسلام-، فقال : ( الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهات ) .
الحلال البين مثاله أنواع المأكولات المباحة، تأكل اللحم والخبز، وتشرب الماء إلى آخره ، أنواع العلاقات المالية المباحة، البيع الواضح، الصرف الواضح إلى آخره، أنواع الإجارة الواضحة ، الزواج الواضح، وأشباه ذلك مما اكتملت فيه الشروط ولا شبهة فيه، فهذا بين يعلمه الناس، وأيضا هو درجات.

والحرام بين -أيضا- واضح مثل حرمة الخمر، وحرمة السرقة، وحرمة الزنا، وحرمة قذف الغافلات المؤمنات، وحرمة الرشوة، وأشباه ذلك مما الكلام فيها واضح لا اشتباه فيه .

القسم الثالث: قال: ( وبينهما أمور مشتبهات ) قال -عليه الصلاة والسلام-: "وبينهما" فجعل هذا القسم بين الحلال والحرام؛ وذلك لأنه يجتذبه الحلال تارة، ويجتذبه الحرام تارة عند من اشتبه عليه، فالذي اشتبه عليه هذا الأمر يكون عنده بين الحلال والحرام، لا يدري هل هو حرام أو هو حلال، إن نظر فيه من جهة قال هو حلال، وإن نظر فيه من جهة جعله حراما، وهذا عند كثير من الناس، وأما الراسخون في العلم فيعلمونه، يعلمون حكمه، هل هو حلال أو حرام؟.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ) فدل قوله: ( لا يعلمهن كثير ) على أن هناك كثيرا من الناس يعلمون الحكم.

.. يتبع ..

الوافـــــي 01-04-2004 08:06 PM

هذه المشتبهات اختلف العلماء في تفسيرها
ما هي المشبهات؟
في أقوال كثيرة جدا، وصُنِّفَتْ فيها مصنفات، وشروح هذا الحديث في الكتب المطولة طويل أيضا في تفسير المشتبهات، ووضوحها ينبني على فهم معنى المشتبه في اللغة وفي القرآن أيضا.

أما في اللغة، فاشتبه الشيء: بمعنى اختلط، يعني: صار يتنازعه أشياء متعددة جعلته مختلطا على الناظر أو على السامع، اشتبهت الأشياء عند عينه، بمعنى اختلطت، ما يميز هذا من هذا، اشتبهت الأصوات عليه، يعني: تداخلت، فلم يميز هذا من هذا.
فالمشتبهات في اللغة لا يتضح منها الأمر عند كثير من الناس لضعف قوته، كما أن الناظر -لضعف بصره- اشتبه عليه، والسامع -لضعف سمعه- اشتبه عليه، فكذلك المسائل التي تُدْرَك بالقلب تدرك بالبصيرة، تشتبه من جهة ضعف البصيرة ضعف العلم.

أما في القرآن فجعل الله -جل وعلا- المشتبهات أو المتشابهات فيما يقابل المحكمات، في آية سورة "آل عمران"، وهي قوله -جل وعلا-: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7}.
فدلت الآية على أن المحكم ما كان واضحا بَيّنًا، والمشتبه ما يشتبه علمه على الناظر فيه .

وما في الحديث غير ما في الآية، من جهة أن ما في الآية من جهة المعاني -معاني الآيات- لأنه قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7}سورة آل عمران.
فمعنى الآية يشتبه، والحديث من جهة العمل، من جهة الحكم، هل هذه من الحلال، أو هي من الحرام ؟

فإذن من جهة الاشتباه الأمر واحد، أن المشتبه فيما دلت عليه آية "آل عمران" هو غير الواضح، وهذا نستمسك به في تفسير المشتبه في هذا الحديث؛ لأن الكلمة إذا اشتبه معناها، أو اختلف العلماء في معناها، فإرجاعها إلى عُرْفِ الشارع، في كلامه، يعني إلى ما كان عليه استعمال الشارع في القرآن، فهذا يريحنا من إشكال تفسير الكلمة، فإذا نظرنا في هذه الكلمة مشتبهات، فجعلها بعض العلماء اختلاط المال المباح مع المال الحرام، جعلها بعضهم فيما اختلف فيه العلماء في أقوال ربما يأتي بعضها.
فتفسيرها الصحيح أن نجعلها مثل آية "آل عمران"، يعني: ما اتضح ما لم يتضح للمرء، ما لم يتضح حكمه فهو مشتبه، وما اتضح حكمه من الحلال فهو حلال، وما اتضح حكمه من الحرام فهو حرام، وهذه محكمات، وما اشتبه حكمه فهو من غير الواضح، من المتشابهات، أو المشتبهات، أو المشبهات كما هي روايات في هذا الحديث .

الإمام أحمد -رحمه الله- وإسحاق وجماعة من أهل العلم فسروا المشتبهات بما اختلف الصحابة في حله وحرمته، أو اختلف العلماء في حله وحرمته، فقالوا -مثلا- أكل الضب اختلفوا فيه، فيكون من قبيل المشتبه، وقالوا: إن أكل ذي الناب من السباع اختلف فيه العلماء، فيكون من قبيل المشتبه، أو لبس بعض الملابس اختلفوا فيها، فيكون من قبيل المشتبه، وجعلوا اختلاف المال حلال وحرام، هذا من قبيل المشتبه في أشياء، وشرب ما يسكر كثيره من قبيل المشتبه، من جهة الناظر فيه، وهذا -في الحقيقة- ليس واضحا، وهذه إذا جُعِلَتْ من المشتبهات فهذا من جهة التأويل، لا من جهة كونها مشتبهات بينة.
فالإمام أحمد وإسحاق وجماعة إذا قالوا عن هذه الأشياء: إنها مشتبهات، فيعنون أنه ينبغي لمن ذهب إلى القول المبيح أن يستبرئ، من ذهب إلى القول المبيح في المُسْكِر لا بد له أن يستبرئ لدينه ويذهب إلى القول الآخر، في أكل الضب السنة فيه واضحة، فينبغي أن يترك رأيه إلى السنة للأمر الواضح، يعني: قالوا إنها من المشتبهات باعتبار الخلاف، وهذا ليس هو المقصود بالحديث؛ وإنما هم نظروا في اختلاف العلماء في ذلك.
والذي ينبغي حمل الأحاديث عليه ما ذكرت لك من أن المشبهات، أو المشتبهات، أو المتشابهات هي ما اشتبه علمه، ما اشتبه حكمه على من يحتاج إليه، فإذا اشتبه عليه حكم هذا البيع فاستبراؤه له حماية لعلمه، حماية لدينه ، إذا اشتبه عليه حكم هذه المرأة، هل هي مباحة له أم غير مباحة؟

.. يتبع ..

الوافـــــي 01-04-2004 08:09 PM

فالاستبراء أن يتوقف حتى يأتيه إما أن تكون حلالا بينا أو حراما بينا .
إذا تقرر ذلك فإنه، إن المشتبهات هذه لها حالان:

الحال الأولى: ما يتوقف فيه العلماء، فيتوقف العالم في حكم المسألة، يقول: أنا متوقف فيها. والعلماء توقفوا في شيء مثل بعض المسائل الحادثة الآن، تأتي مسألة -مثلا- من مسائل البيوعات أو مسائل المال الجديدة التي يحدثها الناس، والعلماء حتى ينظروا فيها لا بد أن يتوقفوا.
في بعض المسائل الطبية -مثلا- توقف العلماء، والعلماء توقفهم ليس عن عجز، ولكن حماية لدينهم هم؛ لأنهم سيفتون الأمة، وإذا أفتوا الأمة فالحلال الذي صار في الأمة حلالا منسوب إليهم، وهم وقعوا عن رب العالمين -جل وعلا- يعني: أفتوا عن الله -سبحانه- ، فينبغي أن يتوقفوا حتى تتبين لهم، فإذا توقف العلماء في مسألة فإذن هي من المشتبهات حتى يتبين حكمها للعالم، هذا النوع الأول.

والنوع الثاني من المشتبهات: ما تشتبه على غير العالم، فينبغي أن لا يواقعها حتى يردها إلى العالم، ينبغي: يعني وجوبا؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "وبينهما" يعني: بين الحلال والحرام. ( أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ) .
في قوله: ( لا يعلمهن كثير من الناس ) إرشاد إلى أن هناك من يعلم، فتسأل من يعلم عن حكم هذه المسألة.
قال: ( فمن اتقى الشبهات ) يعني: قبل أن يصل إليه العلم، أو في المسألة التي توقف فيها أهل العلم.
( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) أما استبراء الدين فهو من جهة الله -جل وعلا-؛ حيث إنه إذا استبرأ فقد أتى ما يجب عليه، متوقف فيها فأنا لا أقدم عليها؛ لأنها ربما كانت حراما، والمؤمن مُكَلَّف، فينبغي عليه وجوبا ألا يأتي شيئا وهو يعلم أنه حلال، وإذا أراد أن يُقْدِم على شيء، يقدم على شيء يعلم أنه غير حرام.
فمن توقف عن الحلال المشتبه أو عن الحرام المشتبه فقد استبرأ للدين؛ لأنه ربما واقع، فصار حراما، وهو لا يدري.
هل يقال هنا: هو لا يدري معذور ؟ لا، غير معذور؛ لأنه يجب عليه أن يتوقف حتى يتبين له حكم هذه المسألة، يأتيها على أي أساس؟ هو مكلف، لا يعمل عمل إلا بأمر من الشرع، فلهذا قال: ( فقد استبرأ لدينه ) .
قال: "وعرضه" وعرضه لأنه -في أهل الإيمان- من أقدم على الأمور المشتبهات فإنه قد يُوقَع فيه، قد يُتَكَلَّم فيه بأنه قليل الديانة؛ لأنه لم يستبرئ لدينه، فإنه إذا ترك مواقعة المشتبهات استبرأ لعرضه، وفي هذا حث على أن المرء لا يأتي ما يُعاب عليه في عرضه، فالمؤمن يرعى حال إخوانه المؤمنين، ونظرة إخوانه المؤمنين إليه، ولا يأتي بشيء يقول: أنا لا أهتم بقول أهل الإيمان، لا أهتم بقول أهل العلم، لا أهتم بقول طلبة العلم؛ فإن استبراء العرض حتى لا يوقع فيه هذا أمر مطلوب.

وقد جاء في الأثر: "إياك وما يشار إليه بالأصابع". يعني: من أهل الإيمان، حيث ينتقدون على العامل عمله فيما لم يوافق فيه الشريعة .
قال: ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) هنا "وقع في الحرام" فُسِّرَتْ بتفسيرين: الحرام الذي هو أحد الجانبين الذي الشبهات فيما بينهما؛ لأن جانب حلال، وجانب حرام، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام الذي هو أحد الجهتين، وفُسِّرَ الحرام بأنه وقع في أمر مُحَرَّم؛ حيث لم يستبرئ لدينه، حيث وقع في شيء لم يعلم حكمه، شيء مسألة واقعتها بلا علم منك أنه جائز، فلا شك أن هذا إقدام على أمر دون حجة.
( فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) وهذا في المسائل التي تتنازعها الأمور بوضوح، هناك مسائل من الورع يستحب تركها، ليست هي المقصودة بهذه الكلمة؛ لأنه قال: ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) .

.. يتبع ..

الوافـــــي 01-04-2004 08:12 PM

ثم مَثَّلَ ذلك -عليه الصلاة والسلام- بقوله:
( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) الراعي يكون معه شيء من الماشية، الماشية من طبيعتها أنها -في بعض الأحيان- تخرج عن مجموع الماشية وتذهب بعيدا، فإذا قارب حمى محمية، مثلا: أرض محمية للصدقة، أو محمية في ملك فلان، أو ما أشبه ذلك، فإن مقاربته بماشيته للحمى لا بد أن يحصل منها بعضها منهم، ويأخذ من حق غيره.
وهذا تمثيل عظيم في أن ( حِمَى الله محارمه ) وما هو داخل هذا الحمى هو الدين، وهذه المحارم حمى، فمن قارب فلا بد أن يحصل منه مرة أن يتوسع، فيدخل في الحرام، حتى في الأمور التي يكون عنده فيها بعض التردد، لا كل التردد.
فلهذا مَثَّلَ -عليه الصلاة والسلام- بهذا المثال العظيم، فقال: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) لأنه قَارَب.
قال: ( ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه ) فحمى الله محارمه، بها يقوَى دين المرء.
فهذا الحديث واضح الدلالة في أن من قارب الحمى ، من قارب المحارم ، من قارب الحرمات فإنه يوشك أن يقع في المحرم من جرّاء تساهله .
نفهم من هذا الحديث أن الحلال البَيِّن واضح، والحرام البين واضح، والمشبهات المشتبهات عرفنا تعريفها، وحكمها، وتقسيمات الكلام عليها، وأنه يجب على صاحب الدين، يجب على المسلم ألا يأتي شيئا إلا وهو يعلم حكمه، إذا لم يعلم فليسأل، فتكون إذن المسألة مشتبهة عليه، ويزول الاشتباه بسؤال أهل العلم، فإن بقيت مشتبهة على أهل العلم، فإنه -يعني حتى يحكموا فيها- فإنه يتوقف معهم حتى يعمل ذلك.

هناك مسائل ليست مشتبهة -يعني في الأحكام- لكونها تبع الأصل جريان القواعد عليها، دخولها ضمن الدليل، فإذن المسائل التي اختلف العلماء فيها لا تدخل ضمن هذا الحديث من جهة كونها مشتبهة؛ بل نقول: هذه مسألة اختلف فيها العلماء، فإذن يخرج منها بتاتا على جهة أن من وقع فيها وقع في الحرام، لا ؛ ولكن هذا على وجه الاستحباب.

وهذا هو الذي فهمه العلماء من الحديث: أن الخروج من خلاف العلماء مستحب، يعني: أن العلماء إذا اختلفوا في مسألة، فالخروج من خلافهم إلى متيقن، هذا مستحب، وهذا صحيح باعتبارات، وفي بعض تطبيقاته قد لا يكون صحيحا في تفاصيل معلومة.
مثاله -مثلا-: قصر الصلاة في السفر، جمهور العلماء -يعني جمهور الأئمة الأربعة- مالك والشافعي وأحمد حَدّوا المدة بنية إقامة أربعة أيام فصاعدا، في أنه إذا نوَى إقامة أربعة أيام فصاعدا لم يترخص برخصة السفر، وهناك قول ثانٍ للحنفية بأن له أن يترخص ما لم يُزْمِع إقامة أكثر من خمسة عشر يوما، وهناك قول ثالث لشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم: بأن له أن يترخص حتى يرجع إلى بلده.

فهذه أقوال ثلاثة:
القول الأول -وهو كونها أربعة أيام- رُجِّحَ على غيرها من جهة أن المسألة من حيث الدليل مشتبهة، وإذا كان كذلك فالأخذ فيها باليقين استبراء للدين؛ لأن الصلاة ركن الإسلام الثاني، فأَخْذُ اليقين في أمر الصلاة هذا مما دَلَّ عليه هذا الحديث، لأنه استبراء للدين؛ لأن الأربعة أيام هذه بالاتفاق أنه يترخص فيها، وأما ما عداها فهو مختلف فيه، فإذا كان كذلك فالخروج من الخلاف هنا مستحب، فنأخذ بالأحوط.
ولهذا رجح كثير من المحققين هذا القول باعتبار الاستبراء، وأن في الأخذ به اليقين في أمر الصلاة، التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وأعظم الأركان العملية.
من المسائل التي -أيضا- يتعرض لها العلماء في هذا الحديث الأكل من مال من اختلط في ماله الحلال الحرام، أعني رجلا مثلا في ماله حرام، نعلم أنه يكتسب من مكاسب محرمة؛ إما أنه يرتشي، أو عنده مكاسب من الربا، أو ما أشبه ذلك، وعنده مكاسب حلال، فما الحكم في شأنه؟
جعله بعض العلماء داخلا في هذا الحديث، وأن الورع الترك على سبيل الاستحباب؛ لأنه استبراء.
وطائفة من أهل العلم قالوا: بحسب ما يغلب، فإن كان الغالب عليه الحرام فإنه يُسْتَبْرَأ، وإن كان الغالب عليه الحلال فإنه يجوز أن تأكل منه، ما لم تعلم أن عَيْن ما قُدِّمَ لك من الحرام .
وقال آخرون -منهم ابن مسعود رضي الله عنه لك أن تأكل، والحرام عليه، لتَغَيُّر الجهة، فهو اكتسبه من حرام، وحين قدم لك قدمه على أنه هدية، أو على أنه إضافة أو هبة، أو ما أشبه ذلك، وتَغَيُّر الجهة يغير الحكم كما في حديث بريرة: قالوا: يا رسول الله، في اللحم إنه تصدق به على بريرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة ، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( هو عليها صدقة، ولنا هدية ) .
لاختلاف الجهة، مع أنه عين المُهْدَى وهو اللحم، فقال جماعة من الصحابة ومن أهل العلم: إنه يأكل والحرام على صاحبه، على من قدمه، وأما هذا فقدمه على أنه هدية، فلا بأس بذلك.
وقال آخرون في هذه المسألة: إنه يأكل منه ما لم يعلم أن هذا المال بعينه حرام، يعني: أن عين ما قَدَّم حرام، فإذا علم أن عين ما قدم حرام فلا يجوز له أكل هذا المعين، ويجوز أكل ما سواه، واستدلوا على ذلك بأن اليهود كانوا يقدمون الطعام للنبي -عليه الصلاة والسلام- ، وكانوا يأكلون الربا ، وكان -عليه الصلاة والسلام- ربما أكل من طعامهم.
فيه تفاصيل، المقصود من هذا -كمثال- لاختلاف العلماء في تنازعٍ في هذه المسألة، هل تدخل في هذا الحديث أم لا ؟ وجملتهم على دخوله من جهة الورع، وليس على دخوله من جهة أنه من أكل فقد أكل حراما، مع أن عددا من المحققين رَجَّحوا قول ابن مسعود، وهو ترجيح ظاهر من حيث الدليل، كابن عبد البر في "التمهيد"، وكغيره من أهل العلم في تفاصيل يطول الكلام عليها.

قال -عليه الصلاة والسلام- : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب ) .
فهذا فيه أن صلاح القلب -الذي هو معدن الإيمان- به يكون التورع، به يكون التوقف عن الشبهات، به يكون الإقدام على المحرمات، هذا راجع إلى القلب، والقلب إذا صلح، صلح الجسد كله في تصرفاته، وإذا فسد فسد، الجسد كله.
تعليق هذا بالقلب، قال: ( ألا وإن في الجسد مضغة ) والقلب -من حيث إدراك المعلومات- هو الذي يدرك، فعند المحققين من أهل العلم، والذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة أن هذا معلق بالقلب، يعني: حصول الإدراكات، وحصول العلوم، والصلاح والفساد والنيات ..إلى آخره، هذا معلق بالقلب.
إذا كان كذلك، فما وظيفة الدماغ أو المخ ؟
وظيفته الإمداد ، هذا على قول المحققين من أهل العلم، فاختلفوا في العقل؛ هل هو في القلب أم في الرأس؟ والصحيح أنه في القلب، والعقل ليس جرما؛ وإنما المقصود به إدراك المعقولات، والدماغ وما في الرأس هذه وسيلة تمد القلب بالإدراكات.
القلب هل يدرك من جهة كونه مضغة ؟
لا ، يدرك من جهة كونه بيت الروح ، والله أعلم

وصلى الله وسلم على نبينا محمد .


إنتهى شرح الحديث السادس


muslima04 03-04-2004 04:02 PM

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،

جزاك الله خيرا أخي الوافي على مجهوداتك الرائعة،جعله في ميزان حسناتك،وفقك الله لما يرضيه تعالى دائما وأبدا.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

الوافـــــي 10-04-2004 02:12 PM

الأخت الكريمة / muslima04

جزاك الله خيرا على طيب ما كتبت

تحياتي

:)

الوافـــــي 10-04-2004 02:14 PM

الحديث السابع

الدين النصيحة

قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
وعن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الدين النصيحة. قلنا لمن ؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم .
هذا الحديث -حديث تميم الداري- من الأحاديث الكلية العظيمة التي اشتملت على الدين كله، على حقوق الله، وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى حقوق عباده، فليس ثَمَّ أجمع في بيان تلك الحقوق من لفظ النصيحة.
والنصيحة -هذه فعيلة- من النصح، وأصل النصح في لغة العرب فُسِّرَ بأحد تفسيرين:
الأول : أن النصح بمعنى الخلوص من الشوائب والشركة، فيقال: عسل ناصح أو نصوح، إذا لم يَشُبْهُ شيء.
وفُسِّرَ -وهو الثاني- فُسِّرَتْ النصيحة بأنها التئام شيئين بحيث لا يكون ثَمَّ تنافر بينهما، فيُعْطَى هذا الصلة بهذا حتى يكون التئام يوافق ما بين هذا وهذا.
قالوا: ومنه قيل للخياط: ناصح؛ لأنه ينصح الطرفين، إذ يجمعهما بالخياطة.
والنصيحة عُرِّفَتْ -يعني: في هذا الحديث- بأنها: إرادة الخير للمنصوح له، وهذا يتعلق بنصح أئمة المسلمين وعامتهم.
أما في الثلاثة الأول، فإن النصيحة -كما ذكرنا- أن تكون الصلة بين الذاتين على التئام، بحيث يكون هذا قد أعطى حق هذا، فلم يكن بينهما تنافر.
ومعلوم أن العبد في صلته بربه أن عليه حقوقا كثيرة واجبة ومستحبة، وكذلك في حق القرآن، وكذلك في حق المصطفى -عليه الصلاة والسلام.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( الدين النصيحة ) وجعل الدينَ كلَّه النصيحة؛ لأنه -كما سيأتي تفصيله- لأن النصيحة تجمع الدين كله بواجباته ومستحباته، ففسرها بعد ذلك بقوله: ( قلنا: لمن يا رسول الله ؟ ) … إلى آخر الحديث.
قال بعض العلماء: ( الدين النصيحة ) يعني: أن معظم الدين وجُلّ الدين النصيحة، وهذا على أخذ نظائره، كقوله: ( الدعاء هو العبادة ) و ( الحج عرفة ) وأشباه ذلك.
لكن إذا تأملت في كون هذه الأشياء لها النصيحة رأيت أنها جمعت الدين كله، في العقائد، وفي العبادات والمعاملات، وفي حقوق الخلق، وحقوق من له الحق بجميع صوره.

.. يتبع ..

الوافـــــي 10-04-2004 02:17 PM

( قالوا: لمن يا رسول الله ؟ )
واللام هنا في قولهم: لمن، يعني: للاستحقاق، النصيحة لله، يعني مستحقة، قالوا: لمن؟ يعني: من يستحقها في الدين؟
فأجابهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله ، قال: ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) .

فاشتملت على أشياء، على أمور:
الأول: النصيحة لله:
وهي كلمة جامعة لأداء حق الله -جل وعلا- الواجب والمستحب، فحق الله الواجب هو الإيمان به، بربوبيته وإلهيته، وبأسمائه وصفاته، إيمان بأنه هو الرب المتصرف في هذا الملكوت وحده، لا شريك له في ربوبيته، ولا في تدبيره للأمر، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد سبحانه وتعالى.
والنصيحة لله في ألوهيته أن يُعْطَى الحق الذي له في ألوهيته، وهو أن يُعْبَد وحده بجميع أنواع العبادات، وألا يُتَوَجَّه لأحد بشيء من العبادات إلا له -سبحانه وتعالى-، كل عبادة تُوُجِّه بها إلى غير الله -جل وعلا- فهي خروج عن النصيحة لله -جل وعلا-، يعني عن أداء الحق الذي له سبحانه وتعالى.
أيضا من النصيحة لله -جل وعلا- أن يُحَبَّ -جل وعلا- ، وأن يُتَّبَع أمره، وأن تتبع شريعته -جل وعلا-، وأن يصدق خبره -جل وعلا-، وأن يقبل عليه المرء بقلبه مخلصا له الدين.
فالإخلاص في الأقوال والأعمال حق الله -جل وعلا-، والذي يقع في قلبه غير الله في الأعمال -من جهة الرياء أو من جهة التسميع- ما أدى الذي لله -جل وعلا-.
وهناك -أيضا- أشياء مستحبة لله -جل وعلا- من مثل أن -يعني في حق الله -جل وعلا- من مثل ألا يقوم بالقلب غيره -جل وعلا-، فيُزْدَرَى الخلق في جنب الله -جل جلاله-، وأن يراقب الله -جل وعلا- دائما في السر والعلن، فيما يأتي وما يذر من الأمور المستحبة، وأن يستحضر مقامه بين يدي الله -جل وعلا- دائما في الآخرة، ونحو ذلك مما يدخل في المستحبات؛ فإن النصيحة فيه لله -جل وعلا- مستحبة، فهي منقسمة إلى ما أوجبه الشرع في حق الله، فيكون واجبا، وما كان مستحبا، فيكون من النصيحة المستحبة.

.. يتبع ..

الوافـــــي 10-04-2004 02:19 PM

قال: ( وكتابه ) يعني: النصيحة مستحقة للكتاب، وهو القرآن، ومعنى ذلك أن يُعْطَى القرآن حقه، وهو أن يُوقن بأنه كلام الله -جل وعلا-.
قال : "وكتابه" يعني: النصيحة مستحقة للكتاب، وهو القرآن، ومعنى ذلك أن يُعْطَى القرآن حقه، وهو أن يُوقَن بأن كلام الله -جل وعلا-، تكلم به -سبحانه وتعالى-، وأنه آية عظيمة ، وأعظم الآيات التي أوتيها الأنبياء، وأنه الحجة البالغة إلى قيام الساعة.
وأن هذا القرآن فيه الهدى والنور ( إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً {9}سورة الإسراء .
وأن حكمه واجب الإنفاذ، ما أمر الله به في القرآن وجب إنفاذه، وما نهى عنه وجب الانتهاء عنه، وما أخبر به -سبحانه- فيه وجب تصديقه، وعدم التردد فيه، إلى غير ذلك ممَّا يستحقه القرآن.
وأيضا من الحقوق المستحبَّة والنصيحة المستحبة للقرآن أن يُكثر من تلاوته، وألا يهجره في تلاوته وتدبره، وفي العلاج به، وأشباه ذلك مما جاءت به السنة في حق القرآن.
فهذا من التواصل ما بين ذي النصيحة -وهو العبد المكلَّف- وما بين القرآن ؛ فإن النصيحة التحام واجتماع فيما بين هذا وهذا، ولا يكون الاهتمام إلا بأداء الحق، وهذا الحق على العبد للقرآن على نحو المعنى الذي أسلفت.

كذلك النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم تكون بطاعته -عليه الصلاة والسلام- فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نَهَى -عليه الصلاة والسلام- وزجر، وألا يُعْبَد الله إلا بما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يؤمن العبد بأنه -عليه الصلاة والسلام- هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن كل دعوة للرسالة بعده -عليه الصلاة والسلام- كذب وزور وباطل وطغيان، وأنه -عليه الصلاة والسلام- هو الذي يطاع ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7}سورة الحشر .
وأنه يُحَب -عليه الصلاة والسلام- لأمر الله -جل وعلا- بذلك، ولما يستحقه -عليه الصلاة والسلام- من المحبة الواجبة، وأن تُقَدَّمَ مَحَابُّه على مَحَابّ العبد ، ونحو ذلك من النصيحة التي هي -أيضا- منقسمة إلى واجبة ومستحبة .
قال : ( ولأئمة المسلمين وعامتهم ) والنصيحة لأئمة المسلمين أن يُعْطَوا حقهم الذي أعطاهم الله -جل وعلا-، وبينه -تعالى- في الكتاب، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة؛ من طاعتهم في المعروف، وعدم طاعتهم في المعصية ، وأن يجتمع معهم على الحق والهدى، وعلى ما لم نعلم فيه معصية، وأن تؤلف القلوب لهم، وأن يُجْتَمع عليهم، وأن يُدْعَى لهم، وهذا يشمل الحق الواجب والحق المستحب.
وأن يُتْرَك الخروج عليهم بالسيف طاعة لله -جلَّ وعلا- وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم وأن يبايع ولي الأمر المسلم، وألا يموت المرء، وثمَّ والٍ مسلم، وليس في عنقه بيعة له، وأن يأتمر إذا أمره بما ليس بمعصية، وأن ينتهي إذا نهاه عن غير الطاعة، يعني: ما كان من قبيل الواجبات، فإن أمره بخلافها لا يُطاع فيه، وإذا أمر بمعصية لا يُطاع فيه، وما كان من قبيل المستحبات والاجتهادات -يعني ما يدخله الاجتهاد- فإنه يُتْرَك الرأي لما يراه الإمام المسلم؛ لأن في ذلك مصالح العباد والبلاد، كما قرره أهل العلم في هذا الموضع.

.. يتبع ..

الوافـــــي 10-04-2004 02:21 PM

أيضًا من النصيحة لهم أن تبذل النصح لهم، بمعنى النصح الذي يعلمه الناس، بأن تنبههم على ما يخطئون فيه، وما يتجاوزون فيه الشرعية لمن وصل له، وهذه المرتبة -كما قال ابن دقيق العيد في شرحه وغيره-: هذه فرض كفاية تسقط بفعل البعض من أهل العلم ونحوهم.
فحق ولي الأمر المسلم أن يُنْصَح، بمعنى أن يُؤْتَى إليه، وأن يُبَيَّن له الحق، وأن يُبَصَّر به، وأن يوضح له ما أمر الله تعالى به، وما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يُعان على الطاعة، ويسدد فيها، ويُبَيَّن له ما قد يقع فيه من عصيان أو مخالفة للأمر.

وهذه النصيحة الخاصة لولاة الأمر جاءت لها شروط وضوابط معلومة في شروح الأحاديث، ومن أمثل من تكلم عليها في هذا الموضع ابن رجب -رحمه الله- في "جامع العلوم والحكم"، وساق عن ابن عباس وعن غيره أنواعا من الآداب والشروط، التي ينبغي للناصح أن يتحلى بها إذا نصح ولي الأمر المسلم .
فمن ذلك أن تكون النصيحة برفقٍ، وسهولة لفظ؛ لأن حال ولي الأمر -في الغالب- أنه تعزّ عليه النصيحة، إلا إذا كانت بلفظ حسن ، وهذا ربما كان في غالب الناس أنهم لا ينتصحون -يعني: لا يقبلون النصيحة- إلا إذا كانت بلفظ حسن. وقد قال -جل وعلا- لموسى وهارون : فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى {44}سورة طه .
فمن الآداب والشروط في ذلك أن تكون النصيحة بلفظ حسن؛ لأنه ربما كان اللفظ خشنا، فأداه ذلك إلى رفض الحق، ومعلوم أن الناصح يريد الخير للمنصوح له .
كما قال أهل العلم في تفسير النصيحة: أنها إرادة الخير للمنصوح له. فكلما كان السبيل لإرادة الخير للمنصوح له فإنه يؤتى.
ومن الشروط في ذلك أن تكون النصيحة لولي الأمر سرًّا وليست بعلن؛ لأن الأصل في النصيحة بعامة -لولي الأمر ولغيره- أن تكون سرا، بخلاف الإنكار كما سيأتي عند شرح أبي سعيد الخدري: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ) فإن الأصل في الإنكار أن يكون علنا، وأن الأصل في النصح أن يكون سرا.
فالنصيحة لولي الأمر يجب ويشترط لكونها شرعية أن تكون سرا، بمعنى: أنه لا يعلم بها من جهة الناصح إلا هو، وألا يتحدث بها بأنه نصح وعمل وكذا؛ لأنه ربما أفسد المراد من النصيحة بذكره ، وصعب قبول النصيحة بعد اشتهار أن ولي الأمر نُصِح، وأشباه ذلك.
وعلى هذا جاء الحديث المعروف الذي صحَّحه بعض أهل العلم، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن ليخْلُ به، وليدْنُ منه، فإن قبل منه فذاك، وإلا فقد أدَّى الذي عليه ) .
وقد سئل ابن عباس -رضي الله عنهما- هل أُنْكِر على الإمام علنا؟ فقال : لا ، بل دَارِهِ بذلك سرا .
وفي صحيح البخاري -أيضا-: ( أن أسامة بن زيد جاءه جماعة، وقالوا له: ألا تنصح لعثمان؟ ألا ترى ما نحن فيه؟ فقال: أما إني لا أكون فاتح باب فتنة وقد بذلته له سرا ) أو كما جاء عن أسامة بن زيد في صحيح البخاري .
فدل ذلك على اشتراط أن تكون النصيحة سرا، وهذا من حقه، إلى غير ذلك من الشروط التي ذكرها أهل العلم في هذا الموضع .

.. يتبع ..

الوافـــــي 10-04-2004 02:24 PM

والنصيحة لعامة المسلمين ( لأئمة المسلمين وعامتهم )
العامة: هم غير الأئمة، والأئمة إذا أطلقت فإنه يراد بهم الأئمة في الأمر العام، وليس الأئمة في العلم؛ لأن على هذا جرى الاصطلاح .
أما لفظ "ولي الأمر" فإنه في الأصل أن ولي الأمر يُعْنَى به الإمام العام للمسلمين؛ لأن ولاة الأمر في عهد الخلفاء الراشدين، وفي عهد معاوية ، لأن ولاة الأمر في ذاك الزمان كانوا يجمعون بين فهم الدنيا وفهم الشريعة .
وأما بعد ذلك فقد قال العلماء: إن ولاة الأمر كلًّا فيما يخصه، هم العلماء والأمراء؛ الأمراء في الأمر العام الذي يتعلق بأمور المسلمين العامة، والعلماء في أمر دين الناس، فهذا حصل تفسير بأن ولاة الأمر يُعنَى بهم هذا وهذا؛ لأنه صار الأمر فيما بعد أنه تولى الأمر مَن ليس بعالم لما شاع الملك في عهد بن أمية، ثم في عهد بني العباس، فما بعد ذلك.
فالنصيحة الأئمة المسلمين المقصود بهم في الحديث الأئمة الذين يلون الأمر العام ، أما أئمة الدين فإنهم -أيضا- لهم نصيحة، ولهم الحق، والنصيحة لهم -يعني العلماء- أن تحبهم لأجل ما هم عليه من الدين، وما يبذلون للناس من العلم والخير، وأن يُنصَروا فيما يقولونه من أمر الشريعة، وفيما يبلغونه عن الله -جل وعلا-، وأن يُذَبَّ عنهم ، وعن أعراضهم، وأن يحبوا أكثر من محبة غيرهم من المؤمنين
لأن الله -جل وعلا- عقد الولاية بين المؤمنين بقوله : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {71}سورة التوبة .
يعني: بعضهم يحب بعضا، وينصر بعضا، ومن المعلوم أن أعلى المؤمن إيمانا هم الراسخون في العلم، أو هم أهل العلم العاملون به
كما قال -جل وعلا- : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {11}‏سورة المجادلة .
فالنصيحة لأهل العلم أن يُحَبُّوا، وأن يذب عن أعراضهم، وأن يؤخذ ما ينقلونه من العلم، وأن ينصروا فيما نصروا فيه الشريعة ، وأن تُحْفَظ لهم مكانتهم وسابقتهم، ونشرهم للعلم، ونشرهم للدين، وهذه كلها حقوق واجبة لهم؛ لأن لهم في الملة مقاما عظيما، وإذا طُعِنَ في أهل العلم، أو لم تُبْذَل لهم النصيحة الواجبة بهذا المعنى، فإن ذلك يعني أن الشريعة تضعف في الهيبة في نفوس الناس؛ فإنه إذا نِيلَ من العالم، أو لم يُنْصَر، ولم يُحْتَرم فإن الشريعة تضعف في نفوس الناس، فإنه إنما ينقلها أهل العلم.
وأما النصيحة لعامة المسلمين فهي إرشادهم لما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، لما فيه صلاحهم في دنياهم وفي آخرتهم.
هذا جماع النصيحة للمؤمنين، بأن يحبوا في الله، وأن ينصروا في الحق، وأن يتعاون معهم على الخير والهدى، وألا يتعاون معهم على الإثم والعدوان، وأن يُبيَّن لهم الحق، وينصحوا فيه، ويرشدوا إلى ما فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم، بأنواع النصح بالقول والعمل، وأن ينكر عليهم المنكر إذا واقعوه لحق الله -جل وعلا- وأنهم إذا رئي أنهم يحتاجون إلى عقاب شرعي أو تعزير -يعني بحد أو تعزير- فإنه يرحمهم بذلك، فإن هذه الأمور مبناها على الرحمة.
فالنصيحة لعامة المسلمين أن تَبْذُل وتحكم فيهم بشرع الله، وأن تعطيهم حقهم، وأن تلزمهم بأمر الله -جل وعلا- إذا كانوا تحت يدك، وهذا على قدر الاستطاعة.
ثم إنه إذا حصل منهم ضدُّ ذلك فيُسْعَى فيهم بما يصلحهم، وما فيه سعادتهم وإرشادهم بالبيان، أو بالإلزام بحسب الأحوال .
وكل حق للمسلم على المسلم يدخل في النصيحة لعامة المسلمين، فكلمة النصيحة إذن -كما ترى- كلمة جامعة دخلت فيها جميع الحقوق الشرعية لله، وللكتاب، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين ولعامتهم ، فهي كلمة عظيمة جامعة، جمعت الحقوق جميعا لما فيه خير الدنيا والآخرة للناصح، يعني للذي قام بالنصيحة، فكل مفرط في أمر من أمر الله فقد فرط في شيء من النصيحة الواجبة
والله المستعان .

إنتهى شرح الحديث السابع

تحياتي

:)

عابر سبيل 11-04-2004 02:59 AM

الاخ الحبيب الوافي بارك الله فيك
نسال الله ان يجعل كل ماتقوم به من خير في ميزان اعمالك الصالحة

:heartpump

الوافـــــي 11-04-2004 06:32 AM

أخي الكريم / عابر سبيل

وبارك الله فيك أيضاً أخي أبا معاذ
وجزاك ربي خير الجزاء على دعواتك الطيبة
سائلاً الله أن يجعل لك نصيب منها موفورا

تحياتي

:)

الوافـــــي 18-04-2004 05:06 PM

الحديث الثامن

أمرت أن أقاتل الناس

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله -تعالى- ) رواه البخاري ومسلم

هذا الحديث -حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) .

قوله: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا )
يعني: أن شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وما يلزم عنها من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، هذه لا بد من مطالبة الناس بها جميعا، المؤمن والكافر، وللناس جميعا أُرْسِلَ إليهم المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، وأُمِرَ أن يقاتلهم بقول الله -جل وعلا- : ( وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {36}‏سورة التوبة ، قوله : ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ {29} سورة التوبة.
فأمر الله -جل وعلا- بالقتال حتى تُلْتَزم الشريعة، وهذا لا يعني أنه يُبْتَدأ بالقتال؛ بل هذا يكون بعد البيان، وبعد الإنذار، فقد كان -عليه الصلاة السلام- لا يغزو قوما حتى يؤذنهم، يعني: حتى يأتيهم البلاغ بالدين، فقد أرسل -عليه الصلاة والسلام- الرسائل المعروفة إلى عظماء أهل البلاد فيما حوله، يبلغهم دين الله -جل وعلا-، ويأمرهم بالإسلام، أو فالقتال، وهذا ذائع مشهور.
إذن فقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ) يعني بعد البيان والإعذار، فهو يقاتلهم حتى يلتزموا بالدين، وهل هذا يعني أنه هو الخيار الوحيد؟
الجواب: هذا في حق المشركين؛ ولهذا حمل طائفة من أهل العلم أن الناس هنا هم المشركون الذين لا تُقْبَل منهم الجزية، ولا يقرون على الشرك.
أما أهل الكتاب، أو من له شبهة كتاب، فإنه يُخيَّر، أهل تلك الملل ما بين المقاتلة -يعني: بين القتال- أو أن يُعطُوا الجزية، حتى يكونوا في حماية أهل الإسلام، يعني: أنهم تدخل البلد، ويكون هؤلاء رعايا لدولة الإسلام، وبذلك لا يقتلون.
وهذا في حق أهل الكتاب واضح؛ فإن أهل الكتاب مخيَّرون بين ثلاثة أشياء:
إمَّا أن يسلموا، فتُعْصَم دماؤهم وأموالهم.
وإما أن يُقَاتَلُوا حتى يظهر دين الله.
وإما أن يرضوا بدفع الجزية، وهي ضريبة على الرءوس، مال على كل رأس، فيبقوا رعايا في دولة الإسلام، ويسمون أهل الذمة.

.. يتبع ..

الوافـــــي 18-04-2004 05:07 PM

قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ) .
المقصود بالشهادة هنا شهادة لا إله إلا الله، يعني: أن يقولوا: لا إله إلا الله، فأول الأمر أنه يُكَفّ عن قتالهم بأن يقولوا هذه الكلمة، وقد يكون قالها تعوذا، فتعصمه هذه الكلمة حتى يُنْظر عمله، ومعلوم في الصحيح قصة أسامة، وقصة خالد، حيث قتل من قال لا إله إلا الله، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم القاتل، قال: ( أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله، إنما قالها تعوذا -يعني: من القتل- قال: فكيف تفعل بها إذا جاء يحاج بها يوم القيامة؟ ) فندم، وود أنه لم يفعل ذلك، فهذا يُكتفى فيه بالقول.
فإذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ) المقصود به هنا -يعني في مبدأ الأمر- أن يقول الكافر: أشهد أن لا إله إلا الله ، أو أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ومن هنا اختلف العلماء: لم أضاف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بعدها؟
قال : ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ) .
ومن المعلوم أنه لا يشترط -يعني بالإجماع- أنه لا يشترط في الكف عن قتال الكافر أن يقيم الصلاة وأن يؤتي الزكاة، فقالوا: هذا باعتبار المآل، يعني: قالت طائفة: هذا باعتبار المآل، يعني: يُكْتَفَى منه بالشهادتين، فيكف عنى دمه، ثم يطالب بحقها، وأعظم حقوقها الظاهرة إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، حتى يكون دخل في الدين بصدق، كما قال- جل وعلا- : فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {11}سورة التوبة .
فتبين بهذا أن قوله: ( ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) ليست على ظاهرها، من أنه لا يُكَفّ عنه حتى تجتمع الثلاثة: الشهادة، والصلاة، والزكاة.
معلوم أنه قد يشهد قبل حلول الصلاة، ووقت الصلاة ربما ، والصلاة تحتاج إلى طهارة، وإلى غسل، إلى غير ذلك، والزكاة تحتاج إلى شروط، من دوران الحول، وشروط أُخَر معروفة لوجوبها.
قال طائفة من أهل العلم : إن المقصود هنا ( ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) أي: يلتزموا بها، يعني: أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ، ويلتزم بجميع شعائر الإسلام، وأعظمها حقّ البدن ، وحقّ الله -جل وعلا- المتعلق بالبدن، وهو الصلاة، وحق الله -جل وعلا- المتعلق بالمال وهو الزكاة .

.. يتبع ..

الوافـــــي 18-04-2004 05:08 PM

ومعنى الالتزام أن يقول : أنا مخاطب بهذه، فمعناها أنه دخل في العقيدة، وفي الشريعة، فإنه قد يقول: لا إله إلا الله. ولا يؤدي بعض الواجبات، لا يؤدي الصلاة، ولا يؤدي الزكاة، ويقول: أنا لم أدخل إلا في التوحيد، ما التزمت بهذه الأعمال .
فقالوا : دل قوله: ( ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) على وجوب الالتزام بالعبادات، يعني: أن يعتقد أنه مخاطب بكل حكم شرعي، وأنه لا يخرج عن الأحكام الشرعية؛ لأن هناك من العرب من قبلوا بشرط ألا يُخَاطبوا بترك شرب الخمر، أو ألا يكونوا مخاطبين بعدم نكاح المحارم، وأشباه ذلك.
فالالتزام بالشريعة معناه: أن يكون معتقدا دخوله في الخطاب بكل حكم من أحكام الشريعة، وهذا -كما هو معلوم- مقترن بالشهادتين.
لهذا قال العلماء : تُقاتَل الطائفة الممتنعة عن أداء شريعةٍ من شعائر الله ، قالوا : تقاتل الطائفة الممتنعة عن أداء التزام شعيرة من شعائر الإسلام، واجبة أو مستحبة ، ومعنى قولهم : "تقاتل الطائفة الممتنعة": أنه لو اجتمع أناس فقالوا: نحن نلتزم بأحكام الإسلام، لكن لا نلتزم بالأذان، بمعنى أن الأذان ليس لنا، وإنما لطائفة من الأمة أخرى.
أو يقولون: نلتزم إلا أن بالزكاة، فالزكاة لسنا مخاطبين بأن نعطيها الإمام ، يعني: أنهم يعتقدون أن شيئا من الشريعة ليسوا داخلين فيه، هذا الذي يسمى "الامتناع"، الطائفة الممتنعة يعني: التي تقول هذا الحكم ليس لي، وإنما لكم ، مثل مانعي الزكاة في عهد أبي بكر، يعني بعض مانعي الزكاة الذين ارتدوا، ومثل الذين يزعمون سقوط التكاليف عنهم، وأنهم غير مخاطبين بالصلاة والزكاة، وأنهم غير مخاطبين بتحريم الزنا وأشباه ذلك .
فيه تفاصيل لهذا، المقصود أن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( أن أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ) أن هذا لأداء حقوق كلمة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
اختلف العلماء في الفرد الذي يمتنع عن أداء الصلاة ، يمتنع يعني يقول: لا أؤديها. أما الذي لا يلتزم، بمعنى يقول: أنا غير مخاطب. فسواء كان فرد أو جماعة، فإنه كافر، ليس له حق، ولا يُعْصَم ماله ولا دمه.
لكن الذي يمتنع عن الأداء، مع التزامه بذلك، فاختلفوا: هل يُقْتَل تارك الصلاة؟ والصحيح فيها أن لا يُقْتَل حتى يستتيبه إمام أو نائبه، ويتضايق وقت الثانية عنها، ويؤمر بها ثلاثا، ثم بعد ذلك يقتل مرتدا على الصحيح.
فاختلفوا أيضا في المانع للزكاة هل يُقْتَل ؟ على روايتين عند الإمام أحمد، وعلى قولين -أيضا- عند بقية العلماء، يعني قوله: أنه يقتل، والثاني لا يقتل في الفرد الذي يمتنع عن أداء الزكاة .
وهكذا في سائر الأحكام والصوم والحج، ثَمَّ خلاف بين أهل العلم فيمن تركه، هل يُقْتَل ؟ يعني: وأصر على الترك، ودعاه الإمام وقال: افعل، هل يقتل أو لا يقتل؟ اختلفوا في هذا كله بما هو مبسوط في كتب الفروع، ومعروفة.

.. يتبع ..

الوافـــــي 18-04-2004 05:10 PM

قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ( فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ) .
دَلَّ على أن الكافر مباح المال، ومباح الدم، وأن ماله -وهو الحربي- أن ماله مباح ، يعني: لا شيء في سرقة مال الحربي، وهو من بينك وبينه حرب، تحاربه، فوجدت شيئا من ماله، فلا له لا يحرم ماله؛ لأنه قد أُبِيحَ دمه، وأبيح ماله بالتبع، بخلاف المعاهد والمستأمن، أو من خانك؛ فإنه لا يجوز أن تعتدي على شيء من أموالهم، حتى ولو كان غير مسلم، إلا إذا كان حربيا.
يعني: أن المستأمن والمعاهد والذِّمي -ولو خانوا في المال- فإنه لا يجوز التعدي على أموالهم، وإذا لم يخونوا من باب أولى؛ لأنهم لم يُبَحْ مالهم، وقد جاء في الحديث : ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ) لأنك تعاملهم لحق الله -جل وعلا-، فلا تستبيح مالهم لأجل ما هم عليه؛ بل تؤدي فيهم حق الله -جل وعلا.
أما مَن ليس كذلك -يعني المشرك الذي أبَى أن يشهد ألا إله إلا الله، وأن يقيم الصلاة، وأن يؤتي الزكاة- فهذا لا يحرم ماله ودمه؛ بل يباح منه الدم، فيقتل على الكفر؛ لأنه أصر على ذلك، يعني بعد إقامة الحجة عليه، أو بعد الإعذار؛ لأن هذه هو الأصل .
وجاء في صحيح مسلم ما هو بخلاف الأصل، أن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ابن عباس المعروف: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا قوما وهم غارُّون ) يعني: بدون أن يؤذنهم . وهذا كالاستثناء من الأصل، وله بعض أحكامه مما هو استثناء من القاعدة، فالأصل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يقاتل قوما حتى يؤذنهم ، حتى يبلغهم، وربما فعل غير ذلك في قصة بني المصطلق المعروفة ، أنه غزاهم وهم غارُّون، في تفاصيل ذلك .
قال : ( عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله جل وعلا ) .
حق الإسلام: يعني ما جاء في الإسلام التشريع به، من إباحة الدم، أو إباحة المال، فإذا شهدوا الشهادتين، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة ، فإنهم إخواننا، فتحرم دماؤهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، يعني : إلا بما أباح الإسلام ، أو شرع الله -جل وعلا- في هذه الشريعة أن دمهم مباح ، مثل الثيب الزاني ، والنفس بالنفس، وما أشبه ذلك مما هو معروف، وسيأتي بعضه في الحديث: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى الثلاث ) .

قال: ( وحسابهم على الله جل وعلا) .
هذا لما تقدم من أنه قد يشهد، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة ظاهرا ، فنقول: نقبل منه الظاهر، ونَكِلُ سريرته إلى الله -جل وعلا- كحال المنافقين ، المنافقون نعلم أنهم كفار، لكن نعصم دمهم ومالهم بما أظهروه، وحسابهم على الله -جل وعلا.
بهذا نقول: الكفر كفران:
كفر رِدّة : تترتب عليه الأحكام، من إباحة المال والدم.
وكفر نفاق: نعلم أنه كافر، ويُحْكَم عليه بأنه كافر، لكن لا تترتب عليه أحكام الكفر؛ لأنه ملحق بالمنافقين، وهذا معروف في تفاصيله في كلام أهل العلم .

إنتهى شرح الحديث الثامن

تحياتي

:)

الوافـــــي 12-05-2004 06:33 PM

الحديث التاسع

ما نهيتكم عنه فاجتنبوه

وعن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) رواه البخاري ومسلم .

هذا الحديث هو الحديث التاسع من هذه الأربعين النووية، وهو حديث أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ) .
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) فما نهى عنه فإنه يُجتَنَب، وهذا عام في كل منهي عنه، والمنهي عنه قسمان: منهي عنه للتحريم، ومنهي عنه للأفضلية، يعني: يكون النهي فيه للكراهة ، وما كان للتحريم يجب فيه الاجتناب، وما كان للكراهية يستحب فيه الاجتناب.
إذن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) هذا كقول الله -جل وعلا- : مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7} - سورة الحشر
فالذي نهى عنه -عليه الصلاة والسلام- نحن مأمورون بالانتهاء عنه، فإن كان محرما فالأمر بالانتهاء عنه أمر إيجاب، وإن كان مكروها فالأمر بالانتهاء عنه أمر استحباب.
إذا تقرر هذا، فالمنهي عنه خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الشريعة ليس هو النهي، وإنما الأصل فيها الأمر، والمنهيات بالنسبة للأوامر قليلة، وما نُهِيَ عنه لأجل أنه خلاف الأصل لم يجعل الله -جل وعلا- النفوس محتاجة إليه في حياتها؛ بل هي مستغنية عما نُهِيَ عنه.

فإذا نظرت في باب الأطعمة فإن ما أُهِلَّ به لغير الله ليس محتاجا إليه، الميتة ليس محتاجا إليها ، والأشربة المسكرة ليس المرء محتاجا إليها، والألبسة المحرمة ليس المرء محتاجا إليها؛ وإنما في الحلال كثير كثير غُنْيَة عن هذه المحرمات، فتكون هذه المحرمات في كل باب كالاستثناء من ذلك الباب، فالمحرمات من الأشربة استثناء مما أُبِيحَ وهو الكثرة في باب الأشربة، والمحرمات من الأطعمة استثناء مما أُبِيحَ وهو الكثرة في باب الأطعمة .
وهكذا في باب الألبسة، وهكذا في البيوعات والعقود، وأشباه ذلك.
وهذا من لطف الله -جل وعلا- بالعباد؛ فإنه -جل وعلا- ما جعل شيئا منهيًّا عنه فيه إقامة الحياة، بل كل المنهيات عنها إنما ابتلَى الله -جل وعلا- العباد بها.
وما لم يُنْهَ عنه فإنه، أو ما أُمِرَ به فإنه خير، سواء أَفَعَلَه المرء رغبة في الأجر بإخلاص، أو فعله لغير مرضاة الله، هذا التفصيل يذكره العلماء عند قول الله -جل وعلا- في سورة "النساء" : لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً {114} سورة النساء.
هذه المأمورات فيها خير، ولو فعلها بغير نية صالحة؛ لأنها متعدية النفع، متعدية الأثر، وإن فعلها بنية صالحة فإنه يؤجر مع بقاء الخير، وإن فعلها بغير نية فإنه لا يؤجر عليها مع بقاء خيرية هذه الأفعال، ولهذا وصفها بالخيرية.

.. يتبع ..

الوافـــــي 12-05-2004 06:35 PM

فمن أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس بلا نية، فقد أتى خيرا، ولو كانت نيته غير صالحة؛ لأن هذه الأفعال متعدية، وإذا أتاها بنية صالحة فإنه يؤجر عليها.
بخلاف المحرمات؛ فما حُرِّم ونُهي عنه فإنه يجب اجتنابه، فلا خير فيه ألبتة، يعني من حيث تعدي الخير أو تعدي المصلحة، وقد يكون فيه منفعة دنيوية، لكنها مقابلة بالمضرة، كما قال -جل وعلا- في الخمر والميسر :- يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ {219} ‏سورة البقرة .
ففيها نفع باعتبار المُعَيَّن، لكن باعتبار الضرر فيها إثم كبير، وهذا بخلاف الأوامر التي فيها خير.
إذا تقرر هذا فنقول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) هذا عامٌّ في كل منهي، وجواب الشرط "فاجتنبوه" .
والمنهي عنه إما أن يكون محرما، وإما أن يكون مكروها كما ذكرت لكم، والأصل في المنهيات -يعني فيما نهى عنه عليه الصلاة والسلام- إذا كان في أمور العبادات أنه للتحريم، وإذا كان في أمور الآداب أنه للكراهية، يعني: إذا جاء النهي في أمر من العبادات فهو للتحريم؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، وإذا جاء النهي في أدب من الآداب، فالأصل فيه أن يكون للكراهة.
بهذا أجمع العلماء على أن النهي الوارد في بعض الآداب، والأمر الوارد في بعض الآداب، أنه للاستحباب في الأوامر، وللكراهة في النواهي، ومنه أخذ طائفة من أهل العلم أن النهي في الآداب للكراهة -يعني الأصل فيه للكراهة- إلا إذا جاءت قرينة تدل على أن الأصل فيه للتحريم.
مثلا: قال -عليه الصلاة والسلام- ، أو جاء في -مثلا- في الحديث ، الحديث الذي رواه البخاري: ( وألا أكف ثوبا ولا شعرا في الصلاة ) هل هذا متصل في العبادة ؟
يعنى: هو عبادة، أو هو أدب لشرط من شرائط العبادة وهو اللباس؟
هو أدب، ألا يكف ثوبا ، ألا يكف شعرا هذا أدب، ولهذا ذهب عامة أهل العلم -إلا عدد قليل- ذهبوا إلى أن النهي هنا للكراهة، فلو صلَّى وهو كافٌّ ثوبه، أو وهو عاقص شعره، فالصلاة صحيحة، ولا إثم عليه، ولو كان النهي للتحريم لصارت الصلاة فاسدة كنظائرها.
مثل الأوامر: ( سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك ) .
( كل بيمينك ) عامة أهل العلم على أن الأكل باليمين مستحب، والأكل بالشمال مكروه، وهناك من قال بالتحريم، وفي كل المسائل هذه خلاف بتعارض الأصل فيما بين أهل العلم.
لكن الجمهور هنا قالوا: هذا أدب، كل بيمينك، فلما كان أدب صار الأصل فيه أنه للاستحباب، و"كل مما يليك" الأصل فيه أنه للاستحباب.
ولهذا ترى في كثير من كتب أهل العلم يقول: النهي هذا للكراهة؛ لأنه من الآداب، والأمر للاستحباب؛ لأنه من الآداب، فيجعلون من الصوارف كون الشيء من الآداب، وهذا مهم.

.. يتبع ..

الوافـــــي 12-05-2004 06:36 PM

قال -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) ولم يقيد بالاستطاعة، بل أوجب الاجتناب، بل قيد -كما قلنا- لأن الانتهاء من المنهيات ليس فيه تحميل فوق الطاقة؛ بل المنهيات لا حاجة للعبد بها، يعني: لا تقوم حياته بها، بل إذا استغنى عنها تقوم حياته، فليس محتاجا ولا مضطرا إليها، وأما إذا احتاج لبعض المنهيات فهنا الحاجة يكون لها ترخيص بحسبها.
قال: ( وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ) .
ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ لأن الأوامر كثيرة، ليست مثل المنهيات، ومنها ما قد لا يستطيعه العبد، ولهذا جاءت القواعد -بناء على هذا الحديث-: "لا واجب مع العجز".
يعني: أن المرء إذا عجز عن الشيء فلا يجب عليه، كما جاء في حديث عمران: ( صلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب ) .
فهنا يأتي ما استطاع ، وقد قال -جل وعلا- : لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {286}‏ سورة البقرة .
وقال -جل وعلا-: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {16}سورة التغابن .
وقال -جل وعلا- : وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ {78}‏سورة الحج ، إلى آخر الأدلة على تعليق الوجوب بالقدرة والاستطاعة.
إذن دلنا قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ) أن الأوامر كثيرة ، وأنه لا واجب إلا مع القدرة ، تجب إذا قدرت عليها، وإذا كنت عاجزا وغير مستطيع فلا يجب عليك ذلك بنص النبي عليه الصلاة والسلام .
هنا اختلف العلماء في مسألة يطول الكلام عليها: هل منزلة النهي أعظم، أو منزلة الأمر؟ يعني: هل الانتهاء عن المنهيات أفضل، أم فعل الأوامر والإتيان بها الأفضل؟
تنازع العلماء في هذا على قولين :-
القول الأول : أن الانتهاء عن المنهيات أفضل من فعل الأوامر، واستدلوا عليه بأدلة منها هذا الحديث ، بأنه أمر بالانتهاء مطلقا ، وقالوا: الانتهاء فيه كلفة؛ لأنها أشياء تتعلق بشهوة المرء، و ( حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ) فالانتهاء عن المنهيات أفضل .
وقال جماعة: بل الأمر أفضل، يعني: امتثال الأمر أفضل وأعظم منزلة، واستدلوا عليه بأدلة منها : أن آدم -عليه السلام- أُمِرَتْ الملائكة بالسجود له، فلم يسجد إبليس، يعني: لم يمتثل الأمر، فخسر الدنيا والآخرة، فصار ملعونا إلى يوم يبعثون، وثم هو في النار أبد الآبدين، وهذا لعظم الأمر.
قالوا : وآدم أكل من الشجرة التي نهي عنها، فغُفِرَ له بذلك ، فهذا أمر بالأمر فلم يمتثل فخسر، ذاك فعل المنهي عنه ثم أعقبته توبة.
وهذا القول الثاني هو الأرجح والأظهر في أن فعل الأوامر أعظم درجة، وأما المنهيات ارتكابها فإنه على رجاء الغفران ، أما التفريط في الأوامر -يعني الواجبات الشرعية، الفرائض والأركان ونحو ذلك- فهذا أعظم وأعظم مما نهى الله -جل وعلا- عنه ، مع ارتباط عظيم بين هذا وهذا.

.. يتبع ..

الوافـــــي 12-05-2004 06:38 PM

وهذا يفيدنا في تعظيم مسألة الأمر، وأن الأمر في تعليق العباد به أعظم من تعليقهم بترك المنهي، خلاف ما عليه كثيرون -مثلا- من الدعاة وغيرهم والوعاظ، في أنهم يعظمون جانب المنهي عنه في النفوس الناس، وينهونهم عنه، ويفصلون في ذلك، ولا يفصلون لهم في المأمورات، ولا يحضونهم عليها ، وهذا ليس بجيد؛ بل أمر الناس بما أمر الله -جل وعلا- به وحضهم على ذلك هذا أولى -يعني أرفع درجة- مع وجوب كلٍّ من الأمرين في البيان على الكفاية.
قال : ( فإنما أهلك مَن قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) .
( أهلك مَن كان قبلكم ) أو الذين من قبلكم ( كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) هذا لأن السؤال عن الأشياء لم تحرم لزيادة معرفةٍ، أو لتنطع، أو ما أشبه ذلك، هذا محرم، فما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم نأتي منه ما استطعنا، وفي وقت التشريع، في وقت نزول الوحي نُهِيَ الصحابة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائل؛ لأنه ربما حُرِّمَ عليهم بسبب المسألة.
قد جاء في الحديث : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ) .
جاء -أيضا- في صحيح مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما رجل سأل عن شيء لم يُحَرَّم فَحُرِّمَ لأجل مسألته ) .
فكثرة المسألة لا تجوز ، قد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام- ، وكانت مسألتهم قليلة كلها في الفرائض، وكانوا يفرحون بالرجل يأتي من البادية ليسأل وليستفيدوا.
وهذا من الأدب المهم الذي يُلْتَزَم به؛ فإن كثرة المسائل ليست دالة على دِين، ولا على ورع، ولا على طلب علم؛ وإنما ينبغي على طالب الحق، وصاحب الدِّين والخير أن يُقلَّ المسائل ما استطاع، وقد قال -جل وعلا- : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) سورة المائدة الآية 101.
فالسؤال عن أشياء لم يأتِ فيها تنزيل هذا ليس من فعل أهل الاتباع، بل يُسأل عمَّا جاء به التنزيل؛ لأن الله -جل وعلا- في هذه الآية قال: وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {101}سورة المائدة.
فدلَّ على أن السؤال -إذا كان متعلقا بفهم القرآن، ويتبعه فهم السنة- فإن هذا لا بأس به ، أما أن تكثر المسائل في أمور ليس وراءها طائل، فهذا مما ينبغي تركه واجتنابه.
وقد قال هنا -عليه الصلاة والسلام- : ( فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم ) .
وأنت تلحظ هذا، الذين يكثرون السؤال يكثر عندهم الخلاف، ولو أخذوا بما عليه العمل، وما تعلموه وعملوا به ، وازدادوا علما بفقه الكتاب والسنة لحصلوا خيرا عظيما ، أما كثرة الأسئلة تؤدي إلى كثرة الخلاف.
فلهذا ما يُسْكَت عنه ينبغي أن يظل مسكوتا عنه، وألا يُحَرَّك، إلا فيما كان فيه نص، أو تتعلق به مصلحة عظيمة للمسلمين، فيُسْكَت لا يُحَرَّك عن شيء؛ لأنه ربما لو حُرِّكَ بالسؤال لاختلف الناس ووقعت مصيبة الاختلاف والافتراق، وهذا ظاهر لكم في بعض الأحوال والوقائع، في التاريخ القديم والحديث .
نقف عند هذا، وأسأل الله الكريم لي ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، نعوذ بالله أن نَزِلّ أو نُزَل، أو نضل أو نضل، أو نجهل أو يُجْهل علينا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .

إنتهى شرح الحديث التاسع

تحياتي

:)

الوافـــــي 10-06-2004 02:53 AM

الحديث العاشر

إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله -تعالى- طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى : يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51}سورة المؤمنون .
وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {172}سورة البقرة .
ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب. ومطعمه ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب له ) رواه مسلم .
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث التي قيل فيها: إنها أصل من أصول الدين، يعني: أن كثيرا من الأحكام تدور عليها.
وهذا الحديث فيه الأمر بالأكل من الطيب، وأنه سمة المرسلين، وسمة المؤمنين بالمرسلين، وأثر ذلك الأكل الطيب من الحلال على عبادة المرء، وعلى دعائه، وعلى قبول الله -جل وعلا- لعمله، فقال -رحمه الله تعالى- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ) .
وقوله: ( إن الله طيب ) يعني: أنه -جل وعلا- منزَّه عن النقائص والعيوب، وأنه -جل وعلا- له أنواع الكمالات في القول والفعل، فكلامه -جل وعلا- أطيب الكلام، وأفعاله -جل وعلا- كلها أفعال خير وحكمة، والشر ليس إلى الله جل وعلا .
فالله -سبحانه- طيب بما يرجع إلى ذاته، وإلى أسمائه، وإلى صفاته -جل وعلا- ومن أوجه كونه طيبا أنه -جل وعلا- هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه، وهو المستحق لأنْ يسلم المرء وجهه وقلبه إليه -سبحانه- دونما سواه.
ولكونه -جل وعلا- طيبا لا يقبل إلا طيب، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ) .
ومعنى قوله: ( لا يقبل ) يعني: لا يرضى، ولا يحب إلا الطيب، وأيضا يعني: لا يثيب، ولا يأجر إلا على الطيب؛ فإن كلمة "لا يقبل" هذه -في نظائرها مما جاء في السنة- قد تتوجه إلى إبطال العمل، وقد تتوجه إلى إبطال الثواب، وقد تتوجه إلى إبطال الرضا بالعمل، وهو مستلزِم في الغالب لإبطال الثواب والأجر.
يعني: أن العمل قد يقع مُجْزئًا ولا يكون مقبولا، كما جاء في الحديث: ( لا يقبل الله صلاة عبد إذا أبق حتى يرجع ) .
و ( من أتى كاهنا أو عرافا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) وأشباه ذلك .
فتقرر أن كلمة "لا يقبل" هذه تتجه إلى نفي أصل العمل، يعني: إلى إبطاله ، كما في قوله: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) .
هذه فيه إبطال العمل إلا بهذا الشرط، وقد تتجه إلى إبطال الرضا به، أو الثواب عليه، فهذه ثلاثة أقسام.

.. يتبع ..

الوافـــــي 10-06-2004 02:54 AM

هنا ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ) تحتمل بحسب العمل، أن يكون المنفي الإجزاء، أو أن يكون المنفي الأجر والثواب، أو أن يكون المنفي الرضا به والمحبة له، يعني: لهذا العبد حين عمل هذا العمل.
فقال : ( لا يقبل إلا طيبا ) يعني الذي يوصف بأنه مجزئ، وأنه مرضي عنه عند الله -جل وعلا- وأنه يثاب عليه العبد هو الطيب، وأما غير الطيب فليس كذلك، فقد يكون غير مرضي، أو غير مثاب عليه، وقد يكون غير مجزئ أصلا، بحسب تفاصيل ذلك في الفروع الفقهية.
إذا تقرر هذا فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ( لا يقبل إلا طيبا ) هذا فيه أن الله -جل وعلا- إنما يقبل الطيب على الحصر.
و"الطيب" جاءت النصوص ببيان أن الطيب يرجع إلى الأقوال، وإلى الأعمال، وإلى الاعتقادات.
فحصل أن الله -جل وعلا- من آثار أنه طيب أنه لا يقبل من الأقوال إلا الطيب، ولا يقبل من الأعمال إلا الطيب، ولا يقبل من الاعتقادات إلا الطيب.
ما هو القول الطيب، والعمل الطيب، والاعتقاد الطيب؟
فسرنا الطيب -أولا- بأنه هو المبرأ من النقائص والعيوب ، وكذلك القول والعمل والاعتقاد هو المبرأ من النقص والعيب، يعني: الذي صار بريئا من خلاف الشريعة.
فالطيب هو الذي وُوفِق فيه الشرع، فالقول والطيب هو الذي كان على منهاج الشريعة، والعمل الطيب هو الذي كان على منهاج المصطفى صلى الله عليه وسلم والاعتقاد الطيب ما كان عليه الدليل من الكتاب ومن السنة.
فهذا هو الطيب من الأقوال والأعمال والاعتقادات.
وإذا صار قول المرء طيبا فإنه لا يكون خبيثا، والخبيث لا يستوي والطيب، كما في آية "المائدة": قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {100}.
وكذلك في الأعمال والاعتقادات، فنتج من ذلك أن العبد -إذا تحقق بالطِيبِ في قوله وعمله واعتقاده- صار طيبا في ذاته، والطيب له دار الطيبين ، كما قال -جل وعلا- : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {32} سورة النحل .
ومن صار عنده خبث في بدنه وروحه، نتيجة لخبث قوله، أو خبث عمله، أو خبث اعتقاد، ولم يغفر الله -جل وعلا- له، فإنه يُطَهَّر بالنار حتى يدخل الجنة طيبا؛ لأن الجنة طيبة لا يصلح لها إلا الطيب.
وهذا -في الحقيقة- فيه تحذير شديد، ووعيد وتخويف من كل قول أو عمل أو اعتقاد خبيث، يعني: لم يكن على وفق الشريعة، فالطيب هو المبرأ من النقص، وأعظم النقص في العمل، أو من أعظم ما ينقص العمل أن يتوجه به إلى غير الله -جل وعلا-، وأن تُقْصَد به الدنيا.
فتَحَصَّل هنا أن قوله : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ) يعني: لا يقبل من العمل والقول والاعتقاد إلا ما كان على وفق الشريعة، وأُرِيدَ به وجهه -جل وعلا-، هذا حاصل تعريف الطيب؛ لأن العلماء نظروا في كلمة "طيب" في وصف الله -جل وعلا- وفيما ما يقابلها، وتنوعت أقوالهم، والذي يحقق المقام هو ما ذكرته لك.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ) .
المرسلون أُمِرُوا وأتباع المرسلين -الذين هم المؤمنون- أُمروا -أيضا- بما أُمر به المرسلون، فقال -جل وعلا- في قوله : يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51}في آية "المؤمنون".
وقال -جل وعلا- في وصف المؤمنين، أو في أمره للمؤمنين في آية "البقرة" : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {172}.
فأمر المؤمنين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر المرسلين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر الجميع بأن يعملوا صالحا، وهذا يدل على أثر أكل الطيبات في العمل الصالح؛ لأن الاقتران في قوله : يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51}سورة المؤمنون ، لأن الاقتران يدل على أن بينهما صلة، والصلة ما بين أكل الطيب والعمل الصالح هي تأثير الأكل الطيب في العمل الصالح.
ولهذا قال كثير من أهل العلم : إن العمل لا يكون صالحا حتى يكون من مال طيب. فالصلاة لا تكون صلاة صالحة مقبولة حتى يكون فيها الطيب من الأقوال، ويكون لباس المرء طيبا، ويكون تخلص من الخبيث من النجاسات وغيرها، إلى آخر ذلك .
والزكاة لا تكون مقبولة حتى تكون طيبة، بأن تكون عن نفس طيبة، وألا يراد بها رياء ولا سمعة إلى آخر ذلك.
والحج كذلك؛ فمن حج من مال حرام لم يُقْبَل حجه؛ لأن الله -جل وعلا- لا يقبل إلا الطيب.

.. يتبع ..

الوافـــــي 10-06-2004 02:55 AM

ثم ذكر -عليه الصلاة والسلام- مثالا من أمثلة تأثير الأكل الطيب في بعض الأعمال الصالحة، وأثر أكل الحرام في بعض الأعمال الصالحة، فقال أبو هريرة رضي الله عنه ثم ذكر -يعني النبي عليه الصلاة والسلام- : ( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا ربِ يا ربِ، أو يا رب يا رب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، ومأكله حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك ) .
قال: ( ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء ) .
ذكر هذه الصفات؛ لأن هذه الصفات مظنة الإجابة؛ فالسفر من أسباب إجابة الدعاء .
قد جاء في الحديث الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث يستجاب لهم ) وذكر منهم المسافر.
فالسفر من أسباب الإجابة، وهذا قد تعرَّض لسبب من أسباب الإجابة وهو السفر.
ووصفه بقوله: ( يطيل السفر ) وإطالة السفر تعطي كثيرا من الاغتراب، وفيه انكسار النفس، وحاجة النفس إلى الله -جل وعلا- إذا كان السفر للحاجة، قد يطيل السفر -يعني من حاجته- يحتاج إلى السفر في معيشته ، يحتاج إلى السفر في أموره، وإلا فإن المرء لا يختار إطالة السفر إلا لحاجة.
قال : ( يطيل السفر أشعث أغبر ) وهاتان الصفتان تدلان على ذلته، وعلى استكانته، وهذه يحبها الله -جل وعلا-، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لبس شيئا خلقا، ولم يتزين، وإنما صار أشعث، ثم توجه في خلوة، ودعا الله -جل وعلا- وقال: إنه أقرب للإجابة؛ لما في هذه الصفة من انتفاء الكبر، وقرب التذلل والاستكانة، وهذه يكون معها الاضطرار والرغب، وعدم الاستغناء .
فذكر -عليه الصلاة والسلام- هذه الصفة، فقال : ( أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء ) وهذه صفة -أيضا- ثالثة، في أنه يمد يديه إلى السماء في رغب أن يكون أتى بما يُجَابُ معه دعاء، ورفع اليدين في الدعاء سنة، كما سيأتي بيان بعض ذلك.
يقول: ( يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب ) وذكره هنا "يا رب" مكررة، ويجوز أن تقول: يا ربِ على حذف الياء، أو يا ربُ على القطع، في تكريرها ذكر لصفة الربوبية، ومعلوم أن إجابة الدعاء من آثار ربوبية الله -جل وعلا- على خلقه.
ولهذا لم تكن إجابة الدعاء للمؤمن دون الكافر ، بل قد يجاب للكافر، ويجاب للمارد ، وقد أجيب لإبليس؛ وذلك لأن إجابة الدعاء من آثار الربوبية، كرزق الله -جل وعلا- لعباده، وكإعطاءه لهم، وكإصحاحه إياهم، وإمدادهم بالمطر، وأشباه ذلك مما قد يحتاجون إليه.
فقد يدعو النصراني ويستجاب له، وقد يدعو المشرك ويستجاب له، إلى آخر ذلك.
وتكون هنا الاستجابة لا لأنه متأهل لها؛ ولكن لأنه قام بقلبه الاضطرار والاحتياج لربه -جل وعلا-، والربوبية عامة للمؤمن وللكافر.
ذكر هنا: "يا رب، يا رب" وهذا من آداب الدعاء العام كما سيأتي، وذكر هذا بلفظ الربوبية -أيضا- من أسباب إجابة الدعاء .
قال في وصف حاله -مع أنه تعرض لهذه الأنواع مما يجاب معه الدعاء- قال في وصف حاله: ( ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي ) -بالتخفيف، فغلط من يقولها بالتشديد غُذِّيَ، لا، هي غُذِيَ من الغذاء، ( غذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك ) .
يعني: فبعيد ويتعجب أن يستجاب لذلك وهو على هذه الحال.
فمن كان ذا مطعم حرام، وذا مشرب حرام، وذا ملبس حرام، وغذي بالحرام، فهذه يستبعد أن يستجاب له.
وقد جاء في معجم الطبرانى بإسناد ضعيف: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، ادع الله لى أن أكون مجاب الدعاء. قال: يا سعد، أَطِبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة ) .
وهذا في معنى هذا الحديث، فإن إطابة المطعم من أسباب الإجابة ، فهذا تعرض لأنواع كثيرة من أسباب الإجابة، ولكنه لم يأكل طيبا؛ بل أكل حراما، فمُنِعَ الإجابة، واستُغْرِب أن يجاب له.

.. يتبع ..

الوافـــــي 10-06-2004 02:57 AM

وقد جاء -أيضا- في بعض الآثار الإلهية أن موسى -عليه السلام- طلب من ربه أن يجيب لقومه دعاءهم، فقال: يا موسى، إنهم يرفعون أيديهم، وقد سفكوا بها الدم الحرام، وأكلوا بها الحرام، واستعملوها في حرام، فكيف يجابون؟
وهذا لا شك أنه مما يخيف المؤمن؛ لأن حاجته للدعاء أعظم حاجة، فدل هذا على أن إطابة المطعم من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وأنه إذا تخلف هذا السبب -ولو وُجدت الأسباب الأخر- فإنها لا تجاب الدعوة غالبا لقوله : ( فأنى يستجاب لذلك ) .
هذا الحديث دَلَّنَا في آخره على آداب من آداب الدعاء، فذكر منها السفر -يعني من أسباب إجابة الدعاء- فالسفر يُتَحَرَّى فيه الدعاء، والإتيان للدعاء بتذلل واستكانة في الظاهر والباطن، هذا -أيضا- من أسباب إجابة الدعاء، ورفع اليدين إلى السماء في الدعاء، هذا أيضا من أسباب إجابة الدعاء، ورفع اليدين إلى السماء له ثلاث صفات في ثلاثة أحوال دلت عليها السنة:
أما الأول : فهو بالنسبة للخطيب القائم، فإنه إذا دعا يشير بإصبعه فقط، بإصبعه السبابة، وهذا دليل دعائه وتوحيده، ولا يُشْرع له أن يرفع يديه إذا خطب قائما على المنبر أو على غيره، إلا إذا استسقى، فإنه يرفع يديه، ويرفع الناس معه أيديهم، كما جاء في حديث أنس وغيره في البخاري والنسائى وغيرهما ، هذه الحالة الأولى، رفع اليدين بالاكتفاء برفع الإصبع.
والثانى: أن يرفع يديه إلى السماء رفعا شديدا، بحيث يُرَى بياض الإبطين، يعني شديد جدا هكذا، وهذا إنما يكون في الاستسقاء، وفي الأمر الذي يصيب المرء معه كرب شديد، بما فيه استجارة عظيمة، وكرب شديد، فهذا يرفع يديه إلى السماء بشدة، وهذه لها صفتان: إما أن تكون اليدان بطنهما إلى السماء، وإما أن تكون اليدان ظهرهما إلى السماء، ورد هذا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وورد هذا ، وتفاصيل هذا -يعني- تحتاج إلى وقت.
الثالث: أن يرفع يديه مبسوطة الكفين إلى الصدر، يعني: إلى موازاة ثديي الرجل والمرء، وهذا هو أغلب دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-، بل كان دعاؤه في عرفه هكذا، يرفع يديه إلى الثديين، ويمدهما كهيئة المستطعم، لا يجعلهما إلى الوجه هكذا، ولا بعيدة عنه بحيث ما تكون إلى الثديين، بل يبسطها كهيئة المستطعم المسكين، يعني: كهيئة المسكين الذي يريد أن يُعْطَى شيئا في يديه .
وقد ثبت بالسنن من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله حَييٌّ كريم، يستحيي من عبده أن يمد إليه يديه، يطلب فيها خيرا، فيردهما صفرا خائبتين ) .
وهذا من أعظم الآداب، فإذن نخلص من ذلك إلى أن آداب الدعاء كثيرة ، وهذا مثل قاله -عليه الصلاة والسلام- يعني مثل أثر الحلال الطيب في العبادة ذكر الدعاء ، كذلك له أثر في الصلاة، ، له أثر في العبادات، في الذكر، إلى آخره.
فالله -جل وعلا- لا يقبل إلا طيبا، فمن أكل حراما فيتحرك بجسده في حرام، فقد تجزئه صلاته، لكن لا يكون بتحركه في بدنه بحرام مرضيا عند الله -جل وعلا-، ولو كانت صلاته خاشعة؛ بل أعظم ما يُبَرّ به البدن أن يكون البدن طيبا بالأكل، فلا يأكل إلا ما يعلم أنه حلال، بما يعلم أنه طيب، فهذا له أثر في رضا الله -جل وعلا- عن العبد، وقبوله لصلاته وصيامه، وقبوله لأعماله كلها.
قوله في آخره : ( فأنى يستجاب لذلك ) "أنى يستجاب لذلك": يعني عجيب وبعيد أن يستجاب له، وقد يستجاب له، قد يستجاب له لعارض آخر، ، صادفه اضطرار، وشدة إلحاح، وحاجة ماسة، فهذه يُعْطَى معها حتى الكافر ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ {65} سورة العنكبوت .
فالمشرك قد يستجاب له، وكذلك المؤمن العاصي الذي أكل الحرام قد يستجاب له، لكن في حالات قليلة، وذلك إذا كان معها حالة اضطرار، أو شفع له غيره، وكان مع مُجاب الدعوة فأَمَّنَ عليه، أو ما شابه ذلك من الاستثناءات التي ذكرها أهل العلم .

إنتهى شرح الحديث العاشر

تحياتي

:)

الوافـــــي 20-06-2004 02:44 PM

الحديث الحادي عشر

دع ما يريبك إلى ما لا يريبك


وعن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته -رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح .
هذا الحديث عظيم أيضا، وهو في المعنى قريب من قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث النعمان بن بشير: ( فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) .
فهذا الحديث قال فيه الحسن رضي الله عنه حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يَريبك إلى ما لا يريبك ) .
وهذا أمر، وقوله : ( يَريبك ) بفتح الياء، ويجوز يُريبك بالضم، لكن الفتح أفصح وأشهر.
( دع ما يريبك ) يعني: ما تشك فيه، ولا تطمئن له، وتخاف منه؛ لأن الرَّيب هو الشك وعدم الطمأنينة، وما يخاف منه من يأتيه فلا يدري هل هو له أم عليه؟.
( دع ما يريبك ) يعني: إذا أتاك أمر فيه عدم طمأنينة لك، أو أنت إذا أقبلت عليه، أو إذا أردت عمله، استربت منه، وصرت في خوف أن يكون حراما، فدعه إلى شيء لا يريبك؛ لأن الاستبراء مأمور به، فترك المشتبهات إلى اليقين هذا أصل عام
وهذا الحديث دل على هذه القاعدة العظيمة: أن المرء يبحث عن اليقين؛ لأن فيه الطمأنينة، وإذا حصل له اليقين سيدع ما شك فيه.
فمثلا: إذا اشتبه عليه في أمر مسألة ما، هل هي حلال أم حرام؟ فإنه يتركها إلى اليقين، وهو أن يستبرئ لدينه، فيترك المسألة، أو إلى ما هو حلال بيقين عنده، أو مال اشتبه عليه، فيدع ما يريبه منه، ويأتي ما لا يريبه .
وكذلك في العبادات، وإذا قلنا: العبادات، فنعني بها الشعائر؛ لأن العلماء إذا قالوا: العبادة -بالإفراد- أرادوا منها ما يدخل في تعريف العبادة: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه .. " إلى آخره.
وإذا قيل: العبادات -بالجمع- فيريدون بها الشعائر: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وأشباه ذلك. ففرق ما بين الإفراد والجمع، كما فرقوا بين السماء والسماوات، ونظائر ذلك.

.. يتبع ..

الوافـــــي 20-06-2004 02:47 PM

في العبادات -أيضا- يأتي اليقين، وإذا طرأ الشك عليه فلا يدع هذا اليقين لشك طرأ؛ لأن اليقين لا يريبه، وما وقع فيه من الشك هذا يريبه، ولا يطمئن إليه.
فإذا اشتبه عليه -مثلا- في الصلاة هل أحدث ، أم لم يحدث ؟ هل خرج من شيء، أم لم يخرج منه شيء ؟ فيبني على الأصل، وهو ما لا يريبه، وهو أنه دخل الصلاة على طهارة، متيقن منها، فيبني على الأصل، ويدع ما طرأ عليه من الشك إلى اليقين، كان متطهرا فشكَّ هل أحدث أم لا؟ يبني على الأصل، ويدع الشك.
وهذا أصل عظيم -كما ذكرنا- هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة كما مَرَّ معنا في حديث النعمان بن البشير، فيدخل فيه ترك جميع ما يريب المسلم إلى شيء يتيقن من جوازه، وألا يلحقه به، وأنه لا يلحقه به إثم، أو شيء في دينه أو عرضه.
لهذا جاء هذا المعنى في أحاديث كثيرة، وقال ابن مسعود -رحمه الله-: "دَعْ الواحد الذي يريبك -يعني: الشيء الواحد الذي يريبك- إلى أربعة آلاف لا تريبك".
يعني ابن مسعود -رحمه الله- أن الذي يريب قليل، والذي لا يريب المرء -سواء في الأقوال أو في الأعمال أو في الاعتقادات- هذا كثير ولله الحمد، فالذي يريب اتركه، الذي يريبك من العلم، الذي يريبك من القول، الذي يريبك من الأعمال، الذي يريبك من العلاقات، الذي يريبك من الظن.
كل ما يريبك، تخاف منه، ولا تطمئن إليه، فدعه واتركه إلى أمر لا يريبك، وهو كثير ولله الحمد .
فهذا فيه طلب براءة الذمة إلى الأشياء المتيقنة، وإذا تقرر هذا فالحديث له تكملة، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( فإن الخير طمأنينة، وإن الكذب ريبة ) .
( فإن الصدق طمأنينة، أو إن الخير طمأنينة، وإن الكذب ريبة ) يعني: في تكملة في بعض الروايات.
وهذا يدل على أن كل ما فيه خير تطمئن له نفس المؤمن، فأنت تأتي إلى ما تتلفظ به من أقوال، فتزنها بهذا الميزان، ما تأتيه من أعمال فتزنها بهذا الميزان، والعجب ممن يتكلم بشيء وهو بداخله غير مرتاح له، ومع ذلك يغشاه، فهذا مخالف لهذا الأمر العظيم.
كذلك أعمال لا يرتاح لها، أو صحبة لا يرتاح لها، ومع ذلك يأتيها وهو غير مطمئن لذلك، وهذا -لا شك- أنه مخالفة لهذه الوصية العظيمة: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) وهذا توجيه نبوي عظيم الفائدة عظيم العائدة ، وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يستعملون هذا.
وهذا الحديث أصلٌ في الورع ، أصلٌ في ترك المشتبهات، أصل في التَخَوُّف من أي نوع من الحرام.
والورع سهل، قد قال بعض السلف -أظنه حسان بن أبي سنان- قال: "إذا أتاني أمر وفيه ريبة تركته، وما أسهلها على النفس".
وهذا -ولا شك- عند نفس المؤمن الذي أخبت لربه، فإنه إذا أتاه ما يريبه يتركه، ويكون في ذلك راحة النفس وطمأنينة القلب، وهذا أمر واضح في الشريعة .

إنتهى شرح الحديث الحادي عشر

تحياتي

:)

الوافـــــي 20-07-2004 03:12 PM

الحديث الثاني عشر

مِن حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يَعنيه


وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مِن حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يَعنيه ) حديث حسن ، رواه الترمذي وغيره هكذا.
هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث الأربعة التي قال فيها طائفة من أهل العلم -منهم ابن أبي زيد القيرواني المالكي المعروف-: إنه أحد أحاديث أربعة هي أصول الأدب في السنة؛ فهذا الحديث أصل من الأصول في الآداب، كما ذكرنا لكم في أول هذه الدروس أن النووي -رحمه الله- اختار هذه الأحاديث كلية في أبواب مختلفة، في كل باب أصل من الأصول فيه.
قال هنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) .
( من حسن إسلام المرء ) "من" هنا: تبعيضية، يعني: ترك ما لا يعني، وبعض ما يحصل به إحسان الإسلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
( من حسن إسلام المرء ) من هنا تبعيضية ، يعني: أن ترك ما لا يعني: هو بعض ما يحصل به إحسان الإسلام ، وحسن الإسلام يعني : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) بعض ما به حُسْن إسلام المرء ترك ما لا يعني ، وهذا ظاهر من اللغة .
وقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( حسن إسلام المرء ) حسن الإسلام جاء هذا اللفظ ومشتقاته في أحاديث متعددة منها -مثلا- قول النبي -عليه الصلاة والسلام- : ( إذا أحسن أحدكم إسلامه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، وإذا عمل بالسيئة كانت السيئة بمثلها ) وله ألفاظ أُخَر ، فدل هذا وغيره على أن إحسان الإسلام مرتبة عظيمة ، وفيها فضل عظيم .
وإحسان الإسلام مما اختلف فيه أهل العلم : -
فقالت طائفة : إحسان الإسلام : أن يأتي بالواجبات ، وأن ينتهي عن المحرمات ، وهي مرتبة المقتصدين ، يعني: الذين جاءوا بقول الله -جل وعلا- : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ {32} سورة فاطر .. فالمقتصد هو : الذي يأتي بالواجبات ، ويترك المحرمات ، ويجعل مع الواجبات بعض النوافل ، فقالوا : المحسن لإسلامه هم أهل هذه الصفة ، يعني: الذين يأتون بالواجبات وبعض النوافل ، ويدعون المحرمات جميعا ، فمن كان كذلك فقد حسن إسلامه .

.. يتبع ..

الوافـــــي 20-07-2004 03:13 PM

والقول الثاني : إن إحسان الإسلام معناه : أن يكون على رتبة الإحسان في العبادة التي جاءت في حديث جبريل المعروف ( قال : فأخبرني عن الإحسان قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فالذي يحسن إسلامه هو الذي وصل إلى مرتبة الإحسان ، إما على درجتها الأولى : درجة المراقبة ، أو على كمالها وهو : درجة المشاهدة .
وهذا القول الثاني ظاهر في الكمال ، ولكنه ليس ظاهرا في كل المراتب ؛ ولهذا قالت طائفة -أيضا- من أهل العلم : إن إحسان الإسلام ليس مرتبة واحدة بل الناس مختلفون فيها ، فبقدر إحسان الإسلام يكون له الفضل والثواب الذي أعطيه من أحسن إسلامه .
فمثلا: في قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إذا أحسن أحدكم إسلامه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ) قالوا هنا : عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، عشر حسنات لكل من أحسن الإسلام ، يعني: لمن كان له الإسلام ، وحسن منه فإنه يبدأ من عشر أضعاف للحسنة يعني تكتب له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، هذا بحسب درجته في إحسان الإسلام .
فدل تنوع الثواب على تنوع الإحسان ، يعني أن درجة الإحسان تختلف ، وأهل إحسان الإسلام فيه متفاوتون لتفاوت الفضل والمرتبة والأجر على ذلك فقال : "إلى سبعمائة ضعف" ، فمن أسباب مزيدها إلى سبعمائة ضعف أن يكون إحسانه للإسلام عظيما ؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن الحسنة بعشر أمثالها لكل أحد . يعني: لكل مسلم في قوله -جل وعلا- في آخر الأنعام : مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {160} قال : هذا لكل أحد ، أما من أحسن إسلامه فإنه في قول الله -جل وعلا- : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً {40}سورة النساء .. وهذا تقرير صحيح ، فإن الناس في إحسان الإسلام مراتب .
وهذه المسألة مشكلة ، يعني: لو راجعت في الشروح ، وكلام أهل العلم مشكلة ، لكن كلام أهل التحقيق الذين قرروا هذه المسألة بينوا أن إحسان الإسلام له مراتب ، يعني: ليس مرتبة واحدة ، وأن أهل المعصية ، يعني: من ظلم نفسه ، ليس من أهل إحسان الإسلام فقال : ( من حسن إسلام المرء ) يعني: هذا الفعل ، وهو ترك ما لا يعني من حسن إسلامه ، وهذا ظاهر في المرتبتين جميعا، فإن الذي يأتي الطاعات ، ويبتعد عن المحرمات فإنه منشغل بطاعة ربه عن أن يتكلف ما لا يعنيه.
وأما أهل الإحسان في مقام المراقبة ، أو ما هو أعظم منها ، وهو مشاهدة آثار العصمة والصفات في خليقة الله -جل وعلا- فهؤلاء منشغلون بإحسان العمل الظاهر والباطن عن أن يكون لهم هم فيما لا يعنيهم .
إذا تقرر هذا فما معنى قوله : ( ما لا يعنيه ) ؟ ما هو الذي يعني والذي لا يعني ؟ العناية في اللغة : شدة الاهتمام بالشيء ، أو الشيء المهم الذي يُهْتَم به ، والذي لا يعني وليس لي به عناية هو الشيء الذي لا ينفع المعتني به ، يعني: لا ينفع المتوجه إليه ، وليس له به مصلحة ، ومعلوم أن أمور الشرع المسلم له بها عناية ، وأن فقه الكتاب والسنة له به لكل مسلم به عناية ، يعني: فيشتد اهتمامه بها .
فإذاً الاهتمام بما فيه فقه للنصوص هذا مما يدل على حسن إسلام المرء ، قال : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) بالمفهوم أن من حسن إسلام المرء الاهتمام بما يعنيه ، ما لا يعني المرء المسلم من الأقوال التي ليس لها نفع له في دينه ، ولا في دنياه أو في آخرته أو في أولاه ، فإن تركها من حسن إسلام المرء ، وهذا عام يشمل ما يتصل بفضول العلوم التي لا تنفعه ، وبفضول المعاملات ، وبفضول العلاقات ، ونحو ذلك فتركه ما لا يعنيه في دينه فإنه هذا دليل حسن إسلامه.
يعني: دليل رغبته في الخير؛ لأن التوسع ، أو إتيان ما لا يعني في العلاقات ، أو في الأقوال أو في السمع … إلخ هذا زريعة لأن يرتكب شيئا محرما ، أو أن يفرط في واجب ، تفوته رتبة المقتصدين التي هي أقل رتب أهل حسن الإسلام.
أدخل الشراح أيضا وهذا واضح وبَيِّن ، وقد جاء في بعض الأحاديث أن مما لا يعني المرء الكلام أو السماع ، الكلام نطقا أو سماع الكلام ، يعني: أن من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من الكلام ، سماعا أو نطقا ، وهذا ظاهر بين ؛ لأن اللسان هو مورد الزلل ، والأذن أيضا هي مورد الزلل ، فاللسان نطقا محاسب عليه العبد ( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {18}سورة ق .. وهذه الآية عامة ، فإن الملك يكتب كل شيء حتى الأشياء التي لا تؤاخذ بها .


.. يتبع ..

الوافـــــي 20-07-2004 03:14 PM

قال بعض السلف: يكتب حتى أنين المريض ، يعني: حتى ما لا يؤاخذ به فإنه يكتبه ، وهذا هو الراجح في أنه يكتب كل شيء ، ولا تختص كتابته بما فيه الثواب والعقاب ، وذلك لدليلين :
الأول : أن قوله: "من قول" هذه نكرة في سياق النفي ، وسبقتها من ، وهذا يدل على التنصيص الصريح في العموم يعني: الذي لا يتخلف معه شيء من أفراده ألبته ( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ ) فأي قول لفظ فإنه يكتب .
الدليل الثاني : أن تقسيم ما يكتبه الملك إلى أنه يكتب ما فيه الثواب والعقاب ، هذا يُحتاج له ، أن يُثبت أن الملك الذي يكتب عنده التمييز في الأعمال ما بين ما فيه الثواب ، وما لا ثواب فيه ، والتمييز في النيات وأعمال القلب والأقوال التي تصدر عن أعمال القلوب ... وإلخ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان : وهذا لا دليل عليه ، يعني: أن الملك يعلم ما يثاب عليه من الأقوال ، وما لا يثاب عليه ، وإنما الملك كاتب ، كما قال -جل وعلا- : أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ {80}سورة الزخرف ( كِرَاماً كَاتِبِينَ {11}إلخ سورة الإنفطار . دل هذا على أن ترك ما لا يعني في الأقوال في القول لفظا أو سماعا أن هذا مما تعظم به درجة العبد .
( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً {114}سورة النساء .. فلهذا يظهر من الحديث عند كثيرين أن المراد به -كما ذكرت- القول أو السماع ، فيدخل فيه إذن البحث عن أحوال لا تخصك ، أو لا تعنيك في دينك ، أو الحرص على معرفة الأخبار ، أخبار فلان ، وأيش عمل ، وأيش سوَّى وقال وفعل ، وخبره مع فلان ، وأيش عندك من الأخبار ، وأيش قال فلان ، والناس أيش عملوا ، ونحو ذلك .
فالاهتمام بهذه الأشياء بما لا يعني هذا مخالف لما يدل عليه حسن الإسلام ، فمن أدلة حسن الإسلام ترك ما لا يعني من فضول الأقوال ، وفضول ما يسمع .
فإذاً هذا الحديث من أحاديث الآداب العظيمة فينبغي لنا -وجوبا- أن نحرص على حسن الإسلام ؛ لأن فيه من الفضل العظيم ما فيه ، ومن حسن الإسلام أن نترك ما لا يعني من الكلام أو السماع ، الكلام ، الأسئلة التي ليس لها داع ، يأتي يستفصل وتارة مع من هو أكبر منه ، أو من قد يحرج باستفصاله ، وتدقيق في الأسئلة ، تجميع الأخبار عن الناس ، وهذا فعل ، وهذا ترك ، وهذا ذهب ، وهذا جاء ... إلخ .
والتحدث بها ، وتوسيع ذلك هذا كله مذموم ، ويسلب عن العبد حسن الإسلام إذا غلب عليه ، ولهذا نقول : في هذا الحديث وصية عظيمة في هذا الأدب العظيم من المصطفى -عليه الصلاة والسلام- فإن من حسن إسلام المرء أن يترك ما لا يعنيه ، ما لا يعنيه في دينه ، ما لا يعنيه في أمر دنياه ، ما لا يعنيه من الأقوال ، ومما يسمع أو مما لا يسمع ، وأشباه ذلك .
فإن في هذا الأثر الصالح له في صلاح قلبه ، وصلاح عمله ، والناس يؤتون من كثرة ما يسمعون أو يتكلمون ، ولهذا قال بعض السلف في أناس يكثرون الكلام والحديث مع بعضهم قال : هؤلاء خف عليهم العمل ، فأكثروا الكلام ، وهذا مذموم أن نكثر الكلام بلا عمل ، نجلس مجالس طويلة ساعة ، ساعتين ، ثلاث في كلام مكرر ، وضار لا نفع فيه والواجبات لو تأملها كثيرة ، تجد أنه يتوسع في مباح ، وربما كان معه بعض الحرام في الأقوال والأعمال ويترك واجبات كثيرة ، وهذا ليس من صفة طلاب العلم ، فطالب العلم يتحرى أن يكون عمله دائما فيما فيه نفع له ، يعني فيما يعنيه مما أمر به في الشريعة أو حُث عليه ، وأن يترك ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
هذا الحديث قال عنه النووي في آخره : حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا ، وتحسينه من جهة كثرة طرقه ، من كثرة شواهده .
والراجح عند علماء العلل أنه مرسل ، فقد قال أحمد ويحيى بن معين وجماعة : إن الصواب فيه أنه مرسل ، ولكن له شواهد كثيرة قريبة من لفظه ؛ ولهذا حسنه النووي -رحمه الله- وقال : حديث حسن ، رواه الترمذي وغيره هكذا ، فالصواب أنه حسن لغيره لشواهده.

إنتهى شرح الحديث الثاني عشر

تحياتي

:)

الوافـــــي 02-08-2004 09:42 AM

الحديث الثالث عشر

لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه

وعن أبي حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ) رواه البخاري ومسلم.

هذا حديث أنس رضي الله عنه وهو الحديث الثالث عشر من هذه الأحاديث النووية .
قال : عن أبي حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .
"لا يؤمن أحدكم" : هذه الكلمة تدل على أن ما بعدها مأمور به في الشريعة ، إما أمر إيجاب أو أمر استحباب ، ونفي الإيمان هنا قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان -كما أحضرنيه بعض الأخوة- : ( لا يؤمن أحدكم ) إن هذا نفي لكمال الإيمان الواجب ، فإذا نُفِي الإيمان بفعل دل على وجوبه ، يعني: على وجوب ما نفي الإيمان لأجله.
( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) دل على أن محبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه واجبة ، قال : لأن نفي الإيمان لا يكون لنفي شيء مستحب ، فمن ترك مستحبا لا ينفي عنه الإيمان ، فنفي الإيمان دال على أن هذا الأمر واجب ، فيكون إذاً نفي الإيمان نفي لكماله الواجب ، فيدل على أن الأمر المذكور ، والمعلق به النفي يدل على أنه واجب .
إذا تقرر هذا فقوله هنا : ( لا يؤمن أحدكم حتى ... ) له نظائر كثيرة في الشريعة يعني: في السنة : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ( لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ) وهكذا إذا تقرر ذلك فإن نفي الإيمان فيها على باب واحد ، وهو أنه ينفي كمال الإيمان الواجب .
ثم قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) هذا يشمل الاعتقاد والقول والعمل ، يعني: يشمل جميع الأعمال الصالحة من الأقوال والاعتقادات والأفعال ، فقوله : ( حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) يشمل أن يحب لأخيه أن يعتقد الاعتقاد الحسن كاعتقاده ، وهذا واجب ، ويشمل أن يحب لأخيه أن يكون مصليا كفعله .
فلو أحب لأخيه أن يكون على غير الهداية فإنه ارتكب محرما فانتفى عنه كمال الإيمان الواجب ، لو أحب أن يكون فلان من الناس على غير الاعتقاد الصحيح الموافق للسنة ، يعني: على اعتقاد بدعي فإنه كذلك ينفي عنه كمال الإيمان الواجب ، وهكذا في سائر العبادات ، وفي سائر أنواع اجتناب المحرمات ، فإذا أحب لنفسه أن يترك الرشوة ، وأحب لأخيه أن يقع في الرشوة حتى يبرز هو كان منفيا عنه كمال الإيمان الواجب ، وهكذا في نظائرهما .

.. يتبع ..

الوافـــــي 02-08-2004 09:45 AM

وقد جاء في النسائي -يعني: في سنن النسائي- وفي غيره تقييد ما يحب هنا بما هو معلوم ، وهو قوله : ( حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير ) وهذا ظاهر غير بين ، ولكن التنصيص عليه واضح .
أما أمور الدنيا فإن محبة الخير لأخيه كما يحب لنفسه هذا مستحب ؛ لأن الإيثار بها مستحب ، وليس بواجب ، فيحب لأخيه أن يكون ذا مال مثل ما يحب لنفسه هذا مستحب ، يحب لأخيه أن يكون ذا وجاهة مثل ما له هذا مستحب ،
يعني: لو فرط فيه لم يكن منفيا عنه ، لم يكن كمال الإيمان الواجب منفيا عنه ؛ لأن هذه الأفعال مستحبة ، فإذا صار المقام هنا على درجتين ، إذا كان ما يحبه لنفسه متعلقا بأمور الدين فهذا واجب أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه ، وهذا هو الذي تسلط نفي الإيمان عليه .

( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )
يعني: من أمور الدين أو من الأمور التي يرغب فيها الشارع وأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب وكذلك ما نهى عنه الشارع ، فيحب لأخيه أن ينتهي عن المحرمات ويحب لأخيه أن يأتي الواجبات ، هذا لو لم يحب لأنتفى عنه كمال الإيمان الواجب ، أما أمور الدنيا -كما ذكرنا- فإنها على الاستحباب يحب لأخيه أن يكون ذا سعة في الرزق فهذا مستحب ، يحب أن يكون لأخيه مثل ما له من الجاه مثلا أو من المال أو من حسن الترتيب أو من الكتب أو… إلخ فهذا كله راجع إلى الاستحباب.

ويتفرع عن هذا مسألة الإيثار ،
والإيثار منقسم إلى قسمين : إيثار بالقرب ، وإيثار بأمور الدنيا ...،
أما الإيثار بالقرب فإنه مكروه لأنه يخالف ما أمرنا به من المسابقة في الخيرات والمسارعة في أبواب الطاعات ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {21} سورة الحديد وقوله تعالى ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {133}سورة آل عمران فالمسارعة والمسابقة تقتضي أن كل باب من أبواب الخير يسارع إليه المسلم ويسبق أخاه إليه وقوله تعالى ( خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ {26}سورة المطففين .

والقسم الثاني الإيثار في أمور الدنيا يعني: في الطعام في الملبس في المركب في التصدر في مجلس أو ما أشبه ذلك فهذا مستحب أن يؤثر أخاه في أمور الدنيا كما قال -جل وعلا- في وصف خاصة المؤمنين : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9}سورة الحشر ‏فدلت الآية على أن الإيثار بأمور الدنيا من صفات المؤمنين وهذا يدل على استحبابه ،
صلة هذا بالحديث ، قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) يحب للأخ ما يحب للنفس ، قد يقتضي هذا أن يقدمه ، فهل إذا كان في أمور الدنيا يقدمه على ما ذكرنا ؟
إن الإيثار بالقرب مكروه ، الإيثار في أمور الدنيا مستحب فحبه لأخيه ما يحب لنفسه من أمور الدنيا مستحب هنا أيضا ، يستحب أن يقدم أخاه على نفسه في أمور الدنيا .

هذا خلاصة ما في الحديث من البحث ، وبهذا يظهر ضابط قوله : ( لا يؤمن أحدكم ) وما يتصل بها من الفعل ( حتى يحب لأخيه ) ( حتى أكون أحب إليه من ولده ، ووالده والناس أجمعين ) إن هذا أمر مطلوب شرعا ، ( من لا يأمن جاره بوائقه ) إلخ .

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد

إنتهى شرح الحديث الثالث عشر

تحياتي

:)

الوافـــــي 16-08-2004 04:15 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فكثر السؤال بعد ( الدرس السابق ) عن معنى "الإيثار بالقُرَب" ، وأنا ظننت أنها واضحة عند الجميع فنقررها لمن لم تتضح له .
الإيثار بالقرب معناه : أن المسألة إذا كانت قربة إلى الله -جل وعلا- فإن الإيثار -إيثار أخيك- بها مكروه ؛ لأن هذا ينافي المسابقة التي ذكرنا لكم أدلتها والمسارعة في الخيرات والمنافسة .
فمثلا: أن يكون هناك فرجة في الصف الأول ، أو مكان متقدم خلف الإمام فتقف أنت وأخوك المسلم فتقول له : تقدم ، تفضل ، فيقول لك : لا ، تقدم فتقول : تقدم ، فمثل هذا لا ينبغي ؛ لأنه مكروه بل ينبغي المسارعة في تحصيل هذه القربة ، وهي فضيلة الصف الأول .
مثلا: أتى رجل محتاج إلى مبلغ من المال يسد عوزه ، خمسين ، مائة ريال ، أكثر ، فأنت مقتدر وأخوك أيضا المسلم مقتدر فتقول له : ساعده أنا معطيك الفرصة ، تفضل ساعده ، وهذا يقول : لا أنت تفضل من باب المحبة ، يعني: أن كل واحد يقدم أخاه ، فمثل هذا -أيضا- مكروه لا ينبغي ؛ لأن في هذا الباب المسارعة والمسابقة في الخيرات .
كذلك من جهة القراءة ، قراءة العلم على الأشياخ ، وأخذ الفرص لنيل الطاعات ، والجهاد وأشباه هذا ، فمثل هذه المسائل تسمى قُرَبا يعني طاعات ، فالإيثار في الطاعات يعني: بالقرب لا ينبغي ، مكروه ؛ لأنه كما ذكرنا ينافي الأمر بالمسارعة والمسابقة ، والتنافس في الخير .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الوافـــــي 16-08-2004 04:17 AM

الحديث الرابع عشر

لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) رواه البخاري ومسلم .

هذا الحديث حديث ابن مسعود رضي الله عنه فيه ذكر ما به يحل دم المرء المسلم ، فإنه تقدم لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله سبحانه ) .

فهذا الحديث فيه أن دم المسلم معصوم ، وأنه إذا شهد لا إله إلا الله ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، يعني: أدى حقوق التوحيد فإنه معصوم الدم ، وحرام المال ، هذا الحديث حديث ابن مسعود فيه الأحوال التي يباح بها دم المسلم الموحد ، الذي شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأتى بحقوق ذلك
فقال -عليه الصلاة والسلام- : ( لا يحل دم امرئ مسلم ... )
وقوله : "لا يحل" يعني: يحرم ، وهو كبيرة من الكبائر أن يباح دم مسلم بغير حق ؛ ولهذا ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض ) فجعل ضرب المسلم أخاه المسلم ، وقتله بغير حق من خصال أهل الكفر .
وثبت عنه أيضا -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، قالوا : يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) وهذا يدل على أن من سعى في قتل المسلم ، وأتى بالأسباب التي بها يقتل المسلم فإنه في النار ، قال : ( فالقاتل والمقتول في النار ) وهذا لا ينافي عدم المؤاخذة ، مؤاخذة المسلم بهمه .
وما جاء في الحديث ( إذا هم عبدي بالسيئة فلا تكتبوها عليه ) والحديث الآخر -أيضا- الذي في الصحيح ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل أو تتكلم ) ؛ لأن هذا الحديث الذي هو ( القاتل والمقتول في النار ) المقتول وإن لم يفعل فهو في النار ؛ لأنه قد سعى في الأسباب ، وعدم الحصول لم يكن لإرادته عدم الحصول ، وإنما لتخلف ذلك عنه بأمر قدري ، فيدل هذا على أن من سعى في أسباب القتل ، أو في أسباب المحرم ، وتمكن منها لكن تخلفت عنه لسبب ليس إليه فإنه يعتبر كفاعلها من جهة الإثم ، بل إن الذي يرضى بالذنب كالذي فعله يعني: من جهة الإثم وهذا ظاهر من الأدلة .
فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) يدل على تعظيم حرمة دم المرء المسلم ، وقوله : ( دم امرئ مسلم ) هنا قال : مسلم ، والمقصود بالمسلم هو : الذي حقق الإسلام ، يعني: أصبح مسلما على الحقيقة ، لا على الدعوة ، يعني: من شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأتى بالتوحيد .

.. يتبع ..

الوافـــــي 16-08-2004 04:18 AM

أما المشرك -الشرك الأكبر- والمبتدع -البدعة المكفرة المخرجة من الدين- وأشباه ذلك فلا يدخلوا في وصف الإسلام في هذا الحديث ، ولا في غيره ؛ لأن المسلم هو من حقق الإسلام بتحقيق التوحيد يعني: بإتيانه بالشهادتين ومقتضى ذلك ، وكونه لم يرتكب مكفرا ، ولا شركا أكبر ..
قال : ( إلا بإحدى ثلاث ) وهذا استثناء أو يسمى حصرا ؛ لأنه استثناء بعد النفي .
والاستثناء بعد النفي يدل على الحصر ، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في أولها : "لا يحل" أتى على النفي ، ومجيء النفي يدل على النهي ، بل مجيء النفي أبلغ من مجرد النهي ، يعني: كأنه صار حقيقة ماضية ، أنه لا يحل ، بحيث إن النهي عنه قد تقرر ، وإنما ينفي وجوده في الشريعة أصلا ، وله نظائر كقوله : لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ {79} الواقعة ، وأشباه ذلك مما يعدل فيه من النهي إلى النفي للمبالغة في النهي ، وهذه قاعدة معروفة في اللغة وفي أصول الفقه .
قال : ( إلا بإحدى ثلاث ) هذه الثلاث أصول ، قال فيها : الثيب الزاني ، والزاني له حالات : إما أن يكون ثيبا ، يعني: أنه قد ذاق العسيلة من قبل ، يعني: أنه سبق له أن أحصن -أن تزوج- بعقد شرعي صحيح ، فهذا يقال له : ثيب ، إذا كان كذلك فإنه لا يكون ثيبا بزنا ، ولا يكون ثيبا بعقد فاسد باطل ، ولا يكون ثيبا بعقد متعة ، متعة زواج وأشباه ذلك ، لا يكون محصنا ثيبا في الشريعة إلا إذا تزوج ، نكح نكاحا صحيحا مستوفيا للشروط .
فالثيب إذا زنى فإنه يحل دمه ، وقد كان فيما أنزل ونسخ لفظه وبقى حكمه قوله -جل وعلا- : "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم"، وفيما بقي لفظا وحكما قول الله -جل وعلا- : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ {2}سورة النور ، فدلت الآية على عموم أن الزاني يجلد مائة ، ودلت الآية التي نسخ لفظها وبقي حكمها أنه يرجم .
وكذلك السنة دلت على الرجم ، ودلت أيضا على الجمع بين الجلد والرجم ؛ ولهذا اختلف العلماء في الزاني الثيب هل يجمع له بين الجلد والرجم ؟ يعني: هل يجلد أولا ثم يرجم ؟ أم يكتفى فيه بالرجم ؟ والنبي -عليه الصلاة والسلام- رجم أو أمر برجم ماعز والغامدية ، وأمر برجم اليهودي واليهودية ، وأشباه ذلك في حوادث تدل على أن الرجم فعل من غير جلد .
وقد قال بعض أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم كعلي رضي الله عنه إنه يجلد ثم يرجم، كما ثبت في صحيح البخاري -رحمه الله- ( أن عليا جلد زانيا ثيبا ثم رجمه فقال : جلدته بكتاب الله ورجمته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يريد رضي الله عنه أنه جلده بعموم قوله -جل وعلا- : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ {2}سورة النور ، لأن الآية ليس فيها تفصيل هل هو محصن أم غير محصن ؟ هل هو ثيب أم بكر ؟

.. يتبع ..

الوافـــــي 16-08-2004 04:19 AM

والسنة فيها الرجم ، فدل هذا عنده رضي الله عنه على الجمع بين الجلد والرجم ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وكثير من أهل العلم على الاكتفاء بالرجم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالرجم في حوادث كثيرة ، أو في حوادث متعددة ، حيث رجم ماعزا والغامدية ، واليهودي واليهودية دون جلد -كما هو معروف- .
فقال بعضهم : الجمع بين الجلد والرجم راجع إلى الإمام فيما يراه من جهة كثرة النكال ، والمبالغة فيه .
المقصود من هذا : أن الثيب إذا زنى ، وتحققت شروط الزنا كاملة ، بما هو معروف بشهادة أربعة ، أو باعترافه على نفسه اعترافا محققا ، لا يرجع فيه أنه يرجم ، وذلك حتى يموت ، قال هنا : ( الثيب الزاني ) يعني: يحل دمه ، يحل دم الثيب إذا زنى ، قال : ( والنفس بالنفس ) النفس بالنفس هذه كما قال -جل وعلا- في القرآن : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) الآية 178 سورة البقرة ، الآية فدل ذلك على أن النفس تقتل بالنفس ، فإذا اعتدى أحد على نفس معصومة فإنه يقتل ، إذا كان اعتداؤه بالقتل عمدا .
ثم نظر أهل العلم في قوله : ( النفس بالنفس ) هل هذا عام لا تخصيص فيه ؟ أو هو عام مخصوص ؟ أو هو مقيد في أقوال لهم ؟
والذي عليه جهور أهل العلم أن قوله : ( النفس بالنفس ) هذا يقيد بأن النفس تكون مكافئة للنفس بدلالة السنة على ذلك ، كما قال -جل وعلا- : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {45}‏ سورة المائدة ، وقال -جل وعلا- أيضا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ {178} سورة البقرة.
والسنة دلت على أن المسلم لا يقتل بكافر ، وعلى أن الحر لا يقتل بعبد ، حتى في القصاص في الأطراف بين الحر والعبد لا توجد المكافأة وهكذا .
فإذن لا بد من وجود المكافأة من جهة الدين ، ومن جهة الحرية فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : "النفس بالنفس" يعني فيما دلت عليه الآية -آية البقرة- ودلت عليه مواضعها من السنة أن النفس المكافئة للنفس .

.. يتبع ..

الوافـــــي 16-08-2004 04:21 AM

أما قتل كل نفس بكل نفس فهذا خلاف السنة ، وذهب أبو حنيفة الإمام المعروف -رحمه الله- وأصحابه إلى أن المسلم يقتل بالكافر لعموم الآية ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {45}‏ سورة المائدة ، ولعموم الحديث ، وعلى أن الحر يقتل بالعبد ، والجمهور على إعمال الأحاديث الأُخَر في هذا الباب من أن النفس بالنفس تقيد بما جاء في الأحاديث ، فيكون هذا من العام المخصوص .
قال : ( والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
"التارك لدينه" فسرت بتفسيرين :
الأول : التارك لدينه يعني : المرتد الذي ترك دينه كله فارتد عن الدين ، فيباح دمه .
والتفسير الثاني : أن التارك للدين هو : من ترك بعض الدين ، مما فيه مفارقة للجماعة ، يعني: ترك بعض أمر الدين ، مما فيه المفارقة للجماعة ، قالوا : ولهذا عطف ( المفارق للجماعة ) على ( التارك لدينه ) فقال : ( والتارك لدينه المفارق للجماعة ) فجعل مفارقة الجماعة عطفا لبيان ترك الدين ، فدل هذا على أن إباحة الدم في ترك الدين يكون بترك الجماعة ، وترك الجماعة يراد بها ترك الجماعة التي اجتمعت على الدين الحق بمفارقته للدين ، وتركه للدين بما يكفره .
والثاني : يعني: مفارق للجماعة ، جماعة الدين أو الاجتماع في الدين، والثاني : أن المفارقة للجماعة يعني بالخروج على الإمام ، أو البغي ، فيكون المفارقة للجماعة المقصود بها الاجتماع بالأبدان .
وهنا تكلم العلماء في كثير من المسائل التي تدخل تحت ترك الدين ، فجعلوا باب الردة فيه ، أو باب حكم المرتد فيه مسائل كثيرة ، فيها يخرج المرء من الدين ، ويكون مرتدا بذلك ، فكل مسألة حكم العلماء فيها على أنها من أسباب الردة ، أو بها يرتد المسلم ، فإنه بعد اكتمال الشروط ، وانتفاء الموانع يحل دمه ، يعني: يحل دم المرتد ، وكذلك المفارق للجماعة بالأبدان يحل دمه لقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائنا من كان ) .
فدل هذا على أن ترك الجماعة ، ومفارقة الجماعة يحصل بترك الدين ، بالردة عن الدين ، وبمفارقة الاجتماع على الإمام ، وهذا ظاهر بين في تعلية ترك الدين بمفارقة الجماعة ، ولهذا جعل أهل العلم في ترك الدين هذا كل المسائل التي يقتل بها .
إذا تقرر هذا فإن إحلال الدم هذا متوجه إلى الامام -إمام المسلمين- فإنه لا يجوز لأحد أن يستبيح دم أحد ؛ لأنه عنده قد أتى بشيء من هذه الثلاث . فإذا قال : أنا رأيت هذا يزني رأيته بعيني فاستبحت دمه لذلك فإنه يقتل ، ولا يجوز له ؛ لأن الله -جل وعلا- جعل ثبوت الزنا منوطا بشهادة أربع .
ولو شهد ثلاثة من أعظم المسلمين صلاحا على حصول الزنا ، وأنهم رأوا ذلك بأعينهم لَدُرِئَ الحدُّ ، ولأقيم على هؤلاء الصلحاء حد القذف ؛ لأنهم قذفوه ، ولم يكمل أربعة من الشهداء ، كما هو بين لكم في أوائل سورة النور .
كذلك من قال : هذا ارتد عن دينه فأنا أقيم عليه الحد وأقتله ، وأبيح دمه لأجل هذا الحديث فإن هذا افتئات وتعد ، ولا يباح له أن يفعل ذلك ، ودمه لا يحل لكل أحد .

.. يتبع ..


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.