أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   الخيمة الإسلامية (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=8)
-   -   الأربعون النووية ( بالفلاش ) مع الشرح .. (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=37866)

الوافـــــي 16-08-2004 04:22 AM

فإذن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) إحلاله لولي الأمر أو لنوابه ممن جعل الله -جل وعلا- إليهم إنفاذ الحدود وقتل من يستحق القتل ، أما لو جعل هذا لكل أحد لصار في ذلك استباحة عظيمة للدماء ؛ إذ المختلفون كثيرا ما يكفر أحدهم الآخر إذا لم يكونوا من أهل السنة والاعتدال ، فإذا قيل بظاهره -ولا قائل به- فإنه يعني أن من حكم على الآخر بأنه كافر فإنه ينفذ ذلك .
ثم ها هنا مسألة متعلقة بذلك : إذا كان في بلد لا يوجد إمام أو ولي أمر ينفذ الأحكام ، فهل للمسلم إذا ثبت عنده شيء من ذلك أن ينفذ الأحكام ؟ والجواب : لا ، كما هو قول عامة أهل العلم ، إذ يشترط لإنفاذ الأحكام التي فيها استباحة للدم أو المال أو الأعراض ، أو ما أشبه ذلك ، هذا إنما يكون للإمام ، فإذا لم يوجد لم يجز لأحد أن ينفذ هذا إلا في حالة واحدة وهي : أن يأتي أحد إلى من يرى فيه العلم أو الصلاح ويقول : أنا ارتكبت حدا -فيما دون القتل- يعني ارتكبت زنا ، وكان غير محصن أو قال : شربت الخمر أو قذفت فلانا فطهرني بالجلد يعني: بما دون القتل فهذا لا بأس به عند كثير من أهل العلم ؛ لأن إرادة التطهير له ، وإذا جلد فإن هذا له ، وليس فيه استباحة الدم .
أما استباحة الدم ، أو تطبيق الحدود في غير حال من يرضى بتطبيقها عليه فإنه لا يجوز بقول عامة أهل العلم ، فتلخص من هذا أن إقامة هذه الأشياء راجعة إلى الإمام ولي الأمر المسلم ، أو من ينيبه .
والثاني : أنه في بلد لا يوجد فيها من ينفذ أحكام الله -جل وعلا- فلا يجوز إنفاذ أحكام القتل ؛ لأن هذه معلقة بولي الأمر المسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة ، والصحابة في بعض البلاد التي لا يقام لم يقيموا فيها ذلك ، وكذلك العلماء في بعض البلاد كما كان في الدولة العبيدية ، وأشباه ذلك فإن العلماء لم يقيموا الحدود بالقتل ، وأشباه ذلك .
الحالة الثالثة : فيما دون القتل ، يعني فيما فيه تطهير بجلد ونحوه :
إذا اختار المسلم عالما وقال : طهرني بالجلد من ذلك فإن ذلك جائز ؛ لأن هذا فيه حق له ، ويريد التطهير ولا يتعدى ضرره ، وهذا عند بعض أهل العلم .
وآخرون يشترطون في الجميع إذن الإمام ، أو وجود ولي الأمر المسلم .


إنتهى شرح الحديث الرابع عشر

تحياتي

:)

الوردة الندية 22-08-2004 08:46 PM

اخي الكريم/ الوافـــــي...
بارك الله فيك وفي قلمك,,,
وجزاك الله خيررررررا على شرحك الوافي..... وعلى الفلاش الجميل....
لكن ... في سؤال ....
لماذا سميت هذه الاحاديث بالاربعون النووية؟؟؟
هل لاهميت هذه الاحاديث؟؟
وشكرا على الموضوع الجميل.....:)

الوافـــــي 25-08-2004 06:20 PM

الأخت الكريمة / ورد المستقبل

جزاك الله خيرا على مداخلتك ، ودعائك
وكتاب الأربعين النووية ، سمي كذلك لأن مؤلفه هو الإمام النووي رحمه الله
ويتضمن الكتاب اثنين وأربعين حديثاً نبوياً اختارها رحمه الله
وهي مشتملة على قواعد عظيمة من قواعد الدين وأن عليها مدار الإسلام
وهي من الأحاديث الصحيحة ومعظمها في صحيحي البخاري ومسلم

ولمعرفة المزيد عن سيرة هذا الإمام الجليل
إضــــغط هنـــــا

تحياتي

:)

الوافـــــي 25-08-2004 06:22 PM

الحديث الخامس عشر

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث أدب من الآداب العظيمة ، وهو صنو حديث : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) من جهة أنه أصل في الآداب العامة ، وهذا الحديث دل على أن من صفات المؤمن بالله وباليوم الآخر ، الذي يخاف الله ويتقيه ، ويخاف ما يحصل له في اليوم الآخر ، ويرجو أن يكون ناجيا في اليوم الآخر ، أن من صفاته أنه يقول الخير أو يصمت .
ومن صفاته أنه يكرم الجار .
ومن صفاته أنه يكرم الضيف .
ومن صفاته أنه يكرم الجار ، هذا بعموم ما دل عليه الحديث ، الحديث دل على أن الحقوق منقسمة إلى : حقوق لله ، وحقوق للعباد.
وحقوق الله -جل وعلا- مدارها على مراقبته ، ومراقبة الحق -جل وعلا- أعسر شيء أن تكون في اللسان ، ولهذا نبه بقوله : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) على حقوق الله -جل وعلا- ، والتي من أعسرها من حيث العمل والتطبيق : حفظ اللسان ، وهنا أمره بأن يقول خيرا أو أن يصمت ، فدل على أن الصمت متراخ في المرتبة عن قول الخير ؛ لأنه ابتدأ الأمر بقول الخير فقال : ( فليقل خيرا ) فهذا هو الاختيار ، هو المقدم أن يسعى في أن يقول الخير .
والمرتبة الثانية : أنه إذا لم يجد خيرا يقوله أن يختار الصمت ؛ وهذا لأن الإنسان محاسب على ما يتكلم به ، وقد قال -جل وعلا- : لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً {114}سورة النساء .
فهذا الحديث فيه : ( فليقل خيرا ) وعلق هذا بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وقول الخير متعلق بالثلاثة التي في آية النساء قال : ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } فالصدقة واضحة والإصلاح أيضا واضح ، والمعروف هو ما عرف حسنه في الشريعة ، ويدخل في ذلك جميع الأمر بالواجبات والمستحبات ، وجميع النهي عن المحرمات والمكروهات ، وتعليم العلم والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ... إلخ .
فإذن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( فليقل خيرا ) يعني : فليقل أمرا بالصدقة ، فليقل أمرا بالمعروف ، فليقل بما فيه إصلاح بين الناس ، وغير هذه ليس فيها خير ، ما خرج عن هذه فإنه ليس فيها خير ، وقد تكون من المباحة ، وقد تكون من المكروهة ، وإذا كان كذلك فالاختيار أن يصمت ، وخاصة إذا كان في ذلك إحداث لإصلاح ذات البين ، يعني أن يكون ما بينه وبين الناس صالحا على جهة الاستقامة بين المؤمنين الأخوة .

.. يتبع ..

الوافـــــي 25-08-2004 06:25 PM

قال -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) يعني أن حفظ اللسان من الفضول بقول الخير ، أو بالصمت إن لم تجد خيرا أن هذا من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر ؛ لأن أشد شيء على الإنسان أن يحفظه لسانه ، لهذا جاء في حديث معاذ المعروف أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له -عليه الصلاة والسلام- : ( وكف عليك هذا ) فاستعجب معاذ ( فقال : يا رسول الله أوإنا مؤاخذون بما نقول ؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال : على وجوههم- إلا حصائد ألسنتهم ) فدل على أن اللسان خطير تحركه ، إذا لم يكن تحركه في خير فإنه عليك لا لك .

والتوسع في الكلام المباح قد يؤدي إلى الاستئناس بكلام مكروه أو كلام محرم كما هو مجرب في الوقع ، فإن الذين توسعوا في الكلام ، وأكثروا منه في غير الثلاثة المذكورة في الآية جرهم ذلك إلى أن يدخلوا في أمور محرمة من غيبة أو نميمة أو بهتان أو مداهنة ، أو ما أشبه ذلك مما لا يحل .

فإذن الإيمان بالله واليوم الآخر يحض على حفظ اللسان ، وفي حفظ اللسان الإشارة لحفظ جميع الجوارح الأُخر ؛ لأن حفظ اللسان أشد ذلك ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال : ( من ضمن لي ما بين لَحيَيْهِ وما بين فخذيه ضمنت له الجنة ) .

ثم قال -عليه الصلاة والسلام- ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ) وإكرام الجار يعني : أن يكون معه على صفة الكرم ، والكرم هو : اشتمال الصفات المحمودة التي يحسن اجتماعها في الشيء فيقال : هذا كريم ؛ لأنه ذو صفات محمودة ، وفي أسماء الله -جل وعلا- الكريم ، والكريم في أسماء الله -جل وعلا- هو : الذي تفرد بصفات الكمال ، والأسماء الحسنى فاجتمع له -جل وعلا- الحسن الأعظم في الأسماء ، والعلو في الصفات ، والحكمة في الأفعال .

فالكريم : من فاق -يعني في اللغة- من فاق جنسه في صفات الكمال. فالإكرام هو : أن تسعى في تحقق صفات الكمال ، أو في تحقيقها ، فإكرام الجار : أن تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبها المجاورة .
وإكرام الضيف : أن تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبها الضيافة.
وقوله : "فليكرم جاره" على هذا ، يدخل فيه إكرام الجار بالألفاظ الحسنة ، إكرام الجار بحفظ الجار في أهله ، حفظ الجار في عرضه ، في الاطلاع على مسكنه .
ويدخل في هذا حفظ الجار في أداء الحقوق العامة له ، في الجدار الذي بينهما ، أو النوافذ التي تطل على الجار ، أو في موقف السيارات -مثلا- أو في غذاء الأطفال ، أو ما أشبه ذلك ، فيدخل هذا جميعا في إكرام الجار ، ويدخل فيه -أيضا- أن يكرم الجار في المطعم والملبس ، وأشباه ذلك يعني أنه إذا كان عنده طعام فإنه يطعم جاره منه .

وقد كان -عليه الصلاة والسلام- ربما طها في بيته بعض اللحم فقال : ( أرسلوا لجارنا اليهودي من مرقة هذا اللحم ) وهذا في حق الجار الكافر ، ولهذا رأى طائفة من أهل العلم كأحمد في رواية ، وكغيره أن إكرام الجار في هذا الحديث عام يدخل فيه إكرام الجار المسلم ، وإكرام الجار الكافر .

.. يتبع ..

الوافـــــي 25-08-2004 06:27 PM

وإكرام الجار المسلم له حقان : لإسلامه ولجواره ، فإذا إكرام الجار كلمة عامة يدخل فيها أداء ما له من الحقوق ، وكف الأذى عنه ، وبسط اليد له بالطعام وما يحتاجه ، وهذا -أيضا- مع قول الله -جل وعلا- : ( الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ {6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ {7}‏ سورة الماعون ، والماعون هو : ما يحتاج إليه في الإعارة .
{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ {7}‏ يعني : يمنعون ما يحتاج إليه المسلمون في الإعارة ، فإذا احتاج جارك إلى أن تعيره شيئا من أدوات الطهي أو شيئا من أدوات المنزل ، أو من الأثاث ، أو ما أشبه ذلك فإن من إكرامه أن تعطيه ذلك .
أما إذا كان يتعدى على أشيائك ، ويتلف المال فهذا لا يكون له الحق في إكرامه بذلك ؛ لأنه مظنة التعدي .

الجار هنا قسمان : جار قريب ، وجار بعيد ، وفي القسمين جاء قول الله -جل وعلا- في سورة النساء : وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً {36} سورة النساء فقوله وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ }فسرت بتفسيرين :
الأول : أن الجار ذي القربى هو من له جوار وقرابة فقدمه على الجار الجنب يعني الذي ليس له قرابة ، التفسير الثاني : أن الجار ذا القربى في قوله : ( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى(  أنه الجار القريب والجار الجنب أنه الجار البعيد ؛ لأن كلمة "جنب" في اللغة تعني : البعيد ، ومنه سميت "الجنابة" جنابة ، وفلان جنب لأنه من البعد ، فدل هذا على أن إكرام الجار يدخل فيه الجار القريب والجار البعيد .
ما حد الجار البعيد ؟ بعضهم حده بسبعة يعني سبعة بيوت ، وبعضهم حده بأربعين بيتا من يمين وشمال ، وأمام وخلف ، وهذه كلها تقديرات لم يصح فيها شيء عن المصطفى -عليه الصلاة والسلام- ، وهذا محكوم بالعرف فما كان فيه العرف أنه قريب فهو قريب ، وما كان فيه العرف أنه جار بعيد فيدخل في ذلك ، وهذا يتنوع بتنوع البلاد والأعراف ، فيه تفاصيل أُخر تقرءونها في المطولات -إن شاء الله- .

قال : ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) إكرام الضيف أن تبذل للضيف من الصفات المحمودة ما به يحصل له الحق ، والصفات المحمودة التي تعطى للضيف ، وبشاشة الوجه ، وانطلاق الأسارير ، والكرم باللسان يعني أن يضاف بألفاظ حسنة ، ومنها أيضا من إكرام الضيف أن تطعمه ، وهو المقصود ؛ لأن الأضياف يحتاجون لذلك ، وقوله هنا : ( فليكرم جاره ) ( فليكرم ضيفه ) ( فليقل خيرا ) كلها أوامر ، وهي على الوجوب .

وإكرام الضيف واجب كما دل عليه الحديث بإطعامه ، وهذا فيه تفصيل وهو أنه يجب أن يضاف الضيف بالإطعام يوما وليلة ، كما جاء في الحديث أنها جائزة الضيف يوم وليلة ، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها، يعني يومين بعد اليوم والليلة الأولى ، فيجب أن تكرم الضيف يوما وليلة ، يعني بأن تعطيه ما يحتاجه .
قال العلماء : هذا في حق أهل القرى الذين ليس ثم مكان يمكن الضيف أن يستأجر له ، أما في المدن الكبار الذي يوجد فيها الخان ، ويوجد فيها الدور التي تؤجر فإنه لا تجب الضيافة ؛ لأنه لا يضيف مع ذلك إلا إذا كان محتاجا لها ، ولا مكان له يؤويه فإنه يجب على الكفاية أن يعطيه كفايته ، وأن يضيفه يوما وليلة ، وتمام الثلاثة مستحب ، يعني في مكان لا يوجد فيه دار يمكنه أن يستأجرها .

أما مثل الآن في مدننا الكبار هذه فإنها لا تجب ، وإنما تستحب ، في القرى في الأطراف ، وأهل الخيام ، ونحو ذلك إذا نزل بهم الأضياف فإنه يجب عليه أن يقريهم يوما وليلة ، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها .
إذا تقرر هذا فما الذي يقدمه ؟ الذي يقدمه للضيف ما تيسر له ، يعني ما يطعمه هو وأهله ، ولا يجب عليه أن يتكلف له في ذبح ، أو تكلف طعام كثير ، أو ما أشبه ذلك ، فالذي يجب ما يطعمه به ، ويسد عوزة هذا الضيف ، أو ما يسد جوعه يعني من الطعام المعتاد الذي يأكله .

وقد جاء في الأثر : أن قوما من أهل الكتاب أرسلوا لعمر رضي الله عنه عمر بن الخطاب فقالوا له : إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الدجاج لهم ، وإن هذا لا نطيقه ، فأرسل إليهم عمر بما حاصله أن أطعموهم مما تأكلون ولا تتكلفوا لهم .
وهذا ظاهر من حيث الأصول في أن الإكرام لا يعني التكلف ، وهذا الوجوب في حق من عنده فضل في ماله ، يفيض ويزيد عن حاجته الضرورية ، وحاجة من يعوله ، أما إذا كان محتاجا هو ومن يعوله محتاج لهذا الطعام ، فإن من يعوله أولى من الضيف في الشرع .

إنتهى شرح الحديث الخامس عشر

تحياتي

:)

الوردة الندية 25-08-2004 06:32 PM

شكرا اخي الوافي على الايضاح , والشرح الجميل,بارك الله فيك

الوافـــــي 27-08-2004 06:48 AM

لا شكر على واجب أختي الكريمة ورد
وجزاك الله خيرا على دعوتك

تحياتي

:)

الوافـــــي 23-10-2004 05:15 PM

الحديث السادس عشر


لا تغضب

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( إن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني.
قال : لا تغضب. فردد مرارا قال : لا تغضب ) رواه البخاري .

هذا أيضا من أحاديث الآداب العظيمة حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سأله ( أوصني. قال : لا تغضب ) والسؤال بالوصية حصل مرارا من عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- يسألون المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقولون له : أوصنا ، أوصني واختلف جوابه -عليه الصلاة والسلام- فمرة قال مثل ما هنا : ( لا تغضب ) وقال لرجل ( قال له : أوصني .
قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ) وقال له رجل : أوصني.
فقال له كذا ، وتكرر هذا ، واختلفت الإجابة .

قال العلماء : اختلاف الإجابة يحمل على أحد تفسيرين

الأول : أنه -عليه الصلاة والسلام- نوّع الإجابة بحسب ما يعلمه عن السائل ، فالسائل الذي يحتاج إلى الذكر أرشده للذكر ، والذي يحتاج إلى أن لا يغضب أرشده إلى عدم الغضب.

والقول الثاني : أنه نوّع الإجابة لتتنوع خصال الخير في الوصايا للأمة .
لأن كل واحد سينقل ما أوصى به النبي -عليه الصلاة والسلام- فتتنوع الإجابة ، وكل من قال: أوصني محتاج لكل جواب.

لكن لم يكثر النبي -عليه الصلاة والسلام- الوصايا بأن ( قال : لا تغضب ) ( ولا يزال لسانك رطبا بذكر الله ) وكذا وكذا حتى لا تكثر عليه المسائل .
فإفادة من طلب الوصية بشيء واحد أدعى للاهتمام ، ولتطبيقه لتلك الوصية ، قال هنا : "أوصني" ، والوصية : الدلالة على الخير ، يعني: دلني على كلام تخصني به من الخير ، الذي هو خير لي في عاجل أمري وآجله.
( قال : لا تغضب ) وقوله هنا -عليه الصلاة والسلام- : ( لا تغضب ) دل على أن من طلب منه الوصية أن يجتهد في الوصية الجامعة ، وفيما يحتاجه الموصى ، وألا يتخلف عن الجواب ، وهذا يناسب أن يكون المعلم أو المربي أن يكون مستحضرا لوصايا النبي -عليه الصلاة والسلام- ولوصايا أهل العلم حتى يعطيها متى ما سنحت الحاجة في طلب الوصية ، وأشباه ذلك .

..يتبع ..

الوافـــــي 23-10-2004 05:19 PM

وقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( لا تغضب ) هذا -أيضا- له مرتبتان :-
المرتبة الأولى : لا تغضب إذا أتت دواعي الغضب فاكظم غضبك ، واكظم غيظك ، وهذا جاءت فيه آيات ، ومنها قول الله -جل وعلا- : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134} آل عمران ، وكظم الغيظ من صفات عباد الله المؤمنين المحسنين ، الذين يكظمون الغضب عند ثورته .
وجاء -أيضا- في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كظم غيظا ، وهو يقدر على إنفاذه ، دعي يوم القيامة على رءوس الخلائق إلى الجنة ) أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- والحديث في السنن ، وهو حديث صحيح .
فكظم الغيظ ومَسْك الغضب هذا هو الحالة الأولى التي دل عليها قوله : ( لا تغضب ) وكظم الغيظ ، وإمساك الغضب هذا من الصفات المحمودة ، ويأتي تفصيل الكلام على كونه من الصفات المحمودة .

الثاني -التفسير الثاني-: لا تَسْعَ فيما يغضبك ؛ لأنه من المتقرر أن الوسائل تؤدي إلى الغايات ، فإذا كنت تعلم أن هذا الشيء يؤدي بك إلى غاية تغضبك فلا تَسْعَ إلى وسائلها ، ولهذا كان كثير من السلف يمدحون التغافل ، وقال رجل للإمام أحمد : كان وكيع يقول ، أو أحد الأئمة غير وكيع -النسيان مني-: الخير تسعة أعشاره في التغافل .

وقال الإمام أحمد : أخطأ ، الخير كله في التغافل يعني: أن إحقاق الأمور إلى آخرها في كل شيء هذا غير ممكن ؛ لأن النفوس مطبوعة على التساهل ومطبوعة على التوسع ، وعندها ما عندها ، فتغافل المرء عما يحدث له الغضب ، ويحدث له ما لا يرضيه ، تغافله عن ذلك من أبواب الخير العظيمة ، بل قال : الخير كله في التغافل ، التغافل عن الإساءة ، التغافل عن الكلام فيما لا يحمد .

التغافل -أيضا- عن بعض التصرفات بعدم متابعتها ولحوقها إلى آخرها إلى آخر ذلك فالتغافل أمر محمود وهذا مبني أيضا على النهي عن التحسس والتجسس ، قوله أيضا هنا : ( لا تغضب ) بمعنى: لا تدخل في وسائل الغضب في أنواعها ، فكل وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى الغضب فمنهي عن اتباعها ، فإذا رأيت الشيء ، وأنت تعلم من نفسك أنه يؤدي بك إلى الغضب ، فالحديث دل على أن تنتهي عنه من أوله ، ولا تتبع نفسك هذا الشيء ، وتتمارى فيه أو تتمادى فيه حتى يغضبك ثم بعد ذلك قد لا تستطيع أن تكظم الغضب أو الغيظ .

إذا تقرر هذا ، وأن الحديث له معنيان ، وأن النهي عن الغضب يشمل النهي عن إنفاذ الغضب بكتمان الغضب ، ويشمل -أيضا- النهي عن غشيان وسائل الغضب ، إذا تقرر هذا فإن الغضب من الصفات المذمومة التي هي من وسائل إبليس ، فالغضب دائما يكون معه الشر .
فكثير من حوادث القتل والاعتداءات كانت من نتائج الغضب ، كثير من الكلام السيئ الذي ربما لو أراد الإنسان أن يرجع فيه لرجع ، لكنه أنفذه من جراء الغضب .
كثير من العلاقات السيئة بين الرجل وبين أهله ، وحوادث الطلاق ، وأشباه ذلك كان منشأها الغضب ، وكثير من قطع صلة الرحم ، وتقطيع الأواصر التي أمر الله -جل وعلا- بوصلها كان سببَ القطيعةِ الغضبُ ، ومجاراة الكلام ، وتبادل الكلام والغضب إلى أن يخرجه عما يعقل ، ثم بعد ذلك "لات ساعة إصلاح" .
وهكذا في أشياء كثيرة ، فالغضب مذموم ، وهو من الشيطان ، ومن وسائل الشيطان لإحداث الفرقة بين المؤمنين ، وإشاعة الفحشاء والمحرمات فيما بينهم .

.. يتبع ..

الوافـــــي 23-10-2004 05:22 PM

علاج الغضب :

جاء في السنة أحاديث كثيرة في علاج الغضب ، نجملها في الآتي :
أولا : أن الغضب يعالج بالوضوء ؛ لأنه فيه ثورة ، والوضوء فيه تبريد ؛ ولأن الغضب من الشيطان ، والوضوء فيه استكانة لله -جل وعلا- وتعبد لله ، فهو يُسكّن الغضب ، فمن غضب فيشرع له الوضوء .
كذلك مما جاء في السنة : أنه إذا غضب وكان قائما أن يقعد ، وهذا من علاج آثار الغضب ؛ لأنه يسكن نفسه ، ومن -أيضا- علاج الغضب أن يسعى في كونه وإبداله بالكلام الحسن ، لمن قدر على ذلك .
ومن المعلوم أن الإنسان يبتلى ، وابتلاؤه يكون مع درجاته وأجره وثوابه ، فإذا ابتلى بما يغضبه فكظم ذلك ، وامتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما حث الله -جل وعلا- عليه بقوله : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) وكظم غيظه ، وهو يقدر على إنفاذه ، كان حريا بكل فضل مما جاء في الأحاديث ، بأن يدعى على رءوس الخلائق إلى الجنة ، وأشباه ذلك .
فهذا الحديث دل على هذا الأدب العظيم ، فحرى بطالب العلم ، وبكل مستقيم على أمر الله أن يوطن نفسه على ترك الغضب ، وترك الغضب لا بد له من صفة تحمل عليه ، والصفة التي تحمل عليه : الحلم والأناة ، ومن اتصف بالحلم والأناة كان حكيما؛ ولهذا الغضوب لا يصلح أن يكون معالجا للأمور ، بل يحتاج إلى أن يهدأ حتى يكون حكيما .
وكان للغضب بعض الآثار السيئة في قصص متنوعة ، ولهذا نقول : قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( لا تغضب ) ينبغي أن يكون بين أعيننا دائما في علاقاتنا مع إخواننا ، ومع أهلينا ومع الصغار ، ومع الكبار فكلما كان المرء أحلم وأحكم في لفظه وفعله كلما كان أقرب إلى الله -جل وعلا- ، وهذا من صفات خاصة عباد الله .

إنتهى شرح الحديث السلدس عشر

تحياتي

:)

الوافـــــي 03-11-2004 02:40 PM

الحديث السابع عشر

إن الله كتب الإحسان على كل شيء

وعن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ) رواه مسلم .

هذا الحديث في باب آخر ، وهو باب الإحسان ، فقال فيه -عليه الصلاة والسلام-: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) فلفظ كتب يدلنا على أن الإحسان واجب ؛ لأن لفظ : كتب -عند الأصوليين- من الألفاظ التي يستفاد بها الوجوب ، وما تصرف منها ، يعني: ما تصرف من الكتابة ، قال الله -جل وعلا- مثلا: ( فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً {103} سورة النساء ، فدل على وجوبها أشياء منها : أنه وصفها بأنها كتاب فقال -جل وعلا- : ( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183} سورة البقرة
وقال - جل وعلا- : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً {24} سورة النساء
وقال -جل وعلا- : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {45} سورة المائدة
في آيات كثيرة فيها لفظ الكتاب .

.. يتبع ..

الوافـــــي 03-11-2004 02:41 PM

فلفظ "كتب" وما تصرف منه يدل على أنه واجب ، يعني يدل على أن المكتوب واجب ، ومنه الإحسان ، ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) وقوله هنا : ( كتب الإحسان على كل شيء ) كلمة "على" هنا فيها احتمال أن تكون كتابته الإحسان على كل شيء كتابة قدرية ، يعني أنه كتبها قدرا بأن الأشياء تمشي على الإحسان ، وأن الله -جل وعلا- ألهم مخلوقاته الإحسان .
ويحتمل أن تكون الكتابة هنا شرعية ، فيكون معنى قوله : ( كتب الإحسان على كل شيء ) أن تكون "على" هنا بمعنى "في" ، يعني :كتب الإحسان في كل شيء ، يعني: لكل شيء ، وهذا يتجه إذا كانت الكتابة شرعية يتجه الخطاب للمكلفين ، فلهذا مثل بمثال يتعلق بالمكلفين ، وهذا الثاني أظهر ، يعني :أن تكون الكتابة شرعية ، وأن يكون معنى ( كتب الإحسان على كل شيء ) يعني: في كل شيء ، أو لكل شيء ، فـ"على" هنا بمعنى "في" كقوله -عليه الصلاة والسلام- حيث سئل : ( أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فقال : الصلاة على وقتها ) يعني : في وقتها ، فيما هو معلوم في مجيء "على" بمعنى "في" في مواضع ، ومجيء "في" بمعنى "على" في مواضع .
فقوله -عليه الصلاة والسلام- حيث سئل ( أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فقال : الصلاة على وقتها ) يعني: في وقتها ، فيما هو معلوم في مجيء "على" بمعنى "في" في مواضع ، ومجيء "في" بمعنى "على" -أيضا- في مواضع .

.. يتبع ..

الوافـــــي 03-11-2004 02:43 PM

إذا تقرر هذا فالإحسان الذي كتب على المكلف بكل شيء ، ما هو الإحسان ؟ مصدر أحسن الشيء يحسنه إحسانا ، وإذا كان كذلك فالإحسان يختلف باختلاف الشيء ، فإذا كان الشيء هذا عبادة صار الإحسان فيها ، يعني: الإحسان الواجب بتكميل ما به يكون أجزاؤها ، وصحتها وحصول الثواب بها ، يعني: تكميل الأركان والواجبات والشرائط ، فيخرج عن ذلك المستحبات ؛ لأنها مما لم يكتب ، مع أنه يكون بها الإحسان ، لكن الإحسان المستحب .
فالشيء هنا ( كتب الإحسان على كل شيء ) يعني: في كل شيء ، الشيء هنا أخذنا منه العبادات ، وعرفنا الكلام فيها ، هنا كتب الإحسان في كل شيء ، يعني: فيما تزاوله من أمرك في حياتك ، وهذا الإحسان مطلوب منك دائما ، هو أن تحسن في تعاملك مع نفسك ؛ بأن تمتثل الواجبات ، وأن تنتهي عن المحرمات؛ لأن من لم يحسن هذا الإحسان كان ظالما لنفسه والظالم لنفسه من ارتكب بعض المنهيات ، أو فرط في بعض الواجبات .
لهذا أمر الله -جل وعلا- في سورة النحل بالإحسان فقال -جل وعلا- ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {90}سورة النحل ، هذا يشمل جميع الشريعة.
الإحسان في التعامل مع الخلق ، وهذا يكون بأداء الحقوق التي لهم ، وعدم ظلمهم فيما لهم ، والخلق متنوعون ، أصناف شتى فكل أحد من الخلق له حق ، فأعلى الخلق مقاما مما له حق النبي -عليه الصلاة والسلام- فالإحسان المتعلق بالمصطفى -عليه الصلاة والسلام- أن تحسن في الشهادة له بالرسالة ، بأن تصدقه -عليه الصلاة والسلام- فيما أخبر ، وأن تعبد الله على ما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن تقدم مراده -عليه الصلاة والسلام- في الدين على ما تشتهيه أنت من الأهواء والبدع ، فهذا إحسان في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم .
إحسان في حق الوالدين ، أمر الله -جل وعلا- به في قوله : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ {83}‏سورة البقرة ، وقوله تعالى ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً {23}سورة الإسراء ، فهذا إحسان في حق الوالدين بإعطاء الوالدين الحقوق الواجبة التي لهم ، إحسان في حق المؤمنين بعامة ، إحسان في حق العصاة ، إحسان في حق العلماء ، إحسان في حق ولاة الأمر ، إحسان في حق الكافر -أيضا- .

.. يتبع ..

الوافـــــي 03-11-2004 02:47 PM

وهكذا فكل نوع من أنواع الخلق يتعلق به نوع من أنواع الإحسان ، جاءت الشريعة بتفصيله ، حتى الحيوان من الخلق تعلق الإحسان به ، بما مثل به المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ) هذا تمثيل لنوع من أنواع الإحسان ، تعلق بنوع من أنواع المخلوقات ، فذكرنا أن الإحسان على كل المخلوقات يعني: في كل المخلوقات التي تعاشرها ، ومن هذه المخلوقات الحيوانات ، فالحيوان كيف تحسن ؟
مثَّلَ المصطفى صلى الله عليه وسلم بالحيوان تمثيلا وتنبيها للإحسان في غيره ، فقال -عليه الصلاة والسلام- ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) يعني: أن تسعى في القتل بأحسن الطرائق ، وفي الذبح بأحسن الطرائق ، وقوله : ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ) هذا يشمل قتل من يستحق القتل من بني آدم ، أو من الحيوانات ، والظاهر من السياق أن المقصود به الحيوان ، وحتى الإنسان مأمور بأن تحسن قتلته ، فيضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه ، يعني: بما يكون ، يعني: على رقبته بما يكون أسرع في إزهاق روحه .
حتى الكفار أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يمثل بهم ( لا تمثلوا بهم ) وألا يقتل شيخ ، وألا يقتل امرأة ، ولا طفل إلى آخر ما جاء في السنة في ذلك .
قال : ( وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ) أحسنوا يعني: ابحثوا عن أحسن طريق للذبح فاذبحوا ، ( وليحد أحدكم شفرته ) يعني: بحيث لا يتألم المذبوح حين الذبح ، ليحد أحدكم شفرته ؛ بحيث يكون إمرارها مسرعا في إزهاق الروح ؛ بحيث لا يأتي يحاول ويحاول فيكون مع ذلك إتعاب الحيوان في إزهاق روحه ، وهذا يدل على استخدام الآلات الجيدة في إزهاق الروح في الحيوان ، فيخالف الإحسان ما قد يفعله بعضهم من أنه لا يحسن الذبح ، ويذهب يتعلم كيف يذبح ، يذهب يتعلم فيأتي عشر دقائق أو خمس دقائق ، وهو يعالج هذه الذبيحة ، وربما فرت منه أو يعني: جمزت من يديه ، وقامت والدم يتناثر ، ونحو ذلك مما قد يجرب بعضهم الذبح ، وهذا مخالف للأمر بالإحسان .
الأمر بالإحسان ؛ إحسان القتلة ، وإحسان الذبحة أن يكون مسرعا في إزهاق الروح في الحيوان بإحداد الشفرة ، وأن تكون يده -أيضا- محسنة لاستعمال الشفرة في ذلك ، وهذا من الإحسان الذي أمرنا به .
حتى جاء من الإحسان الذي أمرنا به ألا تذبح بهيمة عند بهيمة ؛ حتى لا تتأذى برؤية دم أختها وهي تذبح ، فهذا أمر عام بالإحسان في كل شيء ، إحسان في العبادة ، إحسان في التعامل مع نفسه ، ومع الخلق ، ومع الحيوان ، حتى مع النبات فيه إحسان ، حتى مع الجن ، حتى مع الملائكة ، إلى آخر ذلك ، حتى مع مخلوقات الله في كل شيء إحسان بحسبه .
وهذا مقام عظيم أمر الله -جل وعلا- به : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {90} سورة النحل ، فعلى طلاب العلم أن يحسنوا في أقوالهم ، وفي أعمالهم ، وفي تعاملهم مع ربهم -جل وعلا- ، وفي تعاملهم مع الخلق بأنواعه المكلفين وغير المكلفين ، الجبال والنبات والشجر والدواب ، إلى آخر ذلك .
فالله -جل وعلا- كتب الإحسان على كل شيء .

وبهذا القدر الكفاية ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .

إنتهى شرح الحديث السابع عشر

تحياتي

:)

الوافـــــي 07-12-2004 03:03 PM

الحديث الثامن عشر

اتق الله حيثما كنت

عن أبي ذر جندب بن جنادة ، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن ، وفي بعض النسخ حسن صحيح

هذا الحديث حديث أبي ذر ، ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) .

قوله : ( اتق الله حيثما كنت ) هذا أمر بالتقوى ، وحيثما هذه متعلقة بالأزمنة والأمكنة ، يعني: في أي زمان كنت ، وفي أي مكان كنت؛ لأن كلمة "حيث" قد تتوجه إلى الأمكنة ، وقد تتوجه إلى الأزمنة ، يعني: قد تكون ظرف مكان ، وقد تكون ظرف زمان ، وهي هنا محتملة للأمرين ( اتق الله حيثما كنت ) يعني: اتق الله في أي مكان أو في أي زمان كنت .
والأمر بتقوى الله -جل وعلا- هنا على الوجوب؛ لأن التقوى أصل عظيم من أصول الدين ، وقد أمر الله -جل وعلا- نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتقي الله ، فقال -جل وعلا- : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً {1}سورة الأحزاب ، وأمر المؤمنين بأن يتقوا الله حق تقاته : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} سورة الأحزاب ، وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {18}سورة الحشر ، وأشباه ذلك .

وتقوى الله -جل وعلا- جاءت في القرآن في مواضع كثيرة ، وأتت التقوى في مواضع أُخر بتقوى عذاب الله -جل وعلا- ، وبأن يتقي النار ، وأن يتقي يوم القيامة كما قال -جل وعلا- : ( وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {281}‏سورة البقرة ، وقال -جل وعلا- : وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ {131}سورة آل عمران ، وهكذا في آيات أُخر .

فهذان إذن نوعان ، فإذا توجهت التقوى ، وصارَ مفعولُها لفظَ الجلالةِ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {278}سورة البقرة ، فمعنى تقوى الله -جل وعلا- هنا : أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وأليم عقابه في الدنيا وفي الآخرة وقاية تقيك منه ، وهذه الوقاية بالتوحيد ، ونبذ الشرك ، وهذه هي التقوى التي أُمر الناس جميعا بها؛ لأن تقوى الله -كما ذكرت لك من معناها- راجعة إلى المعنى اللغوي ، وهي أن التقوى أصلها "وَقْوَى" فالتاء فيها منقلبة عن واو ، وهي من الوقاية ، وقاه يقيه وقاية .

.. يتبع ..

الوافـــــي 07-12-2004 03:05 PM

فالمتقي هو : من جعل بينه وبين ما يكره وقاية ، بينه وبين سخط الله وعذابه وأليم عقابه وقاية ، وهي في القرآن أي: في الأمر بتقوى الله على ثلاث مراتب :-
الأولى : تقوى أمر بها الناس جميعا ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}سورة النساء ، في آيات ، وهذا معناه أن يسلموا أن يحققوا التوحيد ، ويتبرءوا من الشرك ، فمن أتى بالتوحيد ، وسلم من الشرك فقد اتقى الله -جل وعلا- أعظم أنواع التقوى .
ولهذا قال جماعة من المفسرين في قوله -جل وعلا- : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {27}سورة المائدة ، يعني: من الموحدين .

والمرتبة الثانية ، أو النوع الثاني : تقوى أمر بها المؤمنين فقال -جل وعلا- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {278}سورة البقرة ، وهذه التقوى للمؤمن تكون بعد تحصيله -كما هو معلوم- بعد تحصيله التوحيد ، وترك الشرك فيكون التقوى في حقه أن يعمل بطاعة الله على نور من الله ، وأن يترك معصية الله على نور من الله -جل وعلا- ، وأن يترك المحرمات ، ويمتثل الواجبات ، وأن يبتعد عما فيه سخط الله -جل وعلا- ، والتعرض لعذابه .
وهذه التقوى للمؤمنين -أيضا- على مراتب أعلاها أن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، حتى قال بعض السلف : ما سُموا متقين إلا لتركهم ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، وهذا في أعلى مراتب التقوى ؛ لأنه اتقى ما لا ينفعه في الآخرة ، وهذه مرتبة أهل الزهد والورع والصلاح .

والنوع الثالث من التقوى -في القرآن- : تقوى أُمر بها من هو آت بها ، وذلك قول الله -جل وعلا- : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً {1}سورة الأحزاب ، ومن أُمر بشيء هو محصله ، فإن معنى الأمر أن يثبت عليه ، وعلى دواعيه ، فمعنى قول الله -جل وعلا- : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً {1}يعني: : اثْبُتْ على مقتضيات التقوى ، وذلك قوله -جل وعلا- : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً {136} الآية في سورة النساء ، فناداهم باسم الإيمان ، ثم أمرهم بالإيمان ، وهذا معناه : أن يثبتوا على كمال الإيمان ، أو أن يكملوا مقامات الإيمان بحسب الحال؛ لأن لفظ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ {104}سورة البقرة ، الإيمان له درجات .

فقول النبي صلى الله عليه وسلم هنا : ( اتق الله حيثما كنت ) هذا خطاب موجه لأهل الإيمان ، يعني: لأهل النوع الثاني ، فالمقصود منه أن يأتي بتقوى الله -جل وعلا- في أي مكان ، أو زمان كان ، فهو أن يعمل بالطاعات ، وأن يجتنب المحرمات ، كما قال طلق بن حبيب -رحمه الله- : "تقوى الله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله".

.. يتبع ..

الوافـــــي 07-12-2004 03:08 PM

قال ابن مسعود وغيره في رجل سأله عن التقوى فقال : ألم تمش على طريق فيه شوك ؟ فقال بلى . قال فما صنعت ؟ قال شمرت واتقيت ، قال فتلك التقوى" ، وهي مروية -أيضا- عن عمر رضي الله عنه ونظمها ابن المعتز الشاعر المعروف بقوله :
خــل الذنـوب صغيرهـا = وكبيرهــا ذاك التقـى
واصنـع كمـاشٍ فوق أرضِ = الشوك يحذر ما يرى
لا تحـــقرن صغـــيرة = إن الجبـال مـن الحصى
<******>doPoem(0)
وهذا بعامة يخاطب به أهل الإيمان ، فإذن تقوى الله -جل وعلا- أن تخاف من أثر معصية الله -جل وعلا- ، أن تخاف من الله -جل وعلا- فيما تأتي ، وفيما تذر ، وهي في كل مقام بحسبه .
التقوى في كل مقام بحسبه ، ففي وقت الصلاة هنا تخاطب بالتقوى ، وفي وقت الزكاة تخاطب بالتقوى ، في هذا المقام ، وفي وقت الإتيان بسنة تخاطب بالتقوى ، وفي وقت المخاطبة بواجب تخاطب بالتقوى ، وفي وقت أن يعرض عليك مُحرَّم من النساء أو المال ، أو الخمور ، أو ما أشبه ذلك من الأنواع ، أو محرمات اللسان ، أو أفعال القلوب من العجب والكبر ، أو الازدراء وسوء الظن ، إلى آخره ، في كل مقام يأتيك هناك تقوى تخصه .
فإذن تتعلق التقوى بالأزمنة وبالأمكنة ؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- : ( اتق الله حيثما كنت ) ؛ لأنه ما من مكان تكون فيه أو زمان تكون فيه إلا وثم أمر أو نهي من الله -جل وعلا- يتوجه للعبد.
والوصية بالتقوى هي أعظم الوصايا ، ( وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً {131}سورة النساء ، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- كثيرا ما يوصي بعضهم بعضا بتقوى الله ، فهم يعلمون معنى هذه الوصية العظيمة .
قال -عليه الصلاة والسلام- : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) .
أتبع الفاعل أنت ، والسيئة هي المتبوعة ، والحسنة هي التابعة ، يعني: اجعل الحسنة وراء السيئة -بعد السيئة-، إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة ؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات ، كما قال -جل وعلا- : ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {114}سورة هود .

.. يتبع ..

الوافـــــي 07-12-2004 03:12 PM

قال ابن مسعود وغيره في رجل سأله عن التقوى فقال : ألم تمش على طريق فيه شوك ؟ فقال بلى . قال فما صنعت ؟ قال شمرت واتقيت ، قال فتلك التقوى" ، وهي مروية -أيضا- عن عمر رضي الله عنه ونظمها ابن المعتز الشاعر المعروف بقوله :

خــل الذنـوب صغيرهـا .... وكبيرهــا ذاك التقـى
واصنـع كمـاشٍ فوق أرضِ .... الشوك يحذر ما يرى
لا تحـــقرن صغـــيرة .... إن الجبـال مـن الحصى

وهذا بعامة يخاطب به أهل الإيمان ، فإذن تقوى الله -جل وعلا- أن تخاف من أثر معصية الله -جل وعلا- ، أن تخاف من الله -جل وعلا- فيما تأتي ، وفيما تذر ، وهي في كل مقام بحسبه .
التقوى في كل مقام بحسبه ، ففي وقت الصلاة هنا تخاطب بالتقوى ، وفي وقت الزكاة تخاطب بالتقوى ، في هذا المقام ، وفي وقت الإتيان بسنة تخاطب بالتقوى ، وفي وقت المخاطبة بواجب تخاطب بالتقوى ، وفي وقت أن يعرض عليك مُحرَّم من النساء أو المال ، أو الخمور ، أو ما أشبه ذلك من الأنواع ، أو محرمات اللسان ، أو أفعال القلوب من العجب والكبر ، أو الازدراء وسوء الظن ، إلى آخره ، في كل مقام يأتيك هناك تقوى تخصه .
فإذن تتعلق التقوى بالأزمنة وبالأمكنة ؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- : ( اتق الله حيثما كنت ) ؛ لأنه ما من مكان تكون فيه أو زمان تكون فيه إلا وثم أمر أو نهي من الله -جل وعلا- يتوجه للعبد.
والوصية بالتقوى هي أعظم الوصايا ، ( وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً {131}سورة النساء ، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- كثيرا ما يوصي بعضهم بعضا بتقوى الله ، فهم يعلمون معنى هذه الوصية العظيمة .
قال -عليه الصلاة والسلام- : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) .
أتبع الفاعل أنت ، والسيئة هي المتبوعة ، والحسنة هي التابعة ، يعني: اجعل الحسنة وراء السيئة -بعد السيئة-، إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة ؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات ، كما قال -جل وعلا- : ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {114}سورة هود .

.. يتبع ..

الوافـــــي 07-12-2004 03:14 PM

وفي الصحيح ، صحيح البخاري -رحمه الله- وغيره ( أن رجلا من الصحابة نال من امرأة قُبلة فأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر مستعظما لما فعل ، فيسأله عن كفارة ذلك ، فنزل قول الله -جل وعلا- : ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {114}سورة هود ، فقال له -عليه الصلاة والسلام- هل صليت معنا في هذا المسجد؟ قال : نعم . قال : فهي كفارة ما أتيت ) .
وهذا يدل على أن المؤمن يجب عليه أن يستغفر من السيئات ، وأن يسعى في زوالها ، وذلك بأن يأتي بالحسنات ، فالإتيان بالحسنات يمحو الله -جل وعلا- به أنواع السيئات .
وكل سيئة لها ما يقابلها ، فليس كل سيئة تمحوها أي حسنة فإذا عظمت السيئة وكبرت فلا يمحوها إلا الحسنات العظام؛ لأن كل سيئة لها ما يقابلها من الحسنات .
ولهذا جاء أن الرجل إذا غلط أو جرى على لسانه كلمة : والكعبة أو أقسم بغير الله فإن كفارة ذلك من الحلف بالآباء وأشباه ذلك أن يقول لا إله إلا الله؛ لأن ذاك شرك ، وكفارة الشرك أن يأتي بالتوحيد ، وكلمة لا إله إلا الله هي من الحسنات العظام ، كلمة التوحيد من الحسنات العظام .
إذن فالسيئات لها حسنات يمحو الله -جل وعلا- بها السيئات ، وهذا يدل على أن السيئة تمحى ، ولا تدخل في الموازنة ، وظاهر الحديث : أن هذا فيمن أتبعها يعني: أنه إذا أتى بسيئة أتبعها بحسنة بقصد أن يمحو الله -جل وعلا- منه السيئات ؛ لأنه قال ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) فإذا فعل سيئة سعى في حسنة لكي تمحى عنه تلك السيئة .
والحديث الذي ذكرنا ، وعموم الآية : ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {114}سورة هود ، يدل على عدم القصد ، فالحديث هذا دل على القصد ، يعني: أن يتبعها قاصدا ، والآية والحديث ؛ آية هود وحديث ابن مسعود الذي في البخاري تدل على عدم اعتبار القصد ، فهل هذا في كل الأعمال؟ أم أنه يحتاج إلى أن يتبع السيئة الحسنة حتى يمحوها الله -جل وعلا- عنه بقصد الإتباع ؟
هذا ظاهر في أثره ، فأعظم ما يمحو الله -جل وعلا- به السيئات أن يأتي بالحسنة بقصد التكفير ، فهذا يمحو الله -جل وعلا- به الخطيئة ؛ لأنه جمع بين الفعل والنية ، والنية فيها التوبة والندم على تلك السيئة ، والرغبة إلى الله -جل وعلا- في أن يمحوها الله -جل وعلا- عنه .
إذن فهي مرتبتان :-
المرتبة الأولى : أن يقصد -وهي العليا- أن يقصد إذهاب السيئة بالحسنة التي يعملها ، وهذا معه أن القلب يتبرأ من هذا الذنب ، ويرغب في ذهابه ، ويتقرب إلى الله -جل وعلا- بالحسنات حتى يرضى الله -جل وعلا- عنه ففي القلب أنواع من العبوديات ساقته إلى أن يعمل بالحسنة ؛ ليمحو الله -جل وعلا- عنه بفعله الحسنة ما فعله من السيئات .
والمرتبة الثانية : أن يعمل بالخير مطلقا ، والحسنات يذهبن السيئات بعامة ، كل حسنة بما يقابلها من السيئة ، فالله -جل وعلا- ذو الفضل العظيم .
إذا تقرر ذلك فالحسنة : المقصود بها الحسنة في الشرع ، والسيئة هي : السيئة في الشرع ، والحسنة في الشرع : ما يثاب عليه ، والسيئة في الشرع : ما ورد الدليل بأنه يعاقب عليه .
إذن فالسيئات هي المحرمات من الصغائر والكبائر ، والحسنات هي الطاعات من النوافل والواجبات .

.. يتبع ..

الوافـــــي 07-12-2004 03:16 PM

قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك : ( وخالق الناس بخلق حسن ) والناس هنا يراد بهم المؤمنون في جماع الخُلق الحسن بأن يحسن إليهم ، ويراد بهم -أيضا- غير المؤمنين في معاملتهم بالعدل ، والخُلق الحسن يشمل : ما يجب على المرء من أنواع التعامل بالعدل لأهل العدل ، والإحسان لمن له حق الإحسان ، قال -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( خالق الناس بخلق حسن ) .
والخلق الحسن فسر بتفسيرات منها أنه : بذل الندى وكف الأذى ، يعني: أن تبذل الخير للناس ، وأن تكف أذاك عنهم .
وقال آخرون : إن الخلق الحسن : أن يحسن للناس بأنواع الإحسان ، ولو أساءوا إليه ، كما جاء الأمر بمخالقة الناس بالخلق الحسن ، والحث على ذلك ، وبيان فضيلته في أحاديث كثيرة .
ومما جاء في بيان فضيلته قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إن أدناكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ) .
وثبت عنه -أيضا عليه الصلاة والسلام- أنه قال : ( إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم ) يعني: : المتنفل بالصيام ، والمتنفل بالقيام فحسن الخلق الذي يبذله دائما طاعة من طاعات الله -جل وعلا- ، فإذا كان دائم إحسان الأخلاق على النحو الذي وصفت ، فإنه يكون في عبادة دائمة ، إذا فعل ذلك طاعة لله -جل وعلا- .
وحسن الخلق تارة يكون "طبعا" ، وتارة يكون "حملا" يعني: طاعة لله -جل وعلا- لا طبعا في المرء ، وما كان من حسن الخلق على امتثال الطاعة ، وإلزام النفس بذلك فهو أعظم أجرا ممن يفعله على وفق الطبيعة ، يعني: لا يتكلف فيه؛ لأن القاعدة المقررة عند العلماء أن : الأمر إذا أمر به في الشرع ، يعني: أن المسألة إذا أمر بها في الشرع ، فإذا امتثلها اثنان فإن من كان أكلف في امتثال ما أمر به كان أعظم أجرا في الإتيان بالواجبات .
كما ثبت في الصحيحين أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لعائشة ( إن أجركِ على قدر نَصَبِك ) وهذا محمول على شيئين ، يعني: مشروط بشرطين :-
الأول : أن يكون من الواجبات .
والثاني : أن يكون مما توجه الأمر للعبد به فيكون أجره على قدر مشقته في امتثال الأمر .
أما النوافل فلا لحديث الذي يقرأ القرآن فيه تفاصيل القاعدة المعروفة عند أهل العلم.


إنتهى شرح الحديث الثامن عشر

تحياتي

:)

الوافـــــي 28-12-2004 04:06 PM

الحديث التاسع عشر

يا غلام إني أعلمك كلمات

وعن أبي العباس عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال ( كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال : يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ) رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح ، وفي رواية غير الترمذي ( احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا )
هذا حديث عظيم جدا من وصايا المصطفى -عليه الصلاة والسلام- خص بها ابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وهذه الوصية جمعت خيري الدنيا والآخرة ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصى عبد الله بن عباس ، وأمره بقوله ( يا غلام إني أعلمك كلمات ) وهذا اللفظ فيه تودد المعلم والأب والكبير إلى الصغار ، وإلى من يريد أن يوجه بالألفاظ الحسنة ، فهو استعمل -عليه الصلاة والسلام- لفظ التعليم : ( إني أعلمك كلمات ) وهي أوامر ، فلم يقل له -عليه الصلاة والسلام- : إني آمرك بكذا وكذا، وإنما ذكر لفظ التعليم ؛ لأنه من المعلوم أن العاقل يحب أن يستفيد علما .
النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( يا غلام إني أعلمك كلمات ) والكلمات : جمع كلمة والمقصود بها هنا : الجمل؛ لأن الكلمة في الكتاب والسنة غير الكلمة عند النحاة ، الكلمة عند النحاة : اسم أو فعل أو حرف ، أما في الكتاب والسنة فالكلمة : هي الجملة ، كما قال -جل وعلا في سورة المؤمنون:- ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {100} ، يريد بها ما جاء في الآية قبلها : ( حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ {99} سورة المؤمنون
وثبت -أيضا- في مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ ) قال : ( أصدق كلمة ) فإذن الكلمة يُعنى بها : الجمل ، فقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إني أعلمك كلمات ) يعني: إني أعلمك جملا ووصايا ، فأرعها سمعك .

.. يتبع ..

الوافـــــي 28-12-2004 04:08 PM

قال -عليه الصلاة والسلام- بعدها : ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ) .
هذه هي الوصية الأولى : ( احفظ الله يحفظك ) فهنا أمره بأن يحفظ الله ، ورتب عليه أن الله -جل وعلا- يحفظه ، وحفظ العبد ربه -جل وعلا- المراد منه : أن يحفظه في حقوقه -جل وعلا- .
وحقوق الله -جل جلاله- نوعان :
حقوق واجبة ، وحقوق مستحبة ، فحفظ العبد ربه يعني: أن يمتثل ( احفظ الله ) أن يأتي بالحقوق الواجبة ، والحقوق المستحبة ، ونعبر بالحقوق تجوزا بالمقابلة ، يعني: الحقوق الواجبة والمستحبة ، فمن أتى بالواجبات والمستحبات فقد حفظ الله -جل وعلا- ؛ لأنه يكون من السابقين بالخيرات ، والمقتصد -أيضا- قد حفظ الله -جل وعلا- إذ امتثل الأمر الواجب ، وانتهى عن المُحَرَّم .
فأدنى درجات حفظ الله -جل وعلا- أن يحفظ الله -سبحانه وتعالى- بعد إتيانه بالتوحيد بامتثال الأمر ، واجتناب النهي ، والدرجة التي بعدها المستحبات ، هذه يتنوع فيها الناس ، وتتفاوت درجاتهم .
قال : ( احفظ الله يحفظك ) .
وحفظ الله -جل وعلا- للعبد على درجتين -أيضا- :-
أما الأولى : فهو أن يحفظه في دنياه ، أن يحفظ له مصالحه في بدنه بأن يصحه ، وفي رزقه بأن يعطيه حاجته ، أو أن يوسع عليه في رزقه ، وفي أهله بأن يحفظ له أهله وولده ، وأنواع الحفظ لمصالح العبد في الدنيا ، فكل ما للعبد فيه مصلحة في الدنيا فإنه موعود بأن تحفظ له إذا حفظ الله -جل وعلا- بأداء حقوق الله -جل جلاله- والاجتناب عن المحرمات .
والدرجة الثانية من حفظ الله -جل وعلا- للعبد ، وهي أعظم الدرجتين وأرفعهما وأبلغهما عند أهل الإيمان ، وفي قلوب أهل العرفان ، هي : أن يحفظ الله -جل وعلا- العبد في دينه ، بأن يسلم له دينه بإخلاء القلب من تأثير الشبهات فيه ، وإخلاء الجوارح من تأثير الشهوات فيها ، وأن يكون القلب معلقا بالرب -جل وعلا- ، وأن يكون أُنسه بالله ، ورغبه في الله ، وإنابته إليه ، وخلوته المحبوبة بالله -جل جلاله-.
كما جاء في حديث "الولي" المعروف، الذي رواه البخاري في الصحيح وغيره -أيضا- قال -عليه الصلاة والسلام- : قال الله -تعالى- في جمل ابتدأ بها الحديث ، ثم قال : ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له من ذلك ) .
فحفظ الله -جل وعلا- العبد في الدين هذا أعظم المطالب ، ولهذا كان -عليه الصلاة والسلام- يدعو الله كثيرا أن يُحفَظَ من الفتن وأن يحفظه الله -جل وعلا- من تقليب القلب ، ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك ) ( يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ) ونحو ذلك .

.. يتبع ..

الوافـــــي 28-12-2004 04:09 PM

وكان كثيرا ما يقسم ( لا ومقلب القلوب ) فالعبد أعظم المطالب التي يحرص عليها أن يسلم له دينه ، والله -جل وعلا- قد يبتلي العبد بخلل في دينه ، وشبهات تطرأ عليه لتفريطه في بعض ما يجب أن يُحفظ اللهُ -جل وعلا- فيه ؛ فلهذا العبد إذا حصل له إخلال في الدين ، فإنه قد أخل بحفظ الله -جل وعلا- ، وقد يعاقب بأن يُجعل غافلا ، وقد يُعاقب بحرمانه البصيرة في العلم ، وقد يُعاقب بأن تأتيه الشبهة ولا يحسن كيف يتعامل معها ، ولا كيف يردها .
وقد يُعاقب بأنه تأتيه الشبهة فتتمكن منه ، كما قال -جل وعلا- : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {5}سورة الصف ، وكما قال : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {67}سورة التوبة ، وكما قال -جل وعلا- : ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7} سورة آل عمران ، وكما قال -جل وعلا- : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ {155}الآية في الأعراف .
وهكذا في آيات أخر دلت على أن العبد قد يخذل ، وخذلانه في أمر الدين هو أعظم الخذلان ، ولهذا ينبغي للعبد أن يحرص تمام الحرص على أن يحفظ الله -جل وعلا- في أمره سبحانه ، وإن فاته الامتثال فلا يفته الاستغفار ، والإنابة واعتقاد الحق ، وعدم التردد والسرعة باتباع السيئة بالحسنة لعلها أن تُمحى .

لهذا فإن حفظ الله -جل وعلا- للعبد بأن يكون الحفظ في الدين أعظم من أن يحفظ في أمر دنياه ، ولهذا في قول الله -جل وعلا- في سورة المائدة :- ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {13}‏ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ {14} سورة المائدة قوله : ) وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ) ، يعني: تركوا نصيبا مما أُمروا به ، تركوه عن عمد وعن علم ، فلما علموه تركوه عن بصيرة فعوقبوا بالفرقة ، (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ {14} سورة المائدة .
وهذا من أنواع العقوبات التي يبتلي الله -جل وعلا- بها العباد ، ويعاقب بها المؤمنين ؛ حيث يعاقبهم بالفرقة ؛ لأنهم تركوا ما أوجب الله -جل وعلا- عليهم من مقتضى العلم ، وهذا نوع من أنواع ترك حفظ الله -جل وعلا- للعبد ، فالعبد بحاجة أن يحفظه الله -سبحانه وتعالى- بتوفيقه له ، ومعيته له ، وتسديده إياه .


.. يتبع ..

الوافـــــي 28-12-2004 04:11 PM

حفظ الله -جل وعلا- للعبد في الدين ، أو في الدنيا -أيضا- راجع إلى معية الله -سبحانه وتعالى- والمراد بها : المعية الخاصة التي مقتضاها : التوفيق والإلهام والتسديد والنصر والإعانة .
قال : ( احفظ الله تجده تجاهك ) يعني: : احفظ الله على نحو ما وصفنا تجده دائما على ما طلبت ، تجده دائما قريبا منك ، يعطيك ما سألت ، كما ذكرت لك في حديث "الولي" ( ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ) .
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك ، ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ) هذا مأخوذ من قول الله -جل وعلا- ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} سورة الفاتحة ، وفيه إفراد الله -جل وعلا- بالاستعانة وبالسؤال ، وهذه على مرتبتين:-

الأولى : واجبة ، وهي التوحيد بأن يستعين بالله -جل جلاله- وحده دون ما سواه فيما لا يقدر عليه إلا الله -جل وعلا- ، فهذا واجب أن يُفرد الله -جل وعلا- بالاستعانة ، وكذلك أن يسأل الله -جل وعلا- وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله -جل وعلا- ، هذا هو المعروف عندكم في التوحيد فيما يكون من الدعاء صرفه لغير الله -جل وعلا- شرك ، وكذلك في الاستعانة التي يكون صرفها لغير الله -جل وعلا- شركا .

المرتبة الثانية : المستحبة ، وهو أنه إذا أمكنه أن يقوم بالعمل ، فإنه لا يسأل أحدا من الناس شيئا ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ العهد على عدد من الصحابة ألا يسألوا الناس شيئا ، قال الراوي : ( فكان أحدهم يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه ) وهذا من المراتب التي يتفاوت فيها الناس .

فإذا أمكنك أن تقوم بالشيء بنفسك فالأفضل والمستحب ألا تسأل أحدا من الخلق في ذلك ، إذا أمكنك يعني: بلا كلفة ، ولا مشقة ، ومن كانت عادته دائما أن يطلب الأشياء فهذا مكروه، وينبغي للعبد أن يوطن نفسه ، وأن يعمل بنفسه ما يحتاجه كثيرا، وإذا سأل في أثناء ذلك ، فإنه لا يقدح حتى في الدرجة المستحبة ؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- ربما أمر من يأتيه بالشيء ، وربما طلب من يفعل له الشيء ، وهذا على بعض الأحوال .
قال : ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ) ظاهر في الوجوب ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ) على القيد الذي ذكرنا لكم ؛ من أن هذا يتناول المرتبة الأولى على الوجوب ، والمرتبة الثانية على الاستحباب.

قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ) .

هذا فيه بيان القدر الثابت ، وأن العباد لن يغيروا من قدر الله -جل وعلا- الماضي شيئا ، وأما مَن عظم توكله بالله -جل وعلا- ، فإنه لن يضره الخلق ، ولو اجتمعوا عليه ، كما قال -جل وعلا- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {67}سورة المائدة .
وجاء في عدد من الأحاديث بيان هذا الفضل ، في أن العبد إذا أحسن توكله على الله -جل وعلا- ، وطاعته لله ، فإن الله يجعل له مخرجا ، ولو كاده من في السماوات ، ومن في الأرض لجعل الله -جل وعلا- له من بينهن مخرجا .

.. يتبع ..

الوافـــــي 28-12-2004 04:12 PM

والتوكل على الله -جل وعلا- ظاهر من هذه الوصية ؛ حيث قال : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك ) ثم قال : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك ... ) إلى آخر الجملتين ، وهذا فيه إعظام التوكل على الله -جل وعلا- .
والتوكل على الله -سبحانه وتعالى- من أعظم المقامات ؛ مقامات الإيمان ، بل هو مقام الأنبياء والمرسلين في تحقيق عبوديتهم العظيمة للرب -جل وعلا- .
والتوكل على الله معناه : أن يفعل السبب الذي أُمر به ، ثم يفوض أمره إلى الله -جل وعلا- في الانتفاع بالأسباب ، وإذا كان ما لديه من الأمر لا يملك أن يفعل له سببا فإنه يفوض أمره إلى الله -جل وعلا- كما قال سبحانه في ذكر مؤمن آل فرعون ) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {44} سورة غافر ، وهذا التفويض إلى الله -جل وعلا- عمل القلب خاصة ، يعني: أن يلتجئ بقلبه ، وأن يعتمد بقلبه على الله -جل وعلا- في تحصيل مراده ، أو دفع الشر الذي يخشاه ، والعباد إذا تعامل معهم فإنما يتعامل معهم على أنهم أسباب ، والسبب قد ينفع ، وقد لا ينفع ، فإذا تعلق القلب بالخلق أوتي من هذه الجهة ، ولم يكن كاملا في توكله .
فتعلق القلب بالخلق مذموم ، والذي ينبغي : أن يتوكل على الله ، وأن يعلق قلبه بالله -جل وعلا- ، وألا يتعلق بالخلق ، حتى ولو كانوا أسبابا ، فينظر إليهم على أنهم أسباب ، والنافع والذي يجعل السبب سببا ، وينفع به هو الله -جل وعلا- .
إذا قام هذا في القلب فإن العبد يكون مع ربه -جل وعلا- ، ويعلم أنه لن يكون له إلا ما قدره الله -جل وعلا- له ، ولن يمضي عليه إلا ما كتبه الله -جل وعلا- عليه .
قال -عليه الصلاة والسلام- ( رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ) يعني: أن الأمر مضى وانتهى ، وهذا لا يدل ، كما ذكرته لكم فيما سبق ، لا يدل على أن الأمر على الإجبار ، بل إن القدر ماض ، والعبد يمضي فيما قدره الله -جل وعلا- ؛ لأجل التوكل عليه ، وحسن الظن به ، وتفويض الأمر إليه ، وهو إخلاء القلب من رؤية الخلق .
قال : وفي رواية غير الترمذي : ( احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ) .
قوله : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) تعرُّف العبد إلى ربه هو : علمه بما يستحقه -جل وعلا- ، ( تعرف إلى الله في الرخاء ) يعني: : تعلم ما يستحقه -جل وعلا- عليك ، ما يستحقه -جل وعلا- منك ؛ توحيده في ربوبيته ، وإلهيته ، وفي أسمائه وصفاته ، ما يستحقه -جل وعلا- من طاعته في أوامره ، وطاعته فيما نهى عنه باجتناب المنهيات ، وما يستحقه -جل وعلا- من إقبال القلب عليه ، وإنابة القلب إليه ، والتوكل عليه ، والرغب فيما عنده ، وإخلاء القلب من الأغيار ، يعني: من غيره -جل وعلا- ، واتباع ما يحب ويرضى من أعمال القلوب .

.. يتبع ..

الوافـــــي 28-12-2004 04:13 PM

( تعرف إلى الله في الرخاء ) يعني: : إذا كنت في رخاء من أمرك ، بحيث قد يأتي لبعض النفوس أنها غير محتاجة لأحد ، هنا ( تعرف إلى الله في الرخاء ) واطلب ما عنده ، وتعلم ما يستحقه -جل وعلا- ، واتبع ذلك بالامتثال ، فإن هذا من أفضل الأعمال الصالحة ، بل هو لب الدين وعماده ، العلم بما يستحقه -جل وعلا- ، ثم العمل بذلك ، إذا حصل منك التعرف إلى الله ، والتعرف على الله -جل وعلا- عرفك الله في الشدة ، قال : ( يعرفك في الشدة ) وكلمة : "يعرفك" هذه جاءت على جهة الفعل ، ومعلوم في باب الصفات أن باب الأفعال أوسع من باب الأسماء ، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات .
فهذا إذن لا يقتضي أن يكون من صفاته -جل وعلا- المعرفة ، فإنه لا يوصف الله -جل وعلا- بأنه ذو معرفة ، بل يقيد هذا على جهة المقابلة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم هنا : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) فيجوز أن تستعمل لفظ "يعرف" على الفعلية ، وفي مقابلةِ لفظِ يعرف آخر ، كما في نظائره كقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إن الله لا يمل حتى تملوا ) وكما في قول الله -جل وعلا- : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ {30} سورة الأنفال ، وفي قوله : وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ {14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {15}سورة البقرة ، وأشباه ذلك من الألفاظ التي جاءت بصيغة الفعل ، ومجيئها بلفظ الفعل لا يدل على إطلاقها صفة ؛ لأنها جاءت على لفظ المقابلة .
ومجيء بعض الصفات ، يعني: على جهة الأفعال بالمقابلة هذا يدل على الكمال ، ومعلوم أن المعرفة غير العلم ، العلم كمال ، وأما المعرفة فإنها قد تشوبها شائبة النقص؛ لأن لفظ المعرفة ، وصفة المعرفة هذه قد يسبقها جهل ، يعني: عرف الشيء يعني: : تعرف إليه بصفاته ، وهذا يقتضي أنه كان -ربما- جاهلا به غير عالم به .
أما العلم فهو صفة لا تقتضي ، ولا يلزم منها سبق عدم علم ، أو سبق جهل ، وأشباه ذلك ، ولهذا كان من أسماء الله الحسنى : "العليم" ، ولم يكن من أسمائه -جل وعلا- العارف ، وأشباه ذلك.
إذا تقرر هذا فلفظ المعرفة جاء في القرآن على جهة الذم قال -جل وعلا-: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ {83} سورة النحل ، وقال -جل وعلا- : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ {20}سورة الأنعام ، والآية الأخرى -أيضا- في الأنعام ، والآية الأخرى -أيضا- في البقرة في هذا .
فلفظ المعرفة جاء على جهة الذم في غالب ما جاء في الكتاب والسنة ، وقد يكون يأتي على معنى العلم ، كما في هذا الحديث .
فإذن قوله : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) من جهة الصفات هذا بحثه ما معناه معرفة الله للعبد في الشدة ، قال العلماء : هذه معناها المعية ، ومعرفة الله -جل وعلا- للعبد في الشدة يعني: : أن يكون معه بمعية النصر والتأييد والتوفيق : وأشباه ذلك .
قال : ( واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ) وهذا في القدر ومن قرأ بحثه ، قال : ( واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ) هذا فيه الأمر بالصبر ، وأن مع الكرب يأتي الفرج ، وأن مع العسر يأتي اليسر ، كما قال -جل وعلا- : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً {6}سورة الشرح .

.. يتبع ..

الوافـــــي 28-12-2004 04:15 PM

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لن يغلب عسر يسرين ) وهذا من فضل الله -جل وعلا- قد قال الشاعر:
اشـتدي أزمة تنفرجي ... قد آذن ليلك بالبلج
في القصيدة المسماة بـ"المنفرجة" ، وهذا يدل على أن العبد إذا اشتد عليه الأمر ، وأحسن الصبر ، وأحسن الظن بالله -جل وعلا- فإنه يؤذن له بأن ينفرج كربه ، وأن ييسر له عسره ، والصبر أمر به هنا في قوله : ( واعلم أن النصر مع الصبر ) والنصر مطلوب ، فصار الصبر مطلوبا ، والصبر مرتبة واجبة ، وإذا حصل كرب ومصيبة ، كما قال : ( ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ) إذا حصلت مصيبة فإن الصبر واجب يعني: الصبر أمر الله به ، وهو واجب على كل أحد ، ومعنى الصبر الواجب : أن يحبس اللسان عن الشكوى ، ويحبس القلب عن التسخط ، ويحبس الجوارح عن التصرف بما لا يجوز من شق أو نياحة أو لطم ، وأشباه ذلك من الأفعال في غير مصيبة الموت .
فإذن الصبر فيه حبس اللسان عن التشكي ، كما هو تعريف الصبر، قيل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: هذا رجل ظلمه السلطان فأخذ يدعو عليه ، قال أحمد : هذا خلاف الصبر الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم مع السلطان ، لا يدعى عليه .
وهذا له مأخذ آخر من جهة أن الكرب الذي ربما أتى من السلطان إذا تشكى المؤمن منه فإنه يخالف حبس اللسان عن التشكي ، ولهذا لما جاء أحد الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ما يلقى من المشركين من الشدة غضب النبي -عليه الصلاة والسلام- لأجل أنهم لم يصبروا ، وقال : ( إنه كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار نصفين ما بين جلده وعظمه لا يرده ذلك عن دينه ، فوالله ليتمن الله هذا الأمر ... ) الحديث ، فدل هذا على أن الصبر واجب في جميع الحالات .
والصبر حبس للسان عن التشكي ، وحبس للقلب عن التسخط ، وحبس للجوارح عن التصرف في غير ما يرضي الله -جل وعلا- ؛ ولهذا أمر الله نبيه أن يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ، ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ {35}‏ سورة الأحقاف ، وكل مخالفة لهذا الواجب يأتي لها أضدادها في حياة العبد ، إما الخاصة أو العامة .

.. يتبع ..

الوافـــــي 28-12-2004 04:16 PM

المرتبة الثانية المستحبة هي : الرضا.
الرضا بما قدر الله -جل وعلا- ، فالصبر واجب ، وأما الرضا فمستحب ، الرضا بالمصيبة مستحب ، ومعنى الرضا بالمصيبة : أن يستأنس لها ، ويعلم أنها خير له ، فيقول: هي خير لي ، ويرضى بها في داخله ، ويسلم لها ، ولا يجد في قلبه تسخطا عليها ، أو لا يجد في قلبه رغبة في أن لا تكون جاءته ، بل يقول : الخير في هذه ، وهذه مرتبة خاصة .
وهناك فرق ما بين الرضا الواجب ، والرضا المستحب في المصيبة ، فإن المصيبة إذا وقعت تعلق بها نوعان من الرضا : رضا واجب ورضا مستحب ، والرضا الواجب هو : الرضا بفعل الله -جل وعلا- ، والرضا المستحب هو : الرضا بالمصيبة ، يعني: الرضا بفعل الله هذا واجب ؛ لأنه لا يجوز للعبد ألا يرضى بتصرف الله -جل وعلا- في ملكوته ، بل يرضى بما فعل الله -جل وعلا- في ملكوته ، ولا يكون في نفسه معارضة لله -جل وعلا- في تصرفه في ملكوته ، هذا القدر واجب .
وأما المستحب فهو الرضا بالمصيبة يعني: الرضا بالمقضي ، فهناك فرق ما بين الرضا بالقضاء ، والرضا بالمقضي ، فالرضا بالقضاء الذي هو فعل الله -جل وعلا- هذا واجب ، والرضا بالمقضي هذا مستحب ، ونقف عند هذا ، أسأل الله لي ولكم العون والتوفيق والسداد

إنتهى شرح الحديث التاسع عشر

تحياتي

:)

الوافـــــي 28-01-2005 03:47 PM

الحديث العشرون

إذا لم تستح فاصنع ما شئت

قال المصنف -رحمه الله- تعالى وعن أبي مسعود عقبة بن عامر الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) رواه البخاري.

هذا الحديث فيه الكلام على شعبة من شعب الإيمان ألا وهي الحياء ، فقد أُسند الكلام هنا إلى ما بقي للناس من النبوة الأولى فقد قال -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) .

فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ) يقتضي أن هناك كلاما أدركه الناس من كلام الأنبياء ، ومعنى الإدراك : أنه فشا في الناس ، وتناقلوه عن الأنبياء .

وقوله : ( مما أدرك الناس ) من هنا تبعيضيه فيكون هذا القول وهو : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) يكون بعض ما أُدرك من كلام النبوة الأولى ، فقال -عليه الصلاة والسلام- : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ) والنبوة الأولى المقصود بها : النبوات المتقدمة ، يعني: أوائل الرسل والأنبياء كنوح -عليه السلام- ، وإبراهيم -عليه السلام- وهكذا .

فإن نوحا -عليه السلام- له كلام فشا في أتباعه فيما بعده ، وإبراهيم -عليه السلام- كذلك في كلام له ، وكذلك مما أعطاه الله -جل وعلا- وأوحاه إليه فيما في صحفه .

فالنبوة الأولى المقصود بها : النبوات السابقة البعيدة عن إرث الناس لذلك الكلام ، فيكون مقتضى النبوة الأولى أن هناك نبوات متأخرة ، وهذا صحيح ؛ لأنه إذا أُطلق النبوات الأولى فإنما يُعنَى به الرسل والأنبياء المتقدمون ، أما موسى -عليه السلام- ، وعيسى -عليه السلام- ، وهكذا أنبياء بني إسرائيل، داود وغيره هؤلاء من النبوات المتأخرة ، يعني: من الأنبياء والرسل المتأخرين.

وقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ) هذا يعني: أن هذا الكلام كلام أنبياء ، وله تشريعه ، وله فائدته العظيمة ، فهذا فيه لفت النظر إلى الاهتمام بهذا الكلام .

قال : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) تستحي يعني: الحاء هنا؛ لأن الفعل استحى يستحي فهنا تستحي فجزم لم أثَّرَ في الفعل بحذف الياء؛ لأن هناك يائين ، وتظهر هذه في قول الله -جل وعلا- : إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .... {26}سورة البقرة ، فثم ياءان ، هنا لما أتت لم حذفت الياء التي هي من الفعل ، وبقيت الياء الأخرى الداخلة ، وإذا قيل لم تستحِ على كسر الحاء إشارة إلى حذف الياء فلا بأس في نظائرها المعروفة في النحو .

قوله هنا : ( لم تستح فاصنع ما شئت ) هذا فيه ذكر الحياء ، والحياء كما جاء في الحديث الآخر شعبة من الإيمان ، وهو ملكة باطنة ، والحياء هذا يأتي تارة بالجبلة والخلق المطبوع عليه الإنسان ، وتارة يأتي بالاكتساب ، أما بالجبلة والطبع فهذا يكون بعض الناس حييا .

كما جاء في الصحيح ( أن رجلا من الأنصار كان يعظ أخاه في الحياء -يعني: يقول له : لماذا تستحي ؟ لماذا أنت كذا وكذا فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام- : دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير ) فالحياء شعبة باطنة ، ويكون جبليا طبعيا ، ويكون مكتسبا ، والمكتسب مأمور به ، وهو أن يكون مستحيا من الله -جل وعلا- وأن يكون مبتعدا عن المحرمات ، وما يشينه عند ربه -جل وعلا- ، ممتثلا للأوامر مقبلا عليها؛ لأن الله -جل وعلا- يحب ذلك ويرضاه ، فالحياء المكتسب ما يكون في القلب من الخُلق الذي يجعله آنفا أن يغشى الحرام ، أو أن يترك الواجب ، وهذا يكون بملازمة الإيمان ، وبالعلم والعمل الصالح حتى يكون ذلك ملكة .

.. يتبع ..

الوافـــــي 28-01-2005 03:50 PM

وقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) فسر بتفسيرين ، يعني: العلماء اختلفوا فيه على قولين : ومجمل هذين القولين : أن هذا إما أمر ، وإما ليس بأمر ، ومن قال : إنه أمر قال : معنى الحديث إذا كان الأمر الذي تريد إتيانه مما لا يستحيا منه فاصنع ما شئت من تلك الأمور التي لا يستحيا منها عند المؤمنين .

يعني: إذا كان الأمر ليس حراما ، وليس مما يخرم مكارم الأخلاق والمروءات ، ولم يكن فيه تفريط بواجب ، ولم يكن مما يستحي منه في الشرع فاصنعه ولا تبال؛ لأن هذا دليل أنه لا بأس به ، وهذا قول جماعة من أهل العلم ، منهم إسحاق وأحمد ، وجماعة كثيرون .

والقول الثاني : أنه ليس بأمر ، وأهل العلم في هذا -أيضا- لهم توجيهان :-
الأول : قالوا: إنه خرج عن معنى الأمر الذي هو الإلزام بالفعل إلى التهديد فمعنى ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) يعني: إذا لم يكن لك حياء يمنعك من مقارفة الحرام والمنكر ، والتفريط في الواجبات فاصنع ما شئت ، فإن من لا حياء له لا خير فيه ، وهذا يكون خرج للتهديد ؛ لأن صيغة "افعل" عند الأصوليين ، وعند أهل اللغة تأتي ويراد بها التهديد ، كما في قوله -جل وعلا- : إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {40}في سورة فصلت ، وهذا مخاطب به المشركون ، يعني: اعملوا ما شئتم من الأعمال ، وليس هذا تخييرا لهم ، ولكنه تهديد ، ( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ {49}سورة الدخان ، هذا توبيخ ليس فيه الأمر الذي هو يوجب الامتثال ، ولكن هذا من باب التهكم والتوبيخ والتخويف وهكذا .
فإذن صيغة "افعل" تخرج عن مرادها من أنه إلزام بالفعل إلى صيغ أخرى بلاغية منها : التهديد والتوبيخ ، وأشباه ذلك ، فهنا في قوله : ( فاصنع ما شئت ) هذا على جهة التهديد ، إذا لم يكن لك مانع من الحياء يمنعك عن مقارفة المنكر فإنه افعل ما شئت ، وستلقى الحساب وستلقى سوء هذا الفعل الذي لم يمنعك عنه الحياء .

والوجه الثاني لهذا القول : أن طائفة من أهل العلم قالوا: هذا خرج مخرج الخبر ، يعني: أن ما لا يستحيا منه فإن الناس يصنعونه ، وهذا خبر عن الناس ، وعما يفعلونه ، وهو أن الأمور التي لا يستحيون منها يصنعونها ، إذا لم تستح من ذلك الفعل فلك صنعه ، أو فالناس يفعلونه ، فهو أمر في ظاهرة خبر في باطنه.

وهذان القولان ظاهران ، في الأول ، وفي الثاني ، يعني: أنه أمر أو أنه ليس بأمر خرج على التهديد ، أو على الخبر ، كل هذا قريب ، والحديث يحتمل القول الأول ، ويحتمل القول الثاني .

إنتهى شرح الحديث العشرون

تحياتي

:)

نسيم التوعية 20-02-2005 04:04 PM

إلى الوافي تحياتي
 
أخي الكريم الفاضل / الوافي
جعل الله لك من اسمك نصيب وأسأل الله أن ينفع بك وأن يوفقك ويسدد على طريق الخير خطاك . وإلى الأمام دوماً .
نسيم التوعية

الوافـــــي 12-03-2005 02:44 PM

أخي الكريم / نسيم التوعية

جزاك الله خيرا على مرورك الكريم من هنا
وأسأل الله أن يجعل لك من دعواتك نصيباً موفورا

تحياتي

:)

الوافـــــي 12-03-2005 02:46 PM

الحديث الحادي والعشرون

قل : آمنت بالله ثم استقم

وعن أبي عمرو ، وقيل : أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال : ( قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسال عنه أحدا غيرك ؟ قال : قل : آمنت بالله ثم استقم ) رواه مسلم .

هذا الحديث -أيضا- من أحاديث الوصايا، وهو الحديث الواحد والعشرون ، حديث سفيان بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : ( قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسال عنه أحدا غيرك ؟
قال : قل : آمنت بالله ثم استقم ) هذا طلب وصية ، طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوصيه .
وقوله : ( قل لي في الإسلام ) يعني: قل لي وصية في شأن الإسلام ، ( قل لي في الإسلام قولا ) يعني: أوصني في أمر في الإسلام ، في دين الإسلام لا يحوجني معه أن أسأل أحدا عن أمر آخر
فقال -عليه الصلاة والسلام- وهو من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( قل : آمنت بالله ثم استقم وهذا مأخوذ من قول الله -جل وعلا-) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ {30} سورة فصلت الآية
فقوله في الآية -جل وعلا- : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) هو كقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( قل : آمنت بالله ثم استقم ) .

وفي رواية ( قل آمنت بالله فاستقم ) وهذا الحديث في معنى الآية ، ومعنى الإيمان بالله هو معنى أن تقول : ربي الله؛ لأن قول العبد : ربي الله معناها معبودي الله وحده لا شريك له ، ؛ لأن الابتلاء في القبر يكون بمسألة العبودية التوحيد الذي هو توحيد الإلهية ويأتي بصيغة الربوبية؛ لأن العبد يُسأل في قبره من ربك ؟ من نبيك ؟ ما دينك ؟ فمن ربك يعني: من معبودك ؟ الرب يطلق ويراد به المعبود؛ لأن المعبود يعني: توحيد المعبود لازم عن توحيد الرب ، فتوحيد الإلهية لازم لتوحيد الربوبية، فمن أيقن بتوحيد الربوبية لزم عنه أن يوحد الله في الإلهية ، وفي أسمائه وصفاته .

بهذا كان الاحتجاج في القرآن على المشركين كثيرا في توحيد الربوبية ، الاحتجاج عليهم بتوحيد الربوبية في توحيد الإلهية ، كما في قوله -جل وعلا- : قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ {31} فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ {32}سورة يونس .

وكقوله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ {87} الزخرف وكقوله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ {9}سورة الزخرف .

.. يتبع ..

الوافـــــي 12-03-2005 02:48 PM

والآيات في هذا كثيرة
فطريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما يقرون به ، وهو توحيد الربوبية على ما ينكرونه وهو توحيد الإلهية .

إذن فقوله : ( آمنت بالله ) قول قائل : آمنت بالله ، أو قوله: ربي الله هو التوحيد الذي يشمل توحيد الربوبية والإلهية والأسماء والصفات؛ لأن أحد هذه الأشياء يلزم منه البقية ، أو أن بعضها يتضمن البعض الأخر .

قوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( قل آمنت بالله ) كما تقدم معنا أن الإيمان قول وعمل واعتقاد ، فإذا قال : آمنت بالله ، يعني: أنه اعتقد الاعتقاد الصحيح ، وعمل العمل الصحيح الصالح الذي وافق فيه السُنة ، وكان مخلصا فيه لله -جل وعلا- و-أيضا- تكلم وتلفظ بما يحب الله -جل وعلا- ويرضى .

فإذن قوله : ( قل : آمنت بالله ) هذا يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات ، فدخل في هذه الوصية الدين كله ؛ لأنه قال : ( قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك ) وفي لفظ ( لا أسأل عنه أحدا بعدك ) فقال : ( قل : آمنت بالله ) وقوله : ( آمنت بالله ) المقصود به الإيمان الشرعي ؛ لأنه هو الذي يتعدى بالباء ، فالإيمان إذا تعدى بالباء في نصوص الكتاب والسنة فيعنى به الإيمان الشرعي ، الذي هو قول وعمل واعتقاد.

وكما ذكرنا لكم سلفا في شرح حديث جبريل أن الإيمان مشتق من الأمن ، وأصله أن من آمن بشيء أمن الغائلة ، يعني: من صدق به تصديقا جازما ، وعمل بما يقتضيه ذلك التصديق فإنه يأمن غائلة التكذيب؛ لأن تكذيب المخبر له غائلة يعني: له أثر سيئ على المكذِب ، فمن كذَب لم يأمن فالإيمان والأمن متلازمان من حيث الأثر .

والإيمان مشتق من الأمن ، يعني: من جهة الاشتقاق اللغوي البعيد ، والإيمان معناه : التصديق الجازم الذي لا ريب معه ، ولا تردد فيه .

( ثم استقم ) ثم هذه لتراخي الجمل ، وإلا فإن الاستقامة من الإيمان ، فلا يفصل بين الاستقامة والإيمان ، كما تقول : آمن بالله ثم اعمل من الصالحات فهذا تراخي جملة عن جملة ، وتراخي الجمل بـ "ثم" له فائدة من جهة علم المعاني في البلاغة محل الكلام عليها هناك .

وقوله : ( ثم استقم ) فيه الأمر بالاستقامة ، والاستقامة لفظها استفعل ، استقام فيها معنى الطلب ، ولكن هذا ليس بظاهر؛ لأن الفعل استفعل أو هذه الصيغة استفعل تأتي ويراد بها الطلب ، وتأتي ويراد بها لزوم الشيء ، وكثرة الاتصاف به .

فمن الأول ؛ وهو أن استفعل تأتي ويراد بها الطلب كقولك : استسقى فلان يعني: طلب السقيا ، واستغاث طلب الإغاثة ، واستعان طلب الإعانة ، وهكذا في أشباهها .

ومن الثاني ؛ وهو أن استفعل تأتي ويراد منها لزوم الوصف ، وكثرة الاتصاف به ، وعظم الاتصاف به كقوله -جل وعلا- مثلا : ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {6} في سورة التغابن ، ( وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ) يعني: غني استغنى ليس معناها طلب الغنى ، ولكنه غني بغنى لازم لذاته ، وكثر وعظم جدا .

.. يتبع ..

الوافـــــي 12-03-2005 02:51 PM

فإذن "استفعل" هذه إذا تغيرت
أو إذا لم تستعمل في الطلب فيعنى بها لزوم الصفة للذات ، وكثرة الاتصاف ، وعظم الاتصاف بها بحسب ما يناسب الذات
فإذن استقام يعني: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ {30} فصلت
( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {112} هود
( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ {6}فصلت ، وهكذا .

استقيموا ليس معناها طلب الشيء ، ولكن معناه الإقامة على هذا الدين ، الإقامة على الإيمان ، وأن تعظم الأوصاف أن يعظم وصف الالتزام به ، وأن يعظم وصف الإقامة عليه ، ولهذا كلمة "الاستقامة" تشمل كما فسرها طائفة من أهل العلم الثبات على الدين ، استقام يعني: ثبت على الدين ، واستقام قالوا : بمعنى عمل الطاعات ، وابتعد عن مساخط الله ، وعن المحرمات ، وهذا معناه : الأخذ بوسائل الثبات .

الاستقامة بالجهاد بأنواعه ، وهذا وسيلة من الوسائل ، الاستقامة بلزوم السنة ، والإخلاص لله -جل وعلا- ، وهذا هو حقيقة الدين .

إذن فلفظ "استقام" يعني: صار له وصف الإقامة مبالغا فيه ، يعني: كثيرا ، بحيث إنه لزمه ، ولم يتغير عنه ، ولم يتبدل عنه ، وهذا هو المقصود هنا .

إذن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( قل : آمنت بالله ثم استقم ) يعني: لتكن إقامتك بعد الإيمان بالله على هذا الإيمان عظيمة بحيث يكون وصف الإقامة لك ملازما.

إذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( قل: آمنت بالله، ثم استقم ) يعني: لتكن إقامتك بعد الإيمان بالله على هذا الإيمان عظيمة، بحيث يكون وصف الإقامة لك ملازما، وهذا تعظم معه هذه الوصية؛ لهذا أثنى الله -جل وعلا- على عباده المستقيمين بقوله -جل وعلا-: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ {30}فصلت .

فإذن هذا الحديث شمل أمور الاعتقاد وأمور الظاهر والباطن، أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وشمل الحث على الثبات على هذه الطاعات، فهذه الوصية صارت إذن وصية جامعة، وما أعظمها من وصية: ( قل آمنت بالله ثم استقم ) يعني: على الإيمان بتعظيم أمر الإقامة عليه، والازدياد من خلال الإيمان.

إنتهى شرح الحديث الحادي والعشرون
تحياتي

الوافـــــي 30-03-2005 07:43 PM

الحديث الثاني والعشرون

أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان

عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم ) رواه مسلم .

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهو الحديث الثاني والعشرون من هذه الأحاديث النووية، قال رضي الله عنه ( أن رجلا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم ) .

في هذا الحديث ذكر بعض العبادات وهي: عبادة الصلاة والصيام، وإحلال الحلال وتحريم الحرام. وقد جاء في روايات أخر قد تكون هي أصل هذا الحديث: ( أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمور الإسلام، فقال الرجل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، آلله أرسلك؟ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: نعم.
فقال: أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله افترض علينا خمس صلوات… ) إلى آخره.
في آخره: ( قال الرجل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا شيئا. فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: دخل الجنة إن صدق ) وفي رواية: ( من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ) وهناك روايات أخر في مجيء أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الفرائض: الصلاة والصيام والزكاة والحج.

وهذه الأحاديث تدل على أن من فعل هذه الواجبات ممتثلا متقربا بها إلى الله -جل وعلا- فصلى الصلوات المكتوبة مطيعا لله -جل وعلا-، وصام وزكى مطيعا لله، وحج مطيعا لله، وأحل الحلال مطيعا لله، وحرم الحرام مطيعا لله، أنه من أهل الجنة.

.. يتبع ..

الوافـــــي 30-03-2005 07:44 PM

والأحاديث متعددة في ذلك: بعضها يرتب ثواب الجنة على كلمة التوحيد، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصلاة، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصيام، في ألفاظ مختلفة وروايات متعددة.

الحاصل: أن هذه الروايات التي فيها ترتيب دخول الجنة على بعض الأعمال الصالحة -المقصود بها أنها إذا فعلت مع اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع، أو إذا فعلت هذه الأفعال مع الإتيان بالتوحيد.
فهذان احتمالان -كما ذكرت لك- الأول: أنها مع اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، والثاني: أنه مع الإتيان بالتوحيد؛ لأنه به تصح الصلاة، وتقبل الزكاة، ويصح الصيام… إلى آخره.

وهذا معناه: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "نعم" أو ( دخل الجنة إن صدق ) أن دخول الجنة متنوع، وهذا الظاهر دلت عليه الأدلة الأخرى، فما جاءت النصوص في ترتب دخول الجنة على بعض الأعمال فهو حق على ظاهره، وأن من أتى بالتوحيد وعمل بالأعمال الصالحة -بأي عمل- فإنه موعود بالجنة، والله -جل وعلا- وعده: ( اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً {87}النساء .

ودخول الجنة في النصوص: تارة يراد به الدخول الأوَّلي، وتارة يراد به الدخول المآلي، وهذا في الإثبات، يعني: إذا قيل دخل الجنة فقد يراد بالنص أنه يدخلها أولا -يعني: مع من يدخلها أولا- ولا يكون عليه عذاب قبل ذلك فيغفر له إن كان من أهل الوعيد، أو يكفر الله -جل وعلا- عنه خطاياه… إلى آخر ذلك.

أو يكون المقصود بـ "دخل الجنة" أن الدخول مآلي، بمعنى: أنه سيئول إلى دخول الجنة كقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة ) ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) ( من صلى الصلوات المكتوبات كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ) ( يدعى الصائمون يوم القيامة من باب الريان ) .

وهكذا في أحاديث -كما ذكرت لك- متنوعة؛ فإذن الأحاديث التي فيها دخول الجنة بالإثبات: تارة يراد منها الدخول الأولي، وتارة يراد منها الدخول المآلي، ويترتب على هذا النفي، فإذا نفي دخول الجنة عن عمل من الأعمال يراد به نفي الدخول الأولي، أو نفي الدخول المآلي، والذي ينفى عنه الدخول الأولي هم أهل التوحيد الذين لهم ذنوب يطهرون منها إن لم يغفر الله -جل وعلا- لهم.

.. يتبع ..

الوافـــــي 30-03-2005 07:45 PM

وأما الذين ينفى عنهم الدخول المآلي - يعني: لا يدخلونها أولا ولا مآلا، لا يؤولون إلى الجنة أصلا- فهؤلاء هم أهل الكفر في الأول: مثلا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( لا يدخل الجنة قتات ) ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) ( لا يدخل الجنة نمام ) وأشباه ذلك.

فهذه فيها أنه لا يدخل الجنة، هل معناه أنه لا يدخلها أبدا؟ لا، لا يدخلها أولا، وفي بعض النصوص نفي دخول الجنة الدخول المآلي، يعني: أنهم لا يئولون إلى الجنة أصلا بل مأواهم النار خالدين فيها، كقوله -جل وعلا-: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ {40}الأعراف ، وكما في قوله -جل وعلا-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ {72}المائدة .

إذن فتحصل لنا كقاعدة عامة من قواعد أهل السنة في فهم آيات وأحاديث الوعيد: أن الآية أو الحديث إذا كان فيه إثبات دخول الجنة على فعل من الأفعال فإن هذا الإثبات ينقسم إلى: دخول أولي، بمعنى: أنه يغفر له فلا يؤاخذ، أو أنه ليس من أهل الحساب، أو أن الله -جل وعلا- خفف عنه فيدخلها أولا، أو أنه ليس من أهل الدخول المآلي، أو أنه من أهل الدخول المآلي.

وهكذا عكسها أنه لا يدخلها أولا، أو لا يدخلها أولا ومآلا على حد سواء، وهذا من القواعد المهمة عند أهل السنة التي خالفوا بها الخوارج والمعتزلة … إلى آخره.

.. يتبع ..

الوافـــــي 30-03-2005 07:48 PM

إذا تقررت هذه القاعدة فهذا الحديث فيه ذكر دخول الجنة على أنه لا يزيد على هذه شيئا، ولم يذكر في ذلك أنه فعل الزكاة، ولا أنه أتى بالحج، ومن ترك الزكاة فهو من أهل الوعيد، ومن ترك الحج فهو من أهل الوعيد… وهكذا.

فإذا تقرر هذا فقوله: ( ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: نعم ) محمول على أحد توجيهين:

الأول : أنه في قوله: ( لم أزد على ذلك شيئا ) يعني: أنه فعل الواجبات التي أوجب الله -جل وعلا- فتدخل الواجبات في قوله: "حرمت الحرام"؛ لأن ترك الواجبات حرام، فهو إذا حرم ترك المحرمات، معناه: أنه فعلها.

والتوجيه الثاني: أن هذا الحديث يفهم مع غيره من الأحاديث كقاعدة أهل السنة في نصوص الوعد والوعيد، وأننا لا نفهم نصا من نصوص الوعد أو من نصوص الوعيد على حدته، بل نضمه إلى أشباهه فيتضح المقام، فيكون إذن دخوله الجنة مع وجود الشروط وانتفاء الموانع.
أو يقال: دخول الجنة هنا مع الاقتصار على ما ذكر دخولا مآليا، وإذا أتم فإنه يدخل دخولا أوليا، ولا بد أنه إذا كان على ذلك النحو فإنه من أهل الجنة؛ لأن الله -جل وعلا- هو الذي وعده بذلك وبلغه رسوله -عليه الصلاة والسلام- قوله: ( إذا صليت المكتوبات ) تدل على تعلق ذلك بالصلوات الخمس، وهذا يخرج النوافل.

كذلك قوله: ( صمت رمضان ) تعلقه بالشهر الواجب، وهذا يخرج النوافل، وقوله: ( وأحللت الحلال ) هذا اختلف فيها العلماء على قولين:-

القول الأول: هو الذي ذكره النووي في آخر ذكره للحديث حيث قال: "ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقدا حله" فهذا وجه عند أهل العلم؛ لأن معنى أحللت الحلال أنه اعتقد وفعل.

والوجه الثاني: أنه اعتقد ولم يفعل، فمعنى قوله: ( أحللت الحلال ) يعني: اعتقدت حل كل ما أحله الله -جل وعلا- وليس في نفسي اعتراض على ما أحل الله -جل وعلا-، وهذا أحد المعنيين.

والمعنى الأول الذي ذكره النووي: أن إحلال الحلال يقتضي أن تفعل، أو أن تعمل، أو أن تأتي الحلال الذي أحله الله -جل وعلا- لك، وألا تستنكف عنه -بمعنى: أن من حرم على نفسه شيئا من الحلال مطلقا فإنه لم يحل الحلال فعلا-؛ وهذا المعنى ليس بجيد عندي؛ لأن فعل كل حلال ممتنع قد لا يستطيعه كل أحد؛ لأن الحلال -ولله الحمد- كثير جدا والمباحات كثيرة، فإتيانه فعله باعتقاد حله هذا صعب، ومثل هذا الرجل السائل لا يعلق بكل شيء، وهذا أيضا مما يكون في غير الاستطاعة.

والوجه الثاني الذي ذكرناه من أن قوله: "أحللت الحلال" -يعني: اعتقدت حله- فلم يأت في نفسي ريب من أن ما أحل الله جل وعلا فهو حلال، فهذا ظاهر طيب -يعني: ظاهر من الحديث حسن- وهو أولى؛ لأنه لا يلزم عنه لوازم غير جيدة.

أما قول الرجل: ( حرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ فقال: نعم ) فتحريم الحرام يشمل المرتبتين: يشمل الاعتقاد والترك: فتحريم الحرام أن تعتقد حرمته، والثانية: أن تفعل ما اعتقدته من ترك المحرمات. فمن اعتقد حرمة الحرام وفعل فهو من أهل الوعيد -يعني: من أهل العصيان-، وأما من لم يعتقد حرمة الحرام فهو كافر ؛ لأنه ما صدق الله -جل وعلا- في خبره، أو لأنه اعتقد غير ما أمر الله -جل وعلا- باعتقاده.

فإن الاعتقاد بتحريم المحرمات فرض من الفرائض، وعقيدة لا بد منها؛ لأن معناه الالتزام بأمر الله -جل وعلا-، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم والنهي نهي الله ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

إنتهى شرح الحديث الحادي والعشرون

تحياتي

:)


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.