أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   الخيمة الإسلامية (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=8)
-   -   الأربعون النووية ( بالفلاش ) مع الشرح .. (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=37866)

الوافـــــي 12-08-2005 08:10 AM

وقالت طائفة من أهل العلم -وهو قول الجمهور- : إن الفرض والواجب واحد من حيث الدليل عليهما، ومن حيث المرتبة، فيقال : الصلوات الخمس فرائض، ويقال : هي واجبة، ويقال صوم رمضان واجب، ويقال : فرض، يقال الحج واجب وفرض، يقال : بر الوالدين واجب وفرض، وهكذا على القول الثالث، وهو القول المعروف المشهور؛ لأن الفرائض والواجبات معناهما واحد، فالفرض معناه الواجب؛ ولهذا نقول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيعوها ) يعني ما أوجبه الله -جل وعلا -في القرآن فلا نضيعه، نهى -عليه الصلاة والسلام- عن تضييعه، وما أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو من حيث اللزوم والإلزام بعدم تضييعه بدليل خارج عن هذا الدليل، وهو بدليل قول الله -جل وعلا -: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7} الحشر ، وبقوله -جل وعلا : - ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {132}‏ آل عمران ، والآيات كثيرة في هذا الباب، وبقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه ) إلى أن قال: ( ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله ) في الحديث المعروف، حديث تحريم الخمر في خيبر إلى آخره .

المقصود أن قوله: ( فلا تضيعوها ) يعني: امتثلوا وأدوا هذه الفرائض، ولا تضيعوها بعدم الامتثال، فإن الله ما فرضها إلا ليمتثل، وهذا دليل على أن من ضيع أثم؛ لأنه نهى عن التضييع، وهذا داخل ضمن القاعدة أن ترك الواجب محرم.

قال : ( وحد حدودا فلا تعتدوها ) هذا اللفظ ( حد حدودا فلا تعتدوها ) يدخل فيه البحث من جهات كثيرة، لكن ألخص لك ذلك بتقرير قاعدة عامة في فهم نصوص الكتاب والسنة، التي جاء فيها لفظ الحد والحدود، وهي أنها جاءت على ثلاثة أنواع من الاستعمال:
الأول: أن يؤتى بلفظ الحدود بإطلاق، يعني: بلا أمر أو نهي بعدها، كقوله -تعالى- في سورة النساء : (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {13} النساء

الثاني : أن تأتي، ويكون بعدها النهي عن الاعتداء، كقوله -جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً {1} الطلاق ، وكقوله: ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {229} البقرة .

والثالث: أن يكون بعد ذكر الحدود النهي عن المقاربة، فلا تقربوها في آية البقرة التي فيها ذكر الصيام والاعتكاف (‏ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {187} فهذه ثلاثة أنواع في القرآن .

وفي السنة أتى الحد -أيضا- ويراد به العقوبات المقدرة، أو يراد به الذنوب التي عليها عقوبات، يعني: المحرمات التي يجب في حق من اقتحمها أن يعاقب.

.. يتبع ..

الوافـــــي 12-08-2005 08:11 AM

إذا تقرر ذلك، فنرجع إلى تأصيل هذا في أن الحدود لفظ استعمل في الكتاب والسنة، واستعمل في كلام الفقهاء، وكلامي -السالف- في التقسيم إلى الأنواع، هذا إنما هو لنصوص الكتاب والسنة، وأما التعبير بالحدود في كتب أهل العلم وأهل الفقه، فهذا استعمال اصطلاحي، ليس هو استعمال الحدود في نصوص الكتاب والسنة. إذا تبين هذا، فالنوع الأول - ذكرنا لكم ثلاثة أنواع- النوع الأول: كقوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {13} النساء ، أو كقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً {1} الطلاق ، وكقوله: ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ... {229}البقرة ، فإذا ذكر الحدود بلا كلمة بعدها، يعني: نهي عن الاعتداء، أو ذكر بعدها النهي عن الاعتداء، فإن المراد بالحدود هنا الفرائض يعني: ما أذن به، الفرائض، أو ما أذن به، فما أذن به فرضا كان، أو مستحبا، أو مباحا، فالحدود هنا المراد بها هذه الأشياء؛ ولهذا جاء بعدها ( .... وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {229} فالذي يخرج من دائرة المأذون به إلى خارج عن المأذون به، فقد تعدى الحد، وقد خرج عنه، وهذا الحد، هو حد المأذون به، فهذا نوع.

‏ ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {187} جاءت بعد بيان ما فرض الله -جل وعلا -في التركات ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً {11}‏ الآيات في سورة النساء، يعني: هذا ما أمر الله -جل وعلا -به وشرعه، وهذا معناه أن هذه الحدود هي ما أذن به، وأمر به، هذا هو النوع الأول، فالحدود هنا ليست هي المحرمات، الحدود هي ما أذن به، يدخل فيها الواجبات والمستحبات والمباحات.

الحدود بالمعنى الثاني إذا جعلت للمحرمات فلها ضابطان:
الأول: أن يكون بعدها ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ...{187} البقرة ، وأن يكون بعدها، أو معها ذكر العقوبة، وهذا يعني: أن الحدود هنا هي المحرمات؛ لهذا ناسب أن يكون معها النهي عن القربان، النهي عن الاقتراب ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) يعني: المحرمات لا تقرب، ولا يقترب منها، فهذا نوع؛ ولأجل هذا النوع قيل في العقوبات التي شرعت لمن انتهك، تطهيرا لمن انتهك المحرمات، قيل لها حدود، من قبيل رؤية هذا النوع دون غيره، وهذا شائع كثير في اللغة وفي الشريعة، فإذن العقوبات التي شرعت لمن ارتكب محرما فقارب، أو انتهك حدود الله قيل للعقوبة حد؛ لأنه دخل في الحد، وقيل لها: حدود؛ لأنه اقتحم الحدود.

وأما النوع الثالث، وهو العقوبات التي جاءت في بعض الأحاديث، فهذه المراد منها ما جعل في الشرع له عقاب بعينه، فيقال: حد السرقة، حد الخمر … إلى آخره، كما قال -عليه الصلاة والسلام- : ( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ) في حد من حدود الله، يعني: إلا في معصية جاءت الشريعة بالعقوبة فيها، ويدخل في هذا الحدود عند الفقهاء والتعزيرات عند الفقهاء، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في هذا القسم الثالث : ( لا يجلد فوق عشرة أسواط ) يعني: تأديبا.

فلا يحل لأحد أن يؤدب من أبيح له تأديبه فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله، يعني: إلا في عقوبة جاء الشرع بها، إما أن تكون حدا على اصطلاح الفقهاء، أو أن تكون تعزيرا، وهذا بحث طويل في كتاب الحدود، ومعرفة الحدود والتعزيرات في الفقه، لكن ضبطت لك هذا على نحو ما ذكرت لك من التبسيط؛ ليجتمع لك شمل ما أراد به الفقهاء اصطلاحهم الحدود، وما جاءت النصوص بكلمة الحدود .

إذا تقررت هذه القاعدة، وهذا التحقيق في فهم هذه الكلمة التي أشكلت على كثير من العلماء؛ ولعدم فهمها ذهبوا إلى مذاهب شتى.

.. يتبع ..

الوافـــــي 12-08-2005 08:13 AM

قال -عليه الصلاة والسلام- "نقول هنا": ( وحد حدودا فلا تعتدوها ) هنا الحدود على ما ذكرنا: هي ما أذن به، الواجبات والمستحبات وما أشبه ذلك؛ لهذا قال: ( حد حدودا فلا تعتدوها ) يعني: لا تعتد ما أذن لك، فكن في دائرة الواجب والمستحب والمباح، ولا تنتقل منه إلى غيره، فالأول: ( فرض فرائض فلا تضيعوها ) يعني: امتثل الفرائض، أد الواجبات، والثاني: كن في دائرة المستحب والمباح، ولا تتعده إلى غيره.

ثم قال: ( وحرم أشياء فلا تنتهكوها ) وهذا من العطف المغاير؛ لأن التحريم غير تعدي الحدود -كما ذكرنا لك-، من بيان فهم نصوص الكتاب والسنة في هذه المسألة المهمة، فما حرم الله -جل وعلا -نهانا -عليه الصلاة والسلام- أن تنتهكه، والتعبير بالانتهاك -أيضا- يفيد الاعتداء وعدم المبالاة ممن انتهك المحرمات، قال : ( وحرم أشياء فلا تنتهكوها ) وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( حرم أشياء ) يفيد أن هذه الأشياء المحرمة قليلة؛ ولهذا تجد أن أصول المحرمات في الأطعمة قليلة (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ) الأنعام … إلى آخر الآية، أو المحرمات بعامة (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {151}‏ الأنعام ، الآيات المعروفة في الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، أو محرمات في اللباس، فهي محدودة بالنسبة للرجال وبالنسبة للنساء، أو محرمات في الأشربة فهي -أيضا- محدودة، أو محرمات في المنازل، فهي محدودة، ومحرمات في المراكب، فهي محدودة.

لهذا المحرمات أشياء قليلة بالنسبة لغير المحرمات؛ لأن دائرة المباح -ولله الحمد- أوسع؛ لهذا قال : ( وحرم أشياء ) وهذه الأشياء قليلة، فعجيب أن تنتهك، فقال : ( فلا تنتهكوها ) فيكون هذا المنتهك لهذه المحرمات شيء في نفسه جعله ينتهك هذا القليل، ويغرى بهذا القليل؛ ولهذا لم يحرم الشرع شيئا فيه لابن آدم منفعة، في حياته حاجية أو تحسينية أو ضرورية، بل كل المحرمات يمكنه الاستغناء عنها، ولا تؤثر عليه في حياته.

فما حرم الله -جل وعلا -أو حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم من أشياء، فإنه لا حاجة لابن آدم إليه في إقامة حياته، أو التلذذ بحياته، فالمباحات والمستحبات يمكنه أن يتلذذ فيها بأشياء كثيرة تغنيه عن الحرام.

قال : ( وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) .

"سكت عن أشياء": يعني: أن الله سكت، وهذا السكوت الذي وصف الله -جل وعلا -به ليس هو السكوت المقابل للكلام، يقال: تكلم وسكت، وإنما هذا سكوت يقابل به إظهار الحكم، فالله -جل وعلا -سكت عن التحريم، بمعنى لم يحرم، لم يظهر لنا أن هذا حرام، فالسكوت هنا من قبيل الحكم، سكوت عن الحكم، ليس سكوتا عن الكلام، فغلط على هذا من قال: إن هذه الكلمة يستدل بها على إثبات صفة السكوت لله -جل وعلا -، وهذا مما لم يأت في نصوص السلف في الصفات، وهذا الحديث وأمثاله لا يدل على أن السكوت صفة؛ لأن السكوت قسمان: سكوت عن الكلام، وهذا لا يوصف الله -جل وعلا -به، بل يوصف الله -سبحانه وتعالى- بأنه متكلم، ويتكلم كيف شاء، وإذا شاء، متى شاء، وأما صفة السكوت عن الكلام، فهذه لم تأت في الكتاب ولا في السنة، فنقف على ما وقفنا عليه، يعني: على ما أوقفنا الشارع عليه، فلا نتعدى ذلك.

والقسم الثاني: من السكوت، السكوت عن إظهار الحكم، أو عن إظهار الخبر وأشباه ذلك، فلو فرض -مثلا- أن أنا أمامكم الآن، وأتكلم باسترسال، سكت عن أشياء، وأنا مسترسل في الكلام، بمعنى أني لم أظهر لكم أشياء أعلمها، تتعلق بالأحاديث التي نشرحها، وسكوتي في أثناء الشرح عن أشياء لم أظهرها لكم، أوصف فيه بالسكوت؟
فتقول -مثلا-: فلان سكت في شرحه عن أشياء كثيرة، لم يبدها لأجل أن المقام لا يتسع لها، مع أني متواصل الكلام، فإذاً لا يدل السكوت، يعني: في هذا، يعني: السكوت عن إظهار الحكم عن السكوت الذي هو صفة، والله -جل وعلا -له المثل الأعلى، فنصفه بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم .

لا نتجاوز القرآن والحديث، فنصفه بالكلام، ولا نصفه بالسكوت الذي هو يقابل به الكلام، وإنما يجوز أن تقول: إن الله -جل وعلا -سكت عن أشياء، بمعنى لم يظهر لنا حكمها، إذا تقرر هذا من جهة البحث العقدي، فنرجع إلى قوله: ( سكت عن أشياء ) بما يدل على أن هذه الأشياء قليلة.

.. يتبع ..

الوافـــــي 12-08-2005 08:16 AM

( رحمة بكم، أو رحمة لكم غير نسيان ) السكوت بعدم إظهار بعض أحكام القضايا، رحمة لا نسيان، والله -جل وعلا -ليس بنسيٍّ، كما قال -سبحانه- : ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً {64}‏ مريم ، (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى {52} طه ، فالله -سبحانه- ليس بذي نسيان، بل هو الحفيظ العليم الكامل في صفاته وأسمائه، سبحانه وتعالى، وجل وتقدس ربنا.
فإذا هناك أشياء لم يبين لنا حكمها، فالسكوت عنها رحمة غير نسيان، أمرنا -عليه الصلاة والسلام- ألا نبحث عنها فقال: ( فلا تبحثوا عنها ) .

إذا تقرر هذا، فالأشياء المسكوت عنها أنواع:
النوع الأول : ما لم يأت التنصيص عليه من المسائل، لكنها داخلة في عموم نصوص الكتاب والسنة، داخلة في العموم، داخلة في الإطلاق، وداخلة في مفهوم الموافقة، أو مفهوم المخالفة، أو في المنطوق، أو أشباه ذلك، مما هو من مقتضيات علم أصول الفقه.
فهذا النوع، مما دلت عليه النصوص بنوع من أنواع الدلالات المعروفة في أصول الفقه، هذا لا يقال عنه: إنه مسكوت عنه؛ لأن الشريعة جاءت ببيان الأحكام من أدلتها بالكتاب والسنة، بأنواع الدلالات، فهذا النوع لا يصح أن يقال: إنه مسكوت عنه؛ ولهذا العلماء أدخلوا أشياء حدثت في عمومات النصوص، ففهموا منها الحكم، أو في الإطلاق، أو في المفهوم وأشباه ذلك، وإذا أردنا أن نسرد الأمثلة، فهي كثيرة يضيق المقام عنها تراجعونها في المطولات.
النوع الثاني: أشياء مسكوت عنها، لكن داخلة ضمن الأقيسة، يعني: يمكن أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه، وقد ذهب جمهور علماء الأمة إلى القول بالقياس، إذا كانت العلة واضحة، اجتمعت فيها الشروط، ومنصوصا عليها، فإذا كان القياس صحيحا، فإن المسألة لا تعد مسكوتا عنها.

الحالة الثالثة: أن تكون المسألة مسكوتا عنها، بمعنى أنه لا يظهر إدخالها ضمن دليل، فكانت في عهده -عليه الصلاة والسلام- هذا نوع، ولم ينص على حكمها، ولم تدخل ضمن دليل عام، فسكت عنها، فهذا يدل أنها على الإباحة؛ لأن الإيجاب أو التحريم نقل عن الأصل، فالأصل أن لا تكليف، ثم جاء التكليف بنقل أشياء عن الأصل، فلا بد للوجوب من دليل، ولا بد للتحريم من دليل، فما سكت عنه، فلا نعلم له دليلا من النص، من الكتاب والسنة، ولا يدخل في العمومات، وليس له قياس، فهذا يدل على أنه ليس بواجب، ولا يجوز البحث عنه، ولهذا أنكر النبي -عليه الصلاة والسلام - على من سأله عن الحج فقال الرجل : ( يا رسول الله، أفي كل عام ؟ ) هذه مسألة مسكوت عنها، وتوجه الخطاب للرجل بألا يبحث عن هذا، فسكت عن وجوب الحج، هل يتكرر أم لا يتكرر؟ والأصل أنه يحصل الامتثال بفعله مرة واحدة، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- :
( لو قلت: نعم؛ لوجبت. زروني ما تركتكم ) يعني: إذا تركت البيان، فاسكتوا عن ذلك، قد ثبت في صحيح مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( إن أشد المسلمين -في المسلمين- جرما رجل سأل عن شيء، فحرم لأجل مسألته ) .

قد قال -جل وعلا -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {101} المائدة ، فإذا هذا النوع مما سكت عنه، فلا يسوغ لنا أن نبحث، ونتكلف الدليل عليها، تلحظ -أحيانا- من بعض الأدلة التي يقيمها بعض أهل العلم أن فيها تكلفا للاستدلال لحكم المسألة، فإذا كان الدليل لا يدخل فيها بوضوح، فإنها تبقى علي الأصل.

( وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها ) وهذا من رحمة الله -جل وعلا -بعباده.

أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يثبت العلم في قلوبنا، ويرزقنا زكاته والعمل به، وتعليمه، والإحسان في ذلك كله.
بقي عندنا اثنا عشر حديثا، وسنكمل -إن شاء الله تعالى- البقية؛ لأن الأحاديث الباقية قصيرة، وليست بطويلة، وحديث اليوم وما قبل كانت طويلة في ألفاظها، وإلى لقاء -إن شاء الله تعالى- وأثابكم الله.

إنتهى شرح الحديث الثلاثون

تحياتي

:)

الوافـــــي 15-09-2005 05:28 AM

الحديث الرابع والعشرون

يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي

وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه الله ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) رواه مسلم

هذا الحديث هو الحديث الرابع والعشرون من هذه الأحاديث الأربعين النووية، وهو عن أبي ذر الغفاري -رضي الله تعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه الله أنه قال: ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) … الحديث هذا الحديث حديث عظيم في بيان حاجة العبد وافتقاره إلى ربه -جل وعلا- وما يحبه الله -جل وعلا- من العبد وما يكرهه.

وهذا من الأحاديث القدسية؛ لأنه صدر بقوله فيما يرويه عن ربه الله والذي يروي عن الله -جل وعلا- هو المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا يعني أن الحديث القدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه -جل وعلا- بهذا اللفظ؛ لأنها رواية، والرواية تكون باللفظ لأنه هو الأصل؛ ولهذا فالحديث القدسي الذي ينمى إلى الرب -جل وعلا- من الكلام وليس من القرآن، يعني: فيما يقول فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم قال الله -تعالى-، قال ربكم الله ... وأشباه ذلك.
وليس من القرآن فيسمى حديثا قدسيا، ومعنى كونه قدسيا يعني: أنه جاء من القدوس -جل وعلا- يعني: أنه حديث مطهر عال على كلام الخلق، وهذا في معناه العام.

أما الحديث القدسي من حيث الاصطلاح فقد اختلف فيه العلماء، وعباراتهم متنوعة، والذي يتفق مع اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الحديث القدسي من حيث اللفظ هو من الله -جل وعلا-، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه رواية بلفظه، وليس له -عليه الصلاة والسلام- أن يغير معناه، وبعض أهل العلم: ليس له أن يغير لفظه.

وبعض أهل العلم قالوا: إن معناه من الله -جل وعلا- ولفظه من المصطفى صلى الله عليه وسلم أبيح له أن يغير في لفظه، وهذا القول لا دليل عليه؛ لأنه جاء ذلك بالنقل: قال الله -تعالى-، قال ربكم. والصحابة يقولون: فيما ينميه إلى ربه، فيما يبلغه عن ربه، فيما يرويه عن ربه.
وهذه كلها من ألفاظ الأداء في الرواية، وليس ثَمَّ ما يدل على أن المعنى من الله -جل وعلا- وأن النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف في الألفاظ بما يؤدي به المعنى؛ إذ لا دليل عليه كما ذكرنا، ولا حاجة له -عليه الصلاة والسلام- في ذلك.

وأيضا هذا القول -وهو: أنه من حيث اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى من الله جل وعلا- يتفق مع قول الأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء في أن الله -جل وعلا- كلامه كلام نفسي، بمعنى: أنه يلقي في روع جبريل المعاني، أو يلقي في روع المصطفى صلى الله عليه وسلم المعاني، ويعبر عنها جبريل بما يراه، ويعبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم بما يراه.

ولهذا عندهم القرآن عبارة عن كلام الله -جل وعلا- وليس هو بكلام الله -جل وعلا- الذي خرج منه -جل وعلا- وبدأ منه -سبحانه وتعالى- بكلماته وحروفه ومعانيه، فإذن الذي يتفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله -جل وعلا- أن الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله -جل وعلا-، ولم يتعبد بتلاوته،
فيصح أن نعرف الحديث القدسي بأنه: ما رواه المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الله -جل وعلا- بلفظه ومعناه ولم يتعبد بتلاوته، يعني: لم يكن بين دفتي المصحف.

.. يتبع ..

الوافـــــي 15-09-2005 05:39 AM

الحديث القدسي وغيره هو مما يجعل اللفظ من المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يتفق مع عقائد أهل السنة والجماعة، قال هنا أبو ذر فيما يرويه عن ربه الله أنه قال -يعني الله جل وعلا- قال الله: "يا عبادي" فالمتكلم بهذا هو الرب -جل جلاله- ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) وهذا النداء بـ ( يا عبادي ) فيه التودد للعباد ولفت النظر إلى هذا الأمر العظيم، وهذه الوصية العظيمة.

قال -جل وعلا-: ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي ) والتحريم عند أهل السنة والجماعة أن يحرم الله -جل وعلا- ما شاء على نفسه أو على خلقه، فالوجوب والتحريم والحق يصح عندهم أن يجعلها الله -جل وعلا- على نفسه، فيحق حقا على نفسه، ويوجب واجبا على نفسه، ويحرم أشياء على نفسه، وهذه كلها جاءت بها الأدلة.
فالله -جل وعلا- أحق حقا على نفسه في بعض الأشياء: حق العباد على الله ألا يعذب من مات لا يشرك بالله شيئا، وحرم أشياء على نفسه، ومنها الظلم كما في هذا الحديث، وهذا هو الذي يقرر في مذهب أهل السنة والجماعة، أما غيرهم فإنهم يجعلون الله -جل وعلا- منزها عن أن يحرم عليه شيء، أو أن يجب عليه شيء.
والذي حرم على الله هو الله -جل وعلا-، وهو -سبحانه- يحق من الحق على نفسه ما شاء، ويوجب على نفسه ما شاء، ويحرم على نفسه ما شاء، وهذا بما يوافق صفات المولى -جل وعلا- ويوافق حكمته، وما يشاؤه في بريته، فالله -سبحانه- حرم الظلم على نفسه، ومعنى كونه حرم الظلم على نفسه أي: منع نفسه -جل وعلا- من أن يظلم أحدا شيئا.
وفي القرآن نصوص كثيرة فيها أن الله -سبحانه وتعالى- لا يظلم الناس شيئا، وأنه -جل وعلا- لم يرد الظلم، ولم يختر الظلم على العباد كما قال -سبحانه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ {46}‏ فصلت ، وقال -جل وعلا-: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {107} تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ {108}‏ آل عمران ، وقال -جل وعلا- أيضا: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً {112} طه ، والآيات في هذا كثيرة متنوعة: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {44} يونس ، وهكذا.
فالله -جل وعلا- وصف نفسه بأنه لا يظلم أحدا شيئا، وأن الظلم ليس إليه، وأنه لا يريد الظلم -سبحانه وتعالى-، والظلم المنفي عن الله -جل وعلا- هو الظلم الذي يفسر بأنه: وضع الأمور في غير مواضعها؛ لأن الظلم في اللغة بأن يوضع الشيء في غير موضعه.
ولهذا قيل للحليب الذي خلط بلبن حتى يروب، فخلط قبل أن يبلغ ما يصلح به قيل له: ظليم، يعني: أنه ظلم حيث وضع الخلط في غير موضعه وقبل أوانه، مثل ما قال الشاعر:
وقائلـة ظلمـت لكـم سـقائي = وهل يخفى على العكب الظليم
<******>doPoem(0)ومنه أيضا سميت الأرض التي حفرت لاستخراج ماء وليست بذات ماء قيل لها: مظلومة، كقول الشاعر وهو من شواهد النحو المعروفة:
إلَّا الأَواري لأْيًا ما أُبَيِّنُها = والنُؤي كالحَوضِ في المظلومةِ الجَلد
<******>doPoem(0)المقصود: أن هذه المادة في اللغة دائرة على وضع الشيء في غير موضعه اللائق به، وغير هذا التفسير كثير، فالمعتزلة يفسرون الظلم بأنواع، والأشاعرة يفسرون الظلم بأنواع، وعند أهل السنة هذا هو تعريف الظلم، فقد قال بعضهم: إن الظلم هو التصرف في ملك الغير أو في اختصاصه بغير إذنه.
وهذا نوع من وضع الشيء في غير موضعه، وليس هو بتعريف للظلم؛ ولهذا يورد عليه أشياء في بحث معروف في القدر في مبحث الظلم وفي اللغة.
المقصود من هذا أن الله -جل وعلا- قال: ( إني حرمت الظلم على نفسي ) يعني: حرمت أن أضع شيئا في غير موضعه اللائق به، ( على نفسي ) منعت نفسي من ذلك. وهذا يدل على أن الله -جل وعلا- لو أراد إنفاد وضع الشيء في غير موضعه لكان له ذلك -سبحانه- وكان قادرا عليه؛ لأن الله قال: (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ {108} آل عمران ، فهو -سبحانه- لم يرد ذلك.

.. يتبع ..

الوافـــــي 15-09-2005 05:45 AM

وهذا الحديث أيضا دال على أنه قادر على أن يفعل، ولكنه حرم ذلك على نفسه، ومنع نفسه من ذلك، وهذا من كرمه -جل وعلا- وإحسانه وفضله وإنعامه ومزيد منته على عباده، قال -جل وعلا- هنا: ( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) .

الله -جل وعلا- حرم الظلم على نفسه، وجعل الظلم بين العباد محرما؛ لأنه سبحانه يحب العدل وقد أقام السماوات والأرض على العدل، كما قرر أهل العلم أن السماوات والأرض قامت بالعدل، ولا يصلح لها إلا العدل، والعدل هو ضد الظلم؛ لأن العدل وضع الشيء في موضعه، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.

فالله -سبحانه- أجرى ملكوته وأجرى خلقه على العدل، وهو وضع الأشياء في مواضعها وعلى الحكمة وهي: وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، الموافقة للغايات المحمودة منها. فتحصل من هذا أن الله -جل وعلا- يحب العدل ويأمر به كما قال -سبحانه-: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {90} النحل .

والله -سبحانه- حرم الظلم كما في هذا الحديث، وفي آيات كثيرة مر معك بعضها، فإذا تبين ذلك فإن الله -سبحانه- جعل الظلم بين العباد محرما فقال: ( فلا تظالموا ) وهنا نظر أهل العلم في سبب قوله: ( إني حرمت الظلم على نفسي ) لأنه جعل بعدها: ( وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) وهذا فيه بحث واسع في أثر أسماء الله -جل وعلا- وصفاته التي اتصف بها -سبحانه- على بريته.

فالأسماء والصفات لها آثار في الملكوت، آثار في الشريعة،آثار في أفعال الله -جل وعلا- في بريته، وهذا نوع من هذه الآثار وهو أنه -سبحانه- لما أقام ملكه على العدل ، وحرم الظلم على نفسه -أمر عباده بالعدل ، وحرم الظلم فيما بينهم ، والعباد مكلفون فإذا وقع منهم ظلم كانوا غير ممثلين لمراد الله الشرعي ، وإن كانوا غير خارجين على مراد الله الكوني ؛ فلهذا يكون الله -جل وعلا- قد توعدهم إذ ظلموا، وقد نهاهم عن الظلم.

فإذن الظلم بأنواعه محرم، والظلم درجات يجمعها مرتبتان:

الأولى: ظلم النفس، وظلم النفس قسمان: ظلم النفس بالشرك، وهو ظلم في حق الله -جل وعلا-؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها، في غير من تصلح له، المشرك، فكل مشرك ظالم لنفسه كما قال -جل وعلا- : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ {82} الأنعام .

والقسم الثاني: من ظلم النفس أن يظلم النفس، بأن يعرضها من العذاب والبلاء بما لا يصلح لها، وهذا ظلم من العبد لنفسه بأي شيء؟ بارتكاب الحرام والتفريط فيما أوجب الله -جل وعلا- وعدم أداء الحقوق، فهذا ظلم للنفس لما ؟ لأن من حق نفسك عليك أن تسعدها في الدنيا والآخرة، فإذا عرضتها للمعصية فقد ظلمتها؛ لأنك لم تجعلها سعيدة بل جعلتها معرضة لعذاب الله -جل جلاله-.
والمرتبة الثانية: ظلم العباد، وظلم العباد معناه التفريط، أو تضييع حقوقهم بعدم أداء الحق الذي أوجبه الله -جل وعلا- لهم، فمن فرط في حق والديه فقد ظلمهم، ومن فرط في حق أهله فقد ظلمهم ، يعني: لم يكن معهم على الأمر الشرعي، بل ارتكب محرما أو فرط في واجب فقد ظلمهم، ومن اعتدى على أموال الناس أو على أعراضهم أو على أنفسهم أو على ما يختصون به فقد ظلمهم، وهذا كله محرم.

فإذن الظلم بأنواعه حرام، ولا يجوز شيء من الظلم -يعني: أن يظلم أحدُ أحدا شيئا- وإنما يأخذ الحق الذي له، قال -جل وعلا- بعد ذلك: ( فلا تظالموا ) -يعني: لا يظلم بعضكم بعضا-

.. يتبع ..

الوافـــــي 15-09-2005 05:47 AM

( يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ) كلكم ضال يعني: أن الأصل في الإنسان أنه على الضلالة، الأصل في الإنسان من حيث الجنس أنه ظلوم وجهول، وهما سببا الضلال، قال -جل وعلا-: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً {72} الأحزاب .

فالأمانة هي أمانة التكليف، ولما كان الإنسان ظلوما جهولا كان الأكثر فيه أن يكون ضالا؛ ولهذا أكثر الناس ضالون، وهذا جاء في القرآن في نصوص كثيرة، قوله هنا: ( كلكم ضال إلا من هديته ) يدل على أن الأمر الغالب في عباد الله أنهم ضالون إلا من من الله -جل وعلا- عليه بالهداية، وهذه الهداية تطلب من الله -جل وعلا- قال: ( فاستهدوني أهدكم ) يعني: اطلبوا مني الهداية أهدكم إليها.

وهذا يدل على رغبة ابن آدم في الهداية إن طلبها من الله -جل وعلا- فلا بد من ابن آدم أن يسعى في أسباب الهداية، فإذا رغب فيها وفقه الله -جل وعلا-، وهذا مرتبط بمسألة عظيمة من مسائل القدر، وهي أن الله -جل وعلا- يعامل عباده بالعدل، وخص طائفة منهم بالتوفيق، وهو أنه يعينهم على ما فيه رضاه -سبحانه وتعالى-: ( كلكم ضال ) . ( وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى {7} الضحى ، يعني: كان قبل البعثة ضال فهداه إلى الطريق: ( كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ) يعني: اطلبوا مني الهداية أهدكم إليها.

الهداية يطلبها كل أحد: الكامل -يعني: السابق بالخيرات-، والمقتصد، والظالم لنفسه، كل ينبغي عليه بل يجب عليه أن يطلب الهداية من الله -جل وعلا-؛ لهذا فرض الله -جل وعلا- في الصلاة سورة الفاتحة، ومن أعظم ما فيها قوله يعني: من الدعاء قوله -جل وعلا-: ( اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ {6} الفاتحة ، فطلب الهداية للصراط المستقيم.

هذا من أعظم المسائل وأجلها، يعني: أعظم ما تطلبه من الله -جل وعلا- أن تطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم، والهداية مرتبتان: هداية إلى الطريق، بمعنى الإرشاد إليه والتوفيق له، والهداية بمعنى الإرشاد منها شيء قد جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.

فهداية الدلالة والإرشاد تمت وقامت، ومنها الهداية: هداية الدلالة والإرشاد التي تسأل الله -جل وعلا- أن يعطيك إياها، أن تكون مرشدا إليها؛ لأن الالتفات إلى الإرشاد نوع من الاهتداء، فهداية النبي صلى الله عليه وسلم والهداية التي في القرآن موجودة بين ظهراني المسلمين لم يفقد منها شيء ولله الحمد، لكن من يوفق إلى أن يرشد إلى هذه الهداية؟

فإذن المرتبة الأولى: هداية الدلالة والإرشاد، وليست هي الهداية التي بمعنى أن تهدي غيرك، هذه الهداية التي هي طلب الهداية مرتبتان: هداية الدلالة والإرشاد، يعني: أن تطلب من الله -جل وعلا- أن يدلك ويرشدك على أنواع الهداية التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وسلم .

ومنه أيضا التوفيق لها، فإذا دللت عليها فتسأل الله أن يوفقك لاتباعها، هذه واحدة، ويدخل في ذلك قصد الإسلام، ويدخل في ذلك الهداية إلى شيء معين منه.

والنوع الثاني أو المرتبة الثانية: الهداية إلى تفاصيل الإيمان والإسلام، وما يحب الله -جل وعلا- ويرضى؛ لأن تفاصيل الإيمان كثيرة، ولأن تفاصيل الإسلام كثيرة؛ ولأن تفاصيل ما يحب الله -جل وعلا- ويرضاه، وتفاصيل ما يسخطه الله -جل وعلا ويأباه كثيرة متنوعة.

فكونك تسأل الرب -جل وعلا- أن يهديك هذا خروج من نوع من أنواع الضلالة؛ لأن عدم المعرفة عدم العلم بما يحب الله وما به الهداية هذا نوع من البعد عن الصراط، المقصود أن هذا النوع من الهداية تطلب الله -جل وعلا- أن يهديك إلى تفاصيل الصراط ، تفاصيل الإيمان، تفاصيل الإسلام، تفاصيل الاعتقاد؛ حتى تعلمه فتعمل به فتكون مرتبتك عند الله -جل وعلا- أعلى، قال -جل وعلا-: ( يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ) وهذا من أعظم المطالب، نسأل الله -جل وعلا- أن يهدينا سواء السبيل.

.. يتبع ..

الوافـــــي 15-09-2005 05:51 AM

قال: ( يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ) الرزاق هو الله -سبحانه وتعالى- والرزق منه، والأرزاق بيده يصرفها كيف يشاء، فهو الذي إذا فتح رحمة فلا ممسك لها كما قال في فاتحة سورة فاطر: ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

ومن ذلك الأرزاق التي تسد بها الجوارح، فقال -جل وعلا-: ( كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ) وإطعام الجائع ورزق الفقير وأشباه ذلك هذه من سأل الله -جل وعلا- إياها فإن الله -سبحانه- يعطيه، سواء أكان كافرا أم كان مسلما، أكان عاصيا أم كان صالحا؛ لأن ذلك من أنواع الربوبية، من آثار الربوبية.

وربوبية الله -جل وعلا- غير خاصة بالمسلم دون الكافر، أو بالصالح دون الطالح، فالجميع سواء في تعرضهم لآثار عطاء الله -جل وعلا- بإفراد ربوبيته، فيرزق -سبحانه وتعالى- الجميع ويهب الأولاد للجميع، ويجيب دعوة المضطر من الجميع، وهكذا في إفراد الربوية، فقوله -سبحانه-: ( يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ) من استطعم الله -جل وعلا- وسأله الطعام ، سأله الرزق فإن الله -جل وعلا- قد يجيب دعاءه.

قال: ( يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ) وهذا على نحو ما سبق، ( يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ) إنكم تخطئون بالليل والنهار، الخطأ هنا بمعنى الإثم؛ لأن الخطأ الذي هو بمعنى الخطأ، أو عدم التعمد هذا معفو عنه، وهنا قال: ( إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ) .

فالخطيئة المقصود بـ "تخطئون" أي: تعملون بالخطايا، تعملون الخطيئة، وهذا معناه العمل بالإثم، وهذا يغفر بالاستغفار والتوبة والإنابة، فليس المراد طبعا الخطأ؛ لأن الله -جل وعلا- عفا عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، كما قال -سبحانه- في آخر سورة البقرة: ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {286}‏ .

قال: فاستغفروني وأنا أغفر الذنوب جميعا.
هذا مقيد بما هو غير الشرك، أما الشرك فإن الله -جل وعلا- لا يغفره إلا لمن تاب وأسلم، أما غير الشرك مما هو دونه فإن الله -جل وعلا- يغفره -سبحانه وتعالى- إذا شاء أو لمن تاب.

قال -سبحانه- في آخر سورة الزمر: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {53} أجمع المفسرون من الصحابة ومن بعدهم أنها في التائبين، فـ: ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {53} "لا يغفر أن يشرك به الشرك" غير داخل في المغفرة، ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً {48} النساء ، يعني: في حق غير التائب.

فحصل لنا أن من تاب تاب الله عليه، فيغفر الله ذنبه أيا كان الشرك أو ما دونه، ومن لم يتب فإن كان مشركا فإن الله لا يغفر الشرك، وإن كان ذنبه ما دون الشرك فإنه تحت المشيئة، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بذنبه، فإذن قوله هنا: ( وأنا أغفر الذنوب جميعا ) مقيد بما ذكرت لك.

( فاستغفروني أغفر لكم ) يعني: اطلبوا مني المغفرة فأنا أغفر ذلك لكم، الحقيقة الحديث طويل، وكل كلمة تحتاج إلى بيان وإلى تفصيل، فلعلي أجمل فيما يأتي: ( يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ) وهذا لأجل كمال الغنى، كمال غنى المولى -جل وعلا- فإن الله -سبحانه- ذو الكمال في أسمائه وصفاته، ومن أسمائه الغني، ومن صفاته الغنى، فهو -سبحانه- غني عن العباد ولن يبلغوا نفعه ولن يبلغوا ضره -سبحانه وتعالى- بل هو الغني عن خلقه أجمعين.

.. يتبع ..

الوافـــــي 15-09-2005 05:53 AM

وكما قال هنا: ( إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني ) بل هو -سبحانه- أجل وأعظم من أن يؤثر العباد فيه نفعا أو ضرا، بل هم المحتاجون إليه المفتقرون إليه من جميع الجهات.
قال: ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم -ما زاد ذلك في ملكي شيئا ) يعني: أن تقوى العباد ليس المنتفع منها الرب -جل وعلا- بل هم المنتفعون، فهم المحتاجون أن يتقوا الله -سبحانه وتعالى- وهم المحتاجون أن يطيعوا ربهم -سبحانه- وهم المحتاجون أن يتقربوا إليه، وأن يتذللوا بين يديه، وأن يُروا الله -جل وعلا- من أنفسهم خيرا.

وأما الله -سبحانه وتعالى- فهو الغني عن عباده الذي لا يحتاج إليهم؛ إن الله -سبحانه وتعالى- هو الكامل في صفاته، الكامل في أسمائه الذي لا يحتاج إلى أحد من خلقه، تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

قال: ( يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم -ما نقص ذلك من ملكي شيئا ) الذي يعصي الله -جل وعلا- لا يضر إلا نفسه، ولا يحتاج الله -جل وعلا- إلى طاعته، ولا يضره أن يعصيه -سبحانه وتعالى- وهذا يعظم به العبد الرغب في الله -جل وعلا-؛ لأنه -سبحانه- هو ذو الفضل والإحسان، وذو المنة والإكرام، والعباد هم المحتاجون إليه.

قال: ( يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته -ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ) المخيط المراد به: الإبرة السميكة إذا أدخلت في البحر ثم أخرجت فإنها لا تأخذ من ماء البحر شيئا.

فلو أن أول العباد وآخرهم وإنسهم وجنهم سألوا الله -جل وعلا- في صعيد واحد سأل كل واحد مسألته، فأعطى الله كل واحد ما سأل -ما نقص ذلك من ملك الله -جل وعلا- شيئا إلا كما ينقص المخيط، كما تنقص الإبرة من الحديد إذا أدخلت في البحر، ثم خرجت -فإنها لا تنقص من البحر شيئا يذكر، وهكذا؛ لأن ملك الله -جل وعلا- واسع، ولأن ملكوته عظيم، وحاجات العباد ليست بشيء في جنب ملكوت الله -جل وعلا-.

فإنهم يعطون مما في الأرض -يعني: بعض ما في الأرض يكفي العباد أجمعين- وملك الله -جل وعلا- واسع، وما الأرض والسماوات السبع في كرسي الرحمن إلا كدراهم ألقيت في ترس -يعني: أنها صغيرة جدا-، فحاجات العباد متعلقة بالأرض وما حولها -يعني: والسماء التي تقرب منهم- وهذا إذا أعطي كل أحد ما سأل فإنه يعطى مما في الأرض، وهذا شيء يسير جدا بالنسبة لما في الأرض، فكيف بالنسبة إلى ملكوت الله جل وعلا.

قال -جل وعلا- بعد ذلك: ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ) إنما هي أعمالكم -يعني: أن المقصود من إيجادكم الابتلاء والتكليف- فإنما الأمر راجع إلى أعمالكم، لم يخلق الله -جل وعلا- الخلق لأنهم سينفعوه، أو لأنه يخشى منهم أن يضروه، أو لأنه -سبحانه- محتاج أن يعطيهم، بل إنما هو الابتلاء، ابتلاؤهم بهذا التكليف بهذا الأمر العظيم، وهو عبادته سبحانه.

كما قال: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً {72} الأحزاب ، وكما قال -جل وعلا-: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58}الذاريات .

فغنى الله -سبحانه وتعالى- عن عباده أعظم الغنى، وهم محتاجون إليه، والابتلاء حصل بخلقهم، فابتلى الله العباد بحياتهم، ونتيجة هذا الابتلاء أن أعمالهم ستحصى: ( إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ) وقوله -جل وعلا-: "أحصيها" الإحصاء بمعنى العد التفصيلي والحفظ؛ لأن الإحصاء له مراتب: فمنها العد التفصيلي، ومنها الحفظ وعدم التضييع، كما قال -جل وعلا-: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً {95}‏ مريم .

وكما قال -جل وعلا-: (لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً {28}‏ الجن ، والإحصاء يشمل معرفة التفاصيل وكتابة ذلك، ويشمل أيضا الحفظ وعدم التضييع: ( فإنما هي أعمالكم أحصيها ) يعني تكتب عليكم بتفاصيلها، وأعرفكم إياها بتفاصيلها، وأحفظها لكم فلا تضيع
( ثم أوفيكم إياها ) الحسنات بالحسنات، والسيئات بما يحكم الله -جل وعلا- فيه، فمن فعل السيئات فهو على خطر عظيم، ومن فعل الحسنات فهو على رجاء أن يكون من الناجين.

قال: ( فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) لأن العبد هو الحسيب على نفسه: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ {38} المدثر ، كل نفس تعلم ما تعمل وصوابها وخطأها، ولو ألقت المعاذير: (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ {14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ {15} القيامة ، قال: ( فمن وجد خيرا فليحمد الله ) يعني: فليثن على الله -جل وعلا- بذلك؛ لأنه هو الذي أعانه.

ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه؛ لأن العبد هو الذي جنى على نفسه، والله -سبحانه- أقام الحجة وبين المحجة، وسلك بنا السبيل الأقوم، فالأمر واضح والعباد هم الذين يجنون على نفسهم.

إنتهى شرح الحديث الرابع والعشرون

تحياتي

:)

الوافـــــي 07-10-2005 06:24 AM

الحديث الخامس والعشرون

ذهب أهل الدثور بالأجور

عن أبي ذر -رضي الله عنه :-
( أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، فقالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ كذلك لو وضعها في الحلال كان له أجر ) رواه مسلم .

وهذا الحديث عن أبي ذر أيضا: ( أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي -عليه الصلاة والسلام-: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور ) ذهب أهل الدثور يعني: أن أهل الغنى ذهبوا بالأجر عند الله -جل وعلا-؛ لأن لهم أموالا يتصدقون بها، والصدقة أمرها عظيم.

( قالوا ذهب أهل الدثور بالأجور: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم ) يعني: أن الله -جل وعلا- ميزهم بأنهم يتصدقون، فيصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، لكن تميزوا عنا بالصدقة، فذهب أهل الدثور بأجور الصدقة.

فالنبي صلى الله عليه وسلم بين لهم أن معنى الصدقة واسع، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به ) وهذا فيه الحث على سماع ما جعل الله -جل وعلا- للفقراء، بل ولعامة المسلمين الأغنياء والفقراء جميعا من أنواع الصدقات التي لا تدخل في الصدقات المالية.

وهذا مبني على معنى الصدقة في الشريعة؛ فإن الصدقة في الشريعة ليست هي الصدقة بالمال، والصدقة بالمال نوع من أنواع الصدقة، فالصدقة إيصال الخير، تعريف الصدقة: إيصال الخير والنفع للغير؛ ولهذا يوصف الله -جل وعلا- بأنه متصدق على عباده.

.. يتبع ..

الوافـــــي 07-10-2005 06:25 AM

كما ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألوه عن مسألة القصر في السفر قال: ( صدقة من الله ) ( قالوا: يا رسول الله، هانحن قد أمنا، والله -جل وعلا- يقول في سورة النساء: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً {101}‏ وقد أمنا.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: صدقة من الله عليكم، فاقبلوا صدقته ).

فالله -جل وعلا- يتصدق على عباده، بمعنى: يوصل الخير وما ينفعهم لهم، فالصدقة: إيصال الخير للغير، وقد يكون هذا الإيصال متعديا، وقد يكون لازما، يعني: قد يكون العبد يوصل الخير لنفسه فيكون متصدقا، ويوصل الخير لغيره فيكون متصدقا على غيره.

فالصدقة معناها في الشريعة عام، ومنها الصدقة بالمال؛ فإنها إيصال الخير والنفع للغير، قال -عليه الصلاة والسلام-: ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ) لأن معنى الصدقة عام: ( إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة ) .

مثل -عليه الصلاة والسلام- بهذه الأربع لأمرين:

الأول: أنها من أنواع الذكر اللساني، فمثل بها على أنواع الذكر الأخرى؛ لأن هذه أفضل الذكر، كما ثبت في الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ) .
فهذه الأربع هي أحب الكلام إلى الله، فهي أعظم ما تتقرب به إلى الله -جل وعلا- من الذكر، وتتصدق به على نفسك، فقال: ( إن بكل تسبيحة صدقة ) لأن فيها الأجر العظيم، فتصل بالتسبيحة نفسك بأنواع الخير والأجر.

كذلك التحميد والتهليل والتكبير، ثم انتقل -عليه الصلاة والسلام- إلى نوع من الصدقة متعد، فقال: ( وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة ) هذا تمثيل لأنواع الصدقات التي فيها التعدي النفع، فذكر الأمر بالمعروف، والمعروف: هو ما علم حسنه، والأمر به في الشريعة، فما عرف في الشريعة حسنه، فهو معروف.

والمنكر -ضده-: ما عرف في الشريعة سوءه ونكارته، فمن أمر بما عرف في الشريعة حسنه فقد أمر بالمعروف، وأعلاه التوحيد، ومن نهى عن المنكر -وهو ما أنكر في الشريعة- وأعلاه الشرك بالله -جل وعلا- فقد نهى عن المنكر، فإذن كل أمر بمعروف صدقة لك، وكل نهي عن المنكر صدقة.

وتعليم العلم يدخل في ذلك، فهو من أنواع الصدقات، فمن لازم العلم تعلما وتعليما فإنه يتصدق في كل لحظة تمر عليه على نفسه، وكذلك على غيره؛ ولهذا أهل العلم أعظم الناس أجورا إن صلحت نياتهم.

قال: ( وفي بضع أحدكم صدقة ) البضع المراد به في اللغة بعض الشيء؛ لأن البضع والبعض فيها قلب "ب ض ع"، و"ب ع ض" يعني: البعض، والبضع مقلوبة هذه عن الأخرى، فمعنى البضع البعض، ولكنهم كنوا به عن بعض ابن آدم، وهو فرجه، وهذا من شريف الكلام؛ حيث يذكر ما يستحيا عن ذكره ولا يحسن ذكره في كلمات تدل عليه، ولا يكون لها وقع ينافي الأدب في السمع.

قال -عليه الصلاة والسلام-: ( وفي بضع أحدكم صدقة ) يعني: فيما يأتيه المرء بفرجه -وهو ذكر الرجل- صدقة، فاستغربوا؛ قالوا: ( يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! ) .

المراد بالشهوة هنا الماء، يعني: ماء الرجل الذي ينزله، يعني: المراد تمام الشهوة، ( ويكون له فيها أجر؟! ) يعني: المرء يأتي شهوته، وينزل ماءه، ويكون له بذلك أجر؟! فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( أرأيتم لو وضعها -يعني: لو وضع الشهوة- في حرام ) .

والذي يوضع هو ماء؛ لهذا فسرت الشهوة هنا بأنها الماء، قال: ( أرأيتم لو وضعها في حرام ) وهذا يسمى استدلال العكس، أو قياس العكس.

( لو وضعها في حرام أكان عليه وزر قالوا: بلى، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ) وهذا -يعني: أن ما يفعله المرء من هذه الأفعال التي هي من قبيل الشهوات- إذا أتى بها الحلال، وابتلى الله -جل وعلا- العبد بهذه الشهوة، فجعلها في الحلال، وباعد نفسه عن وضعها في الحرام -أنه يؤجر على ذلك، وهذا هو الظاهر.

.. يتبع ..

الوافـــــي 07-10-2005 06:28 AM

واختلف أهل العلم في هذه المسألة: هل يؤجر بإتيانه الحلال بلا نية، أم يؤجر بإتيانه الحلال بنية؟ فقالت طائفة: هذه الشهوات التي ابتلى الله بها العبد إذا جعلها في الحلال فإنه يؤجر عليها بلا نية، على ظاهر هذا الحديث، وتنفعه النية العامة، وهي نية الطاعة نية الإسلام، فإنه بالإسلام يحصل له نية الطاعة لله -جل وعلا- فيما يأتي، وفيما يذر النية العامة، وهذا قول طائفة من أهل العلم.

وقال آخرون: هذا الحديث محمول على غيره من الأحاديث، وهو أنه يؤجر إذا صرف نفسه عن الحرام إلى الحلال بنية، فإذا صرف نفسه عن مواقعة الزنا إلى مواقعة الحلال بنية -فإنه يؤجر على ذلك؛ لأن الأحاديث الأخر، والقواعد العامة، وكذلك بعض الأيات -تدل على أنه إنما يؤجر على ما يبتغى به وجه الله -جل وعلا-.

قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها ) .
وأيضا في أية النساء قال -جل وعلا-: ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً {114} فدل في الآية على إشتراط ابتغاء مرضاة الله، ودل في الحديث أيضا على أن النفقة إذا ابتغي بها وجه الله -فإنه يؤجر عليها في العبد.

فحمل أكثر أهل العلم هذا الظاهر من الحديث على غيره من النصوص مما يكون العبد به منصرفا عن الحرام إلى الحلال بنية، فإذا قام في قلبه أنه لن يأتي الحرام، بأن الله أباح له الحلال ليقتصر على الحلال دون الحرام -فإنه يؤجر على ما يأتي من الحلال، ويؤجر علي شهوته في هذه النية، وإنما الأعمال بالنيات.


إنتهى شرح الحديث الخامس والعشرون

تحياتي

:)

maher 21-10-2005 06:09 AM

للرفع إن شاء الله



و في إنتظار البقية أخي الوافي;)

الوافـــــي 21-10-2005 06:23 AM

جزاك الله خيرا أخي الكريم ماهر
وسأكمل إدراج شرح الأحاديث تباعا
بإذن الله

:)

الوافـــــي 21-10-2005 06:26 AM

الحديث السادس والعشرون

كل سلامى من الناس عليه صدقة

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة، وكل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له متاعه عليها صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) رواه البخاري ومسلم.

هذا الحديث من حيث تفاصيل الصدقات يكفي عنه ما مر معنا في الحديث السابق؛ لأن هذه التي ذكرت بعضها من الصدقات الذاتية، وبعضها من الصدقات المتعدية، لكن الذي يظن منه قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ) سلامى هذه المقصود منها العظام أو المفاصل.
من أهل العلم من قال: العظام، ومنهم من قال: مفاصل العظام، يعني: الصلات بين العظم والعظم، أو العظام أنفسها، فعظام الإنسان كثيرة، والله -جل وعلا- من عليه بهذه، فخلقك في أحسن تقويم، وجعلك في تصرفك في عظامك، وما ابتلاك به في شكر هذه النعمة، جعلك في محط الابتلاء، فهل تشكر أم لا تشكر؟.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( كل -هنا- سلامى من الناس ) يعني: كل عظم من أعظم ابن آدم، أو كل عظم أو كل مفصل من مفاصل جسد ابن آدم عليه صدقة، فقوله: "عليه" نعلم من الأصول أنها من ألفاظ الوجوب، فيدل على أن شكر هذه النعمة واجب: فشكر نعمة البدن، نعمة العظام، نعمة المفاصل... واجب.

دل على الوجوب قوله: "عليه صدقة": ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ) يعني: يجب عليه على كل مفصل أن يتصدق بصدقة تقابل تلك النعمة، وتكون شكرا لها، هذه التي ذكرت أمثال لبعض الصدقات، والصدقة الواجبة التي بها يخلص المرء من الإثم في عدم شكر نعمة البدن -ألا يستعمل هذه المفاصل في معصية الله جل وعلا.

فإذا كان يوم من الأيام سلم في ذلك اليوم من المحرمات التي فعلها بهذه المفاصل، أو سلم من ترك أداء الواجبات، واستعمل المفاصل في أداء الواجبات، فقد أدى الشكر الواجب في ذلك اليوم، فكل مقتصد -يعني: فاعل للواجب تارك المحرم في يوم قد أدى شكر ذلك اليوم الواجب الذى يجب عليه لنعمة البدن.

.. يتبع ..

الوافـــــي 21-10-2005 06:27 AM

ثم هناك شكر مستحب، وهو أن يأتي بأنواع الصدقات المستحبة: القولية، والعملية، والمالية، وأن يأتي بنوافل العبادات المتنوعة، فإذن الصدقات نوعان: واجبة، ومستحبة، فالواجبة: هي أن تستعمل الآلات في الطاعة، وأن تبتعد بها عن الحرام، فإذا فعلت ذلك فقد أديت شكر تلك الآلات.

قال -عليه الصلاة والسلام-: ( كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة ) ( كل يوم تطلع فيه الشمس ) كلمة "يوم" قد تأتي في النصوص وفي اللغة ويراد بها أكثر من يوم، فيكون عدة أيام إذا كان يجمعها شيء واحد، كما أنه يقال: ساعة، وقد تكون ساعات كثيرة، وهذا له فوائده المعروفة في اللغة، والبلاغة.

المقصود: قال هنا: ( كل يوم تطلع فيه الشمس ) فلما قيده بـ ( تطلع فيه الشمس ) علمنا أن الوجوب يوما، يعني: كل يوم من طلوع الشمس إلى طلوعها المرة الأخرى، يعني: كما نقول في كل أربع وعشرين ساعة يجب عليك تجاه هذه النعمة، وهي نعمة البدن: المفاصل، العظام -أن تشكر الله -جل وعلا- عليها .

فمثل -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ( تعدل بين اثنين صدقة ) "تعدل" يدخل في العدل الحكم بينهما بالعدل، يدخل في ذلك الصلح فيما يصلح به كما قال: ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً {114} النساء ، وأشباه ذلك من الأعمال الخيرة.

قال: ( وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ) الإعانة في كل ما يحتاج إليه هذا من أنواع الصدقات: تعينه في سيارته، تعينه في إصلاح شيء فيها، تعينه في الإركاب، تساعد كبير السن أو المحتاج... إلى آخره، كل هذا من أنواع الصدقات التي يحصل بها شيء من شكر نعمة المفاصل والعظام.

قال: ( والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ) وهذا واضح ( وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) هذه أمثلة متنوعة للصدقات اللازمة والمتعدية، وجاء في رواية، ويجزئ من ذلك في الصحيح: ( ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما المرء من الضحى )
فإذا استعملت هذه المفاصل في ركعتين تركعهما من الضحى -فقد أديت الشكر المستحب لهذه المفاصل.

إنتهى شرح الحديث السادس والعشرون

تحياتي

:)

الوافـــــي 21-10-2005 06:37 AM

الحديث السابع والعشرون

البر حسن الخلق

عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس ) رواه مسلم

وعن، وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر. قلت: نعم. قال: استفت قلبك، البر: ما اطمئنت إليه النفس، واطمئن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ) حديث حسن، رويناه في مسندي الإمامين: أحمد بن حنبل، والدارمي بإسناد حسن.

هذا الحديث من الأحاديث الجوامع، وهو حديث النواس -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( البر حسن الخلق ) "البر حسن الخلق" البر أنواع: -
فيكون البر فيما بين العبد وبين ربه -جل وعلا-، ويكون البر فيما بين العبد وبين الناس.

القسم الأول :البر الذي بين العبد وبين ربه -جل وعلا- هو بالإيمان، وإتيان أوامر الله -جل وعلا- المختلفة، وامتثال الأمر، واجتناب النهي كما قال -جل وعلا- في سورة البقرة: ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177} الآية.

فذكر البر الذي يجب على العبد لله -جل وعلا-، فهذا النوع من البر يأتي في القرآن كثيرا، والله -جل وعلا- هو الذي جعل هذا برا، فالعبد من أهل البر إذا قام بما جاء في هذه الآية، فيقال: هذا من الأبرار إذا امتثل ما في هذه الآية، وابتعد عما يكرهه الله جل وعلا.

والقسم الثاني من البر: البر مع الخلق، وهذا جماعه حسن الخلق؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ( البر حسن الخلق ) فجمع البر في عبارة وجيزة وهي: ( حسن الخلق ) وحسن الخلق -كما ذكرنا لك- يجمعه أنه بذل الندى، وكف الأذى، وأن تحسن إلى الخلق، وأن تجزي بالسيئة الحسنة، وأن تعامل الناس بما فيه عفو عن المسيء، وكظم للغيظ، وإحسان للخلق.
فمن كان باذلا للندى، غير منتصر لنفسه، كافا الأذى، مقدما المعروف للخلق -فهو من ذوي حسن الخلق فيما بين الناس، فإن جمع إليك ما يستحب من ذلك، وما يجب من حقوق العباد -كان حسن الخلق عنده شرعيا.

.. يتبع ..

الوافـــــي 21-10-2005 06:38 AM

فإذا حسن الخلق الذي يكون فيه امتثال لما جاء في الشرع من صفات عباد الله المؤدين لحقوقه وحقوق عباده، هذا يكون معه البر، فالبر إذن درجات؛ لأن الإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر… إلى آخره، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة… إلى آخره، هذا درجات، ومعاملة الخلق درجات.

فتحصل من هذا أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( البر حسن الخلق ) أن درجة البر تختلف بإختلاف حسن الخلق، والبر إذا أردته فهو حسن الخلق؛ لأنه بذلك تؤدي حقوق الخلق الواجبة والمستحبة.

قال: ( والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) عرف الإثم -وهو ما يقابل البر- بشيئين: شيء ظاهر، وشيء باطن. وهذا من الميزان الذي يمكن تطبيقه، وهو -عليه الصلاة والسلام- ممن...، بل هو -عليه الصلاة والسلام- الرؤوف الرحيم بهذه الأمة، فقال لك: ( الإثم ما حاك في نفسك ) هذا أمر باطن، ( وكرهت أن يطلع عليه الناس ) وهو الأمر الظاهر.

فإذا أتيت إلى شيء مشتبه عليك فحاك في نفسك، هل هذا من الإثم أم من البر، وترددت فيه ولم تعلم أنه من البر، وانضم إلى ذلك الظاهر أنك لو فعلته كرهت أن يطلع عليه الناس -فهذا هو الإثم.

فالإثم يجمعه شيئان: شيء باطن متعلق بالقلب، وهو أنه يحوك في النفس، وتتردد في فعله النفس، وفي الظاهر يكره أنه لو عمله أن يطلع عليه الناس، فهذا يدل على أنه إثم، وهذا وصف عظيم منه -عليه الصلاة والسلام- للبر والإثم.

فالبر: حسن الخلق ببذل الندى، وكف الأذى، والعفو عن المسيء، والصفح عن المخطئ في حقه.
والإثم: ما حاك في نفسك وجهه، وكرهت أن يطلع عليه الناس فيما لو فعلته ظاهرا.

في الرواية الأخرى: وعن وابصة بن معبد قال: ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر. فقلت: نعم. قال: استفت قلبك، البر: ما اطمئنت إليه النفس، واطمئن إليه القلب، والإثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر ) .

ذكرت لكم أن البر نوعان: بر متعلق بحق الله، وبر متعلق بحق العباد. فالحديث الأول ذكر فيه -عليه الصلاة والسلام- البر المتعلق بحق الناس فقال: ( البر حسن الخلق ) وهنا ذكر البر بعامة ( فقال: استفت قلبك ) يعني: عن البر، هل هذا الشئ من البر أم ليس من البر، هل هو من الطاعة أم ليس من الطاعة ؟

.. يتبع ..

الوافـــــي 21-10-2005 06:39 AM

( استفت قلبك، البر: ما اطمئنت إليه النفس، واطمئن إليه القلب ) يعني: أنه لم يصر في القلب تردد من هذا الشئ المعين، ولا يكره أن يطلع عليه الناس، وهذا يعم جميع أنواع الطاعات، وقابله بالإثم حيث قال: ( والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ) .

فعرف الإثم أو جعل -عليه الصلاة والسلام- علامة للإثم بأنه: ( ما حاك في النفس، وتردد في الصدر ) على نحو ما ذكرنا، ( وإن أفتاك الناس وأفتوك ) ولهذا يدخل في ذلك جميع الأنواع المشتبهة التي تدخل في المتشابهات التي ذكرناها في حديث النعمان بن بشير.

فالإثم تفرغ منه إذا كان الشئ يحوك في الصدر، ولا تطمئن إليه النفس؛ لأن المسلم بإيمانه ودينه وتقواه تطمئن نفسه إلى ما فيه الطاعة، وأما ما فيه شبهة أو ما فيه حرام فيجد أنه خائف منه، أو أنه متردد فيه، ولا يستأنس بشئ فيه تعريض لمحرم أو اشتباه؛ لأنه قد يقع في الحرام.

فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ) هنا قال: ( وإن أفتاك الناس ) يعني: قد تذهب إلى مفتٍ تستفتيه في شأنك، ويفتيك بأن هذا لا بأس به، ولكن يبقى في صدرك التردد.

والمفتي إنما يتكلم بحسب الظاهر -يفتي بحسب ما يظهر له من السؤال- وقد يكون عند السائل أشياء في نفسه لم يبدها، أو لم يستطع أن يبديها بوضوح فيبقى هو الحكم على نفسه، والتكليف معلق به، وإماطة الثواب والعقاب معلقة بعمله هو، فإذا بقي في نفسه تردد ولم تطمئن نفسه إلى إباحة من أباح له الفعل -فعليه أن يأخذ بما بما جاء في نفسه، من جهة أنه يمتنع عن المشتبهات أو عما تردد في الصدر.

.. يتبع ..

الوافـــــي 21-10-2005 06:41 AM

وهنا يبحث العلماء بحثا معلوما يطول، وهو بحث أصولي وكذلك فقهي، في أن ما يتردد في الصدر ويحيك فيه، ولا يطمئن إليه القلب، هل هو إثم بإطلاق، أم أن بعض أنواعه إثم؟ والتحقيق في هذا أن المسألة فيها تفصيل.

فإذا كان يعني الحالة الأولى : أن يكون التردد الذي في النفس واقعا عن جهل من صاحبه في الحكم الشرعي أو بالسنة، فهذا لو تردد في شيء جاء النص بحسنه أو بإباحته أو بالأمر به -فإنه يكون عاصيا لو لم يفعل، أو يكون ملوما لو لم يمتثل للسنة.

وقد جاء في الحديث الصحيح "صحيح مسلم": ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ناسا بالإفطار في السفر، فبقي منهم بقية لم يفطروا، فقيل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: إن أناسا لم يفطروا. فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة ) .

فهذا يدل أن الأمر إذا كان من السنة بوضوح، فإن تركه لتردد في الصدر أن هذا من الشيطان، فلا اعتبار لهذا النوع: يكون في سفر يقول: أنا لن أقصر، في نفسي شيء من أن أقصر مع توافر الشروط بما دلت عليه السنة بوضوح، فإن هذا تردد لا وجه له.

كذلك شيء دل القرآن الكريم، أو دلت السنة على مشروعيته، ثم هو يبقى في نفسه تردد، فهذا لم يستسلم أو لم يعلم حكم الله -جل وعلا-، فلا قيمة لهذا النوع.

الحالة الثانية: أن يقع التردد من جهة اختلاف المفتين، اختلاف المجتهدين في مسألة، فاختلف المجتهدون في تنزيل واقعة هذا المستفتي على النصوص: فمنهم من أفتاه بكذا، ومنهم من أفتاه بكذا، فهذا ليس الإثم في حقه أن يبقى مع تردد نفسه، ليس الإثم في حقه أن يزيل تردد نفسه.

وليس البر في حقه أن يعمل بما اطمئنت إليه نفسه خارجا عن القولين، بل البر في حقه ما اطمئنت إليه نفسه من أحد القولين؛ لأنه لا يجوز للعامي أن يأخذ بقول نفسه مع وجود عالم يستفتيه، بل إذا استفتى عالما، وأوضح له أمره وأفتاه -فإن عليه أن يفعل ما أفتاه العالم به، فإذا اختلف المفتون فإنه يأخذ بفتوى الأعلم الأفقه بحاله.

الحالة الثالثة: وهي التي ينزل عليها هذا الحديث، وهي أنه يفتي الناس، وهي أنه يستفتي المفتي فيفتى بشئ لا تطمئن نفسه لصوابه فيما يتعلق بحالته، فيبقى مترددا يخشى أنه لم يفهم، يقول: هذا أفتاني لكن المسألة فيها أشياء أخر لم يستبنها، يقول: المفتي لم يستفصل مني، يقول: حالة المفتي أنه ما استوعب المسألة من جهاتها.

.. يتبع ..

الوافـــــي 21-10-2005 06:41 AM

فإفتاء المفتي للمكلف لا يرفع التكليف عنه في مثل هذه الحالة، وإنما ينجو بالفتوى إذا أوضح مراده بدون التباس فوفي، فإنه يكون قد أدى الذي عليه بسؤال أهل العلم امتثالا لقول الله -جل وعلا-: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {43} النحل .
وأما إذا لم يفصل أو لم يستفصل المسئول المفتي، أو لم يحسن فهم المسألة فاستجعل وأفتى، وبقي في قلب المستفتي شيء من الريب من جهة أن المفتي لم يفهم كلامه، أو لم يفهم حاله أو أن هناك من حاله ما لا يصلح أن يبين، أو ما لم يستطع بيانه -فإن هذا يدخل في هذا الحديث بوضوح: ( فالإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ) .

فإذن الأحوال كما قال أهل العلم ثلاثة: اثنان منها لا تدخل في ذلك، وهي :
الأولى : نعيدها باختصار، الأولى: ما ورد النص به؛ فإنه لا يجوز أن يبقى في النفس تردد مع ورود النص: من الكتاب، أو السنة، أو إجماع أهل العلم في المسألة، أو إجماع أهل السنة في المسألة.

والثاني: أن يختلف المفتون، وقد أوضح لهم حاله، فإن عليه أن يأخذ بفتوى الأعلم الأفقه منهم، أو من تطمئن نفسه لفتواه.

والحالة الثالثة: أنه لم يحسن إبداء المسألة، أو لم يستفصل المفتي، فرجع الأمر فيما بينه وبين المفتي إلى عدم وضوح في موافقة حكم الله في المسألة، فإنه يترك الأمر ويخلو من الخلاف استبراء لدينه، ورغبة في دوام تعرضه للإثم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

إنتهى شرح الحديث السابع والعشرون

تحياتي

:)

الوافـــــي 04-11-2005 04:39 PM

الحديث الثامن والعشرون

أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة

عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة، وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

هذا الحديث أصل في بابه في بيان الاستمساك بتقوى الله -جل وعلا- والوصية بذلك، والاستمساك بالسمع والطاعة، وبالسنة وبطريقة الخلفاء الراشدين المهديين من بعد النبي عليه الصلاة والسلام

قال العرباض بن سارية رضي الله عنه ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون ) "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة" الوعظ هو التذكير بالأمر والنهي، وبحقوق الله -جل وعلا- في الأمر والنهي -يعني: فيما أمر به ونهى عنه-، وهذا يكون معه غالبا التخويف.

فالموعظة قد تكون بترغيب، وقد تكون بترهيب، والغالب عليها أن يكون معها التخويف من عدم امتثال الأمر أو بإرتكاب النهي، قد جاء ذكر الموعظة في القرآن في عدد من المواضع، والمفسرون فسروها بإتباع الأمر، أو بالتذكير بإتباع الأمر، والتذكير بإجتناب النهي، قالوا: إن لفظ "وعظ" بمعنى: جعل غيره في عظة.

والعظة: نوع مما يحصل به الاعتبار، وذلك من آثار الاستجابة للتخويف أو التهديد أو الإنذار أو الإعلام وما شابه ذلك؛ فلهذا فسرت الموعظة فيما جاء في القرآن بأنها كما ذكرت لك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وإلقاء ذلك بشيء من التخويف منهما، وعمم الموعظة أمور الترغيب والترهيب، فيقال: هذه موعظة إذا ذكر بالله وبالآخرة، وبأمر الله ونهيه، وبعقوبة المنتهي عن الأمر، أو المرتكب للمنهي حين يذكر بعقوبته في الآخرة أو في الدنيا صار واعظا.

المقصود من هذا أن قوله هنا: ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون ) سبب الوجل، وجل القلوب، وسبب أن العيون زرفت أنها اشتملت على أشياء منها: التخويف والوعيد، ومنها أنه نبههم أنه سيفارقهم.

فجمع -عليه الصلاة والسلام- لهم ما بين الإشعار بمفارقته لهم-عليه الصلاة والسلام- وما بين تذكيرهم بأمر الله -جل وعلا-، وبحدوده وأوامره، والتخويف من مخالفة ذلك، فقال رضي الله عنه ( وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون ) .

والوجل -وجل القلوب- أعظم من خوفها؛ لأن الوجل خوف وزيادة ، وهو الخوف الذي معه +اغترار وتردد في هذا الأمر-يعني: أنه خاف منه مع كون القلب راغبا راهبا في هذا الأمر- فهناك درجات فيه: الرهبة، والخوف، والوجل، فكلها داخلة في معنى الخوف، لكن كل واحدة لها مرتبتها.

.. يتبع ..

الوافـــــي 04-11-2005 04:40 PM

قال: ( فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع ) يعني لما اشتملت عليه من الإشارات، ولما كانت عليه من أنها جامعة فاستشفوا أنها موعظة مودع لهم، فكأنه -عليه الصلاة والسلام- جمع لهم ما يحتاجون، وأرشدهم بذلك بأنه ربما فارقهم ؛ لأنه جمع أشياء كثيرة في مكان واحد.

قال: "فأوصنا" ومر معنا معنى الوصية، قال -عليه الصلاة والسلام-: ( أوصيكم بتقوى الله الله ) والتقوى: هي وصية الله للأولين والآخرين، وقد ذكرنا لكم أن معنى التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وعقابه في الدنيا الآخرة وقاية، وهذه الوقاية بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، والعمل بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتقوى في كل مقام بحسبه.

فقد فسرت التقوى بعدة تفسيرات ذكرناها لكم، ومن أحسنها قول طلق بن حبيب -رحمه الله تعالى- أن التقوى: هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.

فجمع في هذا التعريف بين الترك والعلم والنية، وهذا هو حقيقة التقوى في الأوامر والنواهي، قال: ( أوصيكم بتقوى الله الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ) قال: ( والسمع والطاعة ) والسمع والطاعة حقان للإمام أو للأمير، وهما من ثمرات البيعة؛ لأن البيعة عقد وعهد على السمع والطاعة، فتحصل بالمباشرة وتحصل بالإنابة.

فالسمع والطاعة من ثمرات البيعة، فالإمام المسلم إذا بايعه طائفة من أهل العلم، ومن يسار إليهم في الحل والعقد - فإن في بيعتهم له على السمع والطاعة، وعهدهم له أن يسمعوا ويطيعوا -في ذلك مبايعة بقية المسلمين، وعلى هذا جرت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين .

فالسمع والطاعة -كما ذكرت لك- لا فرق بينه وبين البيعة، ومن فرق بين البيعة وبين السمع والطاعة في الحقوق التي للإمام المسلم أو للأمير المسلم، فلا دليل له من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا من عمل الصحابة والتابعين، ولا من قول أهل السنة والجماعة، وأتباع السلف الصالح من عقائدهم.

فالسمع والطاعة للأمير المسلم حق من حقوقه؛ لقول الله -جل وعلا-: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59}‏ النساء ، لكن السمع والطاعة له لا تجب له حقا له استقلالا، وإنما هي على وجه التبع -يعني أنها تبع لطاعة الله وطاعة رسوله؛ ولهذا جاء في الأحاديث بيان أن ( الطاعة إنما هي في المعروف ) .

والمعروف هو ما ليس بمعصية -يعني: ما عرف في الشرع حسنه- وهو ما ليس بمعصية؛ ولهذا جاء في أحاديث أخر بيان أن الطاعة تكون في غير المعصية، وعلى هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة في امتثالهم لهذه الوصية العظيمة منه -عليه الصلاة والسلام-: ( أوصيكم بتقوى الله الله والسمع والطاعة ) .

السمع والطاعة -كما ذكرت لك- يعني في غير المعصية، فإذا كان في الواجبات فالسمع والطاعة لأمر الله -جل وعلا-، ولحق الله -جل وعلا- لا لحق الأمير، وإذا كان في المبيحات أو فيما يكون فيه الاجتهاد، فهنا يتوجه السمع والطاعة لحق الإمام أو لحق الأمير.

يعني أن المسائل ثلاث: ما وجب بأصل الشرع فإنه يطاع فيه الأمير لأمر الله -جل وعلا- لذلك، وليست الطاعة هنا في الواجب من حقوقه، بل هو يطاع لحق الله -جل وعلا- في طاعته فيما أوجب جل وعلا.

والحالة الثانية: أن يأمر أو ينهى عن مباح، أو فيما فيه اجتهاد، أو عن مكروه أو ما أشبه ذلك، فإنه يطاع هنا لحقه هو؛ لأن الله -جل وعلا- جعل له السمع والطاعة.

الحالة الثالثة: أن يكون أمره بمعصية أو نهيه عن واجب، فهنا لا طاعة له؛ لأن طاعة الله -جل وعلا- حق مقدم على طاعة غيره ممن جعل الله -جل وعلا- له الحق، فمثلا: الوالدان، والمرأة لزوجها، والإمام، وأشباه ذلك ممن جعل الله -جل وعلا- لهم حقا في السمع والطاعة، فإنهم يطاعون في غير المعصية، يعني: فيما جاء في الشريعة أنه غير محرم.

.. يتبع ..

الوافـــــي 04-11-2005 04:42 PM

قال: ( وإن تأمر عليكم عبد ) "وإن تأمر عليكم عبد" في قوله: "تأمر" معنى تغلب، ( وإن تأمر عليكم عبد ) يعني: غلب عبد على الإمارة، فدعا لمبياعته أو دعا لأن يسمع له ويطاع، فهنا يجب أن يسمع له ويطاع
فلهذا قال العلماء: الولايات الشرعية العامة تكون بإحدى طريقين:
الطريق الأول: طريق الاختيار: أن يختار الإمام العام، أو أن يختار الأمير، والاختيار، ولاية الاختيار لها شروطها إذا كانت لأهل الحل والعقد، فإنهم يختارون من اجتمعت فيه الشروط الشرعية التى جاءت في الأحاديث، ومنها: أن يكون الإمام قرشيا، ومنها أن يكون عالما، ومنها أن يكون يحسن سياسة الأمور، وأشباه ذلك مما اشترطه أهل العلم في ولاية الاختيار.

والقسم الثاني: ولاية التغلب: وهو أن يغلب الإمام، أن يغلب أحد أميرٌ أو غيره ممن لا تتوفر فيه الشروط، أو بعض الشروط، أو تكون تتوفر فيه لكنه غلب إماما آخر قبله فإنه هنا إذا غلبه فيبايع، ويسمع له، ويطاع؛ لأن البيعة هنا أصبحت بيعة تغلب، والولاية ولاية غلبة وسيف.

فهذا كما أوصى هنا -عليه الصلاة والسلام- أن يسمع ويطاع لمن لم تتوفر فيه الشروط التي تكون في ولاية الاختيار؛ حيث قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: ( وإن تأمر ) ونفهم من التأمر أنه لم يكن ثم اختيار، فهذه ولاية التغلب، وقال: ( إن تأمر عليكم عبد ) ومعلوم أن العبد لا يختار بيدي أمور المسلمين.

فدل هذا على أن ولاية الغلبة يجب لمن غلب فتولى، يجب له السمع والطاعة، كما تجب للإمام الذى يختار اختيارا، لا فرق بينهما في حقوق البيعة والسمع والطاعة؛ وذلك لأجل المصلحة العامة من المسلمين.

وإذا نظرت فإن الاختيار وقع في تاريخ هذه الأمة على الخلفاء الراشدين الأربعة، وعلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ومن بعد معاوية من عهد يزيد إلى زماننا هذا، فالولايات ولايات تغلب؛ لأنها تكونت الدويلات، وهذا يعارض هذا إلى آخره، فكلها لم تنشأ كتواتر أو كتتابع لأصل الخلافة الراشدة، وإنما صارت ولاية تغلب.

وهذا هو الذى جاء في الحديث الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( تكون خلافة النبوة ثلاثين عاما ) أو قال: ( ثلاثون عاما خلافة النبوة ) ثم يكون ملكا عاضا وهكذا، يعني: أن الخلافة التي على منهاج النبوة تكون في هذه الأمة فقط لمدة ثلاثين عاما بعده -عليه الصلاة والسلام-، وهي التي انتهت بمقتل علي رضي الله عنه .

وولاية معاوية -كما هو معلوم- ولاية اختيار؛ لأن الحسن بن علي تنازل له عن الخلافة، فاجتمع عليه الناس، وسمي ذلك العام عام الجماعة؛ لاجتماعهم على معاوية رضي الله عنه وما بعده أصبحت ولاية تغلب.

وأهل السنة والجماعة أجمعوا لما صنفوا عقائدهم من القرن الثاني إلى زماننا هذا -على أن البيعة منعقدة لمن تغلب، ودعا الناس إلى إمامته، مع أن الذى يشترط للإمام غير متوفر فيه أو هو متوفر فيه، فالأمر سيان من جهة حقوقه، حقوق الطاعة والسمع والبيعة، وما يترتب على ذلك من الجهاد معه والتجميع عليه، وعدم التنفير عنه، وسائر الحقوق التي جاءت في الأئمة والأمراء.

قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: ( وإن تأمر عليكم عبد ) فإن الفاء هذه تعليلية ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ) يعني: سيرى اختلافا على الأمراء، فوصيته -عليه الصلاة والسلام- له أنه من عاش فرأى الاختلاف، فعليه بالسمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد.

.. يتبع ..

الوافـــــي 04-11-2005 04:43 PM

وجاء في أحاديث أخر بيان بعض هذا الاختلاف، وما يحصل من الفرقة وأشباه ذلك يجمعها أن الاختلاف اختلاف على الدين، أو اختلاف على الأمير، فمن رأى الاختلاف الكثير فإن عليه أن يلزم التقوى، وعليه أن يلزم السمع والطاعة، فهذه وصيته -عليه الصلاة والسلام- إذ قال: ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ) .

والاختلاف الكثير يعني: عما كانت عليه سنته -عليه الصلاة والسلام- فأوصى فقال: ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ) عليكم بسنتي يعني: الزموا سنتي، ابحثوا عنها والزموها، فما أوصيت فيه في سنتي فالزموه، وهذا هو الواجب على العباد حين الاختلاف.
إذا اختلفوا في العقائد فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا اختلفوا في الشرائع وفي الأحكام فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا كثر الاختلاف بينهم في أمور الفتن والآراء إلى آخره فعليهم أن يرجعوا إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين؛ فإن فيها النجاة.

ولم نر مسألة من المسائل التي من أجلها اختلف الناس في تاريخ الإسلام كله، من أوله إلى يومنا هذا إلا وفي السنة بيانها، لكن يؤتى الناس من جهة أنهم لا يرغبون في السنة، لا يرغبون في امتثال وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وبيانه -عليه الصلاة والسلام-؛ لهذا أوصى -عليه الصلاة والسلام- هذه الوصية العظيمة، فقال: ( فعليكم بسنتي ) .

والسنة المقصود هنا بها الهدي والطريقة التي كان عليها -عليه الصلاة والسلام-، والسنة بيان للقرآن، فما كان من كلامه -عليه الصلاة والسلام-، وما كان من أفعاله -فإن في ذلك السنة، وهي الطريقة والهدي الذي كان عليه -عليه الصلاة والسلام-.

وهذا فيه بيان واضح لمعنى القرآن، حيث قال -جل وعلا-: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {44} في سورة النحل، فقوله: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) الذكر هنا هو سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: ( وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ) الخلفاء: هم الذين خلفوا المصطفى صلى الله عليه وسلم في ولاية الأمر على طريقته عليه الصلاة والسلام.

والخلفاء الراشدون من بعده -عليه الصلاة والسلام- أربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي -رضي الله عنهم أجمعين-، ووصفوا بأنهم راشدون؛ لأنهم قاموا بالرشد، والرشد: هو العلم بالحق والعمل به. فسموا راشدين؛ لأنهم كانوا علماء في الحق عملوا به، وليست هذه الصفة إلا لهؤلاء الأربعة.

وفي عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خلاف، هل يعد من الخلفاء الراشدين أم لا يعد من الخلفاء الراشدين؟ والذي عليه نص كثير من أهل العلم كأحمد وغيره أنه من الخلفاء الراشدين؛ لأنه علم الحق فعمل به، وعامة الولاة ليسوا على ذلك بل منهم من لا يعلم الحق أصلا، ومنهم من يعلم الحق فيخالفه لأهواء وشهوات، ونوازع مختلفة.

فالذين وصفوا بأنهم خلفاء راشدون هؤلاء هم الأربعة أصحاب محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام-، وعمر بن عبد العزيز كذلك خليفة راشد، وهنا تنبيه على مقالة ربما ترد على ألسنة بعض الكتاب، وهي غير سليمة من جهة مكانة الصحابة -رضوان الله عليهم-، غير متفقة بالجملة مع عقائد أهل السنة والجماعة فيما نفهم من عقائدهم، وهي قولهم عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: إنه خامس الخلفاء الراشدين.
وهذا ليس بسديد؛ لأن معاوية رضي الله عنه أعظم منزلة من عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى-، وإذا كان ثم خامس للخلفاء الراشدين فهو معاوية؛ لأنه أحق بهذا الوصف من عمر بن عبد العزيز، لكن عمر وصفه جماعة من أهل العلم بأنه خليفة راشد، ومعاوية بحسب الاعتبار أنه اجتمع عليه؛ فإنه خليفة راشد.

لكن لما جعل الأمر ملكا في بنيه -ملكا في يزيد- كان أهل العلم يعبرون عنه بأنه ملك راشد، وخير ملوك المسلمين على الإطلاق، وهو خليفة؛ لأنه خلف ما بعده بالحق، وليس ثم خامس للأربعة الخلفاء، فإذا قيل: إن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خليفة راشد هذا حق، ولكن لا يقال: هو خامس الخلفاء الراشدين؛ لأن معاوية أحق منه بهذا الوصف، لو كان هذا الوصف سائغا.

أما الخلفاء فهم أربعة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ثلاثون سنة خلافة نبوة ) فما بعد ذلك إنما هو وصف لأجل التحبيب في خلال الأمراء وأوصاف الولاة.

.. يتبع ..

الوافـــــي 04-11-2005 04:46 PM

قال -عليه الصلاة والسلام-: "المهديين" يعني: الذين من الله عليهم فهداهم للحق فعملوا به، قال: ( عضوا عليها بالنواجذ ) "بالنواخذ" وهي الأضراس، وأشد ما يكون الاستمساك إذا أراد المرء أن يستمسك بشيء بأسنانه أن يعض عليه بأضراسه؛ لأنها أشد الأسنان.

فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( عضوا عليها بالنواجذ ) يعني: كونوا مستمسكين بها على أشد ما يكون الاستمساك بسنته عند الاختلاف، وسنة الخلفاء الراشدين عند الاختلاف، والتقوى والسمع والطاعة؛ فإن في هذا النجاة، وهذا مجرب في كل ما مر في تاريخ الإسلام من تقلبات وفتن، فإن من أخذ بهذه الوصية نجا في دينه ودنياه.

قال -عليه الصلاة والسلام-: ( وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة ) "إياكم" هذا تحذير ونهي، ومن الصيغ التي يفهم منها النهي أو يعبر بها عن النهي صيغة إياك، وكذا كما قرره علماء الأصول، فقوله: ( وإياكم ومحدثات الأمور ) هذا في معنى قوله: لا تقربوا أو لا تأتوا محدثات الأمور، فهو نهي عن محدثات الأمور.

والمحدثات جمع محدثة، وهي: كل ما أحدث بعده -عليه الصلاة والسلام- على غير مثال سابق له، وهذه المحدثات التي أحدثت على قسمين: منها محدثات من قبيل المصالح المرسلة التي أوضحنا لكم معناها وضوابطها في أوائل هذا الشرح، فهذه لا تدخل في المحدثات المذمومة؛ لأنها محدثة لغة، ولكنها ليست بمحدثة شرعا؛ لأن لها الدليل في الشرع الذي دل على اعتبارها، وهو كونها من المصالح المرسلة، وأشباه ذلك على الضوابط التي ذكرنها في ذلك المقام.

والقسم الثاني: المحدثات التي هي في الدين بما أحدث مع قيام المقتضي لفعله في عهده صلى الله عليه وسلم وترك، فما ترك في عهده من العبادات أو مما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- مع قيام المقتضي بفعله ولم يفعل، فهو محدثة في الدين، فهو بدعة.

وهذا القسم هو الذي يتوجه إليه قوله صلى الله عليه وسلم ( وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة ) وهذا يعني أن نعكس الأمر، فيكون المنهي عنه هي الضلالات من البدع، وهي البدع في الشريعة البدع في الدين.

وأما البدع من حيث هي في اللغة فإنها قد تكون، ولا ينهى عنها في الشرع كما قال عمر حين جمع الناس، أو حين جمع الناس على إمام واحد، فقال: "نعمت البدعة هذه" فجعلها بدعة -يعني: في اللغة- فليست كل بدعة في اللغة بدعة في الشرع؛ لأنها قد تكون بدعة لغة، ولا تكون بدعة شرعا لدخولها في تعريف المصالح المرسلة، أو في العفو العام أو ما أشبه ذلك.

أما ما يتقرب إلى الله به من العبادات، وقد قام المقتضى بفعله في عهده -عليه الصلاة والسلام-، ولم يفعل -فإنه من البدع المحدثات، ومن البدع الضلالة، فقال: ( فإن كل بدعة ضلالة ) وهذه الكلية من صيغ العموم، وهذا يدل على إبطال قول من قال: إن من البدع في الدين ما ليس بضلالة.

وهو ما أحدثه العز بن عبد السلام في الأمة من تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام: واجبة، ومستحبة، ومباحة، ومكروهة، ومحرمة. فتبعه الناس على ذلك، وانتشرت البدع على هذا التعريف أو هذا التقسيم بقوله: إن من البدع ما هو واجب، ومن البدع ما هو مستحب، وأشباه ذلك، وهذا مصادم لهذا النص، وقولهم بالرأي، والقول بالرأي مذموم إذا كان في مقابلة النص ومصادمته.

فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال لنا: ( فإن كل بدعة ضلالة ) فهذه الكلية، فمن قال: "إن ثم من البدع ما ليس بضلالة" فهو مخالف لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إن كل بدعة ضلالة ) فما من بدعة في الدين إلا وهي ضلالة، كما قال عليه الصلاة والسلام.

على تعريف البدعة الذي ذكرناه يخرج من ذلك المصالح المرسلة؛ لأنها لا تدخل في البدع، كما هو معروف من تعريف البدع، وتعريف المصلحة المرسلة؛ حيث ذكرنا لك ذلك مفصلا في موضعه

إنتهى شرح الحديث الثامن والعشرون

تحياتي

:)

الوافـــــي 11-12-2005 12:23 PM

الحديث التاسع والعشرون

تعبد الله ولا تشرك به شيئا

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ( قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار. قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -تعالى- عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا قوله -تعالى-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {16} فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {17} السجدة ، حتى بلغ: ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {96}البقرة .
ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله.
فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا. قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

هذا الحديث فيه ذكر أشياء من أبواب الخير، وهو من الأحاديث العظيمة التي في كل جملة منها شاهد، لكل جملة منه شواهد كثيرة؛ ولهذا هو حديث حسن بمجموع شواهده لجمله المختلفة.
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه ( قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار ) هذا فيه ما ينبغي التأدب به على ما ينبغي التأدب به لأهل العلم؛ لأن معاذ بن جبل -رضي الله عنه، ورحمه- من أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، بل هو أعلم الأمة بالحلال والحرام.

فهو من أهل العلم، وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي عليه أن يكون حريصا على ما يقربه من الجنة، ويباعده عن النار، قال معاذ: ( يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار ) وهذا مما ينبغي لكل طالب علم أن يحرص عليه: ما يقربه إلى الجنة، وما يباعده من النار.

لأن العلم له شهوة، والعلم له عنفوان، وقد يصرف صاحبه عن السعي في الغاية من العلم، وهو ما يقرب من الجنة، وما يباعد عن النار، وقد قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى-: إن للعلم طغيانا كطغيان الماء، فالعلم يطغي إذا لم يكن صاحبه يسعى فيما يقربه إلى الجنة، ويباعده عن النار.

فالعلم له مقتضيات كثيرة، وأصحاب العلم وأهل العلم وطلبة العلم ينبغي لهم أن يكونوا ألين الناس في غير تفريط، وأن يكونوا أبصر الناس، وأحق الناس بالحكمة والأخذ بما يقربهم إلى الله -جل وعلا-؛ فهم القدوة، وهم البصراء في العلم والعمل.

لهذا سئل معاذ هذا السؤال، وذلك من حكمة الله -جل وعلا- أن يسأل ليبصر أهل العلم جميعا بما ينبغي أن يكونوا عليه، قال: ( أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار. قال -عليه الصلاة والسلام-: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -تعالى- عليه ) .

هذا السؤال العظيم ما يقرب إلى الجنة، ويبعد عن النار، سؤال عظيم، وهو شاق من حيث الامتثال، لكنه يسير على من يسره الله عليه، فإذن نفهم من هذا أن ثم كلفة في أن يمتثل المرء بمقتضى العلم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.

والله -جل وعلا- إذا أقبل العبد يسر عليه الأمر، كما قال -جل وعلا- ( فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} الليل .

.. يتبع ..

الوافـــــي 11-12-2005 12:25 PM

قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ( وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه ) ثم فصل فقال: ( تعبد الله لا تشرك به شيئا ) "تعبد الله" يعني: أن تتوجه بجميع أنواع العبادات إلى الله -جل وعلا- وحده، فإذا دعوت دعوت الله، وإذا سألت سألت الله، وإذا صليت صليت لله، وإذا استغثت استغثت بالله، وإذا أعظمت الرجاء أعظمته بالله.

وكل العبادات القلبية، واللسانية، والعملية بالجوارح كلها تكون لله -جل وعلا- وحده، ولا يكون لمخلوق فيها نصيب، قال: ( تعبد الله لا تشرك به شيئا ) يعني: كبير الشرك وصغيره وخفيه؛ لأن كلمة شيئا نكرة جاءت في سياق النفي فتعم كل ما كان في معناها.

فلا يشرك بأي شيء: لا يشرك بالهوى، لا يشرك بالمخلوق البشر، لا يشرك بالملائكة، لا يشرك بعظيم، لا يشرك بصالح، لا يشرك بجني، بإنسي، بشجر، بحجر، بأي نوع مما خلق الله -جل وعلا-، وهذا لا شك أنه عظيم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.

فعبادة الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه هذه غاية إرسال المرسلين، ونفي الشرك ونبذه والتخلص منه، أيضا مما جاء به المرسلون وأقاموا رسالاتهم عليه، وهذا يتنوع، فما كان من قبيل الشرك الأكبر فظاهر وجوب اجتنابه، وأن من فعله فهو مشرك كافر تارك للدين مع اجتماع الشروط وانتفاع الموانع.

وما هو أقل من ذلك الشرك الأصغر والخفي، ينبغي على العبد أن يسعى في تجنبه -يعني: ينبغي وجوبا- يجب عليه أن يسعى في تجنبه، وأن يجاهد نفسه، والشرك الأصغر يدخل فيه الرياء -يسير الرياء-، والشرك الخفي أيضا يدخل فيها أشياء، والشهوة الخفية، والتسميع والمقاصد، وأن يكون قصد المرء الدنيا فيما يأتي ويذر، وفي الأمور الدينية وطلب العلم وأشباه ذلك مما يراد لله.

فإذن عبادة الله وحده لا شريك له، هذا حاصل -إن شاء الله- عند الموحد، لكن يخاف على الموحد من أنواع الشرك الأصغر والخفي، مما يكون من يسير الرياء والتوجه لغير الله في ذلك، فهذه عظيمة:

فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة .... وإنــــي لا أخــــالك ناجيـــا

يعني: أن هذا الأمر شديد، ويجب أن توطن نفسك على إخراج المخلوق من قلبك، وأن يكون القلب خالصا لله متوجها لله: في تحركه، في سكناته، في أمره، في نهيه، في تصرفك مع أهلك، مع أقاربك، مع الأمور العامة، مع الأمور الخاصة، إذا كان كل شيء لله تم الإخلاص.

.. يتبع ..

الوافـــــي 11-12-2005 12:26 PM

قال: ( وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) وهذه الأربعة مر بيانها.
ثم قال: ( ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة ) الصوم يريد به صوم النفل؛ لأنه قدم صيام رمضان، ثم قال: ( ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة ) جنة يعني: وقاية يقي العبد مما يسخطه الله -جل وعلا-؛ لأن الصيام فيه تذكير بحقوق الله -جل وعلا- وحقوق عباده، فهو جنة من نفوذ الشيطان إلى العبد.

وكما جاء في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( إذا دخل رمضان -أو قال إذا جاء رمضان- فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ) وقال -عليه الصلاة والسلام- في حق من لم يجد طولا للنكاح: ( ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء ) .

فالصيام جنة -يعني: يكون به الاجتنان؛ لأن الجنة والاجتنان هو: الحاجز الذي يقي. فالغطاء هو الجنة، ومنه قيل للجنين: جنين؛ لأنه في غطاء في استتار، وللمجن مجن لذلك... إلى آخره.

قال: ( والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ) الصدقة بأنواعها تطفئ الخطايا؛ الصدقة بالقول وبالعمل، الواجبة والمستحبة، والصدقة بالمال، كل هذه تطفئ الخطايا؛ لأنها حسنات، والله -جل وعلا- قال: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {114} هود .

وقد مر معنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ) فإذا فهمت معنى الصدقة العام الشامل الذي ذكرناه لك في درس مضى، فإنه كلما حصلت منك خطية فعليك بكثرة الصدقات، والخطايا لا تحصى؛ لأنه ما من حال تكون فيه إلا ولله -جل وعلا- أمر ونهي في ذلك، وقل من يكون ممتثلا للأمر والنهي في كل حالة.

فإذن لا بد من الإكثار من الصدقات؛ فهي أبواب الخير، قال: ( تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ) النار إذا شبت لا يطفئها إلا الماء، فإنك تأتي بالماء فتنطفئ، وهذا مثال الحسنات بعد السيئات.

قال: ( وصلاة الرجل في جوف الليل ) صلاة الرجل في جوف الليل، يعني: أن يقوم الليل القيام المستحب، وقيام الليل على درجات، وأعلاه أن يكون كقيام المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي جاء في آخر سورة المزمل: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {20}‏ المزمل .

فأفضله ما كان بعد نصف الليل إلى الفجر، وبعده من أول ثلث الليل الآخر إلى الفجر، ثم هكذا مراتب بما يتيسر للعبد، فصلاة الرجل في جوف الليل هذه من أعظم أبواب الخير، وبها يحصل للمرء من النور في قلبه، وحسن تعامله مع ربه، وخشيته له، والتنقب عن دار الدنيا، والرغب في الآخرة ما لا يدخل تحت وصف.

أعاننا الله وإياكم على ذلك، فإن صلاة الرجل والمرأة في جوف الليل هذه يكون معها التدبر للقرآن، وحسن منجاة الله، والدمعة التي تسيل من خشية الله -جل وعلا- إذ يكون المرء في ذلك على يقين من أنه إنما قام لله -جل وعلا- وحده، فتعظم الصلة، ويعظم التعلق، ويعظم إخبات القلب، ويعظم الرجاء، وتعظم الرهبة، ويعظم الخوف، ويؤثر القرآن في القلوب تأثيرا عظيما.
فأصحاب الليل هم أهل التقوى، قال -جل وعلا-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ) ، يعني: في وصف عباده المخبتين المنيبين في سورة الم السجدة: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {16} فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {17} وهذا من فضل الله -جل وعلا- عليهم.

.. يتبع ..

الوافـــــي 11-12-2005 12:27 PM

قال: ( ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى، يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام ) لأن الأمر الذي هو الدين رأسه الإسلام، فإذا صدع الرأس فلا حياة، فإذا ذهب الإسلام فلا حياة للمرء في الدين، فقال: ( رأس الأمر الإسلام ) وهو الاستسلام لله -جل وعلا- بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.

قال: ( وعموده الصلاة ) العمود هو ما يقوم عليه البناء، فإذا كان ثم أشياء يقوم عليها البناء فإن بالصلاة يقوم البناء؛ بهذا قال: ( وعموده الصلاة ) فعمود الأمر عمود الدين الصلاة، وقال: "عموده"؛ لأن الصلاة هي الركن العملي الذي به يحصل الامتثال لمقتضيات الإيمان العملية، يعني: بركن الإيمان الذي هو العملي.

فالإيمان: قول واعتقاد وعمل، والعمل عموده الصلاة، فإذا ذهبت الصلاة فلا قيام في ذلك؛ لهذا قال عمر رضي الله عنه "ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة" وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ) .

قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ( وذروة سنامه الجهاد ) ( ذروة سنامه ) تشبيه للأمر بالجمل، والجمل أعلاه ذروة السنام، والجمل متحرك، والجهاد أيضا يبعث على الانتشار؛ فهو سبب انتشار الإسلام، وامتداد الدخول في الدين، فمثله -عليه الصلاة والسلام- -يعني: مثل الدين بالراحلة بالجمل-، وجعل الجهاد من هذه الراحلة ذروة السنام؛ لأنه بارز بين متميز.

فالإسلام تميز من بين الأديان كتميز الجمل بذروة سنامه بالجهاد، فالجمل متميز بذروة السنام -يعني: بالسنام بعامة وبذروة السنام- وهذا الإسلام تميز بالجهاد في سبيل الله، والجهاد أنواع، والمراد به هنا -الجهاد- جهاد الأعداء، وهو -كما هو معلوم- على مرتبتين: واجبة، ومستحبة، والواجب أيضا على قسمين: واجب عيني، وواجب كفائي، كما هو معلوم في مكانه من الفقه.

.. يتبع ..

الوافـــــي 11-12-2005 12:28 PM

قال: ( ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى، يا رسول الله. فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا ) فاللسان هو أعظم الأعضاء جرما؛ لأنه سهل الحركة، كثير الخطايا، فباللسان يحصل الاعتقاد الزائف باللسان يقول المرء الكلمة لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا، باللسان تحصل العداوات.

باللسان تحصل العداوات ، وقد قال -جل وعلا -: ( وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً {53}الإسراء ، وباللسان يحصل الوقوع في المؤمنين والإيذاء بغير حق، قد قال -جل وعلا – ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً {58} الأحزاب ، والإيذاء أعظم أنواعه ما كان باللسان، وقد أوذيت عائشة -رضى الله عنها وأرضاها- باللسان بما بلغ بها المبلغ الذي تعلمون في قصة الإفك، باللسان يحصل نشر الخير وباللسان يحصل نشر الشر.

فإذا حاسب المرء نفسه على لسانه، حصل له ملاك هذا الأمر، وهو أنه ملك عليه دينه، وأما إذا أطلق لسانه في كل شيء، فإنه يضر نفسه ضررا بالغا ولا يملك على نفسه دينه، واللسان قد جاءت الأحاديث الكثيرة في بيان شأنه، ومر معنا في حديث مضى بعض ذلك فقال: ( كف عليك هذا ) يعني: أمسك، فالكلمة إذا لم تعلم أنها من الحق الذي تؤجر عليه، فاتركها؛ لأنها عليك، وليست لك، قال : ( قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك ) ؛ لأنه لا يتوقع من معاذ، وهو العالم بالحلال والحرام الفقيه أن يسأل هذا السؤال، فقال : ( ثكلتك أمك ) يعني: استغراب من هذا السؤال الذي لم يتوقع من معاذ أن يسأله فقال: ( ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) .

يستنكف كثير من الناس، يعني: من المسلمين أن يعمل عملا محرما من الكبائر بجوارحه، تجد أنه يستنكف أن يأكل الربا، ويستنكف أن يشرب الخمر، يستنكف أن يأتي كبيرة الزنا، يستنكف أن يأتي كبيرة السحر، يستنكف أن يأتي كبيرة قذف المحصنات الغافلات، يستنكف أن يأتي كذا وكذا من الكبائر، ولكنه في كبائر اللسان يقع فيها بلا مبالاة، فيقع في النميمة من دون أن يشعر، فينقل كلاما، وبه يفرق بين المرء وبين أخيه، يقول: فلان سمعته يقول فيك كذا وكذا، وهذه نميمة أن تنقل كلاما يوقع الضغينة والشر في نفس مسلم على أخيه المسلم، وهي كبيرة من الكبائر، وهي الحالقة، ويغتاب، والغيبة محرمة، وهي عند كثير من أهل العلم كبيرة، ومدارها على اللسان، وقد قال -جل وعلا -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ {12} الحجرات .

قال طائفة من أهل العلم: لما شبه الغيبة بأكل لحم الميت دل على أنها من الكبائر؛ لأن المشبه به كبيرة، فيأخذ المشبه حكم المشبه به، فدل على أنها من الكبائر.

وهكذا في أصناف شتى، فما وجدت العداوات والبغضاء إلا باللسان، وما تفرقت الأمة إلا باللسان قبل الأعمال، فاللسان هو مدار الأمر؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- : ( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ ) يعني: برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ( قال: بلى، يا رسول الله، قال : كف عليك هذا ) فهذه وصية عظيمة، وسبب التعذيب، تعذيب كثيرين في النار، أنهم لم يكفوا ألسنتهم عما لا يحل لهم؛ فلهذا علينا أن نحذر اللسان أعظم الحذر، فنوصي بهذه الوصية التي أوصى بها المصطفى -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ( كف عليك هذا ) .

فأوصي نفسي وإياكم بأن نكف ألسنتنا، إلا عن شيء علمنا حسنه، فإذا خاطبنا إخواننا، فلنخاطبهم بالتي هي أحسن (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً {53} الإسراء ، أحسن ما تجد من اللفظ قله لوالدك، لوالدتك، لإخوانك، لأخواتك، لأهلك، لإخوانك المؤمنين؛ لأنه بهذا تبعد مدخل الشيطان في التفريق ما بين أهل الإيمان.

وما حصل، ما حصل في تاريخ الإسلام، وفي زماننا هذا من أمور منكرة إلا بسبب إطلاق اللسان فيما لا يعلم أنه من الحق، وكل يتكلم بما شاء، فحصل ما لم يحمد، نسأل الله -جل وعلا -أن يلهمني وإياكم ما فيه صلاحنا في قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا.

إنتهى شرح الحديث التاسع والعشرون

تحياتي

:)

mohmed asardan2 11-12-2005 04:59 PM

شكرا
 
جزاك الله خيرا

الوافـــــي 16-12-2005 01:18 PM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة mohmed asardan2
جزاك الله خيرا


وإياك أخي الكريم ..:)

الوافـــــي 19-01-2006 08:50 PM

الحديث الثلاثون

إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها

وعن أبي ثعلبة الخشني -جرثوم بن ناشر، رضى الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها ) حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره .

هذا الحديث -أيضا- من الأحاديث الأصول العظيمة.
عن أبي ثعلبة الخشني -جرثوم بن ناشر- جرثوم، وجرثومة معناها الأصل الذي يرجع إليه، هذه بالمناسبة، فجرثوم، يعني: كلمة، اسم له دلالته القوية في اللغة، يعني: هو أصل لغيره، والجرثومة هي الأصل، وليست هي كلمة ذم، وإنما هي في اللغة ما يدل على أنه أصل لغيره، قال جرثوم بن ناشر -رضى الله عنه- : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله -تعالى- فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها ) الحديث .

قوله -عليه الصلاة والسلام - ( إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيعوها ) يعني: هنا بالفرائض ما جاء إيجابه في القرآن، قال : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ) .

"فرض" : يعني: أوجب واجبات فلا تضيعوها، ومن المعلوم أن كلمة "فرض" في القرآن قليلة، والفرض قليل في الكتاب والسنة؛ ولهذا ما دل القرآن على وجوبه، فهو فرض، فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ) يعني: ما أوجبه الله -جلا وعلا- في القران، فما ثبت في القرآن وجوبه، فيسمى فرض بهذا الحديث؛ ولهذا ذهب جماعة من أهل العلم، منهم الإمام أحمد على أن الفرض أعظم من الواجب من جهة أن ما أوجب الله -جل وعلا -يقال له فرض، وما دلت السنة على وجوبه يقال له: واجب إلا إذا أتى بصيغة الفرض، ففرق أحمد وجماعة من أهل العلم بين الفرض والواجب من جهة الدليل، لا من جهة المرتبة.

فهما من حيث الحكم التكليفي واحد، حكمهما الوجوب، الفرض واجب، والواجب فرض، لكن ما كان من جهة الدليل من القرآن سمي فرضا، وما كان من جهة الدليل من السنة سمي واجبا، وقال بعض أهل العلم :إن الفرض أرفع درجة من الواجب، وهو المعروف من مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- فإن الفرض عنده ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل غير قطعي، فحصل عنده أنه فرق بين الفرض والواجب من جهة الدليل عليه، ومن جهة مرتبته، فالفرض عنده أرفع من الواجب، والقول الأول: لا، الفرض الواجب من حيث المرتبة واحد، لكن من حيث الثبوت مختلف.

.. يتبع ..

الوافـــــي 19-01-2006 08:51 PM

وقالت طائفة من أهل العلم -وهو قول الجمهور- :
إن الفرض والواجب واحد من حيث الدليل عليهما، ومن حيث المرتبة، فيقال : الصلوات الخمس فرائض، ويقال : هي واجبة، ويقال صوم رمضان واجب، ويقال : فرض، يقال الحج واجب وفرض، يقال : بر الوالدين واجب وفرض، وهكذا على القول الثالث، وهو القول المعروف المشهور؛ لأن الفرائض والواجبات معناهما واحد، فالفرض معناه الواجب؛ ولهذا نقول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيعوها ) يعني ما أوجبه الله -جل وعلا -في القرآن فلا نضيعه، نهى -عليه الصلاة والسلام- عن تضييعه، وما أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو من حيث اللزوم والإلزام بعدم تضييعه بدليل خارج عن هذا الدليل
وهو بدليل قول الله -جل وعلا -: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7} الحشر
وبقوله -جل وعلا : - ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {132}‏ آل عمران ، والآيات كثيرة في هذا الباب
وبقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه ) إلى أن قال: ( ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله ) في الحديث المعروف، حديث تحريم الخمر في خيبر إلى آخره .

المقصود أن قوله: ( فلا تضيعوها ) يعني: امتثلوا وأدوا هذه الفرائض، ولا تضيعوها بعدم الامتثال، فإن الله ما فرضها إلا ليمتثل، وهذا دليل على أن من ضيع أثم؛ لأنه نهى عن التضييع، وهذا داخل ضمن القاعدة أن ترك الواجب محرم.

قال : ( وحد حدودا فلا تعتدوها ) هذا اللفظ ( حد حدودا فلا تعتدوها ) يدخل فيه البحث من جهات كثيرة، لكن ألخص لك ذلك بتقرير قاعدة عامة في فهم نصوص الكتاب والسنة، التي جاء فيها لفظ الحد والحدود
وهي أنها جاءت على ثلاثة أنواع من الاستعمال:
الأول: أن يؤتى بلفظ الحدود بإطلاق، يعني: بلا أمر أو نهي بعدها، كقوله -تعالى- في سورة النساء : (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {13} النساء

الثاني : أن تأتي، ويكون بعدها النهي عن الاعتداء، كقوله -جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً {1} الطلاق
وكقوله: ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {229} البقرة .

والثالث: أن يكون بعد ذكر الحدود النهي عن المقاربة، فلا تقربوها في آية البقرة التي فيها ذكر الصيام والاعتكاف (‏ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {187} فهذه ثلاثة أنواع في القرآن .

.. يتبع ..

الوافـــــي 19-01-2006 08:52 PM

وفي السنة أتى الحد -أيضا - ويراد به العقوبات المقدرة، أو يراد به الذنوب التي عليها عقوبات، يعني: المحرمات التي يجب في حق من اقتحمها أن يعاقب.

إذا تقرر ذلك، فنرجع إلى تأصيل هذا في أن الحدود لفظ استعمل في الكتاب والسنة، واستعمل في كلام الفقهاء، وكلامي -السالف- في التقسيم إلى الأنواع، هذا إنما هو لنصوص الكتاب والسنة، وأما التعبير بالحدود في كتب أهل العلم وأهل الفقه، فهذا استعمال اصطلاحي، ليس هو استعمال الحدود في نصوص الكتاب والسنة.

إذا تبين هذا، فالنوع الأول - ذكرنا لكم ثلاثة أنواع- النوع الأول: كقوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {13} النساء
أو كقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً {1} الطلاق
وكقوله: ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ... {229}البقرة
فإذا ذكر الحدود بلا كلمة بعدها، يعني: نهي عن الاعتداء، أو ذكر بعدها النهي عن الاعتداء، فإن المراد بالحدود هنا الفرائض يعني: ما أذن به، الفرائض، أو ما أذن به، فما أذن به فرضا كان، أو مستحبا، أو مباحا، فالحدود هنا المراد بها هذه الأشياء؛ ولهذا جاء بعدها ( .... وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {229}
فالذي يخرج من دائرة المأذون به إلى خارج عن المأذون به، فقد تعدى الحد، وقد خرج عنه، وهذا الحد، هو حد المأذون به، فهذا نوع.
‏ ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {187} جاءت بعد بيان ما فرض الله -جل وعلا -في التركات ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً {11}‏ الآيات في سورة النساء
يعني: هذا ما أمر الله -جل وعلا -به وشرعه، وهذا معناه أن هذه الحدود هي ما أذن به، وأمر به، هذا هو النوع الأول، فالحدود هنا ليست هي المحرمات، الحدود هي ما أذن به، يدخل فيها الواجبات والمستحبات والمباحات.

الحدود بالمعنى الثاني إذا جعلت للمحرمات فلها ضابطان:

الأول:أن يكون بعدها ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ...{187} البقرة
وأن يكون بعدها، أو معها ذكر العقوبة، وهذا يعني: أن الحدود هنا هي المحرمات؛ لهذا ناسب أن يكون معها النهي عن القربان، النهي عن الاقتراب ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) يعني: المحرمات لا تقرب، ولا يقترب منها، فهذا نوع؛ ولأجل هذا النوع قيل في العقوبات التي شرعت لمن انتهك، تطهيرا لمن انتهك المحرمات، قيل لها حدود، من قبيل رؤية هذا النوع دون غيره، وهذا شائع كثير في اللغة وفي الشريعة، فإذن العقوبات التي شرعت لمن ارتكب محرما فقارب، أو انتهك حدود الله قيل للعقوبة حد؛ لأنه دخل في الحد، وقيل لها: حدود؛ لأنه اقتحم الحدود.

وأما النوع الثالث، وهو العقوبات التي جاءت في بعض الأحاديث، فهذه المراد منها ما جعل في الشرع له عقاب بعينه، فيقال: حد السرقة، حد الخمر … إلى آخره، كما قال -عليه الصلاة والسلام- : ( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ) في حد من حدود الله، يعني: إلا في معصية جاءت الشريعة بالعقوبة فيها، ويدخل في هذا الحدود عند الفقهاء والتعزيرات عند الفقهاء، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في هذا القسم الثالث : ( لا يجلد فوق عشرة أسواط ) يعني: تأديبا.

فلا يحل لأحد أن يؤدب من أبيح له تأديبه فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله، يعني: إلا في عقوبة جاء الشرع بها، إما أن تكون حدا على اصطلاح الفقهاء، أو أن تكون تعزيرا، وهذا بحث طويل في كتاب الحدود، ومعرفة الحدود والتعزيرات في الفقه، لكن ضبطت لك هذا على نحو ما ذكرت لك من التبسيط؛ ليجتمع لك شمل ما أراد به الفقهاء اصطلاحهم الحدود، وما جاءت النصوص بكلمة الحدود .

إذا تقررت هذه القاعدة، وهذا التحقيق في فهم هذه الكلمة التي أشكلت على كثير من العلماء؛ ولعدم فهمها ذهبوا إلى مذاهب شتى.

.. يتبع ..

الوافـــــي 19-01-2006 08:54 PM

قال -عليه الصلاة والسلام- "نقول هنا": ( وحد حدودا فلا تعتدوها ) هنا الحدود على ما ذكرنا: هي ما أذن به، الواجبات والمستحبات وما أشبه ذلك؛ لهذا قال: ( حد حدودا فلا تعتدوها ) يعني: لا تعتد ما أذن لك، فكن في دائرة الواجب والمستحب والمباح، ولا تنتقل منه إلى غيره، فالأول: ( فرض فرائض فلا تضيعوها ) يعني: امتثل الفرائض، أد الواجبات، والثاني: كن في دائرة المستحب والمباح، ولا تتعده إلى غيره.

ثم قال: ( وحرم أشياء فلا تنتهكوها ) وهذا من العطف المغاير؛ لأن التحريم غير تعدي الحدود -كما ذكرنا لك-، من بيان فهم نصوص الكتاب والسنة في هذه المسألة المهمة، فما حرم الله -جل وعلا -نهانا -عليه الصلاة والسلام- أن تنتهكه، والتعبير بالانتهاك -أيضا- يفيد الاعتداء وعدم المبالاة ممن انتهك المحرمات، قال : ( وحرم أشياء فلا تنتهكوها ) وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( حرم أشياء ) يفيد أن هذه الأشياء المحرمة قليلة؛ ولهذا تجد أن أصول المحرمات في الأطعمة قليلة (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ) الأنعام … إلى آخر الآية، أو المحرمات بعامة (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {151}‏ الأنعام ، الآيات المعروفة في الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، أو محرمات في اللباس، فهي محدودة بالنسبة للرجال وبالنسبة للنساء، أو محرمات في الأشربة فهي -أيضا- محدودة، أو محرمات في المنازل، فهي محدودة، ومحرمات في المراكب، فهي محدودة.

لهذا المحرمات أشياء قليلة بالنسبة لغير المحرمات؛ لأن دائرة المباح -ولله الحمد- أوسع؛ لهذا قال : ( وحرم أشياء ) وهذه الأشياء قليلة، فعجيب أن تنتهك، فقال : ( فلا تنتهكوها ) فيكون هذا المنتهك لهذه المحرمات شيء في نفسه جعله ينتهك هذا القليل، ويغرى بهذا القليل؛ ولهذا لم يحرم الشرع شيئا فيه لابن آدم منفعة، في حياته حاجية أو تحسينية أو ضرورية، بل كل المحرمات يمكنه الاستغناء عنها، ولا تؤثر عليه في حياته.

فما حرم الله -جل وعلا -أو حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم من أشياء، فإنه لا حاجة لابن آدم إليه في إقامة حياته، أو التلذذ بحياته، فالمباحات والمستحبات يمكنه أن يتلذذ فيها بأشياء كثيرة تغنيه عن الحرام.

قال : ( وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) .

"سكت عن أشياء": يعني: أن الله سكت، وهذا السكوت الذي وصف الله -جل وعلا -به ليس هو السكوت المقابل للكلام، يقال: تكلم وسكت، وإنما هذا سكوت يقابل به إظهار الحكم، فالله -جل وعلا -سكت عن التحريم، بمعنى لم يحرم، لم يظهر لنا أن هذا حرام، فالسكوت هنا من قبيل الحكم، سكوت عن الحكم، ليس سكوتا عن الكلام، فغلط على هذا من قال: إن هذه الكلمة يستدل بها على إثبات صفة السكوت لله -جل وعلا -، وهذا مما لم يأت في نصوص السلف في الصفات، وهذا الحديث وأمثاله لا يدل على أن السكوت صفة؛ لأن السكوت قسمان: سكوت عن الكلام، وهذا لا يوصف الله -جل وعلا -به، بل يوصف الله -سبحانه وتعالى- بأنه متكلم، ويتكلم كيف شاء، وإذا شاء، متى شاء، وأما صفة السكوت عن الكلام، فهذه لم تأت في الكتاب ولا في السنة، فنقف على ما وقفنا عليه، يعني: على ما أوقفنا الشارع عليه، فلا نتعدى ذلك.
والقسم الثاني: من السكوت، السكوت عن إظهار الحكم، أو عن إظهار الخبر وأشباه ذلك، فلو فرض -مثلا- أن أنا أمامكم الآن، وأتكلم باسترسال، سكت عن أشياء، وأنا مسترسل في الكلام، بمعنى أني لم أظهر لكم أشياء أعلمها، تتعلق بالأحاديث التي نشرحها، وسكوتي في أثناء الشرح عن أشياء لم أظهرها لكم، أوصف فيه بالسكوت؟

.. يتبع ..

الوافـــــي 19-01-2006 08:55 PM

فتقول -مثلا-: فلان سكت في شرحه عن أشياء كثيرة، لم يبدها لأجل أن المقام لا يتسع لها، مع أني متواصل الكلام، فإذاً لا يدل السكوت، يعني: في هذا، يعني: السكوت عن إظهار الحكم عن السكوت الذي هو صفة، والله -جل وعلا -له المثل الأعلى، فنصفه بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم .

لا نتجاوز القرآن والحديث، فنصفه بالكلام، ولا نصفه بالسكوت الذي هو يقابل به الكلام، وإنما يجوز أن تقول: إن الله -جل وعلا -سكت عن أشياء، بمعنى لم يظهر لنا حكمها، إذا تقرر هذا من جهة البحث العقدي، فنرجع إلى قوله: ( سكت عن أشياء ) بما يدل على أن هذه الأشياء قليلة.

( رحمة بكم، أو رحمة لكم غير نسيان ) السكوت بعدم إظهار بعض أحكام القضايا، رحمة لا نسيان، والله -جل وعلا -ليس بنسيٍّ، كما قال -سبحانه- : ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً {64}‏ مريم ، (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى {52} طه ، فالله -سبحانه- ليس بذي نسيان، بل هو الحفيظ العليم الكامل في صفاته وأسمائه، سبحانه وتعالى، وجل وتقدس ربنا.

فإذا هناك أشياء لم يبين لنا حكمها، فالسكوت عنها رحمة غير نسيان، أمرنا -عليه الصلاة والسلام- ألا نبحث عنها فقال: ( فلا تبحثوا عنها ) .

إذا تقرر هذا، فالأشياء المسكوت عنها أنواع:
النوع الأول : ما لم يأت التنصيص عليه من المسائل، لكنها داخلة في عموم نصوص الكتاب والسنة، داخلة في العموم، داخلة في الإطلاق، وداخلة في مفهوم الموافقة، أو مفهوم المخالفة، أو في المنطوق، أو أشباه ذلك، مما هو من مقتضيات علم أصول الفقه.
فهذا النوع، مما دلت عليه النصوص بنوع من أنواع الدلالات المعروفة في أصول الفقه، هذا لا يقال عنه: إنه مسكوت عنه؛ لأن الشريعة جاءت ببيان الأحكام من أدلتها بالكتاب والسنة، بأنواع الدلالات، فهذا النوع لا يصح أن يقال: إنه مسكوت عنه؛ ولهذا العلماء أدخلوا أشياء حدثت في عمومات النصوص، ففهموا منها الحكم، أو في الإطلاق، أو في المفهوم وأشباه ذلك، وإذا أردنا أن نسرد الأمثلة، فهي كثيرة يضيق المقام عنها تراجعونها في المطولات.

النوع الثاني: أشياء مسكوت عنها، لكن داخلة ضمن الأقيسة، يعني: يمكن أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه، وقد ذهب جمهور علماء الأمة إلى القول بالقياس، إذا كانت العلة واضحة، اجتمعت فيها الشروط، ومنصوصا عليها، فإذا كان القياس صحيحا، فإن المسألة لا تعد مسكوتا عنها.

الحالة الثالثة: أن تكون المسألة مسكوتا عنها، بمعنى أنه لا يظهر إدخالها ضمن دليل، فكانت في عهده -عليه الصلاة والسلام- هذا نوع، ولم ينص على حكمها، ولم تدخل ضمن دليل عام، فسكت عنها، فهذا يدل أنها على الإباحة؛ لأن الإيجاب أو التحريم نقل عن الأصل، فالأصل أن لا تكليف، ثم جاء التكليف بنقل أشياء عن الأصل، فلا بد للوجوب من دليل، ولا بد للتحريم من دليل، فما سكت عنه، فلا نعلم له دليلا من النص، من الكتاب والسنة، ولا يدخل في العمومات، وليس له قياس، فهذا يدل على أنه ليس بواجب، ولا يجوز البحث عنه، ولهذا أنكر النبي -عليه الصلاة والسلام - على من سأله عن الحج فقال الرجل : ( يا رسول الله، أفي كل عام ؟ ) هذه مسألة مسكوت عنها، وتوجه الخطاب للرجل بألا يبحث عن هذا، فسكت عن وجوب الحج، هل يتكرر أم لا يتكرر؟ والأصل أنه يحصل الامتثال بفعله مرة واحدة، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- : ( لو قلت: نعم؛ لوجبت. زروني ما تركتكم ) يعني: إذا تركت البيان، فاسكتوا عن ذلك، قد ثبت في صحيح مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( إن أشد المسلمين -في المسلمين- جرما رجل سأل عن شيء، فحرم لأجل مسألته ) .

قد قال -جل وعلا -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {101} المائدة ، فإذا هذا النوع مما سكت عنه، فلا يسوغ لنا أن نبحث، ونتكلف الدليل عليها، تلحظ -أحيانا- من بعض الأدلة التي يقيمها بعض أهل العلم أن فيها تكلفا للاستدلال لحكم المسألة، فإذا كان الدليل لا يدخل فيها بوضوح، فإنها تبقى علي الأصل.

( وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها ) وهذا من رحمة الله -جل وعلا -بعباده.

أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يثبت العلم في قلوبنا، ويرزقنا زكاته والعمل به، وتعليمه، والإحسان في ذلك كله.


إنتهى شرح الحديث الثلاثون

تحياتي

:)

الوافـــــي 20-03-2006 05:01 PM

الحديث الحادي والثلاثون

ازهد في الدنيا يحبك الله

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: وعن سهل بن سعد الساعدي -رضى الله عنه- قال : ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : دلني على عمل إذا عملته، أحبني الله، وأحبني الناس، قال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) حديث حسن، رواه ابن ماجه، وغيره بأسانيد حسنة

هذا الحديث فيه ذكر الزهد، الزهد في الدنيا، والزهد فيما في أيدي الناس، وهو حديث أصل في بيان كيف يكون المرء محبوبا عند الله -جل وعلا -وعند الناس.

وهو -أيضا- من أحاديث الوصايا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن سؤال مضمونه طلب الوصية، قال سهل بن سعد -رضى الله عنه- : ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس ) وهذا السؤال يدل على علو الهمة؛ لأن محبة الله -جل وعلا -غاية المطالب ومحبة الناس للمرء، أو للعبد معناها أداء حقوقهم، والدين قائم على أداء حقوق الله وأداء حقوق العباد، فمن أدى حق الله -جل وعلا -أحبه الله، ومن أدى حقوق العباد وعاملهم بالعدل والإحسان، فإنه يثوب بمحبة الناس له، وهذا الذي يجمع بين الطرفين هو الصالح من عباد الله؛ لأن الصالح هو الذي يقوم بحق الله وحق العباد، والصلاح هو القيام بحقوق الله وحقوق الناس.

فهذا الحديث فيه ما يحصل به محبة الرب -جل وعلا -للعبد فقال : ( دلني على عمل إذا عملته أحبني الله ) وهذا فيه تنبيه إلى أصل، وهو أن همة المرء ينبغي أن تكون مصروفة لما به يحب الله العبد، وليس أن تكون مصروفه لمحبته هو لله -جل وعلا -، فالعباد كثيرون منهم من يحبون الله -جل وعلا -، بل كل متدين بالباطل أو بالحق، فإنه ما تدين إلا لمحبة الله -جل وعلا -، وليس هذا هو الذي يميز الناس، وإنما الذي يميز الناس عند الله -جل وعلا -هو من الذي يحبه الله، -جل وعلا -.

.. يتبع ..


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.