أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   خيمة الثقافة والأدب (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=9)
-   -   قصيدة جاهلية ! مليئة بالحكمة السياسية (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=46627)

ابن حوران 05-11-2005 04:35 AM

المنظومة الأخلاقية عند العرب :


(1)



للعرب خصائص ينفردون بها عن بقية شعوب الأرض ، وتلك الخصائص كما أسلفنا آتية من الطبيعة الجغرافية و المناخية ، إضافة الى الموروث الحضاري العميق الذي يمتد قرابة عشرة آلاف عام ، حيث أنه لا يوجد من ينافس العرب على الإدعاء باستحقاقهم الانتساب الى حضارات وادي النيل والعراق وشرق المتوسط و جنوب جزيرة العرب .. حيث تسربت أهم مفردات السلوك البشري من جيل الى جيل حتى بقي أهمها قائما الى وقتنا الحاضر ..

وقد شاهدت في مناطق حوران ، شيوخا يستخدمون ألفاظا وأمثالا من يتأملها يجد ما أشرت لها .. فتجد أحدهم يقول ( بمشير يتساوى اللوكسي والعفير ) .. وهو مثل يطلقه فلاحو حوران من مزارعي الحبوب المعتمدة على الأمطار ( البعلية أو الديمية ) .. واللوكسي هو الزراعة المتأخرة في تشرين الثاني أو كانون الأول (نوفمبر أو ديسمبر) .. والعفير هو التبكير بالزراعة في أيلول و تشرين الأول ( سبتمبر أو أكتوبر) .. و ( مشير ) هو شهر آذار (مارس) عند الفراعنة في مصر .. وملخص المثل هو : من زرع مبكرا أو متأخرا فان المزروعات ستتساوى في آذار (مارس) ..

وتجد هؤلاء الفلاحين يفرحون عندما ينزل المطر بكميات كافية ، فتجدهم يبشرون بعضهم وهم يتحلقون حول المواقد في الشتاء ( أبشر فقد ألقحت !) ، وعندما تحريت عن هذا المصطلح الذي استمعت اليه كثيرا ، وجدت أن السوريين كانوا يعتقدون أن السماء (ذكر) والأرض (أنثى ) .. وتبشيرهم لبعض أن خصاب الأرض قادم لا محالة فقد (ارتوت ) ..

كما أن هناك عادات يقومون بها في رمضان ، يعتقدون أنها اسلامية وهي بالحقيقة فرعونية تماما .. فانهم يوزعون اللحوم على الفقراء من أيام الخميس في رمضان ، اعتقادا منهم أنها مرتبطة بالدين .. ولكنني كنت من القلائل الذين يتذكرون قبل أربعين عاما عندما كان كل بيت يذبح مجموعة من الخراف في شهر نيسان ويوزعون لحومها ، ونيسان في التقويم (الجلفي) الريفي في المنطقة كان اسمه ( الخميس) ، نعم شهر اسمه الخميس ..

ومن يكن على اطلاع على سلوك أهل مصر زمن الفراعنة ، عندما كانوا يرمون في نهر النيل أجمل بناتهم ، ظنا أن إله النيل قد فشل في حبه ، وأخذ يذرف الدموع بغزارة .. فاتقاءا للفيضان الناجم عن تلك الدموع ، كانوا يضحون ببناتهم عسى أن يهدأ إله النيل ! ثم تطورت تلك الحالة واستبدلوا البنات بأبقار ثم خراف و كان هذا التطور قد حدث أواسط القرن الألف الثاني قبل الميلاد .

ولما كان الفيضان يحدث في شهر أبريل ( نيسان الخميس ) فقد تطورت تلك العادة التي أصلها أسطوري ، وكان له تفسيره في حينه ، حتى وصلت الينا واستعيض عن الخميس الشهر بخميس رمضان !!

اننا و نحن نسوق تلك العينات البسيطة من التراث ، التي لا تدلل فقط على وحدة التراث العربي واختلاطه و تماسك الأمة بعفويتها على مر العصور .. بل لنؤسس عليه كيفية نشوء مخطط البناء الأولي للقاعدة الخلقية عند العرب ، وكيفية بناء منظومة محددات السلوك العام ..

ابن حوران 06-11-2005 04:05 PM

المنظومة الأخلاقية عند العرب :



(2)



كما هو معروف فان فكرة القومية ، هي فكرة حديثة ، وان كان السلوك وفقها سلوك قديم ، وان البقعة المكانية بما تحتويه من مخزون حضاري و سلوكي ولغوي هي ما تصبغ البلاد مع سكانها بصبغة تختلف عن بقاع أخرى ..

فتكرار المفردات اللغوية وتكرار ردات الفعل إزاء ما يدور حول الفرد ، وتقييم ردات فعل الآخرين تجاه فعله ، يشبه الى حد كبير مسألة التوفيق بين صنبوري الماء النازل من فتحات ( دش الحمام ) .. فان كان الماء باردا أو حارا فان الجسم لا يطيقه .. وهكذا هي حالة مواضعة التعايش بين الفرد أو الفئة مع المجتمع الأوسع ..

فان ذهب أحدنا و كان أصله من البادية أو الريف الى المدينة فانه لا يحتاج الكثير من الوقت حتى يهتدي لفكرة التوازن و المواضعة بين سلوكه و منظومة أو منظومات سلوك الآخرين .. وهكذا نفعل اذا خرجنا من بلادنا و أقمنا للدراسة أو للتجارة في بلاد غير عربية ، فسرعان ما نتكيف ونلتزم بضوابط و منظمات سلوك من نحن في ضيافته ..

لا يشترط أن نقتنع أو نحب عادات و سلوك الآخرين الذين ننتقل اليهم ، بل لضرورات التعايش غير المحرج فاننا سنتكيف ، وان كان ذلك على مضض . وعندما ننفرد بأنفسنا أو أسرنا التي نشأنا بينها ، فاننا لا نحتاج الى من يقول لنا عودوا الى سابق عهدكم في سلوككم .. فان كنا لم ننشأ على استخدام الشوكة والسكين ، فاننا وان عشنا مدة نستخدمها بإتقان في ضيافة مجتمع آخر .. سرعان ما نعود الى طرق تناول الطعام على نهج أهلنا ..

هذا ينسحب على مفردات اللغة أو اللهجة أو اللغة نفسها . كما ينسحب على منظومة القيم التي ينظر بها الى أمور كبرى كالدين والسياسة والدولة ، وغيرها من محاور نشاط المجتمع العام ..

وكلما طال الزمن كلما انصهرت جزئيات الذات الفردية بالذات المجتمعية .. حتى يصبح من الشذوذ التفكير بالذات الفردية أو الفئوية مقارنة بالذات المجتمعية الأوسع ..

هذا يدفعنا الى وجوب التسليم بإمكانية تعايش الأعراق والأديان والطوائف في مكان واحد ، اذا اهتدوا الى الكيفية التي يتعاملون بها مع بعضهم البعض ، ومع مرور الوقت فان الانصهار بين جزئيات سلوكهم ، ستصنع حالة من الاستعداد للتلاقح الفكري و الوثوب من قبل الجميع للدفاع عن تلك المنظومات الفكرية التي تكونت على مرور الزمن ..

لقد عشت في مدينة الموصل أكثر من عشرة سنوات ، وتلك المدينة بها من الأخلاط العرقية والطائفية ما لم يكن موجودا في أي مدينة بالوطن العربي .. فمن عرب الى أكراد الى تركمان الى شبك الى جرجر الى آثوريين و فليحي وغيره من الأعراق و الطوائف .. لم يكن لدي أي استثناء أو استهجان من أي نوع من الناس هناك ، فكان لي أصدقاء و جيران يفيضون طيبة وود ، وحسن استقبال و حسن معاملة .. بل أن من ربى ابني و بنتي البكر هم من الشيعة الشبك ..

لم أستطع التعرف على عرق و طائفة أصدقائي بيسر ، لأنهم كانوا متشابهون في كل شيء في النخوة و تفقد الصديق و الاستقبال بالبيت ، وتقييم ما يحدث على مستوى الوطن والأمة ..

انك لو سرت في سيارتك في أحد الشوارع العامة ، فانك ستصدف سيارات من موديلات مختلفة منها الحديث والثمين ومنها القديم و قليل الثمن .. ولكنهم يلتزمون كلهم بقواعد السير .. وانه من الشذوذ أن يفتح أحدهم نافذة سيارته باهضة الثمن ويسخر من الذي في جانبه اذا كانت سيارته قديمة ، فان فعل ذلك فانه سيواجه إما بشتيمة أو بنظرة ازدراء و امتعاض مستتر !

تتعايش أصناف من الكائنات الحية مع بعضها وتقتسم ما كتبه الله لها من رزق وتتقاتل أحيانا اذا تم التعدي على خصوصية فرد من أفراد هذا الصنف .. و أحيانا تتعايش أنواع من الكائنات الحية في بقعة واحدة ويلتزم كل نوع حسب ما سخر له من إمكانيات ..

ونحن البشر نتعايش مع غير من الكائنات الحية بالإضافة لتعايشنا مع أبناء جنسنا البشري . ونتعظ من أنه إذا هاجمنا ( نحلة ) فانها تحاول الدفاع عن نفسها بلدغة مؤلمة ، وهي تعلم أنها ستفقد حياتها بعد خروج حوصلة اللدغ !

في إفريقيا العربية ، تعرض المغرب العربي من ليبيا حتى موريتانيا لاحتلال الرومان لستة قرون .. وعند دخول المسلمين الفاتحين سرعان ما اعتنق سكان تلك المناطق الدين الجديد ، بل و أصبحوا فاعلين في الفتوحات الاسلامية الأخرى . في حين لم يعتنقوا دين المستعمر الروماني الذي احتلهم ستة قرون .

ان الاستعداد في التلاقح الفكري عند شعب شمال إفريقيا ، هو ما يفسر سرعة انخراطهم بالدين الجديد وذودهم عنه ، وهو ما يرجع تشابه الأصول العرقية عندهم مع أصول الفاتحين . في حين لم يبقي سكان اسبانيا و البرتغال على دينهم الاسلامي ، بعد خروج العرب ، لانعدام استعداد التلاقح الفكري بين العرقين .

اننا ونحن نذكر ذلك ، نؤكد على تشابه أصول القاعدة الخلقية لدى سكان الوطن العربي من المحيط الى الخليج ..

ابن حوران 09-11-2005 03:47 AM

المنظومة الأخلاقية عند العرب

(3)



لكن ما هي الأخلاق و ما علاقتها بالتعامل مع الدولة ؟



تضع الجماعات أحكاما ، منها ما يأخذ شكل العرف لتكراره ومنها ما يأخذ شكل القانون ويكون في أغلب الأحيان مكتوبا و تزعم الحكومات بتنفيذه على كل من يشملهم هذا القانون .

وأحيانا تعتمد الجماعات الطبيعية كالعشائر بوضع قوانينها بالمشافهة ، وان دونت في بعض البلاد .. وتضع الجماعات الاصطناعية كالنقابات و الأحزاب والجمعيات لوائح داخلية لها تكون بمثابة قانون ..

و أحيانا تصبح العادات السائدة بين الناس بمثابة شاهد و وازع يساعد في ضبط التعاملات بين الناس ..

كل تلك الأوعية التي تحفظ النصوص المكتوبة أو المسموعة ( بالمشافهة) يصبح لها سلطة مستترة يتعامل معها المواطن بإبقاء هيبتها ، وان كان له رأي مخالف بها .. وكلها مجتمعة تسهم في صناعة ركائز القاعدة الخلقية .. لكنها نفسها ليست الأخلاق ..

ان الالتزام بدفع قيمة شيك مكتوب لصالح شخص أو شركة أو جهة ، هو حق مبني على الاستحقاق المتعارف عليه قانونيا و معاملة . لكن ان فقد الشيك من الشخص المستفيد أو الجهة المستفيدة .. وتمت مراجعة محرر الشيك ، فاعتبر المسألة عادية وقام بتحرير شيك بدلا منه ، فان تصرفه هذا هو ما يدل على خلقه .. رغم أن وضعه القانوني لا يلزمه بكتابة شيك جديد ..

إذن فالتطوع بالالتزام بعناصر القاعدة الخلقية ، بما فيها القوانين ، هو ما يطلق عليه ب ( الأخلاق ) .. وغير ذلك ، يكون الالتزام بالقوانين و الأعراف وغيرها ، ما هو الا سلوك حسن قويم ..

عناصر القاعدة الخلقية :

تعتمد القاعدة الخلقية على ثلاثة ركائز مهمة .. حيث تعتبر تلك الركائز المنابع الأقوى في تغذية نوازع الاعتبار الأخلاقي .. وهي تتغير من بلاد الى أخرى ومن أزمان الى أخرى :
1 ـ الموروث الثقافي والفكري ، الذي يحوي بينه النصوص المكتوبة والنصوص المتناقلة بين الأجيال بشكل أمثال و حكم شعبية ، و بلهجات المناطق . وهذه مع الأسف يتم التكلم بها و ترديد مفرداتها بين حين وآخر ، خصوصا عند تطابق الحدث أو الواقعة مع الحدث و الواقعة التي قيل بها المثل .

2 ـ قوانين الدولة العامة : حيث تصيغ الدولة قوانينها لضبط سير المعاملات لمواطنيها و فض الخلاف فيما بينهم اذا وقع . و عندما يحس المواطن أن ملاذ القوانين هو أكثر خدمة لوضعه ، فانه يتملص بل و يسفه أحيانا مفردات القاعدة الخلقية التي تكون منابعها تراثية ، اذا لم تخدمه الأخيرة ..

3 ـ الصحبة و تكرار سلوكها اليومي ، يصنع قيما آنية تسهم هي الأخرى في تحديد مسالك القاعدة الأخلاقية ..

لكن يبقى الأدب و الكلام الشعبي هو الناطق باسم القاعدة الأخلاقية لأي شعب .. وعندما تفحص النصوص التي تعبر عن القاعدة الخلقية .. نجد أنها نصوص متخلفة عن مواكبة التطور الحضاري .. وهذه مسؤولية الأدباء و الشعراء و الحكماء ..

فمقولة أنه لا يجب أن نسأل الضيف عن غرضه و اسمه الا بعد مرور ثلاثة أيام و ثلث من قدومه لا تتناسب مع تطور حركة الطيران والفندقة .. فلا يعقل أن نترك أعمالنا و نبقى نسامر ضيفنا ونتأمل قسمات وجهه ثلاثة أيام وثلث ( وهي المدة التي يعطى بها الجاني العطوة الأمنية في حالات القتل) .. في حين بتلك المدة يمكن أن نسافر من طوكيو الى سان فرانسيسكو ونعود !

كما أن تشبيه الوطن بالأم والأب و النفس ، لم تعد تنسجم مع سلوك معاداة الوطن ..
( بلادي وان جارت علي عزيزة ... وأهلي وان ضنوا علي كرام )
وطني لو شغلت بالخلد عنه....... نازعتني عنه بالخلد نفسي
فالمولود الذي تواظب أمه على مسح قاذوراته بصبر وحب ، والشيخ الذي يواظب أهله على خدمته في آخر أيامه بصبر ووفاء .. ليس أفضل من وطن يفتح أبواب الأمل أمام أبناءه أكثر مما يفتحها المولود ، و أعطى أبناءه أكثر مما أعطى الشيخ أهله ..
فكيف تتفق تلك النصوص مع ما يمارسه الأغلبية تجاه أوطانهم .. أين العيب ؟ هل هو في الوطن أم في القاعدة الخلقية التي لم تتهيأ لحماية الوطن ؟

ابن حوران 11-11-2005 04:25 AM

المنظومة الأخلاقية عند العرب

(4)

سلوك الحكام والمواطنين أخلاقيا

يتصدر الهاجس الأمني لدى الحكام العرب قائمة أولويات عملهم ، لذا فان الفقه الصادر من طرف الحكام يبدو واضحا للعيان من خلال النصوص التي يكلف بها من يصيغ القوانين .. حتى وان بدا في ظاهرها الحرص المفرط على الوطن ، لكن هو في الحقيقة الحرص المفرط لحماية من في الحكم ..

و أحيانا لا تعود لجان الصياغة العامة لفقه الحكم تلقي بالا ، لما سيقوله المواطن فتذهب بعيدا حتى تسمي البلاد باسم العائلة الحاكمة و أحيانا يكون النشيد الوطني لا يتغنى بالوطن بقدر ما يتغنى بالحاكم .. وهذا ينبع من الإفراط بالثقة بقوة الحكم أو الاستخفاف بالشعب .. وهما صفتان لا يتفقان مع مفردات الخلق العربي فالغرور صفة مذمومة .. كما أن تكون حاكما لشعب مستكين أو هزيل ( كما يظن الحاكم ) فهي صفة لا تبعث على المفخرة ..

يتسلل الى منظومة الأخلاق العربية قاعدة قد تكون غريبة في ظاهرها ، ذكرها (شكسبير ) عندما صاغها بشكل ( الخيانة عمل مشروع و العمل المشروع خيانة ) و قاعدة ذكرها (ماكدوجال) صاغها بشكل ( ليس من الأخلاق أن تعيش في مجتمع غير خلوق !) .. ويبدو أن النخب الحاكمة والنخب المعارضة العربية قد فهمت مكنونات تلك القاعدتين ..

رغم أن شكسبير وضح مراده من تلك القاعدة ، عندما ضرب مثل القتل فاعتبره عملا لا أخلاقيا .. لكنه أضاف أنه عندما يطأ العدو أرضك فان عدم قتله يصبح عملا لا أخلاقيا .. أما ماكدوجال ، فكان يناقش ظواهر اجتماعية تلزم من يعيش داخل جماعة تلتزم بأسس قواعد خلقية ، حتى لو كانت لا توافق أهواء من يعيش فيها فعليه الالتزام بما يلتزم به الجميع ..

ان النخب المعارضة للحكم ، تعطي لنفسها فتاوى على ضوء القاعدتين السابقتين ، للتعامل مع الشيطان لإزاحة من في الحكم .. ولا تتعامل مع من في الحكم على أساس أنه من قاذورات الوطن ، يجب تحمله لكي يقوى عوده !

لقد رشحت تلك المفاهيم الهجينة على جذور القاعدة الخلقية العربية ، الى أدنى طبقات الشعب فانتشرت سلسلة من الأمثال الشعبية التي تتماهى مع القاعدتين المتسللتين . فتجد أمثال : ( حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس ) و (امشي الحيط الحيط وقول يا الله الستيرة ) و( سيدك كلب بوس ايده ) و ( اذا انجنوا ربعك عقلك ما ينفعك ) و ( العاقل بين المجانين مجنون ) والمثلين الأخيرين لمن يلاحظ يتطابقان تماما مع قاعدة ماكدوجال ( ليس من الأخلاق أن تعيش بين مجتمع غير خلوق وتمارس الأخلاق ) ..

ان التمسك بالحكم واستبعاد العناصر الكفوءة انطلاقا من الهواجس الأمنية من طرف الحكم ، والاستثناءات التي تحابي الموالين و تطارد المعارضين ، هي مظاهر غير أخلاقية لا تتفق لا مع قوانين السماء و لا مع قواعد أخلاق أهل الأرض ..

كما أن التهرب من دفع الضرائب و التهرب من خدمة العلم ، وسرقة المياه والكهرباء و أراضي الدولة ، والاستعانة بالأعداء على أبناء وطنك ، هي مظاهر لا أخلاقية من قبل المواطن .. فالفضيلة لها وجه واحد وشكل واحد ..

ابن حوران 12-11-2005 05:12 AM

المنظومة الأخلاقية عند العرب

(5)



زيادة حجم المسكوت عنه تؤدي الى الانحراف

تصوروا أن غريبا اضطر الى العيش في بقعة ما ، وكانت درجة اضطراره تمنعه من ترك المكان الذي حل به .. و رأى أن في الحي الذي يسكن فيه رجل غير فاضل ، يحترمه أهل الحي مضطرين .. وكان هذا الغريب على درجة عالية من الأخلاق ، ويدرك تماما أن هذا الرجل غير فاضل و أن أهل الحي يتعاملوا معه بابتذال ونفاق .. ماذا سيكون أمام هذا الغريب ؟

انه سيفكر مليا و لا يجد أمامه سبيلا الا أن يبتسم كاذبا أمام الرجل غير الفاضل ، وهذه أول خطوات الانحراف و الابتعاد عن المحور الرئيس في منظومة الأخلاق التي تسيره .. و تتطور الأمور شيئا فشيئا وقد يحس مضطرا بوجوب دعوة هذا الرجل الى بيته .. و كون غير الفاضل لا يعير اهتماما لعناصر القاعدة الخلقية ، فانه قد يسأل أسئلة لا تليق بزائر ، أو قد يترك عينيه تتفحصان محرمات البيت في النهاية ..

عندما يتحول المواطنون العرب في أوطانهم الى غرباء ، فان سلوكهم سيكون في كل أحياء أوطانهم كسلوك الغريب ، فان أراد أن يحصل على وظيفة فانه يريق ماء وجهه وان أراد أن يحصل على ترخيص لمحل أو بناء أو يراجع دائرة أمنية ، فانه سيكذب و يتوسل و يترقق لمن يجده في تلك (الأحياء !) .. و اذا ما مرت أموره بسلام في تلك المراجعات ، فانه سيتحول الى ناصح و خبير يعلم من سيمر بالخطوات التي مر بها ، طرائق و مهارات التذلل ..

و اذا حضر فرحا أو مأتما ، أو جلسة عامة فانه لن يكون خبيرا بمن يجلس في تلك الاجتماعات ( وهذا طبيعي) ، لكنه سيكون خبيرا في حبس لسانه عن قول الحق ، توجسا من أن أحد الجالسين سيكون مخبرا أو عنصرا ينقل ما سيقوله الى جهات قد تؤذيه .. فيهز رأسه لمنافق للسلطات قد يذكر محاسن التطبيع مع الكيان الصهيوني ، أو حكمة القيادة السياسية في التعامل مع المسألة الفلانية .. وهو يدرك أن هذه الحكمة المزعومة ما هي الا التسليم بعبثية الوقوف أمام أعداء الأمة ..

ينهض المدعوون للمناسبة ، وقد استمعوا لصوت القوة الطافية على السطح في البلاد ، وينقل الناقلون أخبار ذلك اللقاء لمسئوليهم بأن الأمور ممتازة !

كما ينهض من كان الاحتقان و الشعور بالبؤس من واقعنا العربي قد ملأ صدره ، ولكنه عندما تتكرر مثل تلك اللقاءات و ما يجري بها ، فان إحساسا غريبا يجتاح كيانه ، بأنه ليس غريبا فقط ، بل أنه عبارة عن ذرة غبار من أصل ثلاثمائة مليون ذرة غبار مثله !

كل هذا لازدياد حجم المسكوت عنه بين الناس .. والذي يقود الى سيادة قيم غريبة عن أمتنا عن ديننا عن حقيقتنا .. لو علم هذا الساكت أنه يمثل الأكثرية وأن المتكلمين هم الأقلية وهم الغرباء ، لكان موقفه مختلفا ، ومن يدري فلعله يعلم أنه من الأكثرية ، وأن الناطقين هم الأقلية ، لكنه يدرك أيضا أن هؤلاء الأكثرية يحتاجون الى مادة لاصقة (إسمنتية ) تربطهم ببعض !

ابن حوران 13-11-2005 04:32 PM

المنظومة الأخلاقية العربية

(6)


مفهوم المصلحة جعل القاعدة الخلقية نصوصا غير فاعلة

المصلحة والصالح هما مصطلحان غير ثابتين المعالم ، يدلان على المنفعة التي تعود للمعني بهما سواء كان فرد أو فئة أو شعب أو قطر أو أمة ..

وتتمدد حدود المصلحة مع تمدد حدود المعرفة حول مصالح الآخرين ، فعندما كانت وسائط النقل و الإعلام محدودة ، كانت حدود المصلحة ترتبط بالبقعة التي يعيش بها الفرد ، مطلعا على قائمة حاجات من يعيش قربه ، فيتكيف بحدود مصلحته مع تلك المعرفة عن مصالح الآخرين ..

وعندما أصبح العالم الواسع وكأنه بقعة صغيرة معروفة الحدود ، فقد تعرف الفرد كما تعرفت الشعوب على مصالح الأفراد والشعوب ومن ثم الدول كمعبر عن مصالح تلك الشعوب ..

وبرز مصطلح المصلحة العامة كتعبير عن حاجة المجموع العام من الأفراد ، و أخذ من يدعي بتمثيل تلك المصلحة العامة ، وهم كثر سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة ، يستخدمون عناصر المصطلح نفسه ، كمسطرة لقياس سلوك الآخرين .. أو يبررون سلوكهم و يربطون حكمته الخفية بالمصلحة العامة .

وعندما يود من يريد الهجوم على فرد أو فئة ، فانه يبرز سلوكها العام وكأنه يخدم مصلحة خاصة ضيقة تعود للفرد أو الفئة .. وهو عندما يسوق وقائع هجومه ، يريد أن يوصل برسالته أن هذا الفرد أو الفئة ، ترجح مصالحها الخاصة على المصلحة العامة . وان هذا الخطاب له دافع تعبوي يراد منه في النهاية تصفية أو إضعاف من يقصد بهذا الخطاب .

لا يخلو أي عمل عام يراد من عنوانه العريض خدمة المصلحة العامة ، لا يخلو من دوافع تصب بالمصلحة الخاصة ، ويبقى هذا مشروعا أخلاقيا اذا ما كان الدافع الخاص أقصر أو أصغر من الدافع العام . فالخدمة المتفانية للوطن بحرص ، قد تقود لترقية من يقوم بها الى منصب أفضل ( وهي مصلحة خاصة) فلا بأس .. وكذلك لا تخلو طاعة الله في الالتزام بأوامره و تطبيقها من مصلحة خاصة ، وهي المكافئة بالتوفيق بالدنيا و دخول الجنة في الآخرة ..

لكن عندما تتطاول المصلحة الخاصة لتعلو فوق المصلحة العامة فان المسميات هنا ستختلف ، فيصبح الفساد والانحراف هما الاسمين اللازمين لمثل تلك الحالة. وعندها تشيع مبررات التقليد و الإقتداء بالسلوك لتعم المجتمع بشكل عام .

اذا سادت أجواء الفساد والانحراف في المجتمع ، لا يعود التذكير بعناصر القاعدة الخلقية له أي أهمية تذكر ، ويصبح التمرد عليه سهلا .. وهو يكون شبيه بتشجيع فريق كرة قدم غير مدرب ، وأفراده تم انتقاءهم بطريقة المحاباة وليس لكفاءتهم ، وانه مهما وقف الجمهور ورائهم مصفقا و مشجعا ، فان طاقاتهم ( اللياقة ) ستكون محدودة ، وانهم سيخسرون مباراتهم .. ولن يشجعهم الجمهور بعد الخسارة !

تبرز هنا مصلحة البلاد ، واستخدام المخزون لعناصر القاعدة الخلقية العربية في صياغة خطاب التعامل عالميا . اننا عندما نخاطب الأمريكي أو الأسترالي أو كوفي عنان عن عدم أحقية الصهاينة في فلسطين ، منطلقين بخطابنا من حقائق تاريخية ، فان ذلك لن يترك لديهم أي أثر . فكل هؤلاء لا يقيمون للأصل الجغرافي أي وزن ، لأنهم كلهم مهاجرين !

ان المصلحة العامة والعليا عند شعوب الأرض ، لها مساطرها المختلفة عن مسطرتنا ، انها مصالح مرتبطة بالقوة ، لا بالمنطق و حقائق التاريخ .. وقد أدرك أجدادنا تلك المسألة التي عزز مفهومها كتاب الله عز وجل ( و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ..) .. من هنا عندما تخلف ملك الروم عن دفع ما أملته عليه قوة الدولة زمن الرشيد خاطبه قائلا : ( من هرون الرشيد الى كلب الروم) ان الذراع القوي يصون المصلحة التي تكون بيئة صالحة لضمان استمرارية نمو القيم الأخلاقية و تطورها ..

ابن حوران 15-11-2005 07:53 PM

المنظومة الأخلاقية عند العرب

(7)



سلوك رجال الأمن و أثره في خدش القاعدة الخلقية


بدءا نحن نعلم جيدا تعطش أبناء العرب للسلطة و خوفهم منها بنفس الوقت ، هذا الشعور المركب تخلل في نفوس أبناء الأمة منذ ألف عام على الأقل ، أي منذ أن انتزعت السلطة من العرق العربي وذهبت الى عروق أخرى ..

فأصبح التعطش للسلطة مقرون بالتعطش للإستهلاك .. حيث كانت الأخرى مرهونة بما يبقى للمواطن من بعد أن ينتزع منه ما ينتزع ويتبقى له القليل ، حتى أصبح حلم التنعم بالغذاء الجيد أو الملبس الجيد أو المسكن الجيد قريب من الحلم في أن يصبح المرء حاكما أو رجلا في الحكم له أهميته !

الأمن و رجاله وظيفة ممتدة في أعماق التاريخ ، وهي غير الجيش و رجاله ، و قد تفنن العرب بالعصر الحديث ، باستنباط الدوائر الأمنية فهناك دول أو مشاريع دول بها حوالي عشر دوائر أمنية ، لا تنسيق بينها ، وهناك أجهزة مخابرات تصل الى خمسة أجهزة في دولة أعداد ملايين مواطنيها لا تصل الى أعداد تلك الأجهزة ..

نحن نعلم أن جهاز العيون قد نشأ منذ عهد الأمويين ، وهو حق لكل دولة أو قوة ( الإرادة الراهنة ) التي تحكم أي بلد , ولسنا بصدد مناقشة هذه الأحقية في الوقت الحاضر ، لكننا حاولنا ذكر ذلك لربط تصور دور هذه الأجهزة ، بالجانب الأخلاقي و التأثير به ..

إن تصنيف هذه الأجهزة بين نظم الحكم في معظم أنحاء العالم ، هو أجهزة تنفيذية ، وهو اسم يدل على مدى الحرية التي تترك لمثل تلك الأجهزة لتزاول نشاطها بالطريقة التي ترغبها .. و ستجد دائما عند المسائلة منفذا تبرر به ما يسمى بالتجاوزات .. و ستجد أيضا من يغطي عليها أخطائها الى حين ..

نستطيع القول بأن حالة الحكم الحديث في البلاد العربية ، هي حالة مستجدة ليس لها ماض متواصل ، بحيث تهتدي لوضع أكثر ملائمة لتثبت بها أركان حكمها و ترضي بها شعوبها ..

و نظم الحكم كانت في الفترات السابقة ، تنقسم الى قسمين ، إما أنظمة طموحة تهيئ نفسها لصناعة حكم وطني ، لا يرتبط بالأجنبي ، الا بقدر ما تملي عليه فنون السياسة الوطنية . و نظم حكم لا تجد بدا من الارتباط بالأجنبي لقلة حيلتها و معرفتها بعدم القدرة على أن تصبح وطنية . وكلا النمطين كانا لديهما إشكالية في شرعية أنظمتها مع قطاعات لا يستهان بها من المواطنين .

و في جميع الأحوال حتى في عصر الرسل عليهم السلام ، كان هناك معارضين .. فمن يسميه طرف بأنه ذكي و ملهم ، تجد له في الطرف المقابل من يطلق عليه لقب الخبيث و اللئيم .. ومن يسميه طرف بأنه شجاع ، سيكون هناك طرف يسميه متهور و قليل الدراية ..

كلا النمطين سيوكلان لأجهزتهما بأن تمنع نشاط المعارضين .. وهنا ستنفجر عقد و عطش الماضي عند رجال الأمن ليتلذذوا و يتمتعوا بالتعامل مع من يلاحقونهم حتى لو كانوا لا يزالون على ضفاف دوائر الشك ..

وهذا التلذذ لا نشاهده فقط فيمن يلاحقون الخصوم السياسيين ، بل نلاحظه عند شرطي المرور ، ففي حين يمكن أن يؤدي مهامه بلطف عندما يقول للسائق الذي سيخالفه بأنه متأسف اذ انه سيضطر لمخالفته لأنه متجاوز السرعة المسموح بها ، أو أنه يقود سيارة قد تسبب الأذى للآخرين .. لكنه يفضل أن يصر أحد عينيه و يرمي السائق بنظراته الحاقدة ، ويسأله أسئلة لا تليق في مثل تلك المواقف ، حتى يقوم السائق بالترجي و التودد والتذلل .. وبقدر ما يوفق السائق باختيار الألفاظ الودودة بقدر ما يفلح بالإفلات من المخالفة .. و أحيانا لا بد من رشوة لاختصار المسافة .. وهذا كله مناف للأخلاق ..

أو قد نجدها عند ( خباز ) من الأهالي و ليس حكوميا .. اذا كان قد فتح مخبزه يوم الجمعة أو في غياب غيره من الخبازين عن العمل ، اذ يصرخ على المواطنين و يجبرهم على الاصطفاف بالدور .. مستغلا حاجتهم .. أو نجدها عند سائق تاكسي في حالة ندرة المواصلات ، يبقى يطوف حول المسافرين متمتعا بمناداتهم له ، وهو يحرك يديه بعدم الرغبة بالذهاب الى أي مشوار ..

كل ذلك نابع من التعطش للسلطة عند مختلف أصناف المواطنين .. سواء كانوا في الحكم أو خارجه ، وما على المواطن الذي يتعرض الى مثل تلك النوبات التلذذية الا ان يتكيف و ينافق ليخلص من شرورها ..

لو عدنا لرجال الأمن فانهم ان شتموا أو ضربوا أو عذبوا أو خدشوا كرامة مواطن ، وكل هذا محتمل ووارد .. فانهم على أعدادهم و أعداد المرات التي يقومون بعملهم على النحو السيئ ، فانهم سيجيرون كل تلك الممارسات على من في الحكم ، حتى لو كان قديسا .. وسيدفعون المواطنين الى الكذب و النفاق والرشوة و أحيانا الوشاية بغيرهم و أحيانا الانحلال الخلقي الكامل .

ابن حوران 16-11-2005 07:30 PM

المنظومة الأخلاقية العربية

(8)



تطبيق القانون و أثره على القاعدة الخلقية ..

عندما كان أجدادنا على مسافة قريبة من زمن مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا يتمنعون عندما يطلب من أحدهم تولي القضاء ، لخوفهم من الله عز و جل أن يخطئوا و يظلموا ..

اليوم ان أحد الممرات التي يصل بها رجال القضاء الى مناصبهم ، هي كليات الحقوق ، أو القانون كما تسمى في بعض الأقطار العربية ، وهذه الكليات لا تضخ رجالا للقضاء فحسب بل الى الشرطة والى دوائر لها تماس مع صياغة و تطبيق القانون ..

ومن يتأمل قليلا ، يجد أن معظم الدول العربية ، تتساهل في قبول الطلاب في هذا الصنف من العلوم ، الذي هو على درجة خطيرة من قضايا المجتمع ، ففي أغلب الأحيان توضع كلية الحقوق في آخر قائمة الاختيارات للقبول ، وتدرج تحت الكليات الأدبية ، أي التي ينخرط طلاب القسم الأدبي في صفوفها ، ونحن نعلم أن الاختيار الأدبي هو الآخر في أدنى سلم الاختيارات في الدراسة الثانوية ، الا للمبدعين الذين يختاروا القسم الأدبي وهم قادرون على دخول غيره ، وعلى اختيار كلية الحقوق وهم قادرون على دخول غيرها .. وهم قلة ونوادر ..

وهناك صنف ينال شهادته من خلال المراسلة مع أحد الجامعات ، فيتأهل لنيل الشهادة بقدر ما يحفظ من نصوص ، لا بقدر ما يفهم من تلك النصوص ، من خلال المثاقفة و الحوار مع أساتذته و أقرانه في الفصل الدراسي ..

على أي حال ، ان تسلم احد الخريجين لوظيفته سيتدرج عليه فعل (الروزنامة) زمنيا و يصبح قاضيا .. و عليه في عينة من الزمن أن يبت و يفصل في قضايا المتخاصمين .. و مجموع القضايا التي يبت بها و ما أكثرها و ما أكثر أمثاله من القضاة و قضاياهم التي يبتون بها ، ستصبح مخزونا تراثيا آنيا ، يقيس عليه القضاة و يتناقله المتخاصمون ، بين الناس ، ليصبح معرفة و ثقافة قضائية ، يتكيف معها المحامون و الذين ينسحب عليهم ما انسحب على القضاة في طريقة تحصيلهم لعلمهم و مزاولتهم لمهنتهم . كما يتكيف معه المتخاصمون الذين يسلكون دروبا على هدي ما استطاعوا جمعه من قضايا شبيهة .

ان عمليات التكيف و التحايل و تدخل الهيئات الحكومية في الإيحاء للقضاة لإصدار أحكاما تتلاءم مع الرغبات و الصلات و حساسية بعض القضايا من مختلف الأنواع ، سيصنع بيئة خصبة لنمو أشكالا من السلوك اللاأخلاقي ، من رشوة وكذب و تزييف حقائق و شهادة زور ، و تطور الوسائل الإجرامية بما يجعل القضاء غير قادر على إحقاق الحق ..

ابن حوران 18-11-2005 04:50 PM

المنظومة الأخلاقية العربية

(9)


النظام التعليمي و أثره في خلخلة القاعدة الخلقية :

لو عدنا الى عصر الزهو العربي ، لوجدنا هناك علاقة صميمية وعضوية بين المعلم و التلميذ .. فكلما كان يتم الحديث عن أي مبدع بأي مجال ، بالفقه ، بعلم الكلام بالفلك بالطب الخ .. كان يذكر الشيوخ الذين تتلمذ على أيديهم ذلك المبدع ، فكانت الأمة أمة واحدة متماسكة زمانيا و معرفيا .. فتزداد أهمية المبدع بذكر شيوخه ، ويضاف لشيوخه على أرصدتهم من الأهمية حتى لو كانوا أموات ، ما يحقق ذلك المبدع من أعمال ..

هكذا كان التعليم ، يقترن بالتربية ويقترن بمفردات الحضارة .. فكانت أعلامه ولا زالت تتمتع بمجد نابع من ما يلقوا من قراء و مستفيدين .. فكان المعلم من زاوية أخرى يصلح أن يكون مثالا أعلى للتلاميذ ، وكون طبيعة معارفنا ـ نحن العرب ـ شمولية ، وليست تخصصية ، فكانت تذكر أخلاق و شجاعة و دقة وذكاء المعلم ، فتكتمل معها صورة نموذج المثل الأعلى ، مما يصون أركان القاعدة الخلقية من خلال هذا المسار .

جرى في القرن العشرين تنويع في مشارب العلم و المعرفة ، وتدرجت معها كياسة و حصافة و مكانة المعلم من الجيد الى الأسوأ ـ مع الأسف ـ . فبينما بقيت هيبة المعلم كمثل أعلى شاخصة لأواسط سبعينات القرن الماضي ، لكنها تسارعت بتدهورها بشكل ملفت للنظر ..

فبينما عاد الخريجون من أقطار الدنيا المختلفة ، الى بلادهم العربية ، وعاد معهم ما التقطوه من مسلكيات ، كانوا يدعون لالتزام بها ، حتى وان لم يصرحوا بذلك ، و أحيانا يصرحون من خلال ذكرهم بمقارناتهم لواقعنا وواقع البلاد التي تخرجوا منها .. وعندما يحظى أحدهم بإفتتان الطلبة بعلمه ، فقد يفتتنوا بمسلكه الذي لن يكون بالضرورة متطابقا مع قدرته العلمية .. فيتم اكتساب مسلكيات تنساب من خلال الخريجين الجدد الى أجيال المدارس ثم الى أترابهم و أهاليهم .

لقد طرأ تغير اقتصادي مهم في أواسط السبعينات ، انعكس على صورة المعلم والتعليم بشكل عام ، فقد انتشرت مهن وحرف تكسب أصحابها عشرات أضعاف ما يكسب المعلم أو المتعلم ، مما جعل صورة المثل الأعلى لدى المعلم تهتز لدرجة الانهيار .. و جعل التمسك بالتعليم لدى الطلبة أو ذويهم ، ليس بالمسألة التي تحتل مكانة متقدمة كما كانت قبلها .. فبات الالتزام بالدوام و الاستماع لتأنيب وتوجيه المعلم ( الجانب التربوي) ، ليس ملزما كثيرا لدى الطالب ، لا بل أحيانا يتعدى الطلاب على معلميهم ..

كما أن هذا الإحساس بغياب الأهمية ، قد تغلغل في نفوس المعلمين أنفسهم ، إذ أخذ المعلم يقارن وضعه الاقتصادي بوضع زملاءه الفاشلين الذين لم يستطيعوا تكملة دراستهم لتدني قدرتهم على المواصلة ، فيجدهم في وضع مادي أفضل .. فيبدأ بصراع مع القيم المحفوظة في عناصر القاعدة الخلقية ، وقيم عصر الفوضى ، فأحيانا يلجأ للدروس الخصوصية ، حيث يحجب كفاءته عن طلاب الصف ليجرهم الى الدروس الخصوصية ، و أحيانا ينجح من لا يستحق مقابل هدية ( رشوة) ، و أحيانا يسرب الأسئلة ، أو يتيح بامتحانات الوزارة لغش بعض الطلبة ..

ان هذا الانحراف ، سيدفع بعناصر فاسدة لتعلو مراتب علمية ومهنية و إدارية لو ضبطت العملية التربوية و التعليمية والتزمت الدوائر المختصة بعناصر القاعدة الخلقية ، لمنعت شرورهم من النيل من المجتمع ..

ان هذا الوضع يذكرني برؤية اليابانيين عندما سئلوا عن سر نهوضهم السريع فأجابوا اننا نهتم بالمعلم فنمنحه ( هيبة القاضي و سلطة الضابط و راتب الوزير) .

ابن حوران 20-11-2005 09:44 AM

المنظومة الأخلاقية العربية

(10)


الإعلام و أثره في خلط المفاهيم بالقاعدة الخلقية :

الإعلام قديم قدم الحياة ، كان في السابق يأتي من خلال اختلاط الناس ببعضهم ، فيتناقلون المعلومات والأخبار والمهارات فيما بينهم .. فبالمسافة التي كان يستطيع الفرد قطعها ، كانت معلوماته تتكون ، وعند عودته من رحلته على راحلته ، فانه ينقل ما سمع و ما رأى لمن يلتقي بهم من أهل بلده ..

لقلة وسائل الإعلام في السابق ، ولاتساع أوقات الفراغ ، وقلة الأبواب التي كان الفرد يقضي بها أوقات فراغه .. فكان يسمع الخبر أو المعلومة عشرات بل ومئات المرات بما تحويه من حقائق و عبر و حكم ، ودون ملل ، بل أحيانا كان يطلب من الراوي للخبر أو القصة أن يعيدها في كل سهرة ..

عندما انتشر الكتاب ، أصبح جليس يتفوق على الجلساء محدودي المعلومات ، فكان من يستطيع الشراء والقراءة للكتاب ، يطلع على أشعار و أقوال أناس بعيدين عنه مكانا وزمانا ..

في أواسط القرن الماضي ، استطاعت الحكومات العربية ، أن تمسك بزمام توريد المعلومات الى حد ما ، وكان من يفتح على اذاعة صوت العرب ، ينظر اليه نظرة كلها شكوك وتوجس ، هذا اذا لم تستدعيه الدوائر الأمنية وتوبخه وتهدده . مع ذلك فقد كان الاحتشام والرزانة و الحث على مكارم الأخلاق ، السمة الطاغية على الإعلام العربي ، هذا بالإضافة لتمجيد الحاكم .

هناك صفة لا أخلاقية يطلق عليها الغرب ( توم البصاص ) .. وهي صفة التلذذ بمراقبة نساء الحي من خلال منظار .. وهذه الصفة تجدها أو تجد بذور الاستعداد لها عند غالبية الشباب ، وقد تشبع تلك الصفة من خلال السينما والتلفزيون و الكتب والمجلات الممنوعة و أخيرا الإنترنت ..

عندما كان الفرد يحاصر بمعلومات أقل ، ولكن كل المعلومات تحمل التأكيد على مكارم الأخلاق .. فان خياله كان محصورا بهذا النطاق الذهني المشروط بذلك . و لما لم يعد الجلوس بالدواوين ، والاستماع للأشعار أو قراءة ما هو مفيد ، أمرا ينافس تلك الحرية التي تطلق العنان لخصائص صفة ( توم البصاص) .. من خلال التجول بمحطات فضائية ، أو مواقع على الإنترنت . فان النتيجة بالتأكيد تصبح ليست لصالح مفردات القاعدة الخلقية .

ان مشاعية المعلوماتية وتطورها المذهل ، خلق حالة تستدعي التفكير بكل جدية ، بما ستؤول اليه تلك الحالة .. فالسكوت عنها سيخلق حالة من الاستخفاف بالمثل و القيم صغيرها و كبيرها .. فقد كانت الماسونية في السابق تقنص هؤلاء الذين يتوقون للمظاهر البرجوازية ، من خلال الاحتفالات أو ذكرهم لأنواع الأطعمة أو أنواع الملابس أو أنواع البيوت والسيارات و الزوجات وغيرها . فتمتحن هذا الاشتياق و تترجمه لمن أراد ، وحسب أهمية المقنوص ، فمن خلال تلبية بعض آماله البرجوازية تستطيع أن تكسبه لصفها ، لاختراق ، أو مزيد من اختراق الوطن .

اليوم لا تحتاج تلك الدوائر الماسونية و الإمبريالية لمزيد من العناء في اقتناص عملاءها .. بل يكفي القليل من تتبع اهتمامات هؤلاء الأشخاص ، واختيار أكثرهم أهمية ونفعا لها ..

ابن حوران 21-11-2005 07:38 AM

الفصــل الثاني

أعمدة البيت :


بدءا لا بد من التنويه أن هذا العمل يتم يوما بعد يوم ، ولم يكن مكتوبا سابقا ، ولم تعمل له مسودات ، ولم يتم تنقيحه لغويا ، و عليه فانه يخلو من شروط وضع العمل الطويل التي تلتزم بمقدمة و تلتزم بفهرسة وتبويب ، ولم يجر به تقميش ( أي أخذ بعض النصوص من أعمال سابقة يستوجب الاشارة لها و لمؤلفها ودار النشر وسنتها ) .. بل هو عمل يوضع للتعامل مع الشبكة العنكبوتية ، و يتلاءم طول كل حلقة مع مزاج القارئ ..

بعد أن تعرضنا سابقا لما يشبه الفقه في بناء البيت ، والذي هو كناية سياسية واضحة ، سنستمر باستخدام تلك الكناية ، بين حين وحين ، لاستكمال بناء البيت .. ولما كان البيت في القصيدة عبارة عن بيت شعر (بفتح الشين ) فاننا سنقوم باقتراح أعمدة البيت ..

حتى بيوت الشعر ، كانت الحواضر العربية مدنا و قرى كبيرة ، تقدمها لمن يطلبها من سكان البادية ، فتضع لهم منتجات من الغزل والنسيج الملائمين لغرض بناء البيت ، وتضع عصيا من خشب ، ثم تطورت تلك العصي ( الأعمدة) مع تطور الحضارة .. وتضع لهم حبالا و أوتادا في متناول يد طالبيها .

لكن في بيتنا المقصود ، سننتقي نحن الأعمدة المناسبة ، و لن نلجأ لأعمدة مستوردة ، ولا نقوم باستخدام أعمدة لا تتناسب مع العصر ، بل سنجتهد بقدر الإمكان بأن ننتقي ما يؤدي الغرض من أعمدة لها صفة الأصالة و بنفس الوقت صفة القدرة على الصمود بوجه التغيرات المناخية التي حدثت ..

وقد تعاود مسألة عدد الأعمدة للبيت بالظهور مرة أخرى ، فعمود البيت الواحد لا يوحي بفخامة البيت بل سيدل على أنه بيت متواضع ، قد يصلح لحارس في حقل صيفي يزرع به البطيخ و القثاء . وكلما زادت أعمدة البيت دلت على فخامته و سعته ، وتوحي بالعز لمن يسكنه .

سنقلب العصي التي أمامنا و اختيار أكثرها استقامة و أكثرها متانة ، ونختار عددا منها لتكون مهيأة في النهاية لحمل البيت .. وسنناقش مزايا كل عصا بشيء من الصبر ، حتى لا نضطر للتجريب بين فترة و فترة ، فنظهر أمام غيرنا بأننا أشبه بالنور ( الغجر) الذين يغيرون مكانهم و شكل خيامهم و قماشها بين حين وحين وحسب الموسم ..

بل سنحاول بناء بيت يهابه من يقبل عليه ، كبيت أحرار يجير من يستجير به و تخرج منه إشارات الذود عن حماه ، و يقدم الطعام و الحماية والكرامة لساكنيه ..

ابن حوران 23-11-2005 04:18 PM

شروط تكوين الحزب :

بداية تختلف الأحزاب من حيث تكوينها و تواصل أداءها ، فهناك الأحزاب التكاملية التي ترى في حل مشاكل الوطن و المجتمع طريقا لحل مشاكل الفرد ، وهي لها أيديولوجيات تدور حول محور ثابت من الأهداف ، و لها طقوسها التنظيمية وفق نظرية تنظيمية تحتكم لديها في إدارة الحزب .

وهناك الأحزاب التمثيلية التي ترى أن حل مشاكل المجتمع يمر من خلال حل مشاكل الفرد ( الرؤية الليبرالية ) .. وهي ليست لها منظومة أيديولوجية ، بل رؤية عائمة تتوافق مع مصالح النظام السياسي العام ، كأحزاب أمريكا و أوروبا واليابان .. كما أن ليس لها طقوس تنظيمية ، كالاجتماعات الدورية و غيرها .

وقد سقط هذا النموذج في البلاد العربية سقوطا ذريعا ، رغم أنه لا يزال تنتج منه المنطقة كل عام عشرات الأحزاب ، التي سرعان ما تتلاشى و تختفي ولا يستطيع المراقب الاحتفاظ بأسمائها لفترة طويلة .. لذا سنركز على الصنف التكاملي في حديثنا ..

في الأحزاب التكاملية يشترط لتكوين الحزب ، خمسة عناصر مهمة هي : الأيديولوجية والطليعة و الجماهير و الانضباط (النظرية التنظيمية ) والاحتراف السياسي ..

ونحن إذ سنقوم بمناقشة هذه العناصر ، لا نفعل ذلك على هدي أولئك الذين يخرجون أو يخرجون من أحزابهم ( بفتح الياء و ضمها بالكلمتين) .. ولا نقوم به على هدي الذين يبشرون لحزبهم ممجدين بكل ما يقوم به حتى لو كان خطأ ، بل نقوم بذلك إيمانا بأن الأحزاب هي أدوات جماهيرية ، من حق الجماهير على من يصيغ خطاب تلك الأحزاب أن يبين وصفها الدقيق دون شطح بالشتم أو التمجيد الأجوف ..

لقد تساوت أحزابنا مع أحزاب الغرب ، بمسألة التكتم الشديد الذي يلف كياناتها بحيث أنه حتى الدارسون المتقدمون ، لا يستطيعون معرفة حقائقها الدقيقة .. فيأخذوا معلوماتهم إما من حانقين خارجين على أحزابهم ، وإما من ناطقين بيروقراطيين يقدموا للسائل ما يريد أن يفرج عنه قادة الحزب من معلومات ..

نحن إذ نزكي الأحزاب أن تكون عمودا للبيت أو من أعمدته ، فلن نعطيها حقها ، بل قد تكون بمثابة الأوردة والشرايين بالجسم ، أو المنظومة العصبية الرئيسية بالجسم .. وعلى القلب أو الدماغ أن لا يفخر ، اذا رأى بقعة محترقة في الجلد ، فمهما بلغت أعداد خلاياه في حالة الجسم البشري ، ومهما بلغت أعداد شعر الجلد في جسم الثور ( أجلكم الله) ، فان بقعة عارية من الشعر ستعيب الجسم ..

وهذا ما سنحاول تبيان أخطاءه ، دون الإشارة لنموذج ، لا للعجز عن ذكر نماذج ، بل لنقدم شيئا محايد ، قد يصلح الاستفادة منه في عدة أقطار عربية ، ولا أزعم شمولية التأثير بقدر ما أسهم مساهمة متواضعة في البوح متألما على واقعنا ، حتى لو كان هذا البوح قد يرمى في درج مكتب أو يتم الإطلاع عليه للحظات و ينسى ، فيبقى رياضيا حتى لو كان جزء من مليون فهو أفضل من الصفر في جميع الأحوال ..

ابن حوران 24-11-2005 05:01 AM

الحزب والأيديولوجيا :


(1)


الأيديولوجيا مصطلح مستورد ، لو تم استخدام ترجمته على أنه الفكر ، لما كان للموضوع أي معنى ، فمختلف العلوم قد ينطبق عليها هذا المعنى ، ولو قلنا أنه الحالة الإيبستمولوجية التي تعني بإكتناه موضوعات الفكر التي تخص موضوع السياسة والدولة ، لاقتربنا من الوصف الحقيقي للكلمة ، لكن سنزيد من تعقيد الشرح على من يتابع الموضوع ..

عموما فان ما يتجمع من أفكار و رؤى عند فئة تجاه تصوراتهم لإدارة الدولة وسياساتها ، فان هذا هو ما يعنينا بالأيديولوجية ، في هذا الموضوع ..

وقد اختلف علماء الاجتماع السياسي حول أهمية الأيديولوجية ، بالنسبة للحزب ، فأعطاها بعضهم معطى أولي هام ، واشترط أن يكون لدى الحزب منظومة أيديولوجية متكاملة ، وهذا الرأي بني على غزارة الإنتاج الفكري في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ، حيث تبلورت أفكار الليبرالية والاشتراكية والقومية و الشيوعية ..والموقف من الدين ..الخ

أما فلاسفة القرن العشرين فقد قللوا من أهمية الأيديولوجية كشرط أساسي من شروط تكوين الحزب ، متذرعين بأن مشاعية الأفكار تتغلغل في نفوس الأفراد والمجتمعات ، و أصحاب الرأي ، بحيث تصبح تلك الأفكار من تراث وملك شعوب الأرض كموروث ثقافي لا يجعل ممن يحمل أفكارا بوضع متميز على غيره .. كحيازة رخصة (إجازة ) قيادة السيارات ، فبعد أن كانت تميز أصحابها كممتهنين لقيادة السيارات ، لم تعد اليوم صفة استثنائية مميزة ، بل يحملها الطبيب والمهندس و العسكري الخ !

لن نخوض بتلك الاختلافات و فلسفتها رغم وجاهة كل منها ، لكننا أشرنا اليها لكي نضع القارئ في حالة تصور لأوضاع المثقفين المنتشرين حولنا ، وكيفية تناولهم لشؤون الحياة السياسية العامة في بلادنا ..

أما الرأي عندي ، فاننا إذا اقترحنا أن يكون الحزب عمودا مهما ، بل ذهبنا الى أن يكون بمثابة الشرايين والأوردة في الجسم . فاننا لا نتردد في وصف الأيديولوجيا بمثابة الدم الذي يجري في تلك العروق . وكما أن الدم يجب أن يصل الى كل عضو وخلية في الجسم . فان الأيديولوجيا مهمتها أن تتناول كل ناحية من نواحي الحياة للمجتمع .

وكما أن نقل الدم له شروطه ، من حيث الزمرة والفصيلة ، لكي يتقبله الجسم فان الأفكار تخضع لنفس القاعدة ، وكما أن نقل دم يمكن أن يكون ملوثا بجرثومة (الإيدز ) فان هناك أفكار تكون خطورتها أكثر من ذلك الصنف من الدم.

وكما أن الدم يتجدد ، ويمر في الرئتين لتنقيته وإعادة توظيبه ليؤدي مهمته فان الأفكار ، يجب أن تبقى بحيوية متجددة لتلائم ما يستجد من مؤثرات خارجية وداخلية ، لتجعل أعضاء المجتمع بجاهزية كاملة في جميع الأوقات ..

وكما أن الدم يجب أن ينقل بقنوات أو شعيرات قادرة على أداء مهمتها العضوية بشكل سليم ، حيث لا خثرة (جلطة) و لا انسداد ولا تضيق و لا احتشاء في تلك القنوات .. فان من ينقل الأفكار من أجهزة الحزب ، يجب أن يكون بكفاءة عالية ..

واذا كانت الأفكار ( الأيديولوجيا) مهمتها ترشيد حركة الدولة بصفتها المجتمع السياسي الذي يقود المجتمع الكلي ( الشعب) فان هذا الترشيد ، يجب أن يكون مواكب و قريب من مسارات العمل الذي يكون المجتمع ( كخلايا في الجسم) بصدد تنفيذه .. فلا تنفع إشارات المرور التي تنبه سائق السيارة بوجود منعطف خطير ، اذا وضعت بعد المنعطف .. ولا تنفع كتب الطبخ الصيني ، في بيئة لا يوجد بها مواد تلك الطبخات !!

لقد اتسمت معظم الخطابات الأيديولوجية للأحزاب العربية ، بسمة إثارة الهمم الطيبة ، ومواضيع ذات طابع وجداني هائم ، تستند على أنظمة معرفية مشوشة ، مما جعل المثقفين يمجوا الحديث بها شيئا فشيئا ، حتى يخشى أن يتم الإقلاع عنها بما فيها من إيجابيات هامة ، يجب الانتباه لتنقيتها و إعادة توظيبها ، لنضمن حيوية الفكر العربي ..

ابن حوران 26-11-2005 05:59 AM

من يقوم بصياغة الأيديولوجيات :

نجد أنفسنا قريبين من مصطلح على صلة كبيرة مما نحن بصدد مناقشته .انه مصطلح ( الوعي ) .. وهو مصطلح يستخدم بكثرة ، في المناقشات السياسية ، وسنمر عليه لنجعل من حالة التأسيس للمضي بالفكرة الى نهايتها ، شيئا خاليا من نقاط الخلاف على قدر الإمكان ..

فالوعي هو القدرة على إنتاج صورة و إعادة تركيبها ، وهذا يصلح لمناقشة الوعي الماضوي ( أي المنسوب للماضي ) ، وعندما يكون الماضي قريب ، مثلا عقدين أو ثلاثة أو خمسة ، فان ذاكرة الفرد تعود لإنتاج تلك الصورة التي حدثت كعراك بالحي أو موت شخص بطريقة معينة ، فان ذلك سيتم إعادة انتاج صوره بشيء من التفصيل كلما كانت الحادثة لها وقع حاد في وقتها .. ولكن يتم نسيان وجبة الغداء أو لون قميص شخص أو هل كان يركب سنا من الذهب أو غيره .

في حالة الماضي البعيد ، فان كثيرا من التفاصيل ستسقط ، ولكن يعاد انتاج الصورة بإمكانيات مختلفة ، فمعركة أحد التي مر عليها أكثر من أربعة عشر قرنا ، سيتم تصورها ، من حيث كيفية مسارها و كيف استغلال الجيب الذي كان مكلفا به خالد ابن الوليد وحسمه للمعركة ..

ان إعادة تشكيل الصور القديمة ، يعتمد على قدر كبير من الثقافة ، فاذا أراد مؤلف سينمائي أو مخرج أن يعيد انتاج صور قديمة ، عليه أن يكون مطلعا على نمط المباني و الملابس والاسلحة ووسائط النقل القديمة من خلال مطالعاته الكثيرة .. فكلما كانت ثقافة من يريد أن يصيغ نصا أيديولوجيا ، ثقافة متنوعة وواسعة كلما كانت الصور التي يعيد انتاجها أقرب للحقيقة ..

أما من يريد أن ينتج صورا مستقبلية ، لم تحدث ، ولكنه يتنبأ لها أن تحدث وفق السياق العلمي لحتمية حدوثها ، فان هذا النمط من الوعي المستقبلي ، سيتم من قبل أشخاص لهم ثقافة واسعة و معرفة بحركة المجتمع و واقعه ، ومعرفة بزيادة السكان و معرفة بحركة الأعداء المحيطين به أو البعيدين عنه ، وما سيمرون به من مشاكل ..

ان صياغة الأيديولوجية تتطلب وعيا عميقا بالماضي و الحاضر والمستقبل ، وتضع خططها الاستراتيجية وفقا للوسائل التي ستستخدم في المضي قدما في تحقيق ما وضع من أهداف .. فأي خلل يحدث ، سواء بعدم ملائمة الوسائل للأهداف وعدم قدرتها على القيام بتحقيق الأهداف ، أو تطوير تلك الأهداف بشكل يجعلها أقرب للإنحراف منها الى التكتيك . كل ذلك سيجعل من أن ينظر الى قدسية تلك الأيديولوجية أن يفكر في عمل (تحويلة ) على مسارها ..

ان من يضع صيغ الأيديولوجيات ، لم يمتازوا على غيرهم من أبناء المجتمع في كثير من النواحي ، فالإحساس بالآلام ، و رسم أحلام المجتمع ، واستنهاض القيم العليا للأمة ، و امتلاء الصدور بالغيظ والإرادة للخلاص من كل ما هو قائم صفات قد يشترك بها كل أبناء المجتمع ..

لكن المبادرة و القدرة على الصياغة ، هي ما يميز المصلحين الاجتماعيين الذين عندما يتناولوا موضوع الدولة وعلاقاتها يتحولون الى مصلحين سياسيين . من هنا نصل الى الأجواء أو البيئة التي تخرج هؤلاء الذين يكثفوا حالات المجتمع و آلامه و آماله ، في شكل صيغ للأيديولوجيات ..

ابن حوران 27-11-2005 05:49 AM

أثر الأيديولوجيا على النشاط الجماهيري :

ان أثر الأشخاص كرموز ، وأثر الأيديولوجيا كفكر محرك ومحرض للجماهير ، هو كأثر الحصى أو الحجر أو أي كتلة عندما ترمى فوق سطح مائي ، يترك أمواجا ( روجات ) ، تتناسب أحجامها و سعتها مع وزن الكتلة التي ترمى ..

و تتخذ الأيديولوجيا كنشاط أو نتاج للعقل الفاعل ، بمعاونة العقل السائد ، أشكالا يكون أثرها واضحا عندما يتناولها العقل السائد ( أي مجموع القبول أو الرفض عند الغالبية العظمى من الناس ) ..ويعتمد تقبل الناس للأيديولوجية على ضوء تطابقها مع سلسلة مصالحهم المتدرجة من مصلحة الفرد كوحدة منعزلة عن المجموع العام من المجتمع ، الى كونه وحدة ممثلة لإرادة المجموع ..أي مجموع طلباته الخاصة التي تشبع حاجاته ، مع مجموع طلباته العامة التي تشبع خاصيته كمواطن يفرح بالإنتصارات والاختراعات والحياة الآمنة الرغيدة ..

ان بداية ظهور معالم أي أيديولوجية ، ليبدأ بإحساسها والاعتراف بوجودها من قبل أبناء المجتمع أو من يعني بمراقبة ذلك المجتمع ، من دول جوار أو دول عالمية . إن ذلك يعني إيذانا ببداية الأيديولوجية المضادة لها ، فتتكون بالداخل أي داخل المجتمع التي ظهرت به تلك الأيديولوجية الواعدة ، رؤى تتجمع لتصبح أيديولوجيا مضادة . وهذه يصيغها أبناء المجتمع الذين يستشعرون الخوف القادم من تلك الأيديولوجيا الواعدة .

وسرعان ما تتحالف القوى الخارجية مع رواد الأيديولوجيا المضادة للأيديولوجيا الواعدة ، اذا ما استشعرت تلك القوى الخارجية الخوف على مصالحها من القادم غير المرغوب فيه . فتظهر للعيان تحالفات غير معلنة في كثير من الأحيان ، تكون عناصرها غير متجانسة ، بل ومتضادة أحيانا ، الا أنها تلتقي على محور واحد ، هو معاداة الأيديولوجية الواعدة ..

ان هذا النمط من الحراك الذهني والحراك المضاد له ، هو نمط طبيعي ، لا يستدعي التطير والانفعال ، و ان كان واضعو خطوط الأيديولوجيا الواعدة لم يضعوا بحسبانهم تلك التحالفات و ردات الفعل المضادة ، فانهم يكونوا قد أسقطوا عاملين مهمين من عوامل الديالكتيك (الجدلية ) .. وهما حيوية الفكر ، وحراسة تطوره وفق ما يطرأ من عوامل قد تعيقه !

وان كان واضعو الأيديولوجية ، قد وضعوا نصوصهم لمواجهة قوى غاشمة تعيق نمو الأمة ، فان هناك شرائح تعتبرهم قوة غاشمة ، يجب إيقافها أو إعاقة نموها ..

تلجأ الهيئات الى وضع نصوصها استنادا الى ثوابت محببة لنفوس الجماهير ، تطمح من وراء ذلك أن تحظى بهالة كاريزمية ، تعطيها أولوية في مساندة الجماهير والتفافها حولها .. فمنهم من يضع الدين في الصدارة ومنهم من يضع القومية في الصدارة ومنهم من يضع الواقعية في الصدارة ، ومن من يخلط كل عناصر ذلك بخطابه ..

لقد جرى تطور هائل على القدرة الجماهيرية ( باعتبارها شخصية هائمة ولكنها تعبر عن توحدها بشكل ما ) .. وهذا التطور كان بمثابة التحصن وعدم أخذ الخطاب الأيديولوجي على محمل الجد . فلو فتشنا بكل الخطابات لن نجد خطابا واحدا يذم الجماهير أو يبشرها بمستقبل مظلم أو يدعو لتفشي البطالة و نشر الأمية والأمراض .. بل كلها تدعو لجنات عدن ومستقبل زاهر والتقرب من الله ، ونشر الأمن والرخاء الخ ..

ان أهم ما يعني الجمهور به ، هو تمثل ما يقال في الخطاب مع سلوك من في الحكم أو من في المعارضة ، فلا يعقل أن يطالب أحد الأحزاب بالوحدة وعناصره أو بعضهم يفرقون بين عشيرة وعشيرة ، أو شعب و شعب ، أو مدينة ومدينة .

لو كانت الأيديولوجيا وحدها تحكم ، لحكمت المكتبات العامة لما تحويه من كتب يربض بين صفحاتها كلام جميل ومنمق .. ان السلوك والسلوك وحده الذي يتطابق مع الكلام ، هو ما يجعل الكلام له أهمية وأثر . ألم يكن كلام الله عز وجل وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، أفضل كلام أتى على الأمة ؟ . ألم تنحرف الأمة عن مسارها قبل ظهور أمريكا و الكيان الصهيوني ؟ .. انه السلوك المطابق أو غير المطابق لما يقال في الكلام ( الأيديولوجيا ) .

ابن حوران 28-11-2005 07:20 AM

من يحرس ويضمن تدفق الأيديولوجية لتؤدي دورها في الحياة العامة ؟

طفت على مر التاريخ ، وفي مختلف بقاع الأرض إمبراطوريات و دول ، رفعت شعارات تكون بمثابة رمز و تلخيص لعقيدتها و فكرها ( أيديولوجيتها ) وكان فقه تلك الأيديولوجيات ، يتفشى و يتغلغل في نقاط مفاصل الحياة العامة ، يذكرون به و يتذكرونه كإشارات مرور ضرورية لتنبيه من يسير في ربوع البلاد ، في كل المجالات ، فتجدهم على المنابر الدينية و معابر الحدود ، والدوائر الأمنية وغرف صفوف الدراسة من رياض الأطفال حتى الجامعات ..

لم تنشأ في تلك الدول ، دوائر بإسم دائرة مطابقة المواصفات الأيديولوجية ، تنبه من يتداول بضاعة ( الأيديولوجية ) قولا أو فعلا ، لتنبهه بأن بضاعته غير مطابقة للمواصفات القياسية الأيديولوجية !

وطالما أن المادة ، هي عبارة عن نصوص ، فان النص سيفهم من قبل من يقرأه أو يسمعه ، وفق آلية معقدة تعتمد على القدرة على فهم اللغة التي كتب أو قيل بها النص .. لذلك فإن التأويل و الاجتهاد كان باستمرار يظهر ، ويظهر معه من يدافع عن سلوك ما ، ويبرره وفق تطابق هذا السلوك مع ما يعتقد من تفسير لنص يتم توظيفه في خدمة التفسير .. من هنا ظهرت الطوائف الدينية في السابق ، وظهرت الانشقاقات في الأحزاب في العصور الحديثة ..

و اذا كانت اللغة ، لها وظيفة فورية ، تتم بها صياغة ما يريده واضع النص ، في وقتها ، فان طول الفترة الزمنية ، التي تفصل بين المطلع على لغة النص ، وفقدانه تفاصيل الظرف الذي تمت به صياغة النص ، سيجعل من التعامل مع النص أمرا لا يتطابق تماما مع روح النص ..

قبل أربعة عقود من الزمان مثلا ، كنت أسمع مفردات يتداولها المزارعون ، يصفون به أدوات الفلاحة و منتجاتها ، فبعد أن اختفت تلك الأدوات و منتجاتها ، فان الجيل الحالي لا يستطيع أن يفهم شيئا من حديث يدور بين اثنين من ذلك الجيل ، وهذا سهل متابعته و فحصه بالوقت الحاضر ..

هناك مسألة أخرى تتعلق بحراسة مضمون النص ، و هي مدى اقتناع من يطالب بالتقيد بالنص ، وهي صفة تدرب عليها بني البشر ، فيعرفون صدق المتكلم من زيف مشاعره ، من خلال طريقته بالنطق ، و حماسه أو تلكؤه في النطق ، وسوقه للأمثلة التي تدعم حجته ، فيصفون من يتكلم أحيانا ، بأن الكلام يخرج من أعماقه ، كناية عن صدقه ، ويصفون آخر بأن كلامه ( من الجوزة وفوق ) وهي كناية عن نفاقه وعدم قناعته بما يقول .. فكيف يقنع شخص غير مقتنع بما يقول ، شخصا آخر ؟

ان هدم صرح الأيديولوجية عادة يأتي من الأعلى ، فعندما يلاحظ من هم في نقاط مفاصل المجتمع بأن الذين هم أعلى منهم ، يمارسون تجاوزات على ضوابط الأيديولوجيا ، فان حرصهم على نقاط المرور سيرتخي ، شيئا فشيئا ، حتى يكون الالتزام بنصوص الأيديولوجيا استثناءا ، و اختراق قدسيتها هو السائد ..

ابن حوران 29-11-2005 04:38 AM

ثانيا : التنظيم

لم يتفق علماء الاجتماع السياسي ، على اعتبار أهمية التنظيم بالنسبة للحزب ، فقسم رهن عمل الحزب بوجود تنظيم قوي ، مشبهين دور التنظيم بدور الإسمنت في مواد البناء ، يربط أجزاء البناء و يجعلها متماسكة ، في حين يكون الناس أو أفراد الجماعات دون تنظيم ، كالحصى المتناثر في بقاع واسعة ، حتى لو تشابه بشكله و حجمه ، فان ليس باستطاعته تشكيل طوبة واحدة دون أن يتم تجميعه ( بتنظيم ) .. وأصحاب هؤلاء الرأي هم الذين يصنفوا تحت باب الأحزاب التكاملية التي تؤمن بحل مشاكل المجتمع ككل ، لتحل بعدها مشاكل الأفراد تلقائيا ..

أما القسم الثاني ، فانه لا يعطي للتنظيم أي أهمية أولوية ، بل يترك للجاهزية النابعة من حضور مصلحة الفرد وحضور مصلحة الجماعة باستمرار ، فوفق حركة السياسة اليومية ، وما تترك من آثار على الجماعة التي ينتمي لها الفرد تكون محفزا مستفزا لردة فعل متوازنة من قبل قيادات الحزب الذين يمثلون المجموعة ويفوضوا من قبلها تفويضا يشبه تفويض مجلس إدارة لشركة من قبل المساهمين بها ..

بنية الحزب وعلاقتها بالتنظيم :
نادرا ما يؤثر الخطاب الأيديولوجي بتفاصيله الدقيقة هو ما يجعل الأفراد ينخرطوا في صفوفه طوعا .. بل هناك عوامل أخرى :
1 ـ في بعض الأنماط الليبرالية يولد الطفل ومعه بطاقة الإنتماء الحزبي ، كما في أحزاب أمريكا التي تتناوب الحكم ..

2 ـ في بعض الأنماط التي تنتشر في بعض بلدان العالم الثالث ، يكون زعماء القبائل أعضاء قياديين مفصليين في مناطقهم وقبائلهم ، كما هي الحال في الحزب الإشتراكي في ساحل العاج الذي حكم البلاد عدة عقود ..

3 ـ في بعض البلدان يكون الحزب أشبه بالكونفدرالية ، كالحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا ، اذ يتكون من عدة ( زمر) تصل أحيانا فوق العشرة ، يكون لكل زمرة استراتيجيتها الإنتخابية ، ومؤتمرات خاصة بها ، كأنها بقطر ثاني ..

4 ـ في بعض البلدان تتداخل بنية الحزب مع بنية تنظيمات أخرى قد تتوافق مع بنية الحزب أو تتعارض ، كما يحدث في حزب العمال البريطاني ، فعندما يذكر الحزب في عينة من الوقت أن أعضاؤه 7 ملايين ، وهم بالحقيقة مليون واحد والباقين هم أعضاء النقابات العمالية ، والأخير لا يتوانى في الإضراب لإسقاط الحكومة العمالية عندما تتعرض مصالح العمال كعمال لخطر ..

5 ـ في بلادنا العربية ، تزحف جموع الأعضاء للإنتساب لحزب الحاكم ، أي حاكم ، فتكون عضويتها مهتزة رجراجة ، في كثير من الأحيان ..وتتكدس معظم قيادات الأحزاب الفكرية القوية و التنظيمية المتمكنة ، في العواصم ، وتترك الأطراف مع معاناة ليست قليلة ..

ابن حوران 30-11-2005 05:12 AM

التنظيم و أثره في بناء الحزب ( ظرف المعارضة )

عندما نطالع ما يكتبه علماء الاجتماع السياسي ، فان نصيب رواد الفكر العربي من تلك الكتابات التي تناقش موضوع الأحزاب ، ستكون ـ مع الأسف ـ قليلة ومبتسرة ، ومحكومة بذوق ( بلوتوقراطي) ينافق حزبا حاكما أو يهاجم حزبا لا يكن له ودا ، وذلك للهواجس الأمنية التي تحكم البلاد العربية و من يكتب بها ، من ناحية ، ومن ناحية أخرى أن من يكتبوا بهذا المجال هم أكاديميون لم يعيشوا الحياة الحزبية العربية في الغالب ، فانطبعت كتاباتهم بما يكتبه ( ماكس فيبر) و ( موريس ديفرجه) وغيرهما ..

ونجد أنفسنا بعض الأحيان أسرى لنصوص يضعها رواد علم الاجتماع السياسي العالمي ، حيث يلخص النص ما يريد قوله أحد كتابنا بعشرات الصفحات .. فعندما يذكر ( ماكس فيبر ) بأن التنظيم الحزبي هو حاصل مجموع متغيرات ثلاث : الأول ، المتغير المستقل المتمثل بالعواطف و أسلوب القيادة والمتغير التابع المتمثل بالانتاجية والفعالية والمتغير الوسيط المتمثل بالحوافز والإشباع .. نعلم عندما نربط تلك الشواخص التمييزية بما يعني الرجل .

وعندما يذكر ( موريس ديفرجة ) بأن الحزب هو مجموعة اصطناعية دائمة ، تكون ديمومتها مرهونة بتنظيم الأطراف لا تنظيم المستوى القيادي ، ليصبح تعريف الحزب وفق تلك الرؤية ، بأنه مجموعة المجموعات .. ندرك وقتها كم تلخص تلك الكلمتين ما يعني التنظيم بالنسبة للحزب ..

اذا كان مفكرو الغرب يكتبون عن الحياة الحزبية كتنظيمات كفلت حمايتها أصول اللعبة السياسية في بلادهم . إذ تتم حماية الأحزاب المعارضة التي تتناوب مع الأحزاب الحاكمة ، الحكم ، فان السلوك الذي يسلكه الحزب الحاكم تجاه من هم خارج الحكم سيكون بمثابة قانون ، سينسحب عليه عندما يستلم غيره من أحزاب المعارضة الحكم .. فيصبح السلوك له محوران محور الوظيفة ومحور الضرورة ..

أما في بلادنا العربية ، والتي تصبح تلك الكتابات لا معنى لها ، لاختلاف سلوك من في الحكم تجاه من هم في المعارضة . إذ يمارس من في الحكم إقصاء و إعاقة من هم خارج الحكم ، فتجف منابع (الدياليكتيك ) وتقل حيوية تنمية الحياة السياسية ، وتكثر منافذ الإفساد والفساد ، والتي تفرخ هي الأخرى نتوءات يبنى فوقها تشقيق وحدة المجتمع أولا ومن بعدها يصل للحزب الحاكم ..

**********

الأساس في نشأة الأحزاب في بلادنا أن تكون معارضة ، وهذا يجعل من تصنيع خطابها وأساليب تنظيمها أن تكون باستمرار متحفزة لنقد من هم في الحكم ، والتبشير بأحلام هائمة ، لم يتدرب واضعوها على ممارسة السياسة كحكام بل تدربوا على أن يكونوا محكومين معارضين .. فبمجرد وصولهم للحكم ، لن تسعفهم تجربتهم كمعارضين في إدارة الحكم ، بل يستلهموا شخصية من سبقهم بالحكم في إقصاء من يعارضهم وتدور الدائرة .. وهذا ليس ما نحن بصدده .

تتسم أشكال إدارة التنظيم بالبلاد العربية في أوقات المعارضة بما يلي :

1ـ تكون السمة العامة للتنظيم ، سمة تعبوية تبشيرية بالحزب .
2 ـ تسقط فكرة الحوافز في حالة أحزاب المعارضة ، بل إذا أردنا نحت مصطلح يناقض الحوافز وإشباع حاجات العضو الحزبي ، فاننا لن نجد أفضل من مصطلح (ضريبة الإنتماء الحزبي) والتي تصل قيمتها أحيانا حياة العضو ، أو سجنه أو إبعاده عن أشكال الحياة الطبيعية ..
3 ـ سمة المحاباة والترقق والتساهل في انضباطية الأعضاء لضمان بقاءهم ، في أجواء تخلو من الحوافز ، وتزداد بها قيمة (ضريبة الانتماء )..
4 ـ التوجس والشكوك من تسلل عناصر معادية ..
5 ـ تنوع الأعداء وكثرتهم ، فسرية التنظيم ، تفتح عليه جبهات كثيرة معظمها على هامش الإيمان الفكري ، إضافة لضراوة عداء الدولة ..
6 ـ الصدود الجماهيري في الانضمام لتلك الأحزاب ، حيث لا حوافز ولا إشباع وارتفاع عنصر المغامرة ..
7ـ ذبول حالة الروح الوثابة ، عند بعض الأعضاء ، وتسرب بعضهم من صفوف الحزب ، وشيوع حالات من الإحساس بانعدام الوزن .

ابن حوران 02-12-2005 04:15 AM

أثر التنظيم في ديمومة أو هدم قوام الحزب :

اذا كانت الحوافز و إشباع حاجات الأعضاء ، لا تتوفر في أجواء المعارضة ، وتجعل من الناس يتخوفون من الدخول للأحزاب ، و أن الأعضاء ترتخي هممهم ويتسرب منهم ما يتسرب ، وتزداد تلك الظروف مع شدة الهجمات على الأحزاب والحزبيين ( طبعا في بلادنا العربية ) .. فان من يصمد و يبقى سيصنف مع مرور الزمن على أنه من صنف المناضلين والأبطال ، وهو وصف يستحقه .

فإن تلك الظاهرة ستنقلب و تتغير مع وصول حزب ما الى السلطة ، أو تشكيل حزب تؤسسه سلطة قائمة بالأصل .. فإن أمواجا من المنتسبين الجدد ستنهال للانضمام لهذا الحزب ( حزب السلطة ) .. وسيكون للحوافز وإشباع الحاجات الفردية لدى المنتسبين شأن كبير ..

وبغض النظر عن جدارة الحزب من عدمها ، وبغض النظر عن صحة و أهمية ما يطرح هذا الحزب ، فإننا سنتناول الميكانيكية التي يجري بها التنظيم ، وهذا ما يعنينا في هذا المقال ..

إن حالة الالتفاف الجماهيري سواء ، بدوافع صادقة نتيجة زوال ما كان يمنعهم من التعبير عن إرادتهم في سابق العهد ، أو نتيجة التسابق لتحصيل جزءا من الحوافز و المكاسب التي تتحقق نتيجة للانضمام للحزب . ان تلك الحالة تشعر القائمين على الحزب و الذين أحدثوا التغيير السياسي ، بالغبطة والفرح الكبيرين نتيجة انضمام تلك الأمواج .. لكن سيظهر مجموعة من الأعراض غير المرغوب بها و التي تتمثل ب :

1 ـ قلة أعداد الكوادر القادرة على استيعاب هذا الكم الهائل ، وتنظيمه بشكل يضمن رفد الحالة الجديدة ، بأفواج صادقة و جادة ومبدعة ..
2 ـ ضعف القدرة على تمييز المتسللين لتخريب الحالة الجديدة و التجسس عليها من داخلها .. خصوصا اذا عرفنا أن الصامتين والمبتسمين والمطيعين والمواظبين على حضور الاجتماعات و الاحتفالات و ما أكثرها ، سيتطور وضعهم بسرعة هائلة ، حتى لو كانوا صهاينة !

3 ـ قد يصادف أن ينضوي أحد المؤمنين حقا بما جاء به الحزب من أفكار و أهداف ، ويكون المسؤول عنه فقيرا بالثقافة و أحيانا بالشخصية ، فلا يحس هذا المؤمن الوافد بأهلية المسؤول الفقير الذي قد يكون سبقه بشهر أو يوم ، أو يكون في دائرة الثقة أكثر من المؤمن المجهول .. فان تلك الحالات ستكون بوابات لحرمان الحزب من إبداعات هؤلاء المؤمنين الجدد ، وقد يتحولوا لأعداء اذا ما استغل المسؤول الفقير وضعه من حيث ثقة المسئولين به ، بإقصاء هذا الوافد المزعج بطرحه المحرج بنظراته ، مما يخدش هيبة المسؤول أمام الجماعة التي هو مسؤول عنها ، والتي يفترض أن تمنحه التوقير و التبجيل .

4 ـ قد يتسلق هؤلاء الفقراء بإبداعهم ، ليعتلو مكانات مرموقة في ناحية أو قضاء أو محافظة ، أو حتى على مستوى البلاد ، وهي نادرة ، وان حدثت فإنها تصبح ظاهرة غريبة . ولكي يداري هؤلاء( الفقراء بقدرتهم الإبداعية ) خيبتهم وحرجهم من تفوق المبدعين الذين هم تحت مسئوليتهم ، فان موضوع إقصائهم يصبح واردا في أي لحظة ، وسيجد من ينوي ذلك ، عشرات الطرق اليسيرة لتنفيذ مقصده ، ونادرا ما يجد من يردعه ، حتى من ( الأقوياء المبدعين ) .

5 ـ تصاغ لوائح داخلية للتنظيمات الحزبية في البلاد العربية ، تكون في ظاهرها محكمة و قوية ، ولكنها غالبا ما تستخدم في إقصاء غير المرغوب بهم ويتم تجاوزها أو حتى مجرد التلميح بها ، ممن هم مع خط الأقوياء الراهنين .

6 ـ هناك حالة تنسحب على تنظيمات الأقطار العربية لبعض الأحزاب التي لها ما يشبه الامتداد في تلك الأقطار ، فبعض الدول التي يتسلم حزب ما الحكم بها ، تجد أن شبه الامتداد في بلد لا يحكمه ذلك الحزب ، فان من يقودوا تنظيم شبه الامتداد ، سيتصرفون وفق التقاليد الحزبية التي تعم في البلد المحكوم من الحزب نفسه .. وينسحب السلوك التنظيمي في ذلك البلد المحكوم من قبل الحزب على أشباه الامتداد التي قد تستنبط نمطا من الحوافز التي تجعلها متمكنة من إدارة التنظيم بالطريقة نفسها التي يدار بها الحزب في بلد الحكم .

7 ـ ان الهواجس الأمنية التي تحرك سلوك معظم ، لا بل كل الدول العربية ، تجاه أبناء تلك البلاد ، تستلهمها التنظيمات الحزبية ، التي هي أقدر على وصف هذا السلوك من غيرها و تمارسها تجاه أعضاءها دون أن تعلم أنها تقوم بذلك .

فيخبو صوت الإبداع ، ويكثر المسكوت عنه ، وتستنسخ نسخ كثيرة من الفرد الواحد ، لتقوم بأدوار متناغمة بشكل منقطع النظير مع إرادة الفرد الواحد .. حتى ليظن المراقب أن هناك خطا ساخنا بين الشخصية المحورية في الحزب وكل من هؤلاء الذين أحيانا تبعد المسافة بينهم لتزيد عن آلاف الأميال ..

إن هذه الصيغ رأيناها في أمكنة مختلفة من العالم سبقونا بتلك التقاليد ، من الاتحاد السوفييتي الى الصين ..

وللإنصاف ان كنا نتحدث عن أهمية الحافز وإشباع رغبات الأعضاء الأكثر وفاء .. فلن نغفل حجم الناتج الذي يتم من خلال تلك العملية المعقدة ، فقد نما الاتحاد السوفييتي نموا هائلا خلال عدة عقود ، جعلت منه قطبا هاما ، بعد أن كان يوضع على جدول أعمال أي غزو من نابليون بونابرت حتى هتلر ..

كما نمت الصين ولا زالت تنمو ، وان كانت الصين قد جمعت مع تلك الطرق للسلوك ، طرقا أخرى أصبحت تحد من الفردية المطلقة ، فلذلك إن ديمومتها قد تكمن في هذا السر ..

ابن حوران 03-12-2005 05:56 AM

الانضباط أهم ركائز العمل العام :

اذا كان الجذر ضبط ، يفيد بمعنى حكم المعايير للحركة عند الجمادات ، كمن يضبط حركة ساعة أو محرك سيارة أو دوزان آلة موسيقية ، فان الانضباط يعني التطوع في تنفيذ المهام ، وان كان هناك من يأمر بالالتزام ، فان الاستجابة لأوامره يجب أن تكون مخلوطة مع رغبته في الالتزام ، وتكون نسبة الخلط لصالح تلك الرغبة ، لا لصالح اللوائح الداخلية التي تكافئ أو تعاقب ..

فعندما يلتزم أحد العازفين في فرقة سيمفونية بإشارات قائد الفرقة ، فانه وبعد أن أجرى عملية الضبط ( الدوزان ) لآلته .. سيكون مسرورا في هذا الانضباط ، كما أنه يرغب في أن يلتزم جميع أعضاء الفرقة بتلك الإشارات ، فانه لو اختل دور عازف ، لاختل الأداء بالكامل للفرقة ، بما فيهم المنضبطين ، وبالتالي فان تقييم العمل العام للفرقة الموسيقية ، سيكون رديئا ، ولن يعود بأي مكافئة معنوية لأي عضو بتلك الفرقة ، لا من حيث الإعجاب أو التوقير أو التبجيل ..

ان كان هناك أعضاء بالفرقة يتمنون أن يخطئ زملائهم في العمل ، لكي يظهر أدائهم أمام الآخرين أنه متميز ، فهم مخطئون . وهذه خاصية طبيعية نجدها عند ممالك النمل و النحل ، فالأداء العام المتقن يحقق الفوائد المعنوية والمادية للجميع .. وان ثقب بسيط في ( بئر لجمع المياه) سيفقد البئر ماؤه .. وان ثقب بسيط في سفينة سيجعل الماء يغرقها ..

ان الإنضباطية بإرادة طائعة ، هي المنشودة في العمل العام ، أما الإنضباطية بالإلزام ، وان كانت في بعض الأحيان تقتضيها ظروف أمنية معينة ، تستوجب التكتم عن شرح فقهها . لكن المبالغة في اعتماد قاعدة ( نفذ ثم ناقش) ، تجعل همم المنفذين تتراجع بعض الشيء .

ان الانضباط لا يعني فقط الالتزام بأوامر الحزب بل يعني أيضا :

1 ـ الالتزام بأخلاقيات المجتمع الذي يعيش به الحزبي ، وعدم التمرد على عناصر القاعدة الخلقية السائدة .

2 ـ عدم إظهار و إرجاع عمل الحزب ، للحزب وحده ، فهذا يجرح مشاعر من يؤيده ، ولكنه لا ينخرط بصفوفه .

3 ـ عدم الثرثرة بأمور الحزب ، بين الناس ، فالحزبي بين الناس هو مواطن ، وحزبيته في حزبه .. ولن يكون الإنسان حزبي جيد أو سياسي جيد ، ما لم يكن مواطن جيد .. فالشرايين في الجسم لا يمكن رؤيتها من فوق الجلد !!

4ـ ضبط إيقاع حياة الحزبي مع شعاراته ، من أهم عناصر الانضباط .. فشعار (الحزبي أول من يضحي وآخر من يستفيد ) تحتاج طهارة و إثبات لمن يستمع لمثل تلك الشعارات ..

5 ـ ضبط حالة المحاباة و الشللية و الاتصالات الجانبية ، وهذه الصفات تظهر بانسداد القنوات الطبيعية للتعبير ، ليلوذ من لا يسمح له التعبير ، بأحد تلك الأساليب و القنوات الضارة ..

هناك وجه شبه بين التنظيم الحزبي ( في نموذج الحزب التكاملي) مع التنظيمات العسكرية ..

عندما أطلق نابليون بونابرت قوله الشهير ( أعطني خمسة لأسيطر بهم على العالم ) والتقف بعض خبراء التنظيمات هذا القول ، ليبقى أثره ماثلا حتى اليوم ، حيث أن أي قيادة فيلق أو فرقة أو لواء أو كتيبة الخ .. تكون خمسة أو حول هذا الرقم ..

وعندما أراد الحزبيون في أواخر القرن التاسع عشر أن يسقطوا هذه المقولة على التنظيمات الحزبية ، أفلحوا في تشكيل القيادات المركزية وأعداد مسئولي اللجان المشرفة بأسمائها المختلفة من حزب الى حزب .. وعندما تقتضي الأمور أن تكون هناك قيادة واسعة تصل احيانا الى عشرين أو مائة ، فإنهم ينحتون وظيفة لهيئة جديدة ، كالمكتب السياسي أو أمانة سر للقيادة الواسعة نفسها ويبقى هذا العدد المستحدث يقارب الخمسة !

ابن حوران 04-12-2005 06:48 PM

الاحتراف السياسي هو ما يعطي الحزب هيبته

اذا ما ركزنا في الشرطين الأوليين ، على موضوع الحوافز ، فاننا سنتناول موضوعا هو أقرب لفكرة الانتاجية والفاعلية ، التي عناها ( ماكس فيبر ) .. لكننا هنا ، سنتكلم بالذات عن موضوع الاحتراف السياسي ، كشرط ، يزيد أو ينقص من الفاعلية السياسية أو إنتاج تلك الفاعلية كعرض ثانوي ، له تأثيره على سمعة الحزب و ديمومة تلك الفاعلية ..

فالحزب أي حزب ، كما غمز بهذا الجانب (موريس ديفرجه) عندما قال : ( اذا أردت إنشاء حزب ما عليك الا أن تجد مقرا ، وأمين سر و ختم .. و أحيانا قد تكتفي بالختم !) .. فهو هنا يغمز بجانب سهولة إنشاء الأحزاب ، وهي ماثلة اليوم في أكثر من قطر عربي ، عندما يستقوي هؤلاء بالأجنبي !

فإذا كانت فاعلية الحزب أي حزب هي حصيلة فاعلية أعضاءه ، و اذا كان فعل كل عضو من أعضاء الحزب به سمة الاحتراف ، فان السمة العامة لفاعلية الحزب سيطغى عليها طابع الاحتراف .. و اذا كان العكس فان العكس هو لنتيجة ..

لكن ما هو الاحتراف السياسي ؟ .. نحن نعلم أن هناك احتراف بكرة القدم ، بالقتل ، بالطب .. أما في السياسة ، فكيف يكون ذلك ؟

تماما كما هي في كرة القدم .. فاذا تحول أعضاء الحزب كجمهور لقيادته المحترفة ، فان ذلك لا يجلب للحزب كثيرا من الانتصارات ، بل اذا أخفق فان هذا الجمهور سينقلب عليه ، كما ينقلب جمهور فريق كرة القدم على الفريق الذي يشجعه بحالة الخسارة .. ولكن لنتصور أن عشرات الألوف التي تجلس على المدرجات ، تتقن اللعب بدرجة تقترب من اللاعبين الأساسيين في الملعب ، فان التشجيع يكون له شكل مختلف ، اذ يتحول كل متفرج من الجمهور الى لاعب احتياط .. بالإضافة الى أنه في حالات إخفاق الفريق بإحراز نتيجة ، سيتفهم هذا الجمهور هذا الإخفاق ، وسيعالج أسبابه على وجه السرعة في حالة أن يكون الجمهور محترف ..

ان قدرات العمل السياسي ، تختلف عن قدرات العمل الحزبي ، فاذا كانت الأخيرة تجري في كواليس الحزب و غرفه المحكمة ، فان الأولى تستوجب العمل بأجواء مختلفة ، والمحاورون بتلك الحالة مختلفون .. وكما للعب كرة القدم قوانين تنظمه ، فان للعمل السياسي قوانين تحكمه ..

لم يعد المحاور من نفس الطينة ، ولم يعد الفقه السياسي من نفس اللون ، في حالة العمل السياسي ، يستوجب التعامل مع حزب حليف ، أو خصم ، أو حزب يختلف مع حزب العضو على بعض النقاط .. و قد يكون العمل مع دولة (في حالة المعارضة للحزب ) ، تتربص تلك الدولة باقتناص أي خطأ يقع به الحزبي لتجد تلك الدولة طريقة للتضييق على الأحزاب .

الجلوس في الدواوين :

ينظر أبناء الريف و عوام الناس الى أعضاء الأحزاب ، نظرة مليئة بالمشاعر المختلطة التي تحتاج عزل ما هو ضار منها .. وهذا يحتاج لين جانب ، وتوضيح لمنطوق ما تقوله الأحزاب ، وهذا أبسط درس بالاحتراف السياسي ، فأكثر ما يزعج أبناء الأرياف ، أن يكون جليسهم يتعامل عليهم بدور الأستاذ ، حتى لو خاطبوه هم بذلك !

فان صدف أن كان الذين يبشرون بفكر حزب عند عامة الشعب ، أكثر من واحد ، فان جلسوا بديوان ، أن يحذروا الجلوس بجنب بعض ، و اذا تكلم مسن بحضورهم ، فليكونوا مصغيين له إصغاء كامل ، حتى لو كانت لغته ركيكة وما يطرح من أفكار ليس بذي بال .. و أن يحذروا أن يتهامسوا أثناء حديثه ( اذا ما جلسوا بجانب بعضهم البعض) .. أو يبتسم أحدهم أثناء الكلام لذلك الشيخ ، و تكون الابتسامة بالنظر لبعضهم البعض .. فقد يكون هناك بالديوان من أبناءه أو أحفاده أو مريديه .. وان ذلك سيؤذي مشاعرهم ، ويجعلهم يدخروا تلك المواقف لتحويلها لموقف مضاد تجاه حزب المبشرين الفاشلين ..

كسب المؤيدين باستمرار :

اذا كان الحزب ، حسب التعريف السابق ، مجموعة مصطنعة دعائية دائمة تسعى لاستلام السلطة ، فان أصول الاحتراف السياسي تستدعي الاقتراب من الأذرع الإدارية كالنقابات و الجمعيات و غيرها لجعلها تتبنى برامج الحزب وتنفيذ تطلعاته ، وهذا بالتالي يجعل من احتراف العمل الإداري بمختلف وجوهه شرطا أوليا لاحتراف العمل السياسي ، لأن صقل المهارات اللازمة في هذا الشأن سيخدم فكرة تطوير برامج الأحزاب ، ويحسن لغة و إمكانيات أعضاء الأحزاب .

توظيف الأصدقاء في خدمة أهداف الحزب :

لغياب الأعداء المباشرين عن متناول يد العضو الحزبي ، فان نشاطه سينكب على اختيار أعداء متوفرين حوله ، فيعتمد مناكفة الفرقاء من الأحزاب الأخرى رغم التقائها مع حزب المعني بكثير من الأمور التي ممكن توظيفها في خدمة برامج تلك الأحزاب التي يفترض أن تتحالف ، أو على الأقل ألا تتعادى في مسائل مجانية ..

وعلى القيادات المفصلية في المناطق والمركز ، أن تعتمد برنامجا تربويا مكثفا ، لحث عناصرها على عدم فتح جبهات ، لا يفترض فتحها ، مع أحزاب أو هيئات قد تصلح أن تكون متحالفة مع حزب المعني ..

وان عناصر الأمن في معظم البلدان العربية تستغل ذلك استغلالا جيدا ، لعمل هوة بين الأحزاب لتتمكن من الانفراد بحزب بعد الآخر ..

ابن حوران 07-12-2005 03:57 AM

الأعمدة :

الأسرة الحاكمة هل تصلح أن تكون عمودا ؟


(1)

عندما نقلب صفحات كتب التاريخ ، نتعرف على عائلات حكمت في مختلف أنحاء الأرض ، من الفراعنة والسومريين ومرورا بالأمويين والعباسيين و العثمانيين ، وانتهاء بالأسر الحاكمة في العالم بالوقت الحاضر و من بينها جزء من الدول العربية ..

كانت الأسر في السابق تصل الى الحكم من خلال إقصاء من سبقها بالحكم بواسطة القوة ، أو كانت تقوم بطرد المحتل و تحل محله برضا المحاربين الذين تعاونوا معها في ذلك .. وكانت ديمومة حكم أي أسرة تعتمد على قدرتها في الذود عن حمى الوطن ونشر السلام بين المواطنين وتأمين الحياة الكريمة لهم .. وتنتهي بانتهاء تلك الخصائص عنها ..

وكانت كل أسرة تبحث لها عن كاريزمية خاصة بها ، وتوظف رجال الدين في الحث على طاعة تلك الأسر ، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين أو بوذيين ، ومن قبلهم الكثير من الدول وكذلك في العصر الراهن ..

وكانت القوى الاجتماعية ، قبائل أو فرسان أو ملاك ، يأخذون حقوقهم من تلك الأسر ويكونوا بمثابة شركاء مستترين لها ، ولهم أسهم من عوائد الدولة ونصيب وان لم يتساوى مع نصيب الأسر الحاكمة لكنه يبقي هؤلاء الحلفاء أو الأعوان المطيعين على طاعتهم طالما شعروا بالرضا ، واعترفوا ضمنا بعدم قدرتهم للوصول الى حال أفضل مما هم فيه .

ومع تطور الفكر السياسي الذي رافق الثورة الصناعية في أوروبا ، تطورت أدوار تلك الأسر الحاكمة ، بعد أن اختفى منها العديد ، كما حدث في بروسيا وفرنسا وألمانيا وروسيا ، وامتد هذا التغيير لقضم مستعمرات كثيرة في العالم وتقليص نفوذ دول مستعمرة .. فأبقت دول على حكم تلك الأسر كوجه رمزي كما حصل في بلجيكا وبريطانيا وبعض الدول الاسكندنافية .

أما في بلادنا العربية ، فان الأسر الحاكمة وان جاء بعضها بمساق شبيه لما حدث في التاريخ ، الا ان البعض الآخر ، جاء كإرادة تزامنت مع ترتيب منطقتنا بعد أن خرجت من دائرة الحكم العثماني المنهك ، فكانت تتناغم في معظم الأحيان مع الشكل الذي وضعت عليه اتفاقية (سايكس بيكو ) .

وان كان الشكل الملكي في أوروبا قد اتخذ صورة رمزية ، ليتماشى مع تقاليد تناقل السلطات في أوروبا ، فان شكل حكم الأسر في المنطقة العربية ، قد اتخذ احتياطات كافية لمنع تداول السلطة وتناقلها بنفس أسلوب الغرب ، وان كان هناك أشكال ديكورية تنتشر هنا وهناك ، لكن بفاعلية محدودة ، تتفق بالنهاية مع ما تتطلع اليه الأسر الحاكمة من رؤى ..

لقد تصلب الوضع الاجتماعي ، أو خريطة القوى المؤثرة سكانيا ، من خلال نحت شرعية تلك الأنماط من الحكم ، فضمنت قوى اجتماعية نصيبها من توزيع الأدوار و تأمين مصالحها فاستبسلت بالدفاع عن مثل تلك الأنظمة ، لأنها تدافع عن مصالحها بالحقيقة ، وكانت تمنعها في اتخاذ بعض التنازلات تجاه مصلحة الحريات العامة ، لأن ذلك سيكشف مدى الفساد التي تسببه تلك القوى المحيطة بالأسر الحاكمة .. فكانت الأسر تستجيب لإيماءات تلك القوى ، لضمان تحقيق المصالح المشتركة لها ولمن يحيط بها .

ابن حوران 10-12-2005 04:25 AM

الأسر الحاكمة في البلاد العربية ..

(2)

هل تستطيع مواصلة إعادة إنتاج نفسها ؟

استطاعت الأسر الحاكمة في البلاد العربية من الحفاظ على نفسها منذ بداية القرن الماضي ، ولغاية اليوم ، متفوقة بذلك على غيرها من أشكال الحكم الأخرى في القدرة على البقاء . وتكاد تكون متشابهة في أداء حكمها إذ أنها استفادت منذ البداية من العوامل التالية :

1ـ استفادت من الحرمان الطويل للعرب في حكم أنفسهم الذي استمر زهاء ألف سنة ، وعليه فقد رضي العرب ، بل تساهلوا و تسابقوا للالتفاف حول تلك الأسر لتقوم بحكمهم ، مراهنين بأنها أقل سوءا إن لم تكن أفضل من غير العرب .

2ـ أوهمت تلك الأسر شعوب بلادها بأنها الوحيدة التي تحظى بمزايا فريدة ، لا يمكن ان يستطيع أحد أن يجمع مثلها .. كالحظوة الكاريزمية المنسوبة للدين ، أو الفن الاستثنائي الفريد بالتعامل مع القوى العالمية والمحلية ، لإبقاء حالة الاستقرار بالبلاد . وقد تكون بالنقطة الأخيرة محقة لالتقاء المسار الذي تقوم به مع إرادات و أجندة تلك القوى .

3 ـ اعتمدت تلك الأسر ، الأوضاع الاقتصادية التي كانت سائدة قبل مجيئها ، كخط فاصل للمقارنة مع ما حصل بعد وجودها .. وقد خدمتها التطورات الطبيعية سيما تلك المتعلقة ببروز النفط بالمنطقة . فكانت وما زالت تلمح لتجيير تلك التغيرات لتحصرها بنفسها كمسبب .

4 ـ اعتمدت تلك الأسر ، سحب اعتماد الناس على رزقهم من خلال أعمال كانوا يمتهنونها مئات السنين ، وربطتهم بمحور نشاطها وعطاءاتها ، ليبقى هؤلاء الناس ينشدون رضى تلك الأسر من خلال طاعتها .

5 ـ اعتمدت تلك الأسر ، بناء قواتها الأمنية والعسكرية والمخابراتية ، أسلوبا يتناسب مع رؤيتها في نحت شرعيتها و ربطت قيادات تلك الأجهزة بها مباشرة وحصرته بأبناءها أو أبناء القوى التي تعتمد عليها لإبقاء حالة الشرعية تلك ، وكانت تقصي الضباط الذين تتوجس منهم خطرا ولو ضئيلا ، في وقت مبكر .

6 ـ اعتمدت تلك الأسر ، أسلوب إشغال الناس بمراقبة بعضهم البعض ، وجعلتهم في وضع يتنافسون فيه لنيل رضاءها . فمن خلال الدعوات للقصر أو خلال التعيينات أو من خلال أشكال الانتخابات محدودة التأثير عليها ، فكان الناس يتباهون بالمجالس بذكر مناقبهم أو مناقب رجال أقاربهم ، الذين نالوا هذا الشرف العظيم ، ويجلس الآخرون الذين يستمعون في حالة حلم وهيام للوصول الى مثل تلك الحظوة !

لكن نعود بالسؤال : هل تستطيع تلك الأسر البقاء على نفسها أو تعيد إنتاج نفسها بشكل يتماشى مع التطورات المحلية و العالمية ؟

لقد أخذت الأجيال التي عاشت أجواء مبررات وجود تلك الأسر ، بالزوال شيئا فشيئا بفعل الموت وتقادم الأعمار ، وأخذت مساحة الذاكرة التي تحمي تلك المبررات تصغر شيئا فشيئا ، وتنحصر في خلف الأسر المحيطة بالأسر الحاكمة وعليه فان ظروفا استجدت تهدد بقاء تلك الأسر :

1 ـ زوال قوة خطاب أهلية تلك الأسر ، بعدما تعرضت الأمة لسلسلة من الإهانات على مرأى ومسمع تلك الأسر ، والتي لم تكن على الحياد ، بل كانت تشارك وتسهم في وصول أعداء الأمة الى أهدافهم ، في حين كانت الجماهير تنتظر من تلك الأسر التي التفت حولها كل هذه المدة ان تذود عن الأمة .

2 ـ مشاعية المعلومات ، مما جعل المواطن الذي افتتن كل تلك المدة بهذه الأسر أن يطلق العنان لإشغال عقله و يتفحص سلوك تلك الأسر .

3 ـ جرب بطون أبناء تلك الأسر ومن يحيط بهم ، و ابتلاعهم معظم ثروات البلاد ، وتمثيل دور المتصدق و المتحسن على أبناء الشعب ، مما خلق دملا يزداد حجمه يوما بعد يوم ، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بوقت انفجاره ، وان كانت أحد مظاهر خراجاته تتمثل بما يطلق عليه ( الإرهاب ) .

4 ـ إصرار تلك الأسر الحاكمة على الاعتماد على رجال دولة ، هم من أكثر الناس فسادا وعدم أهلية ..

5 ـ تسرب بعض رجال الدولة ، الذين لم يعد مرغوب بهم من قبل الأسر الحاكمة ، و تسريب بعض المعلومات عن دواخل تلك الأسر بالصالونات السياسية والدواوين او في خارج البلاد ، مما يشكل صاعقا لمتفجرات الشعب القادمة ، وبرأيي أن هذا العامل هو من أخطر العوامل ان لم يكن أخطرها ، التي تهدد تلك الأسر .

6 ـ تمزق تواصل الذاكرة بين القوى الأجنبية وجدارة تلك الأسر بالبقاء ، ونحن رأينا كيف تم ذلك مع نهاية العهد القاجاري في ايران أو نهاية حكم هيلاسي لاسي في أثيوبيا و شاه ايران الأخير محمد رضا .. كيف أن الاعتماد على القوى الأجنبية وحده لا يصلح ان يكون ضمانة لديمومة تلك الأسر .

7 ـ كانت تلك الأسر الحاكمة ، أحد العوامل الماثلة أمام أبناء الأمة العربية في تعطيل محاولات التقارب والتناغم في الأداء العربي ، لضمان بقاءها في الحكم ولتنعم بحالات الهنأة و الدعة .. مما صنع مزاجا إقليميا بالنظر لها نظرة لا تنم عن احترام وحرص على بقاءها ..

ابن حوران 11-12-2005 05:00 AM

الأعمدة

العسكر : هل يصلحون أن يكونوا عمودا في العصر الحديث ؟

لا نستطيع كعرب و نحن نتكلم عن آفاق العمل السياسي المقبل ، والمتعلق بتأملات حول تناقل السلطة و إدارة الدولة ، أن نغض النظر عن موضوع تدخل العسكر في هذا الشأن ، ليس لأنه لصيق بتلك المسألة فحسب ، بل لأنه رافق صناعة الدولة منذ صدر الاسلام وحتى اليوم ، وكان له في معظم الأحيان المعطى الأولي والمحوري لتلك المسألة ، وكانت باستمرار كلمته هي العليا .

لكي لا نحرف مسار مطالعتنا لهذا الموضوع ، ونشتت تركيزنا فيما نرمي اليه بهذا الاستجواب لأنفسنا عن كيفية تصورنا للخلاص مما نحن فيه ، فلن نغوص بأعماق التاريخ للوقوف على الكيفية التي كان للجيش والعسكر أثر بها في صنع وتثبيت الدولة في عصور ما قبل الاسلام ، لكننا سنكتفي للتأسيس لهذا الباب أن نسترجع تطورات الدور العسكري في ذلك بعجالة مركزة ، تسهم في تحديد إحداثيات الصورة التي نحاول رسمها ..

لقد مر الجيش منذ قيام الدولة الاسلامية بعدة تطورات ، يستطيع من يتأملها أن يستلهم الشكل الذي كان يستطيع الجيش من خلاله التدخل في شؤون الدولة ، وعندها فإن رؤية المستقبل تكون أكثر وضوحا في اقتراح أشكال تضمن قوة الدولة وديمومتها .

المرحلة الأولى : من صدر الدولة الاسلامية الى نهاية العصر الأموي

لقد أثر الإسلام كعقيدة تأثيرا هائلا في توحيد الناس ، وبقي الالتزام به كموجه للمقاتل هو السائد في كل تلك المرحلة ، وان كانت الشؤون التنظيمية للجيش تعود في بنيتها العامة للقبائل ، والتي كان لها مقاتلوها قبل الإسلام وكان لهم تدريبهم و طرق تعبئتهم واستنفارهم الخاصة والملائمة لوضع تغيب فيه السلطة المركزية للدولة ..

فعندما كانت تدخل قبيلة في الإسلام ، فان تشكيلها العسكري يدخل معها ، ويكون في حالة جاهزية كاملة وقت المعركة ، وغالبا ما يبقى التشكيل على حاله ، وتكون مهمة الخليفة ، تعيين القيادات لتلك التشكيلات و أحيانا تكون قيادات التشكيلات من نفس أبناء القبيلة صاحبة التشكيل ، كما أن الخليفة هو من يقوم بإعطاء إشارة التحرك العسكري ، ويقوم بتوزيع الغنائم ، وفق الشرع .

وقد برز مصطلح (عسكر) وهو لغويا (دون الخوض بالتفاصيل) الكثرة من الشيء المتجمعة ، فيقال العسكران عن منى وعرفة ، حيث يتجمع الحجيج فيهما . وهو في موضوعنا يعني الرجال الذين ينخرطون في الخدمة لقاء أجر من بيت مال المسلمين ، ويمتهنوا الخدمة العسكرية ، مفرقينهم بذلك عن (الجند) حيث يؤدي الرجال دورهم في القتال في معركة و بعد انتهاءها يعودون لبيوتهم وزراعتهم ، وكانوا يأخذون لقاء عملهم مما كسب من الغنائم .

وقد يكون الوصف الحركي للجيوش وتشكيلاتها التي كانت تحدث على هامش التصنيف القبلي هو وراء تلك التسمية ، فعندما كانت تقيم تلك القوات مع عائلاتها . ففي البصرة حيث أقامت تشكيلات قبائل الأزد و تميم وبكر و عبد قيس وعالية ، وكان لكل قبيلة معسكرها الخاص . وقد حدث هذا في كل (الأمصار) المفتوحة ..

وبعد سقوط الدولة الأموية ، تهاوت الحالة العسكرية بصبغتها العربية بشكل دراماتيكي سريع ، ومهدت للمرحلة الثانية ، التي كان فيها دور العساكر غير العربية في بناء الدولة وإرادتها ، واضحا و مؤثرا ..

ابن حوران 13-12-2005 03:39 AM

الأعمدة

(2)

العسكر : هل يصلحون أن يكونوا عمودا في العصر الحديث ؟


المرحلة الثانية : مرحلة الازدهار .. وتعدد ولاء الجيوش

اذا كانت المرحلة الأولى دشنت قواعد دولة قوية ذات إرادة مركزية ، مهدت لإطلاق إبداعات المبدعين في المرحلة التي تليها ، فان المرحلة التي تلتها والتي امتدت من بدء العهد العباسي الى نهاية عهد الخليفة العباسي العاشر (المتوكل) والتي أطلق عليها عصور الازدهار ، فانها شهدت من جانب آخر تهديد تلك الإرادة المركزية ، وأسست لتجزئة سلسة لا زالت آثارها قائمة حتى اليوم .

فبعكس المرحلة الأولى ، كانت الجيوش في الأطراف تتبع إرادة حكام محليين كانوا يكلفونها بتصليب أوضاعهم المستقلة و أحيانا التطاول على أصقاع الدولة المركزية وقضمها شبرا بعد شبر .

ومع ذلك كان كل من حكام تلك المناطق الانفصالية ، يدعي بأنه يصون وحدة أراضي الدولة المركزية ، ويذود عن حماها ، وهو بالحقيقة ، كان يتحين الفرص ليحظى بالانفراد بالإيحاء للخليفة (المركزي) لتحسين وضع ملكه وسلطاته ولم يشبع هؤلاء حتى لو قاموا بدور الخليفة نفسه من وراء ستار .

ولتعدد أعراق الجيوش ، التي تزامنت مع تداخل تشكيل دول أو دويلات كثيرة ، بدءا من دولة الأغالبة في تونس والأدارسة في المغرب و ودولة بني سامان ودولة بني صفار (في فارس و خراسان ) ودولة اليعافرة في اليمن ، ومن ثم دولة الغزنويين في افغانستان و التسارع الشديد بعد ذلك في تكوين كميات هائلة من الدويلات ( العقيليين في الموصل ) والحمدانيين في حلب ، الطولونيون والأخاشدة والمهديين والفاطميين والبويهيين والزنكيين الخ من تلك الدويلات وجيوشها التي حمتها .

ان تكوين تلك الجيوش ، قد أحدث تصور لحدود الدولة القطرية ، التي كانت تمثل في كثير من الأحيان ولا زالت ، خطا لحماية القطر الذي يطمع به حاكم تلك المساحة و جيشه ، وقد كون هذا التسلسل ذاكرة سياسية جغرافية لسكان تلك البلاد ، فلا عجبا ان تجد اليوم من يدافع عن تلك القطرية ، لأنه يعجز بالبحث عن بقعة في تلك الذاكرة تجعله يحس بمشاعر وحدوية مع أشقاءه في الأقطار الأخرى ..

ان بداية هذا المسلسل ، تم تجيير فعلها لمصلحة (العسكر) الذين كرسوا تلك القطرية منطلقين من مصلحة صاحب الغاية الانفصالية . وقبل ذلك كانت صفقات الانفصال تتم على هامش مقايضة الفعل العسكري باقتطاع ملك لمن يقدم تلك هذا الفعل ، فكانت صفقة ابراهيم ابن الأغلب بإعطاءه تونس له ولأبناءه من بعده لقاء إسكات الأدارسة في المغرب ، وكانت صفقة بني صفار في ايران لقاء وقوفهم مع المأمون في صراعه مع أخيه الأمين .. وهكذا تم مع عبد الرحيم بن يعفر في اليمن .

ابن حوران 14-12-2005 03:53 AM

المرحلة الثالثة : مرحلة الحاميات الثابتة

يمكن القول أن هذا الشكل من الأداء والتنظيم العسكري قد بدأ في عهد المماليك ، حيث كان يقتطع لهم أو يقطعون لأنفسهم مساحات ، تقام فيها الحاميات الثابتة ، وتغلق تلك الحاميات على من في داخلها ، لا يسمح حسب هذا النموذج الاختلاط بالحياة المدنية بشكل واسع .

ثم تطورت تلك الحالة عند العثمانيين ، لتصبح تلك الحاميات مدارس متخصصة في زرع العقيدة العسكرية والولاء المطلق لقيادة العسكر ، وقد أتاح هذا النمط من زيادة التدريب واحتراف فنون القتال ، بشكل يتفوق على غيرهم من الجيوش ، وهذا كان من أحد أسباب تحقيق الانتصارات المتتالية للعثمانيين .

وقد ظهر تنظيم الانكشارية الذي كان يعزل أطفال البلاد ذات الديانة المسيحية عن أهلهم وتربيتهم تربية عسكرية شديدة ، بعد العمل على تعليمهم الاسلام ، وكان هؤلاء الانكشاريون لا يقيمون أصلا في حاميات قريبة من أوطانهم التي أخذوا منها طوعا او قسرا .. ومع الزمن تتصلب أحاسيسهم و يصبحون أشبه باللاعبين المحترفين .

كانت تلك الحاميات تابعة إداريا للسلطان مباشرة ، فيعين قياداتها و يفوض الولاة في الولايات إدارتها أو التنسيق مع قياداتها في ضبط الأمن والحدود .

لم يكن في قيادة تلك الحاميات أي عنصر غير تركي ، ولكن كان فيها من الجند والعسكر ، والذين كانوا يوضعون في مناطق نائية عن بلادهم .. وكان عندما يجند العربي مثلا ويؤخذ للخدمة ، فن رحلة نحو المجهول قد بدأت .. وغالبا ما تنتهي بالموت .

استمر استبعاد العناصر غير التركية ، في قيادة ، وحتى في رتب الضباط ، في تلك الحاميات لغاية القرن التاسع عشر عندما كثرت القلاقل في أطراف الامبراطورية ، فتم ترقية أو إناطة مسؤوليات الضباط الى قسم من أبناء العرب والذين كانوا يبعدوا أيضا عن أوطانهم فابن العراق يخدم بالمغرب وابن الشام يخدم بالبلقان ، وابن المغرب يخدم بالشام وهكذا .

وقد أدخل قسم من هؤلاء الضباط الى دورات متقدمة كان يحضر لها مدربون من بروسيا و فرنسا ، وتقدموا في رتب الجيش ، حتى بدأت تنشط حركات قومية تركية ، تدعو الى تتريك الامبراطورية هي و أطرافها ، فنشأ عند هؤلاء الضباط العرب هواجس قومية مضادة ، وأخذوا يفكرون بتنظيمات ذات طابع قومي ، إضافة لمطالبتهم بتغيير سياسة الخدمة خارج أوطانهم

ابن حوران 16-12-2005 08:09 AM

المرحلة الرابعة : مرحلة الاستعمار الأوروبي

اختلفت تلك المرحلة عن سابقاتها بالتركيز على الأقليات الإثنية ، ببناء جيوش عربية ، قياداتها من أبناء الأقليات ، وذلك لحصر ولائهم بالمستعمرين ، دون أن تنازعهم على هذا الولاء ارتباطات هؤلاء النخب مع قبائلهم وشبكة علاقات تلك القبائل مع بعضها ، مما كان يصنع هاجسا كبيرا عند المستعمرين .

ومن هذا المنطلق انخرط في الجيش الذي بني تحت أعين المحتلين في العراق ، أبناء الأقلية الكردية والآشورية ، وفي سوريا العلويين والدروز والأرمن ، وفي لبنان الموارنة وهكذا ، وقد أسهمت تلك السياسات في زرع بذرة توكيد الذات الإثنية لدى تلك الأقليات التي انتقلت من الظل الى دائرة الأضواء ، فأخذت تطور من محاولاتها في تعميق دورها السيادي ، فكانت طلائع الأحزاب الشيوعية من هؤلاء الفئات ، ومنافذ الدخول لإحداث قلاقل داخل البلاد العربية من خلال تلك الفئات التي خرجت عن مواضعة تعايشها القديم مع الأكثرية العربية ، لتمارس دورا بالوكالة عن القوى التي كانت تنوي زعزعة الاستقرار في تلك البلاد .

وبعد بوادر الاستقلال الاسمي ، أخذت العائلات الميسورة وذات النفوذ ، زج أبناءها بالجيش لتتقاسم مع تلك الأقليات النفوذ العسكري ، ولتصنع حالة من التعايش السيادي غير الثابت في معظم البلدان العربية .

وبعد الاستقلال وانشغال الدول في معارك الاستقلال ، وفيما بعد حروب داخلية كحالة العراق مع الأكراد ، أو في حالات الحروب الخارجية ، كالتي كانت مع الكيان الصهيوني ، و ما شملها من حالات تعبئة غير جادة ، كل ذلك جعل من المؤسسات العسكرية ، لوجود حالة التوتر الدائم تلتهم حوالي ثلثي ميزانيات الدول العربية .

وهذا أوجد حالات تكدس التقنيات و الأموال في المؤسسات العسكرية ، فتهافت أبناء الأرياف و البادية للانخراط بالجيش ، طمعا بدخل ثابت ومتفوق نوعا عن غيره من مصادر الرزق .. وفي كل مرحلة اهتزاز أمن السلطات الحاكمة يجري تغيير في رأس المتنفذين في القوات المسلحة ، والتي كان يحرص رأس الحكم على ضمان ولائها ..

من هنا نكتشف أن المؤسسة العسكرية أسهمت في بقاء حدود الدولة القطرية ، لطابع الاستقلال النزق والذي بقي ولا زال ، من مفاصل قياداته المحترفة ، ممن تربى في مدارس المحتلين و أرضعوا وربوا ممن أفتتن بهم على هذا النهج القطري .. فأصبحت قيادات الأمن والاستخبارات بيد الأقلية غير العربية في كثير من الدول ، مما أبقى القنوات مفتوحة مع الأجنبي ، والذي كان يضع تلك الشخصيات كثوابت في نظم تعاونه ورضاه عن الكثير من الأنظمة العربية .

وبالمقابل فان الصراع الذي قام بين المنخرطين من أبناء الريف ، والحرس القديم ممن تناسل من السلالات الأولى لقيادات الجيوش العربية ، بقي قائما فيأخذ طابع الانقلاب العسكري في أكثر من قطر عربي ، حتى كنت ترى أن أكثر رؤساء الدول العربية منذ الأربعينات وحتى اليوم ، تقترن برتبة عسكرية السيد الرئيس العقيد او الرائد او الفريق او اللواء او المشير الخ .

ان هذا الوضع الذي لا زالت آثاره واضحة حتى اليوم ، كان على صلة كبيرة جدا بما رافقه من طابع اقتصادي وثقافي و صناعي وزراعي متأثرا بالحالة الإيبستمولوجية العسكرية وهذا ما سنمر عليه في حديثنا القادم .

اثيل 16-12-2005 09:59 AM

كيفَ الرشادُ إذا ما كنتَ فـي نَفَـر........ٍلهُمْ عنِ الرشْـدِ أَغْـلالٌ وأَقيـادُ؟
أَعطَوْا غُواتَهَـمُ جَهْـلاً مَقادَتَهُـمْ..........فكلهُـمْ فـي حبـالِ الغَـي مُنْقـادُ

اخواني المسلمين والعرب
همومكم حقيقية واحوالكم متردية ومشاكلكم واموركم غير مقضية , اليس كذلك!!!!!!!!!
فما حال العراق ؟؟؟؟؟؟؟ اذا كانت هذه همومكم , فماهي هموم العراق؟ حكامهم مرتزقة ومواليهم صهاينة . اعاننا الله عليهم , هل تعلمون ان اول يوم دخلوا فيه الامريكان الى العراق , قاموا باستدعاء امين مكتبة بابل التي تحوي على مخطوطات يدوية نادرة يمكن الرجوع اليها والاستناد اليها من تزوير التاريخ .
ماذا تعلم عن الاحتلال الامريكي ؟ وماذا تعلم عن سرقاته واعماله ؟ ماذا تعلم عن المرشحين (العراقيين!!!) ؟ ماذا تعلم عن سرقاتهم؟
لدينا الكثير ولدينا الادلة ولكن (لاحياة لمن تنادي)

ابن حوران 17-12-2005 05:01 AM

أثر العسكر في تردي أوضاع العرب :

برز دور العسكر في العصر الحديث ، خلال قرن من الزمان متوافقا مع مجموعة من العوامل التي جعلت من العسكر أقرب الى أن يكونوا العامل الأهم في تردي أوضاع العرب :

1 ـ لقد تزامن ظهورهم كقوة ، متحالفين بالسر مع قوى أرستقراطية ، التقت معهم بالصلة مع المستعمر القديم ولو بتنسيق خارجي نظمته أجهزة المستعمر القديم . لقد تزامن ذلك مع الاستقلال الشكلي الذي حصل مع خروج المستعمر ، دون نصر واضح الا في حالات محدودة في مصر والجزائر و السودان واليمن ، وحالات أقل وضوحا في العراق وسوريا و ليبيا ، وحالات لا تكاد ترى في باقي الدول العربية .. هذا في مرحلة إعلان الاستقلال .

كل هذا جعل تلك القوى تتصرف ، وكأنها لها أحقية حصر وكالة سلعة ما في الاستيراد والبيع و إعادة التفويض .

2 ـ لقد أوجد هذا الشكل من القوى الراهنة مزاجا ، تم التعايش والتعامل معه من قبل أبناء الشعب بلين واعتراف ضمني ، بالسكوت اللامحدود عن حالات التصرف بأموال البلاد ، تحت ذرائع الدواعي الأمنية ، خصوصا بعدما علا الضجيج بالاستعداد للمعركة الحاسمة مع الكيان الصهيوني والتي انتهت حتى إدعاءات قيامها يوما عند هؤلاء .

3 ـ بالمقابل فان القوى التي نبتت في رحم الشعب وتسللت الى أعماق الجيش أو الجيوش العربية ، وتأثرت أو تبنت طرح فكر عقائدي تكون هنا وهناك ، واستطاعت بالتالي انتزاع السيادة من الحرس القديم . ان تلك استلهمت أسلوب تعامل الحرس القديم مع شؤون الدولة ، لا بل وتعاملت مع الوحي الذي كان يلهم الحرس القديم ، في كثير من النماذج .

4 ـ ان الشكلين ، الحرس القديم و أضداده ، قد أسقطوا رؤاهم على كافة مناحي الحياة المدنية ، بل وكان في كثير من الأحيان بعد أن يتعبوا من الحياة العسكرية ، التي غالبا ما كانت تقتصر على الزي العسكري باللباس فقط ، فانهم يتحولون الى الوزارات ، لا لحل مشاكل الوزارات بهم ، بل لحل إشكالية مستقبلهم بوضعهم بتلك الوزارات ..وكان في أحيان أخرى يتزعموا أحزابا ويطوعوا أجهزتها وسياساتها بما يخدم و ضعهم وأهدافهم .

5 ـ لقد تعامل هؤلاء مع وزارات ومنشئات الدولة العربية ، كإقطاعيات بشكل جديد تنمى من خلاله ثرواتهم من خلال العقود والعقود بالباطن ، والتي بنوا من خلالها شبكة حماية من المنتفعين توزعت بربوع البلاد لتبقي الغلبة للنظام ومن يستفيد منه .

6 ـ ان صفقات الأسلحة ، التي كانت تدخل البلدان العربية ، وهي من الدرجة الثانية أو الثالثة ، ولا تفرق هنا مدى درجتها ، طالما ان استخدامها كان محصورا ، في استتباب الأمن ( أمن النظام ، وليس البلاد ) . ان ذلك جعل لتلك القوى حماة خارجيين ، يعتبرونهم كنزا لا ينضب ، اذ من خلالهم يصرفون بقايا سلاحهم الذي لم يعد ذو أهمية استراتيجية لبلادهم ، ولولا جيوش المغفلين أو لصوص البلاد العربية ، لصهرت تلك الدول المتقدمة سلاحها الذي صدرته لنا وتعاملت معه كمواد خام !

7 ـ ان هناك جيوشا خفية مدنية ، تنسق مع القوى الراهنة العسكرية وتحتمي بمن تحتمي بها الأخيرة ، مهمتها تعطيل تطور البلاد مدنيا ، ونموذج (سعيد مالك العلي ) وزير الري العراقي كان نموذجا ذكيا اذ استطاع ان يكون وزيرا منذ أيام العهد الملكي ، الى أن أعدم في السبعينات ، بعدما انكشف أمره في تعطيل إنشاء سد الموصل .

8 ـ لذلك كله ، تكالبت القوى الخارجية و الداخلية المستفيدة ، من خلال ما تبقى من الحرس ( العسكري ) القديم و حلفاءه المدنيين ، في كبح أي محاولة لتطوير التصنيع العسكري في أي بلد عربي .. ونموذج العراق واضح .

ابن حوران 18-12-2005 05:22 AM

هل لا زالت فرص العسكر في الحكم باقية ؟

اذا كانت الأجواء التي سادت مطلع القرن الماضي ، تسمح بصعود نجم العسكر وتسلمهم مقاليد الحكم في البلاد العربية وتفويض أنفسهم بالتصرف بأموال البلاد ورسم استراتيجياتها في كل المناحي ، مستغلين بذلك حالة عدم الإحساس بضرورة الدولة التي استمرت لقرون طويلة قبل صعود نجمهم ، وتواضع طلبات المواطنين الحياتية التي كانوا يقضونها بأنفسهم ، وجهل المواطنين بحقوقهم ، وعدم معرفتهم بأهمية حراكهم ، فان الوقت الحاضر اختلف تماما .

لقد تعاقب على الذاكرة الجماعية لأبناء الأمة العربية ، أشكال كثيرة من أصناف الحكم ، وكانت الصفة العامة للحكام لا تبتعد كثيرا عن صورة النعمان ابن المنذر الذي كان له يوم سعد ويوم نحس ، فحالة التسليم القدري لأهواء الحاكم بنحسه وسعده ، هي السائدة ، حتى تغلغلت في قصصهم و آدابهم و سلوكهم .

ولكن بعد أن تعرف المواطن على الصور التي يمكن أن تتحقق من حراكه اذا تحرك ، فلن يبقى أمامه مستحيلا ، لا يمكن الوصول اليه . وعندما يستعرض المواطن العربي عينات قوة أمته وانتصاراتها ، فانه يجدها حيث يسود العدل ويقل الفساد ، ويلتحم الشعب مع قياداته . وبعد أن تكررت إرهاصاته وجرح كرامته وابتعدت عنه أسباب الحياة الآمنة ، كان لا بد أن يتفحص الدارة الكهربائية لسيارته متتبعا إياها في كل وصلة .

حقا أن الجيوش لا يمكن الاستغناء عنها في الذود عن حدود البلاد وثرواتها ، وحقا انه لا فائدة من كنز الكنوز و جمع الثروات و تحقيق الازدهار اذا ما كان هناك من يتربص بالبلاد سوءا ، وهذا الأمر يبقى ماثلا طالما هناك حياة .

فالاهتمام بالجيش وتسليحه وتنقيته من الجواسيس والمفسدين ، لا يقل أهمية عن تشجيع العلم و تسجيل براءات الاختراع و تأمين العمل والسكن والصحة العامة للمواطنين . لكن دون التركيز على إناطة هذا الأمر للقيادات العسكرية ، التي تسقط وضعها الكامل على الحياة المدنية مما يفسد الحالتين معا ، العسكرية والمدنية .

ان تحقيق مسألة التوازن تلك يتأتى فقط عندما تتحقق شرعية كاملة للحكم ، ولن تبقى أي إشكالية حول تلك الشرعية ، فانها لوبقيت هناك إشكالية ، فانه كما يهمس بها المواطن فان الحكم يدركها ، مما يدفعه الى التوجه للمبالغة في كسب ود الجيش وما حوله من أجهزة أمن ومخابرات وغيرها ، مما يصنع أسس الفساد والتفرقة و إطلاق أيدي تلك الأجهزة لتكيف نشاطاتها ، من خلال التفويض الذي أعطي لها ، لعمل توازن بين مصالحها و مصالح من فوضها .

ان المواطنين ، يدركوا ذلك جيدا ، وان كانت تخونهم قدرتهم على التعبير ، التي تتحالف مع فرص إبقائهم ساكتين ، فانهم يتكيفوا مع تلك الظروف ، من خلال الهجرة من الوطن أو التزلف للحكم أو العيش مع احتقاناتهم لتنفجر بأي لحظة ، باتجاهات لن تكون محمودة في أغلب الأوقات ، لوجود من يتنبأ بتلك الانفجارات أو يعمل على توقيتها مستغلا إياها أسوأ استغلال .

ان سلسلة الانقلابات التي حدثت في كثير من الأقطار العربية ، ذهب ضحيتها قادة عسكريون ، لهم شأنهم ، كما ذهب ضحيتها ساسة و أناس قد يكون توفيرهم ، هو لصالح الوطن ، كما قد يكون ذهب بها أيضا أناس لا اعتبار لهم ، لكن كان يمكن اختصار كل تلك التضحيات لو تم تأسيس علاقة ، بين مراكز القوة في البلاد و جعل السيد سيدا في محيطه و اختصاصه ، ضمن سيادة عليا لهيبة الدولة ، ترسى دعائمها ، وتوزع الأدوار بها ، بالفطنة والتجربة والتطوير المستمر .

ابن حوران 19-12-2005 07:02 AM

الأعمــدة :

المرجعية الدينية :


في أوقات كثيرة يتجنب نوع من المثقفين العرب ، التطرق للحديث بمواضيع الدين ، وان كان الكثير منهم من يلتزم بواجباته الدينية من عبادات و حسن سلوك والتزام وتحيز للإيمان ضد الكفر ، وغيرها من العلامات التي لا يصنفوا من خلالها الا مع الجانب الذي ضد الإلحاد ، أو في بعض الأحيان يعتبرون من خيرة الناس إيمانا بالله عز وجل و الالتزام بأوامره .

لكن ما يجعلهم يأخذون موقف عدم الخوض بهذا المجال من الحديث ، ينبع من عدم إلمامهم بعلوم الفقه والشريعة والاجتهادات التي حصلت بها خلال القرون الطويلة ، مما يجعلهم في موقف أضعف بالحوار بهذا المجال الواسع والمتشعب ، وبنفس الوقت قد يضعهم في جانب و كأنهم من المشككين في مسائل ، تجعلهم بنظر القراء في خانة أعداء الدين ، وتجعل من يرد عليهم ، وكأنهم حماة للدين نصبتهم انتصاراتهم في الحوار غير المتكافئ معرفيا .

ان المساجلات التي تمت بهذا المنحى من النشاط الفكري ، بالرد والرد على الرد ، لم تترك قيمة مهمة في مساعدة الباحثين عن مسالك الخلاص للأمة ، بل زادت في تشويش الباحثين ، وتمزيق تركيز الجماهير ، التي تنتظر مخلصين من أي صنف يخرجها مما هي فيه من بؤس ، و ما تلبث ان تصطف وراء الدعاة للعودة الى الدين . مما يجعل هؤلاء الدعاة يزهون بالحجم الأكبر من تأييد الناس حولهم ، ولكن بالواقع ان التفاف الناس حول هؤلاء مرده هو :
1ـ انهم استفادوا ثقافيا ، بأن كل ما كتب في تاريخ المسلمين ، يجيرونه لهم على أنهم امتداد طبيعي له ، وهم ينفردون بهذا الجانب عن غيرهم .

2 ـ انهم استفادوا تعبويا ، بأنهم يستغلون المساجد والمآتم والمناسبات الدينية للتعريف برموزهم و تأكيد مسألة ارتباطهم بجذور الأمة بقوتها ، فيتعرف عليهم الناس بخطاب يلتقي مع ما في نفوس الناس . في حين تغلق الأبواب من قبل الدولة العربية أمام غيرهم من التيارات ، والتي تسهم هذه الحركات الدعائية الدينية في تشويه صورتها أمام الجماهير ، متحالفة بذلك مع الدولة العربية !

3ـ ان الذاكرة القريبة ، خلال قرن مثلا ، لا تسجل أي تقصير على تلك الحركات ، كونها لم تمارس الحكم ، بل صنفت على أنها حركات معارضة كل تلك المدة ، مما عفا ذلك تلك الحركات من أخطاء الحكم ، وجعل الناس يدربون أنفسهم على التطلع لحصول هؤلاء على الحكم .

4 ـ من يتفحص سلوك تلك الحركات ، يجد تناقضا مع ما تطرح ، لا من خلال مهادنتها بعض الأنظمة العربية التي لا تخفي ولا تنكر علاقاتها مع أعداء الأمة ، بل تذهب أكثر من ذلك في تسلم مهام حكومية وإحالة عطاءات الدولة لها ، بالمقاولات وغيرها .. وهذا النموذج ماثل في ثلاثة أقطار عربية بوضوح .

5 ـ ان هناك من تلك الأشكال الداعية للعودة للدين ، من يتعامل مع الأعداء بوضوح ، ومن خلال أكثر من طائفة دينية ، وهذا النموذج ماثل الآن في العراق وسبقه في أقطار أخرى .

6 ـ هناك من تلك الحركات ما يدعو لعودة الخلافة الاسلامية ، منذ أكثر من ستين عاما ، ويعتمد على مركز نشاطه في دول أجنبية ، لم يسجل في تاريخ تكوينه أي عملية فدائية ، ولم يشترك في أشكال المقاومة في الأقطار التي تستدعي المقاومة ، ولم يستشهد لها عضو واحد .

لهذا وغيره من الأسباب ، رأينا ـ وعلى تردد ـ ان نلقي الضوء على هذا الجانب الهام ، وتفحص وضع صلاحيته أن يكون عمودا في البيت ..

ابن حوران 20-12-2005 07:01 AM

ما هي المرجعية الدينية التي نقصد ؟


ونحن بصدد مناقشة أعمدة البيت ، وهي هنا ذات كناية سياسية بحتة . فلن نهتم بالدرجة الأولى الا الى الإشارة لعلاقة الدين بالدولة ، وهو ما يهمنا بهذا الصدد ، كونه بالوقت الحاضر يأخذ شأوا كبيرا في طرح الكثير من الناشطين سياسيا في مجال التبشير باعتماد الدين ، منحى يأخذ المعطى الأولي .

أما المرجعية الدينية بمفهومها العملي ، فان جذورها تمتد عميقا الى ما بعد وفاة نبي الله ( إدريس ) عليه السلام ، حيث عاش مدة طويلة يعلم الناس تعاليم الله عز وجل ، إضافة الى تعليمهم شؤون الحياة كاملة من فن الخياطة والنجارة والطب وكافة ما يفيدهم في حياتهم . فاحتل بنفوس الناس مكانة إضافية فوق مكانته كرسول من عند الله ، وعندما توفي ، فقد الناس شخصا استثنائيا ، حتى اختلفوا في نشأته وتكوينه ، فمنهم من قال انه ليس بشرا بل ملكا من ملائكة الله ومنهم من قال انه الله نفسه ، وأخيرا خرج لديهم رأي توفيقي ، بأنه وكيل الله في الأرض ، ورفعه الله اليه ليتمثل بنجم أو كوكب ، فبرزت عبادة الكواكب ، والتي كانت الغيوم والنهار يمنع رؤيتها فأقيمت له تماثيل و أصنام الخ .

وقد أخذت تلك الهالة والاختلاف حول (إدريس ) عليه السلام ، والذي أطلقت عليه بقية الشعوب غير العربية ، اسم (هرمس) تتمثل بتنصيب وكيل ، حتى بعد ان بعد أثر (هرمس) مع طول الوقت ، و بعث الرسل من بعده ، فقد برز باسم (البابا) في الديانة المسيحية ، بمختلف طوائفها ، وبرز باسم (الحاخام الأكبر) عند الديانة اليهودية قبل ذلك ، كما برز عند بعض الطوائف الاسلامية ، التي اعتنقت الاسلام من شعوب الهضبة الايرانية ، بمسميات مختلفة ، (آية الله ) أو المرجع الفلاني .. وهي استعاضة واضحة بجذورها الهرمسية .

أما عند أهل السنة المسلمين ، والذين لم ينظروا الى الرسل الا كمبلغين لرسالات الله عز وجل ، فلم يكن الله يحتاج لوسيط بينه وبين العبد ، فلم تظهر تلك المهمة الا في أشكال محدودة ، كما ظهر عند شيخ الأزهر ، ذلك المسجد الذي أسسه أهل الشيعة و أعطوه وظيفة تختلف عن وظائف المساجد عند أهل السنة ، ولما أعيد الصلاة بهذا المسجد بعد توقف طويل ، عادت معها جذور مكانة الإمام ، ولو أن أثرها بقي محدودا على عموم أهل السنة .

ولولا محاولتنا صناعة مقتربات للتجسير لموضوعنا ، لما خضنا بتلك المسألة ، ولكن أصل النظرة تجاه موقف الدين من الدولة ، ينبع عند أهل السنة ، بفحص موقف الصحابة رضوان الله عليهم ، واتخاذ مواقفهم بما فيها ما تم الاختلاف عليه و رجوح آخر الآراء ، كمرجعية تاريخية ، يقاس عليها في اتخاذ المواقف من مسألة الدولة .

ابن حوران 23-12-2005 09:16 AM

صحوة إسلامية :

كثير ما يحب بعض الكتاب ان يطلقوا على ، سعة الأشكال المطالبة بعودة الدين الى الصدارة ، والى أن يأخذ دوره الأول في إدارة شؤون الدولة ، بالصحوة الاسلامية ، و في اعتقادي انهم أحبوا استخدام هذا المصطلح ، لأنه يشير الى حالة انتباه ، يعتقدها البعض انها جاءت بعد غفلة ونوم طويلين .. وهم يستعينوا بهذا التشبيه بما حدث لأهل الكهف !

ان مصطلح كهذا ( صحوة) قد لا يصلح في هذا المقام ، لأن الصحوة التي تلي النوم مباشرة ، تتبع بحركة طبيعية اعتيادية ، تتماشى مع مدة النوم الطبيعية ، لعدة ساعات ، وهي بالتالي لن تقوم بتغيير رأسي ونوعي للعمل الذي سبق النوم اليومي الاعتيادي .

واذا أصر الذين يستخدمون هذا المصطلح للتشبيه بما حدث لأهل الكهف ، نوم طويل ، فانه سيكون من الخطأ ، اتباعه بمصطلح السلفية ، والذي يعني فيما يعني تنقية ، السلوك الديني من البدع ، والعودة للتمسك بما سار عليه السلف الصالح في مرحلة ازدهار الدولة الإسلامية الأولى ، والتي تصل الى الثلث الأول من العهد العباسي .

لكننا رأينا كيف أن أهل الكهف ، الذين انقطعوا عن الحياة الاعتيادية ، زهاء ثلاثمائة عام ، كيف حاروا في تدبير أمرهم ، وكيف كانوا مميزين او استثنائيين عن بقية الناس الذين ، سرعان ما اكتشفوا أمرهم . وهذا ما يدعو للتأمل في حالة الاستعاضة تلك ، التي نحن بصددها .

هذا اذا سلمنا بأن حالة الانقطاع عن الدين قد طالت مدة مساوية ، لما حدث لأهل الكهف .. ولكن في الحقيقة ، لم يلحظ أي متفحص لمسار تاريخ الأمة الاسلامية ، وليست العربية فقط ، بمثل هذا الانقطاع ، واذا استثنينا ما حدث لأهل الأندلس ، من حملات إبادة وتنصير إجباري ، فان عهد الأمة بدينها قد بقي ثابتا ، بل ويتصلب كلما استفز من قوة خارجة ، فلم يستطع السوفييت إخفاء أثر المسلمين في جمهوريات تتارستان وبشكيريا و داغستان و أنجوش والشيشان ، كما لم تستطيع قوى لادينية أخرى إخفاء أثر الدين في كل من مقدونيا وألبانيا والبوسنة والهرسك الخ .

أما في العهود القديمة ، فان غزاة كالتتار (المغول) سرعان ما اعتنقوا الديانة الاسلامية ، وهكذا فعل غيرهم وكاد أن يفعله نابليون بونابرت .

إذن فالتواصل الديني ، ليس هو ما فقدناه ، بل فقدنا القدرة على اكتشاف منهج في إدارة دولتنا . وان قال أحدهم ان الاسلام دين ودولة ، فنقول نعم انه دين ودولة ، لكننا في معظم نقاشاتنا الاسلامية والدينية ، لم ننصف الدولة بوجهة نظر واضحة المعالم تؤسس لحالة إجرائية ، بل امتلأ الخطاب بالمواعظ والتحذيرات و تذكر ما نود تذكره عن أسلافنا ، ورمي ما قد يكون فيه مثيرات الانتباه التي تدلنا على صنع حالة توافق بين الدين والدولة .

ابن حوران 25-12-2005 04:02 AM

لم يكن بالضرورة أن يحكم المسلمين من هو أكثرهم فقها بالدين :

عندما نناقش موضوع الدولة ، كبشر لا على التعيين ، فاننا ننظر لها من زاوية كونها مسألة تعني بتنظيم شؤون الناس الحياتية الدنيوية . وعندما نناقش الدولة من خلال كوننا ندين بدين الاسلام ، فاننا سنضع في نقاشنا عاملا جديدا ، وهو مدى تطابق القوانين والأوامر الصادرة عن الدولة ، مع شرع الله ، والنصوص الواردة في القرآن الكريم ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والكيفية التي تعامل بها الصحابة رضوان الله عليهم ، في العهد الراشدي ، كونهم المرجعية ، التي لا يكثر حولها الاختلاف .

ولو تفحصنا ، تاريخ الدولة الاسلامية ، أو الدول التي ظهرت ، أثناء فترة الخلافة ، والتي كانت كل منها تذود عن ثغور المسلمين ، وتطلق إبداع المبدعين في مختلف مناحي الفنون والعلوم و الفقه والسنة .

لكن لو رأينا كيفية وصول الذين كانوا يحكمون أو يتزعموا تلك الدول ، لما رأينا أي أثر للدين في إيصالهم للحكم ، بل كانوا يصلون للحكم ، إثر صراعات قبلية أو عصبية أو سياسية في أغلب الأحيان .

ولو تفحصنا أزمنة تواجد علماء الدين والفقه الإسلامي ، وتزامنها مع حكام الدول الإسلامية ، لوجدنا أن ليس هناك توافق مستمر ومودة مستمرة بين الحاكم وهؤلاء العلماء ، بل نجدها أحيانا تصل الى حد العداء ، كما حدث لابن حنبل ، وغيره من العلماء ..

ونحن من زاوية نزهو ونفتخر بإنجازات خليفة أو حاكم إسلامي من فتوحات وإشاعة أجواء المعرفة ، ونذكر مناقبه كأحد القادة السياسيين الذين أسهموا بقوة بترسيخ دعائم الدولة الاسلامية وحضارتها ، وبنفس الوقت نزهو ونفتخر دينيا بإنجازات أحد العلماء أو الأئمة الذي كان يعاصر ذاك الخليفة أو الحاكم ، وقد تعرض لعدم إنصاف من ذلك الخليفة او الحاكم !

ولو ناقشنا الكيفية التي كانت تنتقل بها الخلافة أو الحكم من واحد لآخر ، لما استطعنا تكييف أمرها وفقا للشرع ، بل نسكت عن تلك الكيفية والتي كانت الخلافات حولها في حينها من الدرجة بمكان الى ان آلت اليه الدولة الى مجموعات كثيرة من الدول أو الدويلات .

ان عظمة الإنجازات التي حققتها تلك الدول ، و ان كانت تدفعنا لتناسي الكيفية التي كان يتم بها تناقل السلطة ، فاننا اليوم و نحن نناقش أمرنا ، لا بد من أن نعترف أن الدولة كانت تتكون على هامش رؤى سياسية ، وليس على هامش رؤى دينية ، وكان الخلاف السياسي قد يحدث بين أكثر المسلمين ورعا وتقوى ، حتى لو كانوا من المبشرين بالجنة .

ابن حوران 27-12-2005 05:03 AM

الأوتاد :

لو سلمنا جدلا بمعقولية اعتبار ما ذكرناه من هيئات أو أشكال اجتماعية ، لتكون بمثابة أعمدة ، ونحن هنا ، ليس لنا خيارات متعددة ، للبحث عن غير ذلك . فان تلك الأعمدة وعلى افتراض تناسق أدوارها مع بعض ، وهذا ما سنتناوله لاحقا ، فانها بحاجة لأوتاد تحفظ وقوفها بشكل عمودي ، وتضمن ثبات انتصاب البيت ، وكلما كثرت الأوتاد فان الرياح لا تستطيع النيل من البيت ، حتى لو تغيرت اتجاهاتها كل ساعة .

فعمود الأحزاب المقترح ، سيسهل عملية رسم الخطط الإنمائية ، ضمن صياغة برامج يدعو لها من خلال هيئاته ، ويتوسم خيرا من التجمعات الإدارية (الأوتاد) في أن تترجمها . وعمود الأسر المتزعمة في أقاليم أو مناطق من الدولة (أي دولة) سيضمن حالة التذاوت (توكيد الذات) لفئات عريضة من المجتمع ، تحاول التعبير عن ذاتها الجماعية التي تعتد بها . وعمود العسكر ، يصنع إحساسا لدى ساكني البيت بالأمان . أما عمود الدين ، فانه يحفظ المنظومة الأخلاقية العامة التي تفلسف مكافحة الفساد والخوف من الله في حالة ظلم العباد .

ولكن قبل أن ندخل بتفصيل موضوع الأوتاد ، علينا أن نمر سريعا ، على مصطلح الديمقراطية ، لما له علاقة بوصف ما سيئول اليه حديثنا في النهاية ، أي الى أي الأنماط ينتمي الشكل الذي نحاول صياغة مسودته ، في المستقبل ، أي أين هو من الديمقراطية ؟

منذ محاولات مونتسكيو الأولى وجهد جان جاك روسو وفولتير ، وحتى الآن فان دعاة الديمقراطية ، يزعمون بأنها أسلوب ، يضمن تناقل السلطة بعدل بين المواطنين ويحقق إطلاق إبداعات المجتمع .. وهذا الانتقاء من أهداف الديمقراطية ، وان كان مقصودا ، فانه سيسهل علينا محاكمة الصيغ التي انتشرت في العالم ومدى مطابقتها لتلك المزاعم .

فلو سلمنا مع الشكل الإجرائي النهائي الذي سيوصل ، أفراد دون غيرهم الى السلطة ، وهو الاحتكام لدى صناديق الاقتراع ، فاننا سنلحظ على وجه السرعة بأن الشخوص الواصلة الى مجالس النواب ، ان لم يكن لها جذور قوية مدعمة من أهمية الذين يصلحون كأوتاد ، فان حظوظ تلك الشخوص بالوصول للبرلمان تكاد تكون معدومة ، حتى لو كان أصحابها علماء . فقوة المال وقوة الأسرة ودعم الهيئات الدينية ، أو الانطلاق من خلفية عسكرية ، شروط يستوجب وجودها لكي ينافس من ينافس على الوصول للبرلمان .

إذن لنعدل من صياغة مزاعم دعاة الديمقراطية ، ونقول انها أسلوب يضمن تناقل السلطة بعدالة بين القوى المؤثرة ( وليس المواطنين بشكل مطلق) .

أما الهدف الثاني الذي انتقيناه ، فهو قد يكون صحيح ، فهو يدعو لإطلاق الإبداعات العامة لدى عموم الشعب .. لكن وفق إرادة القوى المؤثرة أيضا . فان كان موضوع الخصخصة الذي يضر بمصالح الفقراء ، يخدم مصالح القوى المؤثرة فان قوانين الخصخصة ستمرر من خلال مجالس النواب ، رغم عدم رضا الشعب ، الذي يدرك ذلك ، وهو يعطي صوته للمرشحين !

عموما ، فان معالجة ذلك ستكون أوضح ، في مناقشات قادمة ، سواء كانت في الأوتاد أو حبال الشد للبيت ..

ابن حوران 29-12-2005 05:30 AM

اذا هبت الرياح .. فمن تتبع الأوتاد ؟

نعلم وظيفة الأوتاد بتثبيت البيت جيدا ، ونعلم ان الجزء المخفي منها داخل الأرض هو الأكبر ، في حين أن الجزء الظاهر ، هو فقط لعمل عقدة الربط لحبل الشد بين قمة العمود و الوتد .

لكن ان شاء مهندس البيت أن يجعل الأوتاد تنتسب للأعمدة ، أكثر مما تنتسب للأرض ، فان آثار الرياح العاتية ، ستؤثر على البيت كله ، بما فيه أعمدته إذا ما اتفق على جعل الأوتاد تظهر فوق الأرض متشامخة، ومنتسبة للأعمدة أكثر ما تنتسب الى الأرض .

نعم ، ان هناك دواعي ضخمة لوجود علاقة بين الأعمدة و الأوتاد ، وهي علاقة تكامل أدوار ، لا علاقة تنافر ، لكن اذا كان كثيرا ما يتم الاستعاضة بعمود عن آخر ، والبيت قائم ، فإنه عندما ترى أن الأعمدة زائلة ، ستزول معها الأوتاد فان هناك خلل كبير ، يعيق من تواصل واستمرارية بناء البيت .

النقابات أوتاد ، الجمعيات التعاونية أوتاد ، منتديات الثقافة أوتاد ، الجمعيات الخيرية و المنظمات التي تعني بهدف دراسي أو تعني بتكريس مثل وقيم ، أيضا تعتبر من الأوتاد ، الأندية الرياضية وغرف التجارة وغرف الصناعة والبلديات ، كلها أوتاد .. إنهم في العالم يطلقون عليها منظمات المجتمع المدني ، وقد لا يروق هذا المصطلح المستورد لكثير من أبناء أمتنا .

لن نغوص كثيرا في تفصيل كل واحدة من تلك المنظمات ، فكل واحدة منها تعتبر موضوعا ، يمكن كتابة عدة كتب عنه .. وذلك سيجعلنا نبتعد عن محور حديثنا ، ونصعب من متابعته .. لكننا سنتحدث عن ظروف نشأة تلك المنظمات والكيفية الأكثر فائدة للتعامل معها ، باعتبارها منظمات ذات ضرورة و وظيفة في آن واحد ..

نشأة منظمات المجتمع المدني :

عندما أخذ الانسان يتدرج بتحضره شيئا فشبئا ، فان هناك جماعات اصطناعية أخذت تظهر من رحم الجماعات الطبيعية ، فصنف من أبناء المهنة يعتبرون جماعة اصطناعية داخل قبيلتهم أو قريتهم أو وطنهم .

ان لغة وصحبة وتعاون وتنافر ، ستحدث بين أفراد تلك الجماعات المصطنعة ، فعندما يسهبون بالكلام في مهنتهم فان من يستمع اليهم لا يكاد يفهم الكثير مما يتحدثون به ، فمفردات الرعاة غير مفردات النجارين غير مفردات الأطباء ، وآلام و أحلام كل صنف من هؤلاء ، تختلف عن آلام و أحلام غيره . واذا اشتكى مهندس من العقبات التي تواجه مهنته ، فان من يستمع اليه من غير أبناء مهنته ، لن يتفاعل معه بنفس الحرارة التي يتعامل بها زميله .

ان هذا الوضع صنع منذ الأزمان الغابرة ، مجتمعات غير مرئية ، لا فواصل بينها و بين المجتمع الكلي الطبيعي ، لكن كان هناك اعتراف بوجودها ، فان رجوع الأفراد أو تذكرهم لقائمة طويلة من الأسماء التي تتشابه في مهنتها ولون تلك المهنة .. وهو تحديد واضح للاعتراف بها .

لن نكون مغالين ، اذا قلنا أن العرب بجذور حضارتهم المتوغلة في القدم ، كانوا أول سكان الأرض ممن أشار في قوانينه وتشريعاته لمكونات المجتمع المدني .. فشرائع حمورابي دالة كبرى .. و إحالة بناء الأهرام لجماعات متخصصة هو كذلك دالة ، وتفنن الفينيقيين بعلوم البحر والسفن ، هو دالة ، ومزاود دول كمنهو وقتبان وتمثيل كل المهن بتلك المزاود هو سبق تنظيمي وإداري واضحين .

لذا لم نعجب عندما كان هذا الرشح للإمتداد الحضاري ، يصل الى الدولة العباسية عندما كان لكل مهنة شيخ ، يرجع له في فض المشكلات بين المهنيين المتخاصمين .. كما استنبط القرامطة فكرة هي أقرب للنقابات في عصرنا الحديث وقد أسهم القرامطة بخلطهم الهدف السياسي مع المهني ، في إلهام الحركة الماسونية في صياغة أدبياتها .

وعندما قامت الثورة الصناعية ، في أوروبا ، لم تنطلق الدعوة لإنشاء النقابات من فراغ ، بل وجدت تراثا عميقا كانت بصمات حضارتنا واضحة كل الوضوح فيه ، وما عملوه فقط هو مواضعة وتكييف لما كان يستجد عندهم ، من أمور .. ولما حاول العرب نقل تلك التجربة أو تطبيقها من جديد ، فقدوا القدرة على تتبع فقهها في الدور والغاية .

ابن حوران 30-12-2005 09:56 AM

بين الموضوع و الادعاء والاستدعاء :

لا شك أن مؤسسات المجتمع المدني ، بمختلف أصنافها ، كانت ولا تزال تأتي كاستجابة شرطية ، لظرف ما ، تأثر به المتنادون في تشكيل مؤسستهم ، فعندما سحقت إنسانية عمال الخياطة في بريطانيا ، تشكلت أول نقابة في التاريخ الحديث عام 1747 م كاستجابة شرطية ، لدرء الأذى الذي تعرض لها عمال الخياطة هناك .

وعندما تتلوث منطقة بإشعاع نووي ، فان أهل المنطقة تتنادى لتشكيل تنظيم لها يتابع موضوع الخطر الذي يهدد المنطقة ، وهي استجابة شرطية عاقلة ، للتعبير بردة فعل متحضرة وملائمة ..

وان كان تشكيل المنظمات المدنية ، يأتي كوصفة طبية لمعالجة مرض ما ، فان تلك الوصفة ، قد لا تفيد مريض آخر في مكان آخر وبمرض آخر .

تماما كما أن نص الوصفة لا يمكن تناقلها ، فان أدبيات المؤسسات النقابية ، لا يمكن تناقلها كما هي بين سكان الأرض .. كما هي الحال بالنسبة للعرائض أو الاستدعاءات التي تقدم للدوائر ، فهي تختلف من مستدعي لآخر ومن دائرة لأخرى ، وان كان بالآونة الأخيرة ، ظهر كتاب الاستدعاء عند أبواب الدوائر الحكومية ، محتفظين بنماذج محددة ، متروك بها فراغات تعبأ حسب صاحب المشكلة . لكن تلك النماذج تختلف من دائرة لدائرة ، ومن كاتب الى آخر .. ومع ذلك ان تلك النماذج أصبحت أضعف من إعداد عريضة او استدعاء ، لكل مراجع .. ولكن كسل ( العرضحلجي) جعله يبدع في مثل هذا الابتكار .

لكن في جميع الأحوال فان ( العرضحلجي) أو كاتب الاستدعاءات ، يصبح لديه تخصص في صياغة العرائض .. ولا بد له مع ذلك من الاستماع لصاحب الشكوى لكي يتفنن هو بصياغتها ، ليقوم بالتأثير الوجداني على من تعنيه تلك العريضة ..

في حال تأسيس النقابات والجمعيات والهيئات العربية .. فقدت مسألة الموضوع والاستدعاء كثيرا من خصائصها .. فكاتب الاستدعاء كان من المثقفين الذين لا يرتبطون عضويا و صميميا مع من يستدعي من أجلهم ، فكانت صياغته باهتة في كثير من الأحيان ، ولا تعبر كثيرا عن واقع من تطوع للدفاع عنهم . بل صاغها على عاتقه ، كتقليد عالمي ، كوصفة طبية وقعت بيده فأعجب بها فأراد أن يهديها للعمال والفلاحين وغيرهم ، لكن بادعاء نسبها لنفسه .

المسألة الثانية ، فوق ان ليس هناك من كلفه في صياغة تلك العريضة ، وان كان هو قد قبض أجرتها على شكل مجد أو على شكل شهرة ، او من أجل هجرة موضعه من بين صفوف الكادحين ، ليخطو بتلك الوسيلة عن طريق إسكاته بتسليمه منصبا حكوميا او غيره . فوق ذلك كله فان من كتبت باسمه أو باسمهم العريضة ، أنهم لم يفهموا مفرداتها ، ولم يوقعوا عليها أو حتى يبصموا . وقد يكونوا لم يعلموا أصلا أن هناك من كتب مثل تلك العريضة .

في حالات نصوص العرائض ، يكون الشخص او الجهة المقدمة لها العريضة معروفة ، وتروس العريضة باسمها ، ويتبعها عنوان الشكوى او الطلب . فيقال مثلا السيد مدير الأحوال المدنية في ... أرجو التفضل بمنحي شهادة ميلاد او وفاة الخ .. لكن في حالة نصوص استدعاء تأسيس نقابة أو منظمة من منظمات المجتمع المدني .. فان العنوان يفهم فهما و لا يعلن عنه صراحة ..

فالجهة الأولى التي تبعث لها تلك العريضة ، التي تشبه الإنذار ، هي جماهير المهنة أو الجماعة التي يعنيها مضمون النص ، لكي ينبهها من مخاطر معينة ، تحيق بها ، فان لم تنتبه وتنتسب الى تلك المنظمة ، سيلحقها حيف من نوع معين وفي زمن معين .

أما الجهة الثانية ، فهي الدولة بكل مؤسساتها ، تعلمهم تلك الوثيقة ، بأن ينتبهوا فإن هناك مزاج خاص بالجماعة الفلانية ، آخذ بالتكون ، فلتراعي الدولة وهيئاتها المشرعة هذا المزاج ، ولتأخذ حذرها ، فلم تعد طريقها سالكة في تجاهل تلك الجماعة .

أما الجهة الثالثة ، فهي القوى الوطنية والمنظمات الأخرى ، التي تتهيأ لمناصرة هذا المولود الجديد ، والذي سيكون نصيرا جديدا لها في التعاون على الخروج مما فيه الأمة .

ابن حوران 04-01-2006 01:56 PM

لو علم الحكام أهمية المؤسسات الشعبية لاعتنوا بها جيدا

تتغلغل الهواجس الأمنية نفوس الحكام و أعوانهم ، فيغالوا في إحتياطاتهم ، بأن يصبحوا يشككون في أي تجمع ، حتى لو كان مأتما ، فتجلس العيون بين الذقون ، وتوحد ربها مع الموحدين ، وتشغل بقية الحواس لقنص أي خبر من أي نوع لترفعه لمن هو أعلى منها ، وتفرح اذا كان الصيد ثمينا !

هذا في المآتم ، أما في غيرها ، فان أي تجمع لا يهتف بحياة رب البيت ، هو تجمع مشكوك فيه ، وغير مرغوب فيه أصلا ، ولا يعطى إذنا من الحاكم الإداري الا بعد أن يأذن من يأذن ، لإقامة مثل هذا التجمع .

ماذا يريد الحاكم ومن حوله من وراء كل ذلك ؟ أظن أن الكل يعرف أن هذا السلوك هو أشبه بسلوك الأمريكان ، تحت عنوان الهجوم الاستباقي ، حيث يستشعر الحاكم خطورة أي تجمع ، في حالة تركه يأخذ مدياته القصوى ، أي أنه سيكون له صوت مسموع ، ويكشف أشياء لا يحب الحاكم أن تكشف ، وهي كلها تصب في لا مصلحة الفساد والمفسدين .

لكن ، هل يستفيد الحاكم فيما لو ترك تلك المنظمات ان تنمو نموا طبيعيا ؟

من المؤكد أن فائدته ، أكبر بكثير من وأدها في بداية نموها ، فهي تضمن للحاكم عدة مزايا لا تتحقق في حالة غيابها :

1 ـ لن يكون الحاكم مضطرا ، لغض النظر عن المفسدين ، الذين يقبضون ثمن قمعهم لتلك المنظمات ، وحماية الحاكم من شرور قد يكون مبالغ فيها . وهذا يقلل من مبررات هجوم المعارضة على نظام الحكم .

2 ـ ان التنظيمات النقابية والمدنية الأخرى ، تدفع بتحسين مستوى الفكر الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي و الخيري و التعاوني ، مما ينتج عنه :
أ ـ تنمية المهن من خلال تقارب المهنيين ، فيتحسن أدائهم الاقتصادي .
ب ـ تجمع المهنيين عمالا وفنيين ، تحت عنوان معلوم ( مقر و جماعة ) مما يسهل المواطن في طلب خدماتهم دون عناء .. ويسهل من يريد تطوير مسألة أن يتجه لعنوان محدد .
ج ـ تغذية الفضاء الذهني للمشرعين ، عند وضع نصوص القوانين ، مما يسهل عملية إحاطة القانون بتفاصيل أكثر دقة ، وهذا يخدم موضوع القضاء والعدالة .
د ـ إيجاد عناوين لخبراء ، يغذون الدولة بالكوادر والخبرات الاستشارية اللازمة ، و يغذون البرلمانات بأسماء تم التعرف على خبراتها في مجالات عدة .
هـ ـ ضخ وجوه قادرة على تمثيل بلادها في التعاملات الخارجية ، مما يعطي الحكم شكلا من الرضا و قرارة النفس ، إضافة لما يعود عليه من فوائد مادية وأمنية مختلفة .

3 ـ تسهيل مهمة الحكم الأمنية ، فمن يريد أن يراقب خمسين مليونا ، من الأسهل عليه مراقبتهم ، في كراديس أو مجموعات ، و تكون مصنفة حسب المهنة أو الاهتمام ، أكثر مما يهيم على وجهه في البحث بينهم من خلال فوضى وعدم انتظام ضمن مجموعات ..

كما أن التعرف على طلبات هؤلاء المعنيين المتخصصين ، يسهل على الدولة دراسة تلك المطالب بشكل أفضل ، ويجعل من خطاب الدولة الإعلامي والسياسي يواكب تلك الطلبات .. فيضمن عندها توضيح وجهات النظر بحرية ، من طرفي الدولة و تلك المنظمات كشريكين مهمين في تسيير أمور البلاد .

إضافة الى ان مؤسسات الدولة الأمنية ، سترتفع وتيرة جاهزيتها ، من خلال تخصيص أقسام بها ، لا لكي ترعب وترهب تلك الجماعات المنظمة ، بل لتكون وظيفتها كعيون تحمي أمن الدولة ، وتنقل أماني تلك المنظمات أولا بأول .

4ـ إتاحة المجال للجمهور ، أن يطلع على خطابات متنوعة في البلاد ، ويمنع ظهور شهداء و مظاليم مجانا ، بل يتعرف على نوعية خطابهم من خلال ترك المجال لهم أن يفصحوا عما يريدون .. وهنا ستقوى رؤية المواطن في حالة الانتخابات لمن يمنح ثقته . وبعكسه فان تكميم الأفواه ، قد يؤدي الى عمل ماكنة المرآين والدجالين وقد يظلم الناس الحقيقيين ، الذين شملهم ، الضغط الشديد في التشديد عليهم من خلال منظماتهم .

ان الدولة التي تملك إعلاما ومالا ووظائف و أحيانا حزب حاكم ، وتخشى هؤلاء وتنظيماتهم ، هي بالضرورة دولة مليئة بثغرات ، لا بد ان تتوسع تلك الثغرات شيئا فشيئا ، حتى تصنع هوة بينها وبين الشعب . فان كانت هي تسير وفق نهج سليم و صحيح ولا تستطيع إحداث الاستقرار والرفاه و الأمان لمواطنيها ، فعليها إعادة النظر بتشكيلاتها المتحكمة بسير الحياة لدى شعبها وعليها ان تنتبه من المفاصل الفاعلة بها ..

ابن حوران 10-01-2006 11:40 AM

متى تكون الأوتاد أضعف من أن تؤدي دورها ؟

لقد تعرفنا على المحور العام لنمط الخدمات التي تقدمها المنظمات الشعبية والمدنية لمنتسبيها و للدولة و للجمهور ، وان كان الايجاز من القصر بمكان ، بحيث أنه سيحتاج الكثير من التفصيل ، لكننا ونحن نناقش ذلك الفصل ، فاننا سنترك الحرية للقارئ ليزيد عليها من حصيلته الثقافية ، كيفما شاء ، علنا نعود اليها في مناسبة أخرى .

لكن أحيانا تعاق تلك المنظمات ، ليس بفعل خارجي ، حكومي أو غيره ، بل نتيجة لعوامل ذاتية ، تخص القائمين وعليها ، وتتعلق بالكيفية التي تم بها صياغة خطابها العام ، والكيفية التي تصرف بها أمورها . ولكون أن المنظمات التي نقصدها ، هي من السعة بمكان ، من حيث اختلاف أدوارها ، و أسمائها ، وأعضاءها ، و إمكانية التصاق العضو بمنظمته ، وفق قانون أم لا . كل تلك الأمور تظهر صعوبة ليست بالقليلة ، في الحديث عن كل تلك الأطياف من التنظيمات ، بصفة عامة .

لكننا سنحاول ، قدر الإمكان أن نشمل بحديثنا ، تلك الصفات التي تلتقي بها معظم المنظمات الشعبية والمدنية ..

1 ـ غياب القوانين التي تلزم الأعضاء بالالتصاق في منظماتهم ، ففي حين نجد أن بعض المنظمات المهنية ، لا تجيز لمن يمتهن نفس مهنتها أن يزاول العمل ، دون أن يكون عضوا فاعلا يسدد اشتراكاته سنويا ، ويخضع لإجراءات المنظمة ، وهذا يظهر في نقابات المحامين والمهندسين و الأطباء ، وغيرها في كثير من البلدان العربية ..

في حين نجد أن صنفا من المنظمات الشعبية و المدنية ، لا يحمى بقانون ولا يلزم أعضاءه الاستمرار بعضويتهم ، كالأندية الرياضية ، والمنتديات الثقافية ، وجمعيات البيئة ، والكثير من الجمعيات الخيرية ، مما يجعل تلك المنظمات لا تخرج دائرة قوتها عن رئيسها وبعض الناشطين ، مثل جمعية حماية المستهلك !
وهنا تصبح المنظمة كوتد وضع في أرض رخوة ، سرعان ما يهتز وينقلع مع أول هبة ريح قوية .


2 ـ اعتماد التقليد أساسا في إنشاء و تأسيس بعض المنظمات ، ويحدث ذلك عندما يقوم شخص أو مجموعة أشخاص بتأسيس منظمة ، غريبة في عنوانها عن ما يرنو اليه المجتمع ، بل رأت تلك المنظمة قد ازدهر نشاطها في أحد البلدان ، و أراد مؤسسها أن يطبقها في المجتمع الذي يعيش به ، كجمعية حماية السلاحف ! . ان هذا الشكل من المنظمات هو كمن يعين خبير لانقاذ الغارقين في السباحة ، بمنطقة صحراوية !

ان هذا النمط من المنظمات أشبه بالوتد الذي يحاول صاحبه دقه في صخرة صماء ، فهو كما هو سابقه الذي دق في أرض رخوة ، سرعان ما ينقلع .

3 ـ إطالة زمن القائمين على المنظمة الشعبية أو المدنية ، بحيث يبقوا على رئاسة تلك المنظمة سنين قد تطول ، بقدر أعمارهم ، فلا يغادرون تلك المواقع القيادية الا بالوفاة . مثل ذلك يجعل المنظمة الشعبية أو المدنية ، قليلة التوسع والنمو ، لا بل تتقزم شيئا فشيئا .. وهذا يحدث ببعض الأندية الرياضية .

4 ـ طغيان الجانب السياسي على الجانب الذي تحمل عنوانه تلك المنظمة ، كأن يكون القائمون على تلك المنظمة ، يريدون تفهيم أعضاء تلك المنظمة بأن ما يقومون به ، هو ترجمة لإرادة قوة مستترة ، سواء كانت تلك القوة هي الدولة ، أو حزب يتباهى بسعة أعضاءه ، أو القوة الاجتماعية التي يكون لها النصيب الأكبر من الأعضاء . ان هذا الوضع يجعل من الأعضاء المعارضين قليلي الحيلة ، ويدفعهم للانسحاب من عضوية تلك المنظمة . أو يجعل المؤيدين يعيشون حالة من الخدر والاتكال و عدم الانتاج الفاعل .

5 ـ مشاكل تتعلق بالتمويل .. حيث تعاني كثير من المنظمات الشعبية والمدنية الكثير من المتاعب المالية التي تعيق حركتها ، وعندما تعرض عليها بعض الأموال فانها ترضخ لإرادة الممول ، الذي ينظر إليها كمستودع للرأي العام ، أو سلما للتعريف بنفسه ، وفي الحالتين فان تعثرا يحل بتلك المنظمات و يخلخل مكانتها كأوتاد .

خلاصة : من راقب وتدا يربط به حبل الخيمة أو البيت ، فانه سيلحظ على وجه السرعة أن قوة أداءه آتية من عمق ولوجه الأرض ، و ميله للجهة البعيدة عن العمود وليس بميله نحو العمود .

ابن حوران 12-01-2006 07:16 AM

حبال الربط :

لا تقل أهمية حبال الربط عن الأعمدة و الأوتاد ، فهي من اسمها تدل على وظيفتها و ضرورتها ، وقد ذكر الله عز وجل أهمية هذا الربط ، وباللفظ نفسه ، عندما قال ( واعتصموا بحبل الله ) ..

تربط أطراف الحبال ، من جهة بالأوتاد ، ومن جهة بالأعمدة ، وهي ما يبقي البيت في حالة شدها بشكل جيد ، منتصبا شامخا ثابتا ، و قد تم الاستعاضة عنها بالأبنية الحديثة ، بالجسور الساقطة أو أعصاب حديد البناء . وفي كلتا الحالتين فان سمك القضيب أو الحبل ، تخضع لدراسة أو مهارات متراكمة ، وكذلك الاتجاه الذي يوضع به وشكل العقدة أو طريقة الربط .

وفي حالتنا التي نحن بصددها ، فان وظيفة الحبل هنا أو عصب البناء ، هي لترجمة إرادة الأعمدة من خلال تواصلها مع الأوتاد . فان كانت وظيفة الأعمدة الأساسية هي النهوض بالبيت وفق مثل و قيم اجتماعية و عقائدية ، وهي بالأساس وظيفة دعائية بحتة كما أسلفنا ، فان مهمة الأوتاد هي الحفاظ على تلك المثل والقيم والعقائد قائمة ومنتصبة لتؤدي دورها . ودور الأوتاد في هذه الحالة سيكون إداري بحت و إجرائي .

لكن ما يعيق حركة السكان للبيت ، هو تشابك الحبال عندما يصر صاحب الإرادة الراهنة سواء كان فردا أو جماعة ، أن يتصل بكل وتد من الأوتاد ، دون ربطها بعمود مخصص ، فتكون عندها حركة السكان تتعرض للإعاقة (الشركلة) بحبال البيت الكثيرة والمتشابكة .

و أحيانا أخرى تتوزع ولاءات الأوتاد وتتمزق حبال ربطها ، عندما تدخل عنعنات عشائرية أو طائفية أو حتى سياسية داخل تكوين الوتد نفسه ، فان ذلك سيضعف ربط الوتد بالحبل أو الحبال التي تربطه و تهتز أركان البيت لسوء الربط المحكم .

نحن لا ننكر الحالة الطبيعية لتعدد انتماءات القائمين بتشكيل الأوتاد ، فكلهم قد ينتمي لفصيل سياسي أو طائفة دينية أو مدينة أو مهنة ، وهذا الكلام ينسحب على كل المواطنين ، لكن أن تتيه قدرة من يشكلون جسم الوتد على ترتيب أولوية انتماءاتهم و ولاءهم ، فهنا السر في ضعف الحالة العربية ، فمن كان ضمن تشكيل وتد عليه أن يعطي أولوية ولاءه لهذا التشكيل في أداء وظيفته .. على افتراض أن باقي التشكيلات تقوم بوظائفها على نفس النحو . تماما كما هي المرابطة على الثغور ، فلا يشغل المرابط باله في أمور أسرته و بلدته وغيرها فمهمته بالمرابطة محددة وواضحة .

كما أن أوامر حركته في المرابطة ، لا تأتي من زعيم عشيرته أو مدينته أو فقيه طائفته ، بل تأتي من آمر وحدته العسكرية فقط ، وهذا ما يفرق الجيوش المحترفة عن الفزعات التي تقوم لنصرة أي قضية دون تنظيم !


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.