![]() |
وقد قال بعض أئمة السلف -رحمهم الله-: ليس الشأن أن تحِب، ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَب، يريد أن محبة العبد لربه -جل وعلا -هذه تحصل إما بموافقة مراد الله، أو بمخالفة مراد الله، فالنصارى يحبون الله، وعباد اليهود يحبون الله، وعباد الملل يحبون الله، وعباد جهلة المسلمين يحبون الله، ولكن ليس هؤلاء بمحبوبين لله -جل وعلا -إلا إذا كانوا على ما يحبه الله -جل وعلا -ويرضاه من الأقوال والأعمال. إذاً فحصل من ذلك أن السعي في محبة الله للعبد هذا هو المطلب، وهذا إنما بالرغب في العلم ومعرفة ما يحبه الله -جل وعلا -ويرضاه، فإذا عرفت كيف يحب الله العبد، أو إذا عرفت بما يحب الله -جل وعلا -العبد، حصل لك السعي في محبة الله -جل وعلا -. وقد قال -تعالى- : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {31} آل عمران ، فصرفهم عن الدعوة إلى البرهان، قال هنا : ( دلني على عمل إذا عملته أحبني الله ) وفي قوله: ( دلني على عمل ) ما يشعر أن الصحابي فقه أن محبة الله -جل وعلا -للعبد تكون بالعمل، وهذا خلاف ما يدعيه بعضهم أنه يكتفي بما يقوم في القلب، وإن كانت الأعمال مخالفة لذلك ، بل إنما يحصل حب الله -جل وعلا -للعبد بعمل قلبي وعمل بدني من العباد ، وقد قال -جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {54} المائدة. قال : ( دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس ) فقال : ( ازهد في الدنيا يحبك الله ) يحب هذه مجزومة، ولكن لأجل التقاء الساكنين صارت مفتوحة، ولا تقرؤها بالضم ؛ لأن المعنى يتغير، كما تقول لم يحب فلان كذا؛ لأنها إذا كان الحرف مشددا، فإنه إذا دخل عليه جازم يصبح مفتوحا؛ لأجل التقاء الساكنين، وكما هو معلوم في النحو، ويحبك مجزوم جواب الطلب، أو جواب الأمر، قال : ( ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) الوصية جمعت الزهد. والزهد في اللغة: هو الأمر القليل الذي لا يؤبه له، وكذلك زهد في الشيء يعني: إذا جعله شيئا قليلا لا يؤبه له، وسعر زهيد، إذا كان قليلا ليس مثله مما يلتفت إليه، وهكذا، فالزهد في الدنيا أن تكون الدنيا في القلب غير مرفوع بها الرأس، يعني: ألا تكون الدنيا في القلب، واختلفت عبارات العلماء كثيرا في تفسير الزهد، ففسره طائفة بأن الزهد هو أن تكون فيما في يدي الله -جل وعلا -وبعطاء الله أوثق مما في يدك، يعني: أن يصح اليقين بأن ما عند الله -جل وعلا -أو ثق مما في يديك، وهذا تفسير روي عن بعض الصحابة، وروي مرفوعا -أيضا- إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن الصحيح أنه عن بعض الصحابة، هو عن أبي صبيح الخولاني قال فيه : "إن الزهد أن تكون فيما في يدي الله أوثق مما في يدك"، وهذا يعني أن ما عند الله -جل وعلا -في الدنيا مما وعد به عباده، وما عنده في الآخرة، تكون الثقة به أعظم مما تمارسه في الدنيا، وهذا ينشأ عن قلب عظم يقينه بربه -جل وعلا -وعظم يقينه وتصديقه بوعده ووعيده، وعظم توكله على الله -جل وعلا -وهذا حقيقه الزهد، وأيضا فسر الزهد بأنه الإعراض عن الحرام، والاكتفاء بالحلال، وهذا طريقة من قال: إن كل مقتصد من عباد الله زاهد. يعني: كل من ابتعد عن الحرام، وأقبل على الحلال، فاقتصر عليه، فإنه زاهد، وهذا عندهم زهد في المحرم، فيصح الوصف بأنه زاهد إذا زهد في المحرم، وهذا النوع من الزهد، وليس هو الزهد في نصوص الشريعة، ومنهم من فسر الزهد بعامة بأن الزهد ترك الدنيا والإقبال على الآخرة، ترك الدنيا بفضول مباحاتها، والإقبال على الآخرة والتعبد. .. يتبع .. |
فالزاهد: هو الذي ترك الدنيا، وأقبل على الآخرة، وهذا -أيضا- من التعاريف المعروفة، لكنه ليس بصحيح؛ لأن الصحابة -رضوان الله عليهم- هم سادة الزهاد، ولم يتركوا الدنيا، فلم يستعملوا المباحات، بل عملوا بما يحب الله -جل وعلا -ويرضاه وأخذوا نصيبهم من الدنيا، كما قال -جل وعلا -: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {77} القصص ، وأيضا فسر الزهد بتفسيرات كثيرة متعددة نصل إلى آخرها، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو أصح ما قيل في الزهد؛ لصحة اجتماعه مع ما جاء في الأحاديث، وكذلك ما دلت الآيات، وكذلك ما كان عليه حال الصحابة وحال السلف الصالح -رضوان الله عليهم- قال: الزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة، فمن كان بقلبه الرغبة في الآخرة، وأنه لا يعمل العمل إلا إذا كان نافعا له في الآخرة، وإذا لم يكن نافعا له في الآخرة، فإنه يتركه، فهذا هو الزاهد، فعلى هذا يكون الزاهد غنيا، وعلى هذا يكون الزاهد مشتغلا ببعض المباحات، إذا كان اشتغاله بها مما ينفعه في الآخرة؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- : ( روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة ) فمن استعان بشيء من اللهو المباح على قوته في الحق، فهذا لا يخرج عن وصف الزهادة؛ لأنه لم يفعل ما لا ينفعه في الآخرة، وهذا حاصله أن إقباله على الآخرة فقط، فلا يتأثر بمدح الناس، ولا يتأثر بذمهم، ولا بثنائهم ولا بترك الثناء، وإنما هو يعمل ما ينفعه في الآخرة. ويترك الاشتغال بكل المباحات، لأن الاشتغال بكل المباحات لا يستقيم مع ترك الرغبة في الدنيا، وكل المباحات لا تنفع في الآخرة ، وإنما الذي ينفع بعض المباحات؛ ولهذا ذهب قائل هذا القول وهو الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- : إلى أن الاشتغال بفضول بالمباحات والإكثار منها لا يجوز ، يعني: أنه كلما أقبل عليه مباح غشيه دون مواربة، فقال : هذا لا يجوز وهو من اختيارات الشيخ ابن تيمية، رحمه الله تعالى. واستدل بقوله -تعالى-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى {131} طه ، والاستدلال ظاهر، حيث نهي -عليه الصلاة والسلام- والنهي لأمته على وجه التبع، أن يمد المرء عينيه إلى ما متع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، ومن مد عينيه إلى ما متع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يفوته الزهد في الدنيا؛ لأنه لا بد وأن يحصل بالقلب نوع تعلق بالدنيا، وهذا خلاف الزهادة، فتحصل من ذلك أن الزهد ليس معناه الفقر، وليس معناه ترك المال، وإنما الزهد حقيقة في القلب بتعلقه بالآخرة، وتجانبه وابتعاده عن الدنيا، من حيث التعلق، فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده، وليست في قلبه، فتخلص قصده، ونيته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعا له في الآخرة. فإذا عامل -مثلا- بالبيع والشراء، فإنه يستعين به على الحق، وعلى ما ينفعه في الآخرة، وقد قال رجل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: هل يكون الغنى زاهدا ؟ قال: نعم، إذا لم يأس على ما فاته من الدنيا، ولم يفرح بما كثر عنده منها. .. يتبع .. |
قد يكون الرجل عنده مال وفير جدا، ولكنه إن نقص ما تأثر، وإن زاد ما فرح به، فهذا عنده وجوده يعني: زيادته، ونقصه واحد لإقباله على الآخرة، وإنما حصل هذا بيده، فيستعمله فيما ينفعه في الآخرة، وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس في هذه الأمة، فظنوا أن الزهادة الإعراض عن المال، والإعراض عما يحصل للمرء به نفع في الآخرة، وسئل الحسن فقيل له: -الحسن، أو غيره- فقيل له: من الزاهد ؟ فقال: الزاهد هو الذي إذا رأى غيره ظن أنه خير منه. وهذا من عظيم المعاني، التي اخترعها الحسن -رحمه الله- حيث قال: إن الزاهد هو الذي يفضل غيره عليه، يعني: إذا رأى أحدا من المسلمين ظن أنه خير منه، يعني: عند الله -جل وعلا -. وهذا يعني: أنه غير متعلق بالدنيا مزدر نفسه في جنب الله -جل وعلا -غير مترفع على الخلق، وهذا إنما يحصل لمن من الله عليه، فعمر قلبه بالرغبة في الآخرة، وبالبعد عن التعلق بالدنيا، والكلام على تاريخ الزهد كثير. إذا تقرر هذا، فنرجع إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ازهد في الدنيا يحبك الله ) . والزهد في الدنيا معناه: أن تكون الدنيا قليلة حقيرة في قلبك فلا ترفع، فلا ترفع بها رأسك، يعني أنه إذا تصرف لا يتصرف للدنيا، إذا فعل لا يفعل للدنيا، وإنما يكون لله -جل وعلا -، فينقلب حامده وذامه من الناس سواء، رضي عنه الناس، أو لم يرضوا عنه، فإنه يعامل ربه -جل وعلا -بما أمر الله -جل وعلا -به من التصرفات والأعمال، فإذا: ( ازهد في الدنيا يحبك الله ) يعني: ليكن تعلقك بالآخرة، وأخرج الدنيا من قلبك، أو قللها من قلبك؛ لأن "ازهد" معناه: قلل، وإذا كان كذلك حصلت لك محبة الله؛ لأنه إذا اجتمع في القلب الرغبة في الآخرة، فإنه يكون مع الإقبال على الله -جل وعلا -والابتعاد عن دار الغرور. قال: ( يحبك الله ) وحب الله -جل وعلا -صفة من صفاته، التي يتبعها أهل السنة والجماعة له على الوجه الذي يليق بجلال الله -جل وعلا -وعظمته ، وقد جاء إثباتها في القرآن في آيات كثيرة، وكذلك في السنة، فهو -جل وعلا -يحب كما يليق بجلاله وعظمته، يحب لا حاجة لمحبوبه، أو لضعفه مع محبوبه، وإنما يحب -جل وعلا -لخير يسوقه إلى من يحب، فحبه -جل وعلا -كمال لا لحاجة، بل هو عن كمال غني، وعن كمال اقتدار فيحب عبده؛ لتقرب العبد منه، وحب -جل وعلا -للعبد من ثمراته أن يكون مع العبد المعية الخاصة، قال -عليه الصلاة والسلام- : ( وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) . ( ازهد فيما عند الناس ) يعني: لا يكن قلبك متعلقا فيما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك، فأخرجت ما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام، وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له، سواء أعظم أم قل، فإنه بذلك يحبك الناس؛ لأن الناس يرون فيه أنك غير متعلق بما في أيديهم، لا تنظر إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة، ولا نظر طلب، وإنما تسأل الله -جل وعلا -لهم التخفيف من الحساب، وتحمد الله -جل وعلا -على ما أعطاك، وما أنت فيه، فهذا إخراج ما في أيدي الناس من القلب، هذه حقيقة الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرء أحبه الناس؛ لأن الناس جبلوا على أنهم لا يحبون من نازعهم ما يختصون به، مما يملكون، أو ما يكون في أيديهم حتى إذا دخلت بيت أحد، ورأيت شيئا يعجبك، وظهر عند ذلك أنك أعجبت بكذا، فإنه يكون في نفس ذاك الآخر بعض الشيء. وهذا يعكر صفو المحبة، فوطن نفسك أن ما عند الناس في قلبك شيء قليل لا قيمة له، حقير لا قيمة له، حقير قيمة له مهما بلغ، وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلب زاهد متعلق بالآخرة ، لا ينظر إلى الدنيا أما من ينظر إلى الدنيا، فإنه يكون متعلقا بما في أيدي الناس. فإذا نظر إلى ملك هذا تعلق به، وإذا نظر إلى ملك هذا تعلق به، ولا يزال يسأل، أو ينظر إليه، أو يتمتع به حتى لا يكون محبوبا عند الناس، فإذن هذه الوصية جمعت ما يكون فيه أداء حق الله -جل وعلا -والتخلص من حقوق الناس، فحق الله -جل وعلا -عظيم وطريقه أن تزهد فيما ابتلي به الخلق من الدنيا، أن تقلل الدنيا في قلبك وكذلك أن تقلل شأن ما في أيدي الناس، فتكون معلقا بالآخرة . فهذه هي حقيقة هذه الوصية العظيمة، ولا شك أننا بحاجة إلى ذلك، خاصة في هذا الزمن الذي صار أكثر الخلق معلقين بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبة للدنيا، وهذا مما يضعف قلب المرء في تعلقه بالآخرة، وتعلقه بما يحب الله -جل وعلا -ويرضى. فعظموا الآخرة وقللوا من شأن الدنيا، فبذلك يكون الزهد الحقيقي، والإقبال على الآخرة، والتجانف عن دار الغرور. إنتهى شرح الحديث الحادي الثلاثون تحياتي :) |
الحديث الثاني والثلاثون لا ضرر ولا ضرار عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) حديث حسن رواه ابن ماجة، والدارقطني مسندا، ورواه مالك في الموطأ مرسلا، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضا هذا الحديث، وهو الحديث الثاني والثلاثون من الأحاديث الجامعة، من الأحاديث الجامعة التي جمعت أحكاما كثيرة، وقاعدة من قواعد الدين عظيمة، ومن جهة ثبوته تنازع العلماء فيه، هل الصواب فيه الوصل أم الإرسال ؟ وقد أشار -رحمه الله -إلى بعض هذا الاختلاف. والصواب أنه حديث حسن، كما قال النووي -رحمه الله تعالى- لكثرة شواهده، والإرسال فيه لا يعل الوصل؛ لأن لكل منهما جهة كما هو معروف في علل الحديث . وليس من شرط هذا الشرح التعرض لتحقيق مثل هذه المسائل، قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار ) وقوله: ( لا ضرر ) لا هنا نافية للجنس، ومن المعلوم أن النفي لا بد أن يكون متسلطا على شيء، وقد تسلط هنا على الضرر والضرار، لكن أين الخبر ؟ لا النافية للجنس تطلب خبرا كما هو معلوم، وقد يحذف خبرها، وشاع ذلك كثيرا، إذا كان خبرها معلوما، يعني: إذا كان يدرك، فلا يذكر اختصارا للكلام، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث كقوله -مثلا -: ( لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول ) كل هذه أين أخبارها ؟ الخبر غير مذكور، لا إله إلا الله، خبر لا النافية للجنس غير مذكور، وهذا معروف في اللغة شاع إسقاط الخبر، كما قال ابن مالك في الألفية، في آخر باب لا النافية للجنس. وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر .... إذا المــراد مـع سـقوطه ظهـر فهنا يشيع إسقاط خبر لا النافية للجنس، إذا كان المراد معلوما، إذا تقرر هذا فما المراد هنا ؟ المراد أنه لا ضرر في الشرع، لا ضرر كائن في الشريعة وهذا النفي منصب على جهتين: جهة العبادات، وجهة المعاملات وما بعدها، أما جهة العبادات، فإن الشريعة لم يأت فيها عبادة يحصل بها للمرء ضرر. .. يتبع .. |
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا اخي الفاضل (الوافي )
:) تحياتي صمت الكلام :) |
فإذا لا ضرر في الشرع يعني: أن الضرر منتفٍ شرعا فيما شرع في هذه الشريعة، ففي العبادات لم يشرع لنا شيء فيه ضرر على العبد، ولا مضارة على العبد فمثلا إذا نظرت: المريض يصلي قائما، فإن تضرر بالقيام صلى قاعدا. يتطهر بالماء، فإن كان الماء يضره، ينتقل منه إلى التراب، وهكذا في أشياء متنوعة، فإذن هذا القسم الأول أن الضرر منتفٍ شرعا، وانتقاؤه في العبادات بأنه لم تشرع عبادة، فيها ضرر بالعبد بل إذا وجد الضرر جاء التخفيف. والقسم الثاني: نفى الضرر شرعا في أمور المعاملات والأمور الاجتماعية يعني: من النكاح، وتوابعه إلى آخره، وهذه كلها -أيضا- في تشريعات الإسلام نفى فيها الضرر، يعني من جهة التشريع، فقال -جل وعلا -مثلا، في بيان العلاقة الزوجية، قال : (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {231} البقرة ، وقال في الرضاعة : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {233} البقرة فإذن في أحكام الشريعة جاء نفي الضرر في نفس الأحكام، وهذا من جهة الشارع. النوع الثاني من القسم الثاني: يعني: في المعاملات أنه طلب بهذا النص نفي الضرر والضرار من العباد يعني: أن العبد -أيضا- إذ نفي وجود الضرر والضرار شرعا، فهم -أيضا- لا يجوز لهم أن يسعوا في الضرر، ولا في الضرار؛ لأن هذا منفي؛ لأن هذا منفي شرعا، فتحصل لنا أن دخول هذا النفي ( لا ضرر ولا ضرار ) في المعاملات رجع إلى جهتين : الجهة الأولى: جهة التشريع والجهة الثانية جهة المكلف فالمكلف لا يسعى في شيء فيه ضرر ولا ضرار؛ لأن الله -جل وعلا -نفى وجود الضرر شرعا، بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار ) إذا تبين هذا فما معنى الضرر؟ وما معنى الضرار؟ اختلفت عبارات العلماء في ذلك، وفي الفرق ما بين الضرر والضرار، فمنهم من قال: إن الضرر والضرار واحد، لكن كرر للتأكيد، فالضرر والضرار بمعنى واحد، وهو إيصال الأذى للغير. وقال آخرون من أهل العلم: الضرر والضرار مختلفان فالضرر هو الاسم، والضرار هو الفعل يعني: نفي وجود الضرر، ونفي فعل الضرر، فيكون على هذا القول : الأول: متجه إلى الشرع بعض الضرر في الشريعة والثاني: متجه إلى المكلف، فلا فعل للضرر والإضرار مأذون به شرعا ويؤيد هذا بأنه جاء في بعض الروايات ( لا ضرر ولا إضرار ) يعني: بالغير وقال آخرون من أهل العلم -وهو القول الثالث-: إن الضرر هو إيصال الأذى للغير، بما فيه منفعة للموصل، والضرار إيصال الأذى للغير بما ليس لموصل الأذى نفع فيه، يعني: أن الضرر على هذا القول، هو أن تضر بأحد لكي تنتفع، فإذا وصله ضرر: أذى معين، انتفعت أنت بذلك إما في الأمور المالية، أو غيرها .. يتبع .. |
والنوع الثاني: الذي هو الضرار أن توصل الأذى - نسأل الله العافية - دون فائدة لك ولا مصلحة، وهذا قول عدد من المحققين منهم العلامة ابن الصلاح، وقبله ابن عبد البر وجماعة من أهل العلم وهذا التعريف أولى وأظهر لعدة أمور: منها: أن فيه تفريقا بين الضرر والضرار، والأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد والثاني: أن لفظ الضرر يختلف عن لفظ الضرار، في أن الضرر ظاهر منه أن الموصل لهذا الضرر منتفع به، وأما المضار بالشيء، فإنه غير منتفع به لمعنى المفاعلة في ذلك، وهذا -أيضا- يعني: من جهة اللغة بين، ومنها -أيضا- يعني: مما يترجح به هذا المعنى أن الأفعال مختلفة، لا ضرر ولا ضرار إذا انتفى في الشرع، يعني: أنه لن يصل الأذى إلى المكلف، أو نفي إيصال الأذى للمكلف هذا يشمل الحالات التي ذكرنا جميعا، وهذا يتضح مع تقسيم يأتي، وكما ذكرنا لكم في أول الكلام: أن نفي الضرر راجع إلى جهة الشرع في العبادات، وإلى الشرع والمكلف في المعاملات وما بعدها، وإذا قلنا: إنه لا ضرر يعني: في الشريعة، ففي الشريعة لا يصل أذى لأحد لنفي انتفاع المؤذي، فإن الله -جل وعلا -لا ينتفع بأذى عباده، بل هو -سبحانه- يبتليهم لحكمة يعلمها -جل وعلا -، فالضرر منفي في التشريع، وكذلك الإضرار منفي -أيضا- في التشريع إذا تقرر هذا فإن الضرر والضرار يعني: في عدم اعتباره فيما يدخل في فعل المكلف على قسمين: الأول : أن المكلف يدخل الضرر على غيره، وهو لا ينتفع بهذا الإدخال، يعني: يكون مضارا على التعريف هذا، وهذا بإجماع أهل العلم، إنه لا يجوز ومحرم يعني: أن يضر غيره بما لا نفع له فيه، وهو المضارة على تعريفنا، وهو الضرار، هذا له أمثلة كثيرة في الفقه معلومة. الثاني : أن يدخل الضرر على مكلف آخر على وجه ينتفع هو منه، وهذا اختلف فيه العلماء، هل يسوغ مثل هذا ؟ أم لا يسوغ ؟ فمنهم من قال: إن الحديث دل على أنه لا ضرار ولا ضرر، فلا يجوز الضرر، فإذا أدخل على غيره ضررا على وجه ينتفع هو منه، فإنه دل الحديث على انتقائه، فيعني أن هذا غير معتبر وهذا مذهب جماعة من أهل العلم، منهم أبو حنيفة -رحمه الله- والشافعي -رحمه الله- قالوا : إن إدخال الضرر على أي مسلم، ولو لك فيه انتفاع، فإنه هذا لا يجوز، ويجب إزالة الضرر، ووجود الضمان لو حصل ما يوجبه، مثاله : مثلا أن يحتاج إلى فتح نوافذ لتهوية بيته على جهة بيت جاره، والجار يتضرر من فتح هذه النوافذ؛ لأنه بها يطلع الجار على حرمات جاره، فهذا عند أبي حنيفة والشافعي ممنوع؛ لأنه لا ضرر ، وقد دخل الضرر على الغير، مثلا يحتاج إلى أن يعمل شيئا في بيته، يشب نارا في بيته لغرض من الأغراض، يتأذى بها جاره، فهذا ضرر دخل على الجار، وصل إليه، وأذى، وهو منتفع بذلك، عند هؤلاء هذا الضرر منتفٍ، يجب رفعه وإذا اشتكوا، إذا اشتكى الجار جاره عند القاضي، أمره بإزالة ما يلحقه من أذى. .. يتبع .. |
والقول الثاني في هذا ، وهو قول الإمام أحمد ووافقه مالك في بعض المسائل أن إيصال الضرر للغير ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يكون معتادا، والمصلحة فيه ظاهرة والثاني: ألا يكون معتادا، والمصلحة فيه غير ظاهرة، فإن كان معتادا، والمصلحة فيه ظاهرة، فيجوز أن يفعله؛ لأن الناس لا يمكن أن يفعلوا فيما بينهم أشياء إلا وثم أذى يصيب الآخر منه، يبني لا بد أنه يشب نارا، ويعمل أشياء، يصل لو رائحة كريهة إليك، لكن هذا شيء معتاد لا بد منه، يريد أن يعمر -مثلا- بجانب جاره لا بد من الصباح، وهم يضربون حتى يتأذى الجار، لا يستطيع الجار أن يلومه، مع أنه لا ينام صباحا من جراء العمل، فهذا عمل معتاد ومثل هذا، ولو وصل الضرر عند الإمام أحمد، فإن مثل هذا غير منفي؛ لأنه لا تصلح أمور الناس إلا بهذا، وأما إذا كان إيصال الضرر غير معتاد في أمر لا مصلحة فيه، وغير معتاد، فإنه يجب إزالته، في أشياء كثيرة، من الأمثلة: يعني: مثل المثال الذي ذكرنا سالفا مثل أبواب وشبابيك على الجار، عند الإمام أحمد هذا مما جرت العادة به؛ لأن الغرف تحتاج إلى تهوية إلى آخره، فلا يمنع منه، وهو المعمول به عندنا في ضوابط معلومة، وأما إذا عمل عملا يوصل إليه الضرر بشيء غير معتاد، فإنه لا يقر عليه، مثل أن يحفر قليبا بجنب قليب صاحبه فسحبت الماء عليه، والماء لمن سبق؛ فلهذا يؤمر المتأخر بأن يزيل هذا الضرر؛ لأنه غير معتاد، ولا مصلحة فيه ظاهرة له؛ لأن مصلحة الأول متقدمة عليه. مثال آخر: لو أراد أن يحفر في بيته، أو يبني، يذهب يأتي بديناميت -مثلا- ولا بأشياء، يتضرر معها بيت المجاور بتهدم بعضه، أو بخلل في أركانه، أو في أسسه، أو أشبه ذلك، فهذا مما لا يكون معتادا، فيمنع منه، وهذا القول قول الإمام أحمد هو التحقيق، وهو الصواب؛ لأن العمل جرى عليه؛ ولأن مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا، فإذا سيحصل لنا من هذا -والبحث في هذا الحديث يطول؛ لأنه قاعدة عظيمة، يدخل فيها كثير من أبواب المعاملات والأمور الاجتماعية: النكاح والوصية والطلاق وإلى آخره- تحصل لنا من هذا أن الضرر والضرار مختلفان وأن هذا له معنى، وهذا له معنى، وأنه منتف الضرر والضرار شرعا، يعني: في التشريع. وكذلك يجب على العباد أن لا يضر بعضهم بعضا، وأن الضرر منه ما هو للعبد فيه مصلحة، فهذا لا يجوز باتفاق، والضرار الذي لا مصلحة للعبد فيه، ولم تجر العادة فهذا أيضا منفي، وأما ما يحصل به نوع أذى مع بقاء المصلحة، وجريان العادة في ذلك، فإنه لا ينفى شرعا، ولا يجب به إزالة الضرار، هذا ملخص ما في هذا الحديث من مباحث. وهو يستدعي أطول من هذا بكثير من جهة التقسيمات والأمثلة؛ لأنه داخل -أيضا- ضمن قاعدة فقيهة، وهي: الضرر يزال، ولها تفريعات كثيرة، ربما مر معكم بعضها. إنتهى شرح الحديث الثاني الثلاثون تحياتي :) |
إقتباس:
وجزاك أنتي خيرا أختي الكريمة وشكرا لمرورك العاطر بهذا الموضوع تحياتي :) |
الحديث الثالث والثلاثون البينة على المدعي واليمين على من أنكر وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) حديث حسن رواه البيهقي وغيره، هكذا وبعضه في الصحيحين. هذا الحديث أصل في باب القضاء والبينات والخصومات، قال: عن ابن عباس -رضى الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ) . ( لو يعطى الناس بدعواهم ) يعني أنه لو كانت المسألة في الحكم مبنية على مجرد الدعوى، فإنه سيأتي لأجل البغضاء والشحناء بين الناس، يأتي من يدعي مال غيره، بل، ويدعي دمه، إذا مات بأي طريقة، ادعي أن فلانا هو القاتل. لو أعطي الناس -بمجرد الدعوى، بلا بينة- لحصل خلل كثير في الأمة وفي الناس؛ لأن نفوس الناس مبنية على المشاحة وعلى البغضاء وعلى الكراهة، فقد ينتج من ذلك أن يدعي أناس أموال قوم ودماءهم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( لو يعطى الناس بدعواهم ) يعني: بلا بينة على ما ادعوا، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم . وهذا الادعاء بلا بينة مرفوض؛ ولهذا كان لزاما على المدعي أن يأتي بالبينة، وعقب عليه كتفسير لذلك فقال -عليه الصلاة والسلام- ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، قوله: ( البينة على المدعي ) البينة اسم لكل ما يبين الحق، ويظهره على الصحيح المختار، فالبينات إذا كثيرة، فالشهود من البينات، والإقرار من البينات، والقرائن الدالة على المسألة من البينات، وفهم القاضي باختبار -أيضا- من البينات، فهم القاضي للمسألة باختبار، يختبر به الخصمين، فيظهر به له وجه الحق هذا من البينات. .. يتبع .. |
فإذا البينات على الصحيح ليست منحصرة في أوجه من أوجه الثبوت، بل هي عامة في كل ما يبين الحق، ويظهره، وهذه تستجد مع الأزمان، وكل زمن له بينات تختلف أيضا، وتزيد عن الزمن الذي قبله، أو تختلف، فلا بد إذا في البينات من رعاية الحال ورعاية البلاد ورعاية أعراف الناس إلى آخره، فإذا تقرر هذا، فالبينة في اللغة: اسم للبيان، وما يبين به الشيء، يقال له: بينة، وأرفع منها البرهان، وأرفع من البرهان الآية ، وقد قال -جل وعلا – ( قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) هود . يعني: ما جئتنا بشيء يبين أنك صادق في ذلك، يعني: في دعوى النبوة، ودعوى الرسالة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وقال -جل وعلا -: ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (2) البينة ، فجعل البينة هي الرسول، وفي الآية الأولى البينة يؤتاها الرسول، فتنوعت البينة؛ لأن البينة اسم لما يظهر الحق، ويدل عليه؛ فلهذا قيل للرسول إنه بينة، وللكتاب إنه بينة، وللشاهد إنه بينة، وهكذا. فالبينة إذن على التحقيق أنها اسم عام جامع لكل ما يبين الحق، ويظهره، قال : ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، والعلماء يعبرون عن ذلك بقولهم: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وهذا من باب التصرف في العبارة، وذكر -أيضا- وروي -أيضا- في بعض روايات هذا الحديث، وأجمع أهل العلم على ما دل عليه هذا الحديث: من أن البينة على المدعي، وأن المدعي لا تؤخذ دعواه، ولا يلتفت لها من حيث مطالبته بشيء، حتى يأتي ببينة تثبت له هذا الحق. والمدعِي والمدعَى عليه اختلفت فيهما عبارات أهل العلم، لكن التحقيق فيهما، أو الصواب أن المدعِي من إذا سكت ترك، والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك، ويعبر طائفة من أهل العلم في كتب الفقه، في القضاء في آخره، عن المدعي والمدعى عليه بالداخل والخارج، المقصود أن المدعي في قوله : ( ولكن البينة على المدعي ) أن المدعي، هو من إذا سكت عن القضية ترك؛ لأنه هو صاحبها، فيدعي على غيره شيئا، فلو قال: سكت عن هذه الدعوى، ترك إذ لا مطالب له بشيء. وقد ينقلب المدعي مدعى عليه إذا كان الخصم لا يسكت عنه، فإذا سكت أحد الخصمين، وبسكوته يترك، صار مدعيا، وإذا سكت وبسكوته لم يترك صار مدعى عليه، وقد ينقلب -كما ذكرت لك- المدعي إلى مدعى عليه في بعض الحالات. .. يتبع .. |
قال : ( البينة على المدعي ) يعني: إذا أتى أحد وقال: أنا أدعي على فلان بأنه أخذ أرضي، أو أخذ سيارتي، أو أنه أخذ من مالي كذا وكذا، أو أني أقرضته كذا وكذا، وأطالبه برده فيقال: أين البينة التي تثبت ذلك ؟ هل عندك شهود ؟ هذا نوع من البينات، هل عندك ورقة مشهود عليها ؟ أو أشباه ذلك تثبت ذلك، ما دليلك، أو ما بينتك على هذا ؟ فيأتي بالبينة، فلا ينظر إلى دعواه مجردة حتى يأتي ببينة، هناك بعض الحالات لا يكون ثَمَّ بينة للمدعي، فيتوجه فيها، وهي الأمور المالية، يتوجه فيها اليمين على المدعى عليه، يعني: أنه يقول: هذا خصمي، فيأتي فيقول: هذا ليس له عندي شيء، فهنا ينكر المدعى عليه أحقية المدعي بشيء، ولا بينة للمدعي على ذلك، فيرى القاضي أن تتوجه اليمين إلى المنكر، يعني: إلى المدعى عليه الذي يقول: ليس له عندي شيء. وهذا معنى قوله : ( واليمين على من أنكر ) أو اليمين على المدعى عليه، يعني: من أنكر حقا طولب به، ولا بينة ثابتة تدل عليه بينة واضحة، وإنما هناك نوع بينة ولكنها لم تكمل، أو ما يرى القاضي فيه، أن فيه حاجة لطلب اليمين، فإنه تتوجه اليمين للمدعى عليه؛ لأنه منكر. نفهم من هذا أن المدعي لا يطالب باليمين؛ لأنه هو صاحب الدعوى، فإنما عليه البينة، كذلك المدعى عليه إذا أنكر، فإنما عليه اليمين، ويبرأ طبعا. إذا كان المدعى عليه عنده بينات أخرى فيدلي بها، وتكون بينة أقوى من بينة خصمه. المقصود من هذا الحديث أن الشريعة جاءت في القضاء بإقامة العدل، وإقامة الحق، وأن هذا إنما يكون باجتماع القرائن والدلائل والبينات على ثبوت الحق لأحد الخصمين، وأن الحاكم لا يحكم بمجرد رأيه ولا يعلمه. فلا يجوز للحاكم يعني: للقاضي أن يحكم بعلمه، وإنما يحكم بما دلت عليه الدلائل، فلو أتاه رجل من أصدق الناس وأصلحهم وقال أنا عندي، أنا لي على فلان كذا وكذا ولا بينة، فإنه لا يحكم بعلمه في ذلك، ولو كان هو يعلم بعض ما في المسألة من الأمور، فلا بد من البينة من المدعي ، ولا بد من إثبات ذلك فيحكم له، أو اليمين على من أنكر في بعض المسائل . وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -في الخصومة وإدلاء كل بحجة - ( فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من خصمه، فأقضي له ، فإنما أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فإنما هو قطعة من النار، فليأخذ أو ليدع ) فحكم القاضي لا يجعل لمن ليس له الحق، يجعل المسألة حقا له، وهذا عند بعض العامة. والناس يظنون أن القاضي إذا حكم، فمعناه أن من حكم له، فله الحق مطلقا، ولو كان مبطلا في نفس الأمر، وهذا باطل؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال هنا : ( فمن قضيت له من حق أخيه، فإنما هو قطعة من النار، فليأخذ، أو فليدع ) وهذا يعني: أن المرء لا يحصل له الحق بمجرد حكم القاضي، بل لا بد أن يعلم هو أن هذا حق في نفسه، أو أن المسألة مترددة يحتاج فيها إلى حكم القاضي، أما إذا كان مبطلا، فلا يجوز له أن يستحل الأمر بحكم القاضي، فإنما هي قطعة من النار يأخذها، وما أعظم ذلك ! . إنتهى شرح الحديث الثالث الثلاثون تحياتي :) |
اخي الكريم مرة ثانية بارك الله فيك ... مع انني توقفت عند الصفحة 11 ... سوف اكمل قرائة لاحقا ...باقي لي صفحات عديدة موضوع مفيد جدا ومختصر :) |
الحديث الرابع والثلاثون من رأى منكم منكرا فليغيره بيده عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم . هذا الحديث حديث عظيم -أيضا- في بيان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حديث معلوم لديكم بتفاصيل الكلام عليه؛ لأنه كثر بيانه، وبيان ما فيه، لكن نختصر المقام، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده ) المنكر : اسم لما عرف في الشريعة قبحه والنهي عنه، فلا يكون منكرا حتى يكون محرما في الشريعة، وهنا قال: ( من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده ) فهنا شرط، أما جواب الشرط، فهو الأمر بالتغيير باليد، وهذا الأمر على الوجوب مع القدرة، وأما فعل الشرط فهو قوله : ( من رأى منكم منكرا ) والفعل رأى هو الذي تعلق به الحكم، وهو وجوب الإنكار، ورأى هنا بصرية؛ لأنها تعدت إلى مفعول واحد، فحصل لنا بذلك أن معنى الحديث من رأى منكم منكرا بعينه، فليغيره بيده، وهذا تقييد لوجوب الإنكار بما إذا رؤي بالعين، وأما العلم بالمنكر، فلا يكتفى به في وجوب الإنكار، كما دل عليه ظاهر هذا الحديث. قال العلماء : ظاهر الحديث على أنه لا يجب حتى يرى بالعين، وينزل السمع المحقق منزلة الرأي بالعين، فإذا سمع منكرا سماعا محققا، سمع صوت رجل وامرأة في خلوة محرمة سماعا محققا، يعرف بيقين أن هذا محرم، وأنه لا يفعل…. أن هذا في كلامه إنما هو مع أجنبية وأشبه ذلك، فإنه يجب عليه الإنكار؛ لتنزيل السماع المحقق منزلة النظر. كذلك إذا سمع أصوات معازف، أو أصوات ملاهٍ، أو أشباه ذلك بسماع محقق، فإنه يجب عليه هنا الإنكار، وأما غير ذلك، فلا يدخل في الحديث، فإذا علم بمنكر، فإنه هنا لا يدخل في الإنكار، وإنما يدخل في النصيحة؛ لأن الإنكار علق بالرؤية في هذا الحديث، وينزل -كما قال العلماء- السماع المحقق -فقط- منزلة الرؤية قال : ( من رأى منكم منكرا ) وفي قوله: "منكرا" يظهر تعليق الأمر بالمنكر، دون الواقع فيه، فالحكم بالأمر بالتغيير باليد هذا راجع إلى المنكر، أما الواقع في المنكر، فهذا له بحث آخر. قال: "فليغيره" يعني: فليغير المنكر، فلا يدخل في الحديث عقاب فاعل المنكر؛ لأن فاعل المنكر تكتنفه أبحاث، أو أحوال متعددة، فقد يكون الواجب معه الدعوة بالتي هي أحسن، وقد يكون التنبيه، وقد يكون الحيلولة بينه وبين المنكر والاكتفاء بزجره بكلام، ونحوه ، وقد يكون بالتعزير ، وقد يكون .. إلى آخر أحوال ذلك المعروفة، في كل مقام بحسب ذلك المقام، وما جاء فيه من الأحكام. المقصود: أن الحديث دل بظاهره على تعليق وجوب الإنكار، ووجوب التغيير باليد بالرؤية، وما يقوم مقامها. والثاني: بالمنكر نفسه، فتغيير المنكر، يعني -مثلا-: رجل أمامه زجاجة خمر، أو أمامه شيء من الملهيات المحرمة، فإنكار المنكر ليس هو التعنيف للفاعل، وإنما هو تغيير هذا المنكر من الخمر، أو من الملاهي المحرمة، أو من الصور المحرمة، أو أشباه ذلك بتغييره باليد مع القدرة . تغييره باليد مع القدرة ، وأما الفاعل له فهذا له حكم آخر. .. يتبع .. |
قال: ( فليغيره بيده ) والتغيير هنا أوجب التغيير باليد وهذا مقيد بما إذا كان التغيير باليد مقدورا عليه، وأما إذا كان غير مقدور عليه، فإنه لا يجب، ومن أمثلة كونه مقدورا عليه: أن يكون في بيتك الذي لك الولاية عليه يعني: في زوجك وأبنائك وأشباه ذلك، أو في أيتام لك الولاية عليهم، أو في مكان أنت مسئول عنه، وأنت الولي عليه، هذا نوع من أنواع الاقتدار، فيجب عليك هنا أن تزيله، وإذا لم تغيره بيدك فتأثم، أما إذا كان في ولاية غيرك، فإنه لا تدخل القدرة هنا، أو لا توجد القدرة عليه؛ لأن المقتدر: هو من له الولاية فيكون هنا باب النصيحة لمن هذا تحت ولايته،ليغيره من هو تحت ولايته والتغيير في الشرع ليس بمعنى الإزالة. التغيير: اسم يشمل الإزالة، ويشمل الإنكار باللسان بلا إزالة، يعني أن يقال: هذا حرام، وهذا لا يجوز، ويشمل -أيضا- الاعتقاد أن هذا منكر و محرم؛ ولهذا جاء في هذا الحديث بيان هذه المعاني الثلاث، فقال عليه -الصلاة والسلام:- ( فإن لم يستطع - التغيير بيده - فبلسانه ) يعني: فليغيره بلسانه، ومن المعلوم أن اللسان لا يزيل المنكر دائما، بل قد يزول معه بحسب اختيار الفاعل للمنكر، وقد لا يزول معه المنكر، تقول مثلا لفلان: هذا حرام، وهذا منكر لا يجوز لك، قد ينتهي وقد لا ينتهي، فإذا أخبرت الخلق، أو المكلف الواقع في هذا المنكر، إذا أخبرته بأنه منكر وحرام فقد غيرت، وإذا سكت، فإنك لم تغير. وإن كنت لا تستطيع باللسان، فتغيره بالقلب تغييرا لازما لك لا ينفك عنك، ولا تعذر بالتخلف عنه، وهو اعتقاد أنه منكر ومحرم ، والبراءة من الفعل يعني: بعدم الرضا به؛ لهذا جاء في سنن أبي داود أنه عليه -الصلاة والسلام- قال: ( إذا عملت الخطيئة كان من غاب عنها ورضيها كمن عملها، وكان من غاب عنها وكان ممن شهدها، فلم يفعلها كمن فعلها ) وهذا يعني: أن الراضي بالشيء كفاعله؛ لأن المنكر لا يجوز أن يقر، يعني: أن يقره المرء، ولو من جهة الرضا، وهذا ظاهر في قوله -جل وعلا-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) النساء ، وفي الآية الأخرى : (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) الأنعام . فمن جلس في مكان يستهزأ فيه بآيات الله، وهو جالس لا يفارق هذا المكان، فهو في حكم الفاعل من جهة رضاه بذلك؛ لأن الراضي بالذنب كفاعله كما قال العلماء، إذا تبين ذلك، فها هنا مسائل تتعلق بهذا الحديث، وهي أن الإنكار - وجوب الإنكار - متعلق بالقدرة بالإجماع، ومتعلق بظن الانتفاع عند كثير من أهل العلم. قال طائفة من العلماء: إنما يجب الإنكار إذا غلب على ظنه أن ينتفع المنكر، يعني: باللسان، بما لا يدخل تحت ولايته، أما إذا غلب على ظنه أنه لا ينتفع، فإنه لا يجب الإنكار؛ وذلك لظاهر قول الله -جل وعلا:- ( فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) الأعلى ، فأوجب التذكير بشرط الانتفاع، وهذا ذهب إليه جماعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ودل عليه عمل عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- كابن عمر وابن عباس وغيرهما، لما دخلوا على الولاة وأمراء المؤمنين في بيوتهم، وكان عندهم بعض المنكرات في مجالسهم، فلم ينكروها؛ وذلك لغلبة الظن أنهم لا ينتفعون بذلك؛ لأنها من الأمور التي أقروها وصارت فيما بينهم، وهذا خلاف قول الجمهور. .. يتبع .. |
والجمهور على أنه يجب مطلقا، سواء غلب على الظن، أو لم يغلب الظن؛ لأن إيجاب الإنكار لحق الله -جل وعلا- وهذا لا يدخل فيه غلبة الظن، والقول الثاني، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -كما ذكرت لكم- وجماعة، من أنه يجب مع غلبة الظن هذا أوجه من جهة نصوص الشريعة؛ لأن أعمال المكلفين مبنية على ما يغلب على ظنهم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ) وعدم الاستطاعة هذه تشمل عدة أحوال، ويدخل فيها غلبة الظن ألا ينتفع الخصم، مثلا: إذا قابلت حليقا للحية، أو قابلت امرأة سفرت وجهها، ونحو ذلك، في بعض الأمكنة نجد حرجا هل ننكر أم لا ننكر؟ يغلب على ظننا في بعض الأحوال، أننا لو أنكرنا لما انتفع أولئك بذلك؛ لعلمهم بهذه المسألة، فيكتفى هنا بالإنكار بالقلب من جهة الوجوب، ويبقى الاستحباب في أنه يستحب أن تبقى هذه الشعيرة، وأن يفعلها من أراد فعل المستحب، وكما ذكرت لك هذا خلاف قول الجمهور، لكنه يتأيد بمعرفة حال الصحابة -رضوان الله عليهم- من أنهم إنما أنكروا ما غلب على ظنهم الانتفاع به، وإلا للزم منه أن يأثموا في ترك كثير من الواجبات في أحوال كثيرة ومعلومة. قال في آخره: ( فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) ( فإن لم يستطع فبقلبه ) يعني: ينكر بقلبه، والإنكار بالقلب، يعني: بغض المنكر، وكراهته واعتقاد أنه منكر وأنه محرم ( وذلك أضعف الإيمان ) يعني: هذا أقل درجات الإيمان؛ لأنه هو الذي يجب على كل أحد، كل أحد يجب عليه هذا ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) لأن المنكر المجمع عليه إذا لم يعتقد حرمته، ولم يبغضه مع اعتقاد حرمته، فإنه على خطر عظيم في إيمانه. هذا الحديث يدخل في بحثه الإنكار على الولاة، والإنكار على عامة الناس، ويدخل -أيضا- مراتب الإنكار، والقواعد التي تحكم ذلك، وهي كثيرة، يعني: مباحثه، أعني: مباحثه وفروعه كثيرة يطول المقام بذكرها، لكن أنبه على مسألة مهمة ذكرتها عدة مرات، وهي أن هناك فرقا ما بين النصيحة والإنكار في الشريعة، وذلك أن الإنكار أضيق من النصيحة، فالنصيحة اسم عام يشمل أشياء كثيرة، كما مر معنا في حديث ( الدين النصيحة ) ومنها الإنكار، فالإنكار حال من أحوال النصيحة؛ ولهذا كان مقيدا بقيود وله ضوابطه، فمن ضوابطه: أن الإنكار الأصل فيه أن يكون علنا؛ لقوله: ( من رأى منكم فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ) وهذا بشرط رؤية المنكر. وهنا ندخل في بحث مسألة بحثناها مرارا، وهي أن الولاة ينكر عليهم إذا فعلوا المنكر بأنفسهم، ورآه من فعل أمامه ذلك الشيء، وعلى هذا يحمل هدي السلف في ذلك. وكل الأحاديث التي جاءت، وهي كثيرة، أكثر من عشرة، أو اثني عشر حديثا في هذا الباب، فيها إنكار طائفة من السلف على الأمير، أو على الوالي، كلها على هذا الضابط، وهو أنهم أنكروا شيئا رأوه من الأمير أمامهم، ولم يكن هدي السلف أن ينكروا على الوالي شيئا أجراه في ولايته؛ ولهذا لما حصل من عثمان رضي الله عنه بعض الاجتهادات وقيل لأسامة بن زيد - رضي الله عنهما- : ألا تنصح لعثمان؟ ألا ترى إلى ما فعل؟ قال: أما إني بذلته له سرا، لا أكون فاتح باب فتنة. .. يتبع .. |
ففرّق السلف في المنكر الذي يفعل أمام الناس كحال الأمير الذي قدم خطبتي العيد على الصلاة، وكالذي أتى للناس وقد لبس ثوبين، وأحوال كثيرة في هذا، فرقوا ما بين حصول المنكر منه أمام الناس علنا، وما بين ما يجريه في ولايته، فجعلوا ما يجريه في ولايته بابا من أبواب النصيحة، وما يفعله علنا يأتي هذا الحديث: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ) مع الحكمة في ذلك؛ ولهذا قال رجل لابن عباس - رضي الله عنهما -: ألا آتي الأمير، فآمره وأنهاه ؟ قال: لا تفعل، فإن كان ففيما بينك وبينه. قال: أرأيت إن أمرني بمعصية؟ قال: أما إن كان ذاك فعليك إذن. فدل هذا على أن الأمر والنهي المتعلق بالولي إنما يكون فيما بين المرء وبينه، فيما يكون في ولايته، وأما إذا كان يفعل الشيء أمام الناس، فإن هذا يجب أن ينكر من رآه بحسب القدرة وبحسب القواعد التي تحكم ذلك، إذا تكرر هذا، فثم مسألة متصلة بهذه، وهي: أن قاعدة الإنكار مبنية على قاعدة أخرى ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهي أنه لا يجوز إنكار منكر حتى تتيقن أنه لن ينتقل المنكر عليه إلى منكر أشد منه قال شيخ الإسلام: ومن أنكر ظانا أنه ينتقل، فإنه يأثم، حتى يتيقن أن إنكاره سينقل المنكر عليه إلى ما هو أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا مجمع عليه، ومثل لهذا ابن القيم بمسائل كثيرة في كتابه "إعلام الموقعين" فقال مثلا: لو أتيت إلى أناس يلعبون لعبا محرما، أو يشتغلون بكتب مجون، فإن أنكرت عليهم ذلك، فإنه يكتنفه أحوال: الأول: أن ينتقلوا من هذا المنكر إلى ما هو أنكر منه، فهذا حرام بالإجماع يعني: يخرج من لهوه بالكتب إلى الاتصال بالنساء مباشرة، أو إلى رؤية النساء مباشرة، أو ما أشبه ذلك، فهذا منكر أشد منه، فبقاؤه على الأول أقل خطرا في الشريعة من انتقاله إلى المنكر الثاني. الثاني: أن ينتقل إلى ما هو خير ودين، فهذا هو الذي يجب معه الإنكار. والثالث: أن ينتقل منه إلى منكر يساويه، فهذا محل اجتهاد. والرابع: أن ينتقل منه إلى منكر آخر. ذكر أربعة: منكر أشد منه، ومنكر آخر، ومنكر مساويه، وإلى خير، هذه أربعة أقسام، وإلى منكر آخر، فهذا -أيضا- لا يجوز، وإذا كان إلى منكر مساويه، فهذا محل اجتهاد، وإلى خير فهذا واجب، وإلى منكر أشد منه فهذا لا يجوز، فتحصل منه أن ثم حالتين يحرم فيهما الإنكار، وهي: إذا انتقل من منكر إلى منكر آخر غير مساوٍ، وإلى منكر - يعني: إنك ما تدري إنه مساوٍ - وإلى منكر أشد منه بيقينك، فهذه حرام بالإجماع. والثالث: أن ينتقل إلى منكر مساوٍ فهذا فيه محل اجتهاد. والرابع: أن ينتقل إلى خير، فهذا يجب معه الإنكار، وذكر قصة لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه مر وطائفة من أصحابه على قوم من التتر يلعبون بالشطرنج، ويشربون الخمر في شارع من شوارع دمشق علنا، فقال أحد أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ألا ننكر على هؤلاء ؟ فقال شيخ الإسلام: دعهم، فإن انشغالهم بذلك أهون من أن يعيثوا في المسلمين، أو أن يعتدوا عليهم، وهذا من الفقه العظيم؛ لأن هذا منكر ومحرم لكنه قاصر، ولإنكاره عليهم قد يكون معه أن ينتقلوا إلى منكر متعدٍ على بعض المسلمين، ومعلوم أن المنكر القاصر أهون من المنكر المتعدي. إنتهى شرح الحديث الرابع الثلاثون تحياتي :) |
إقتباس:
شكرا لمرورك بهذا الموضوع أختي الفاضلة ولقد بقي من الأحاديث ( 7 ) أحاديث فقط ، وسيتم إستكمالها تباعا وقد أحسن الشيخ آل الشيخ في شرحه لهذه الأحاديث نسأل الله أن يجعلها في موازين حسناته تحياتي :) |
الحديث الخامس والثلاثون لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تحاسدوا، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) رواه مسلم هذا الحديث أصل في حق المسلم على المسلم، وفيما ينبغي أن يكون بين المسلمين من أنواع التعامل، قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: ( لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا ) . الحديث قوله: ( لا تحاسدوا، ولا تناجشوا ) …إلى آخره هذا نهي، وكما هو معلوم أن النهي يفيد التحريم في مثل هذا، فقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( لا تحاسدوا ) يعني: أن الحسد محرم، وقد جاءت أحاديث كثيرة فيها بيان تحريم الحسد، وأنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وكذلك التناجش محرم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش في غير ما حديث، وكذلك التباغض والتدابر وأشباه هذا مما يزيل المحبة، أو يزيل الألفة بين المسلمين، فإنه ممنوع منع تحريم. قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( لا تحاسدوا ) الحسد: فسر بعدة تفسيرات، ومنها: أن الحسد: تمني زوال النعمة عن الغير، وأيضا من الحسد أن يعتقد أن هذا الذي أنعم الله عليه ليس بأهل لهذه النعمة، ولا يستحق فضل الله -جل وعلا- ولهذا فحقيقة الحسد اعتراض على قضاء الله -جل وعلا- وعلى قدره ونعمته؛ فلهذا كان ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) فليس الحسد مقتصرا على أنه يأثم به صاحبه فقط، بل يذهب بعض حسنات صاحبه؛ لأنه ينطوي على اعتقاد خبيث وعلى ظن سوء بالله -جل وعلا- حيث قام في قلبه أن هذا ليس بأهل لفضل الله -جل وعلا- ونعمته، ونحو هذا ما يستعمله بعض العامة حيث يقول بعضهم: هذا حرام أن يعطى كذا وكذا، هذا حرام أن تكون عنده هذه النعمة، هذا حرام أن يكون عنده المال، وأشباه ذلك مما فيه ظن سوء بالله -جل وعلا- واعتراض على قدر الله، وعلى نعمته، وعلى رزقه الذي يصرفه كيف يشاء. فالواجب إذن على المسلم أن يفرح لأخيه المسلم بما أنعم الله عليه، وقد مر معنا في الحديث: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) والحسد بضد ذلك، فإن الحاسد لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل إما أن يتمنى زوال النعمة عن أخيه، أو أنه يعتقد، ويظن أن أخاه ليس بأهل لما أعطاه الله -جل وعلا-. .. يتبع .. |
قال: ( ولا تناجشوا ) وهذا -أيضا- يدل على تحريم النجش، وقد تقرر في الأصول أن النهي إذا تسلط على المضارع، فإنه يعم أنواع المصدر؛ لأن المضارع عبارة عن حدث وزمن، فتسلط النفي على الحدث تسلط النفي أو النهي على الحدث، والحدث نكرة فعم أنواعا. إذن نقول هنا: في قوله: ( لا تحاسدوا ) يعم جميع أنواع الحسد، وقوله: ( لا تناجشوا ) يعم جميع أنواع النجش بالسكون، أو النجش بالتحريك، والنجش، أو النجش فسر بعدة تفسيرات، وأعمها التفسير اللغوي، وهو أن النجش: أن يسعى في إبطال الشيء بمكر واحتيال وخديعة، أو هو السعي بالمكر والخداع والحيلة، وهذا عام يشمل جميع أنواع التعامل مع المسلمين فإذن قوله: ( ولا تناجشوا ) أي: لا يسعى بعضكم مع بعض بالخداع والحيلة والمواربة وأشباه ذلك من الصفات المذمومة، ويدخل في هذا النجش الخاص، وهو المستعمل في البيع بأن يزيد في السلعة من لا يرغب في شرائها؛ لأن هذا سعي في ازدياد السعر بمكر وحيلة وخداع، فهو سمى ذلك بالنجش، أو النجش؛ لأنه فيه المكر والخداع والحيلة، فيمنع. ويحرم أن يسعى المسلم مع إخوانه المسلمين بالحيلة والخداع والمكر بأي نوع، بل المسلم مع إخوانه يسير على نية طيبة، وعلى أن يحب لهم ما يحب لنفسه، وألا يخدعهم، ولا يغرر بهم، بل يكون معهم كما ينبغي، أو كما يحب أن يكونوا معه، وزيادة المرء في السعر، وهو لا يريد الشراء حين السوم على السلعة هذا من أنواع الحيلة والخداع؛ ولهذا فهو منهي عنه ومحرم يأثم به صاحبه إثم المحرمات. .. يتبع .. |
قال: ( ولا تباغضوا ) والتباغض هنا -أيضا- عام في كل ما يكون سببا لحدوث البغضاء من الأقوال والأعمال فكل قول يؤدي إلى البغض، فأنت منهي عنه، وكل فعل يؤدي إلى التباغض، فأنت منهي عنه فالمؤمن مأمور بأن يسعى بما فيه المحبة بين إخوانه المؤمنين وأما ما فيه من التباغض، فهو حرام أن يسعى فيه بقوله، أو قلمه، أو كلامه ، أو عمله، أو تصرفاته، أو إشاراته، أو لحظه حتى إن الرجل لا ينبغي له أن يبغض، بل لا يسوغ له أن يبغض أي مسلم كان؛ لأنه قد أحبه لما معه من الإسلام والتوحيد، وهذا يجبر غيره، وإن أبغضه بغضا دينيا فهذا لا حرج، لكن البغض الدنيوي هو الذي نهى عنه هنا. فسبب البغض إذا كان دينيا مشروعا، فهذا مطلوب، ولا بأس به، لكن بالنسبة للمسلم فإنه لا يبغض بالجملة، بل يجتمع في حق المؤمن، أو في حق المسلم ما يكون معه الحب له، وهو ما معه من الإيمان والتوحيد والطاعة، وما يكون معه البغض له، وهو ما قد يكون يقترفه من الإثم والعصيان . فإذن في المؤمن والمسلم يجتمع الموجبان في الدين الحب والبغض، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا قال: ( لا تباغضوا ) قال العلماء: هذا في السعي فيما فيه التباغض في أمر الدنيا، أما إذا كان لأمر شرعي وديني، فإن هذا مطلوب، ولا يدخل في هذا النهي، والسعي في البغضاء بأنواع كثيرة وحتى الرجل مع أهله ينبغي له أن يسعى فيما فيه المودة والمحبة وألا يبغض، وإذا حصلت البغضاء، فإنه ينظر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي منها خلقا آخر ) يعني: لا يبغض مؤمن مؤمنة. وهكذا قاعدة عامة أن المؤمن لا يسوغ له أن يبغض مؤمنا، يعني: بعامة، بل ينظر إليه إن حصل في قلبه بغضاء، فينظر إلى أخيه المؤمن، وينظر ما معه من الخير والإيمان والطاعة، فيعظم جانب طاعته لله على نصيب نفسه، وحظ نفسه، فتنقلب البغضاء عنده هونا ما، ولا يكون بغيضا له بغضا تاما، أو ما يوجب المقاطعة، أو المدابرة. قال بعدها -عليه الصلاة والسلام-: ( ولا تدابروا ) يعني: لا تسعوا في قول، أو عمل تكونوا معه متقاطعين؛ لأن التدابر أن يفترق الناس كل يولي الآخر دبره، وهذا يعني: القطيعة والهجران، وهجر المسلم وقطعه حرام إذا كان لأمر دنيوي، فالهجر ينقسم إلى قسمين: هجر لأمر الدين، وهذا له أحكامه المختصة، وضابطها: أنه يجوز هجر المسلم لأجل الدين إذا كان فيه مصلحة لذلك الهجر، وهذا كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم المخلفين الثلاثة في غزوة تبوك وأمثال ذلك. .. يتبع .. |
والقسم الثاني: الهجر لغرض دنيوي أن يهجر المسلم أخاه لغرض له للدنيا؛ لإيذاء… أذاه، أو لشيء وقع في قلبه عليه فالهجر إذا كان للدنيا فللمسلم أن يهجر أخاه للدنيا إلى ثلاثة أيام وما بعدها، فحرام عليه أن يهجره، وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ( لا يهجر مسلم أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) . قال العلماء: الهجران إلى ثلاث مأذون به في أمر الدنيا، يعني: إذا كان لك هذا لحظ نفسك ، أما… هذا لحظ نفسك إلى ثلاثة أيام وما بعدها، فحرام أن تهجر أخاك فوقها، وخير الرجلين الذي يبدأ بالسلام، أما أمور الدين فهذه بحسب المصلحة -كما ذكرنا في القسم الأول-، قد يكون هجرانا إلى أسبوع، أو إلى شهر، أو يوم بحسب ما تقضي به مصلحة المهجور. قال : ( ولا يبع بعضكم على بيع بعض ) وهو -مثلا- أن يقول… لمن أراد أن يشتري سلعة بعشرة أن يعطيك مثلها بتسعة، أو لمن أراد أن يبيع سلعة بعشرة: أنا آخذها منك بإحدى عشر، وأشباه ذلك يعني: أنه يغريه بألا يشتري من أخيه، أو أن يبيع عليه، ففي هاتين الصورتين حصل بيع على بيع المسلم، وهنا حرم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( ولا يبع بعضكم على بيع بعض ) وهذا مشروط بأن الذي يعرض الشراء من هذا الذي يريد أن يبيع شيئا، أو يعرض البيع لهذا الذي يريد أن يشتري شيئا بأكثر في الأول، وأقل في الثاني، هذا مشروط بأنه حصل بين الأول، ومن يريد أن يبيعه، أو أن يشتري منه انفصال وتراض. مثلا: يأتي إلى صاحب دكان ويقول: أنا أريد أن أشتري هذه، فيتفاصلان على أنه سيشتريها بكذا، وهذا راض، سيشتريها فيأتي أحد ويقول: تعال، أنا أعطيك مثلها بكذا وكذا بأنقص، أو أشباه ذلك، فإذا كان هناك رضا من البائع للسلعة على من يبيع عليه، أو رضا ممن يشتري، وتفاصل بينه وبين من أراد الشراء منه، أو البيع عليه، فإنه هنا يحرم أن يدخل أحد، فيتدخل في هذا المبيع إذا تفاصلا وتراضيا، وهنا يعني: تمت مقدمات العقد بالاتفاق على الثمن، والعزم على الشراء، فإنه لا يجوز لأحد أن يدخل، ونفهم من هذا أنه لو تدخل قبل أن يعقد هذا، وهذا يعني: ما دام أنه بفترة النظر انتقل من دكان إلى دكان وأشباه ذلك، فهذا لا بأس به. فيشترط لتحريم البيع على بيع أخيه بما كان فيه تفارق بالقول، أو انفصال في القول بالعزم على الشراء، أو العزم على البيع إذا حصل العزم وأجابه البائع، أو المشتري، فإنه لا يجوز التدخل في ذلك، في أمثالها، مثل: ( لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ) فإن المرء إذا تقدم إلى أحد خاطبا، وسمع به فلان من الناس، سمع أن فلانا خطب، فإن ردوا عليه بالرضا، فإنه لا يجوز لأحد أن يأتي ويقول: أنا أريد ابنتكم، ممن علم أنهم أجابوه ورضوا به، لكن قبل أن يجيبوه بالرضا له أن يدخل كخاطب من الخطاب، وهكذا في هذه المسألة في قوله : ( لا يبع بعضكم على بيع بعض ) . .. يتبع .. |
قال -عليه الصلاة والسلام- بعدها: ( وكونوا عباد الله إخوانا ) حققوا أخوة الدين، إذ قال -جل وعلا- : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {71} التوبة وقال -جل وعلا-: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {10} الحجرات ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره ) . ( لا يظلمه ) يعني: لا يظلمه في ماله، ولا يظلمه في عرضه، ولا يظلمه في أهله، ولا يظلمه في أي أمر اختص به، بل يعدل معه، ويكون خليفته في ماله وأهله وعرضه؛ ولهذا جاءت الشريعة، وهذا من محاسنها العظيمة في أن يتحلل المرء إخوانه فيما وقع منه عليهم من المظالم. وقد ثبت في الصحيح، صحيح أبي عبد الله البخاري أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( من كانت عنده لأخيه مظلمة - بكسر اللام - في مال، أو عرض، فليتحلله منه اليوم قبل أن يكون يوم لا درهم فيه ولا دينار ) يعني: من اغتاب، أو من وقع في عرض إخوانه، أو من اعتدى على بعض… فعليه أن يرد هذه المظالم، فإن كان في ردها مشقة عليه، فيوسط أحدا …إلى آخره. المقصود أنه يجب أن يرد المظالم، وفي الغيبة تفصيل للعلماء من أنه إذا ذكر لمن اغتابه، أنه قد اغتابه، وهذا يؤدي إلى حصول منازعة ومشاقة في إخباره بغيبته إياه وطلبه تحليله، فإنه يترك هذا الإخبار، ويكتفي منه بالاستغفار له، وكثرة الدعاء له، لعلها أن تشفع في تكفير غيبته أو النيل منه. وهذا من السنن التي ينبغي لنا أن نتعاهدها في أن يحلل بعضنا بعضا، وإذا سأل أحد أخاه أن يحلله، فيستحب له أن يقول: حللك الله، وأنت في حل مني، وأشباه ذلك دون سؤال له ماذا قلت؟ وماذا فعلت؟ وبأي شيء اعتديت علي؟ وأشباه ذلك كما قرر العلماء. قال: ( ولا يخذله ) لا يخذله، الخذلان: ترك الإعانة والنصرة، والمسلم ولي المسلم، يعني: محب له، يعني: أن المسلم محب للمسلم، ناصر له، وخذل المسلم للمسلم… وخذلانه له ينافي عقد المولاة الذي بينهما؛ ولهذا تضمن عقد المولاة في قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {71} التوبة ، أن خذل المسلم للمسلم لا يجوز، إذا كان في مقدرته أن يعينه، وأن ينصره ولو بالدعاء. قال: ( ولا يكذبه ) يعني: لا يقول له: أنت كاذب، وكلما أخبره بخبر قال: هذا كاذب، وأنت كاذب؛ لأن الأصل في المسلم أنه لا يكذب، وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قيل له: ( أيزني المؤمن؟ قال: نعم، قيل له: أيسرق المؤمن؟ قال: نعم. قال له: أيكذب المؤمن؟ قال: لا ) لأن الكذب خصلة تستحكم من صاحبها، وتستمر معه، فيكون معه خصلة من خصال النفاق، وأما ما يقع من زنا الشهوة، ومن سرقة الشهوة وأشباه ذلك، فإنها عارض يعرض، ويزول، ويرتفع معه الإيمان حتى يكون فوق صاحبه كالظلة، ثم إذا فارق المعصية عاد إليه، وأما الكذب، فإنه إذا استمر بصاحبه، فإنه يدل ويهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، فقوله هنا -عليه الصلاة والسلام- : ( ولا يكذبه ) يدخل فيه أن يكذب في الحديث . .. يتبع .. |
قال: ( ولا يحقره ) يعني: لا يحتقر المسلم أخاه المسلم بأن يعتقد، أو أن يأتي في خاطره أن هذا وضيع، وأن هذا أقل قدرا منه، وأن هذا مرذول ، إما لأجل نسب، أو لأجل صناعة، أو لأجل بلد، أو لأجل معنى من المعاني، ، بل الإسلام هو الذي رفع المسلم، وجعله مكرما مخصوصا من بين المخلوقات؛ ولهذا فإن المسلم عند الله -جل وعلا- كريم عزيز، وتحقير المسلم يخالف أصل احترام المسلم لما معه من التوحيد والإيمان، فهذا البدن الذي أمامك -بدن المسلم- يحمل عقيدة التوحيد، وحسن ظن بالله، ومعرفة بالله وعلم بالله بحسب ما عنده من الإسلام والإيمان والعلم، وهذا ينبغي معه ألا يحتقر، بل يحترم لما معه من الإيمان والصلاح. وهذه يتفاوت الناس فيها كلما كان الإيمان والصلاح والإسلام والتوحيد والطاعة، والسنة أعظم في المرء المسلم، كان أولى بأن يكرم، ويعز وأن يبتعد عن احتقاره، ويقابله المشرك، فإنه مهما كان من ذوي المال، أو ذوي الجاه، أو ذوي الرفعة، فإن جسده فيه روح خبيثة حملت الشرك بالله، والاستهزاء بالله ومسبة الله جل وعلا. والمحب لله -جل وعلا- يكره، ويحتقر هذا الذي معه الاستهزاء بالله والنيل من الله -جل وعلا- وادعاء الشريك معه، فإذا يعظم المسلم أخاه المسلم، ويحترمه، ولا يحتقره بما معه من الإيمان والتوحيد. قال: ( التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ) التقوى محلها القلب، وهذا معنى إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره ثلاث مرات. قال: ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) دم المسلم حرام أن يسفك بغير حق، وكذلك ماله حرام أن يؤخذ بغير حق، وكذلك عرضه حرام أن ينال منه بغير حق، فالنيل من الأعراض بالغيبة والنميمة، أو أن ينال من أهل الرجل، أو من أسرته، أو أن يتصرف في ماله بغير إذنه، أو أن يأخذ ماله، أو أن يعتدي على شئ من أملاكه، وكذلك أن يعتدي على دمه، وهذا أعظمه، هذا كله حرام. والشريعة جاءت بتحقيق هذا الأمر فيما بين المسلمين، وفي مجتمع الإسلام بأن تكون الدماء حراما، والأموال حراما، والأعراض حراما، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه -عليه الصلاة والسلام- قال في خطبته يوم عرفة: ( ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ) . إنتهى شرح الحديث الخامس والثلاثون تحياتي :) |
الحديث السادس والثلاثون من نفس عن مؤمن كربة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مؤمنا ستره الله في الدين والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطئ به عمله لم يسرع به نسبه ) رواه مسلم. قال -عليه الصلاة والسلام-: ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ) الكربة: ما يكون معه الضيق والضنك والشدة على المسلم؛ ولهذا ناسب معها تنفيس؛ لأنها تستحكم من جميع الجوانب من جهة نفس المؤمن، وقلبه وما يجول فيه، ومن جهة يده ومن جهة ما حوله، فتستحكم عليه حتى تضيق به الأرض الواسعة؛ فهنا إذا نفس عنه فبقدر ذلك التنفيس يكون الثواب. قال -عليه الصلاة والسلام-: ( من نفس عن مؤمن كربة ) وهذا فيه إطلاق يعني: أي كربة من كرب الدنيا، فيدخل في ذلك الكرب النفسية والكرب العملية، وما يدخل في تنفيسه في الكلمة الطيبة، وما يدخل تنفيسه في المال، وما يدخل تنفيسه في بذل الجاه، فتنفيس الكربة عام إلى آخره. والكرب هنا -أيضا- عامة فمن نفس عن مؤمن كربة بأن يسر له السبيل إلى التخلص منها، أو خفف عليه من وطأة الكربة والشدة والضيق الذي أصابه، كان جزاؤه عند الله -جل وعلا- من جنس عمله لكن في يوم هو أحوج إلى هذا التنفيس من الدنيا؛ ولهذا كان الثواب في الآخرة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ) . .. يتبع .. |
قال: ( ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) المعسر هو الذى عليه حق لغيره لا يستطيع أداؤه، والتيسير على المعسر يكون بأشياء منها أن يعطيه مالا؛ ليفك به إعساره، أو أن يكون الحق له فيضعه عن المعسر، فيخفف عنه وقد قال -جل وعلا-: ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) فالتيسير على المعسر من الأمور المستحبة، ومن فضائل الأعمال، ومن الصدقات العظيمة قال هنا -عليه الصلاة والسلام- : ( ومن يسر على معسر ) يعني: خفف عنه شأن إعساره بإعطائه مالا ، أو بإسقاط بعض المال الذي عليه، أو بإسقاط المال كله، أو في التخلص من الإعسار، ( يسر الله عليه ) جزاء وفاقا على ما يسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. وهذا من الثواب الذي جعل في الدنيا والآخرة، فلا بأس من أن يقصده المسلم في أن ييسر على إخوانه رغبة فيما عند الله -جل وعلا- ورغبة في أن ييسر عليه في الدنيا والآخرة؛ لأن هذا كما ذكرنا في شرح حديث: ( إنما الأعمال بالنيات ) . لا ينافي الإخلاص، فإن العمل إذا رتب عليه الثواب في الدنيا، أو في الدنيا والآخرة، وجاءت الشريعة بذلك، فإن قصده مع ابتغاء وجه الله -جل وعلا- والإخلاص له لا حرج فيه، قال: ( ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة ) ( من ستر مسلما ) مسلم : هنا -أيضا- تعم جميع المسلمين سواء أكانوا مطيعين صالحين، أم كانوا فسقة، فإن الستر على المسلم من فضائل الأعمال، بل جعله طائفة من أهل العلم واجبا، فإن المسلم الذي ليس له ولاية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب عليه أن يستر أخاه المسلم ، أو يتأكد عليه أن يستر، فإذا علم منه معصية كتمها، وإذا علم منه قبيحا كتمه، وسعى في مناصحته وتخليصه منه. وأما أهل الحسبة، أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنهم يجوز لهم أن يعلموا هذا فيما بينهم، لكن لا يجوز لهم أن يتحدثوا بما قد يقترفه بعض المسلمين من الذنوب والآثام والقاذورات والمعاصي؛ لأن هذا -أيضا- داخل في عموم الستر ( من ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة ) لكن الحاجة إلى تأديبه قائمة، فهؤلاء لهم أن يتداولوا أمره بحسب الحاجة الشرعية، وهذا ينبغي التنبيه عليه كثيرا لمن يلي مثل هذه الأمور، في أنهم قد يتوسعون في الحديث عن أهل العصيان، وعمن يقبضون عليه ممن يرتكب جرما، أو يرتكب ذنبا، أو معصية في تأديبه رحمة به، فمثل هؤلاء ينبغي لهم أن يكتموا القضايا التي يتداولونها فيما بينهم، وألا يذكروا شيئا منها إلا لمحتاج إلى ذلك لحاجة الشرع. .. يتبع .. |
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) هذا فيه حث على أن يعين المرء أخاه بأعظم حث، حيث جعل أن العبد إذا أعان أخاه، فإن الله في عونه، فإذا كنت في حاجة أخيك كان الله في حاجتك، وإذا أعنت إخوانك المسلمين، واحتجت إلى الإعانة، فإن الله يعينك، وهذا من أعظم الفضل والثواب. قال: ( ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة ) وهذا فيه الحث والترغيب على سلوك طريق العلم، والرغبة فيه، فأي طريق من طرق العلم سلكته، فإن الله -جل وعلا- يسهل لك به طريقا إلى الجنة، مع شرط إخلاصك في طلب العلم؛ لأن العلم باب من أبواب الجنة، والجنة لا تصلح إلا لمن علم حق الله، جل وعلا. فمن طلب العلم، ورغب فيه مخلصا لله -جل وعلا- سهل الله له به طريقا إلى الجنة قال: ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة… ) الحديث، قوله: ( وما اجتمع قوم ) استدل به على أن هذا لا يخص به قوم من قوم، فيصلح أن يكون هؤلاء المجتمعون من العلماء، أو من طلبة العلم، أو من العامة، أو من العباد، أو من غيرهم، فالمساجد تصلح للاجتماع فيها لتلاوة كتاب الله، ولتدارسه، فإذا اجتمع أي قوم، أي فئة لأجل تلاوة كتاب الله وتدارسه، فإنهم يتعرضون لهذا الفضل العظيمز قال: ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ) والمراد بذلك المسجد، والمسجد بيت الله، إضافة تشريف للمسجد؛ لأنه بيت يطلب فيه رضا الله ، جل جلاله. .. يتبع .. |
قال: ( يتلون كتاب الله ) هذا حال أولئك الذين يتلون كتاب الله، والمقصود بذلك أن يتلو واحد منهم، والبقية يسمعون كما كان عليه هدي السلف، أما التلاوة الجماعية، فهي محدثة، ولا تقر، وإنما الذي كان عليه عمل الصحابة، وما بعدهم أنهم يجعلون قارئا يقرأ القرآن، ثم يستمع البقية، وقد يتناوبون القراءة فيما بينهم، ويتدارسون كلام الله، جل وعلا. قال: ( إلا نزلت عليهم السكينة ) السكينة: هذه هي الطمأنينة، والروح والرحمة التي تكون من الله -جل وعلا- ( نزلت عليهم السكينة ) نفهم من ذلك أنها من عند الله -جل وعلا- لأنه قال: "نزلت عليهم " وهذا فيه تعظيم لها. قال: ( وغشيتهم الرحمة ) وقوله: ( غشيتهم الرحمة ) هذا فيه أن الرحمة صارت لهم غشاء، يعني: أنها اكتنفت هؤلاء من جميع جهاتهم، فلا يتسلط عليهم شيطان، يعني: وهم على تلك الحال، بل الرحمة اكتنفتهم من جميع الجهات، فصارت عليهم كالغشاء، وهذا من فضل الله العظيم عليهم، حيث تعرضوا للرحمة، فصارت غشاء عليهم، لا ينفذ إليهم غيرها. قال: ( وحفتهم الملائكة ) وأيضا كلمة ( حفتهم الملائكة ) يعني: أحدقت بهم بتراص، حيث لا ينفذ إليهم من الخارج، وهذا كما قال -جل وعلا-: ( وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {75} الزمر ، فحف الملائكة بالشيء، يعني: بالعرش، أو بهؤلاء الذين يتلون، يعني: أنهم أحدقوا بهم من جميع الجهات ، وتراصوا بحيث كانوا حافين بهم، وهذا يدل على أن هؤلاء تعرضوا لفضل عظيم، لا يتسلط عليهم - وهم إذ ذاك- شيطان إلا ما كان من هوى أنفسهم. والقرينة، قال: ( وذكرهم الله فيمن عنده ) والذكر هنا معناه الثناء، يعني: أثنى الله عليهم فيمن عنده، ومن عنده؟ هم الملائكة المقربون، كما قال -جل وعلا-: ( لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً {172}النساء ، فالملائكة المقربون هم الذين عند الله -جل وعلا- ، وقال بعده: ( ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه ) فيه أن التفاخر بالأنساب، والظن أنه لأجل النسب يكون المرء محبوبا عند الله -جل وعلا- هذا جاءت الشريعة بإبطاله، والأمر على التقوى والعمل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13} الحجرات ، فالتقوى هي مدار التفضيل، ومدار التفاضل بين الناس. إنتهى شرح الحديث السادس والثلاثون تحياتي :) |
الحديث السابع والثلاثون إن الله كتب الحسنات والسيئات عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: ( إن الله الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة، فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها، فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة، فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها، فعملها كتبها الله سيئة واحدة ) رواه البخاري ومسلم بهذه الحروف. قوله هنا: "فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى" يعني: أن هذا حديث قدسي قال: ( إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك ) يعني: كتبها عنده، فبينها في القرآن، بين ما تكون به الحسنة، وبين ما تكون به السيئة، يعني: بين العمل الذي يكتب للمرء به حسنة، وبين العمل الذي يكتب للمرء به سيئة قال: ( فمن هم بحسنة فلم يعملها ) إلى آخره استدل به على أن الملكين اللذين يكتبان ما يصدر عن العبد، دل على أنهما يعلمان ما يجول في قلبه، الهم معلوم للملك، وهذا بإقدار الله -جل وعلا- لهم إطلاعه إياهم وإذنه بذلك. قد كان بعض الأنبياء يعلم ما في نفس الذي أمامه، والنبي -صلى الله عليه- وسلم أخبر رجلا بما في نفسه، وهكذا حصل من عدد من الأنبياء، فهذا من أنواع الغيب الذي يطلع الله -جل وعلا- إياه من شاء من عباده، فالملائكة أطلعهم الله -جل وعلا- على ذلك كما قال سبحانه: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) ) الجن . والرسول هنا يدخل فيه الرسول الملكي، والرسول البشري قال: ( فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ) لأن الهم نوع من الإرادة، وإرادته للحسنة طاعة، فيكتبها الله -جل وعلا- له من رحمته ومنه وكرمه، يكتبها له حسنة. قال: ( فإن هم بها، فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ) يعني: أنه إن هم بالحسنة فعملها، فأقل ما يكتب له عشر حسنات، وقد يصل ذلك إلى سبعمائة ضعف بحسب الحال وقد ذكرنا لكم تفاصيل ذلك في أوائل هذا الشرح، فإن المسلمين يتفاوتون في ثواب الحسنة، منهم من إذا عملها كتبت له عشر أضعاف، ومنهم من إذا عملها كتبت له سبعمائة ضعف، ومنهم مائتا ضعف، ومنهم من تكتب له أكثر من ذلك إلى سبعمائة ضعف، بل إلى أضعاف كثيرة، وهذا يختلف كما ذكرنا باختلاف العلم وتوقير الله -جل وعلا- والرغب في الآخرة؛ ولهذا كان الصحابة - رضوان الله عليهم - أعظم هذه الأمة أجورا، وكانوا أعظم هذه الأمة منزلة. .. يتبع .. |
وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ( والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه ) يعني: أنهم مع قلة ما ينفقون وما عملوا، فإنهم أعظم مما لو أنفق أحدكم، وهؤلاء في متأخري الإسلام ، فكيف بمن بعدهم؟ لو أنفقوا مثل أحد ذهبا، وهذا يختلف باختلاف حسن الإسلام وحسن اليقين إلى آخره. قال: ( وإن هم بسيئة، ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ) "إن هم بسيئة" يعني: أراد سيئة، فلم يعملها، فهذا فيه تفصيل: إن تركها من جراء الله -جل وعلا- يعني: خشية لله ورغبا فيما عنده، فإنه تكتب له حسنة كما ذكر في هذا الحديث وقد جاء في حديث آخر أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ( فإنما تركها من جرائي ) فإذا ترك السيئة التي هم بها، فتركها: يعني فلم ينفذها عملا لله -جل وعلا- فهذا تكتب له حسنة؛ لأن إخلاصه قلب تلك الإرادة السيئة إلى إرادة حسنة، والإرادة الحسنة والهم بالحسن يكتب له به حسنة. والحال الثانية: أن يهم بالسيئة فلا يعملها؛ لأجل عدم تمكنه منها، والنفس باقية في رغبتها بعمل السيئة، فهذا وإن لم يعمل، فإنه لا تكتب له حسنة في ذلك، بل إن سعى في أسباب المعصية، فإنه تكتب عليه سيئة، كما جاء في الحديث: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) . قال العلماء: إذا تمكن المرء من أسباب المعصية، وصرفه صارف عنها، خارج عن إرادته، فإنه يجزى على همه بالسيئة سيئة، ويكون مؤاخذا بها بدلالة حديث: ( القاتل والمقتول في النار ) . قال: ( وإن هم بها، فعملها كتبها الله سيئة واحدة ) وهذا من عظيم رحمة الله -جل وعلا- بعباده المؤمنين أنهم إذا عملوا سيئة لا تضاعف عليهم، بل إنما يكتبها الله -جل وعلا- عليهم سيئة واحدة، وأما الحسنات فتضاعف عليهم؛ ولهذا لا يهلك على الله يوم القيامة إلا هالك، لا ترجح سيئات أحد على حسناته إلا هالك؛ لأن الحسنات تضاعف بأضعاف كثيرة، وحتى الهم بالسيئة إذا تركه تقلب له حسنة، والسيئة تكتب بمثلها، فلا يظهر بذلك أن يزيد ميزان السيئات لعبد على ميزان الحسنات إلا، وهو خاسر، وقد سعى في كثير من السيئات، وابتعد عن الحسنات. بهذا نشكر الله -جل وعلا- ونحمدك ربي على إحسانك وفضلك ونعمتك على هذا الكرم، وعلى هذه النعمة العظيمة، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. إنتهى شرح الحديث السابع والثلاثون تحياتي :) |
الحديث الثامن والثلاثون من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ( إن الله تعالى قال: من عاد لي وليا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري. هذا حديث -أيضا- عظيم قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: إن الله تعالى قال - وهو حديث قدسي- ( من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب ) عادى: يعني: اتخذ الولي عدوا، وهذا معناه أنه أبغضه قال العلماء: إن أبغض الولي؛ لما هو علي من الدين، فهذا ظاهر دخوله في الحديث، وأما إن عاداه لأجل الدنيا، وحصل بينه وبينه خصومات؛ لأجل الدنيا فهذا فيه تفصيل، إن صار معه خصومات بغضاء وكره، فإن يخشى عليه أن يدخل في هذا الحديث، وأما إن كانت الخصومات بدون بغضاء، فإنه لا يدخل في هذا الحديث، يعني: لا يكون مؤذنا بالحرب، وذلك لأن سادات الأولياء من هذه الأمة قد وقعت بينهم خصومات، فتخاصم عمر وأبو بكر في عدة مجالس، وتخاصم ابن عباس، بل العباس وعلي وحصل بينهم خصومة، وتراجعا إلى القاضي، وهكذا في عدد من الأحوال. فوقوع الخصومة بلا بغضاء لولي من أولياء الله -جل وعلا- فهذا لا يدخل في ا هذا الحديث، وأما إذا أبغض وليا من أوليا الله -جل وعلا- فإنه مؤذن بالحرب، يعني: قد أذنه الله -جل وعلا- بحرب من عنده، وإيذانه بالحرب معناه: أنه أعلم وأنظر بأنه سيعاقب من الله -جل وعلا- إذ حرب الله -جل وعلا- إيصال عذابه ونكاله لعباد ، قال: ( من عاد لي وليا ) والولي عند أهل السنة والجماعة عرف بأنه: يعني عرفه بعض العلماء بأنه: كل مؤمن تقي ليس بنبي، هذا الولي في الاصطلاح عند أهل السنة والجماعة، يعني: أن الولي كل من عنده إيمان وتقوى. والإيمان والتقوى يتفاضلا، فتكون الولاية، يعني محبة الله -جل وعلا- لعبده ونصرته لعبده تكون تلك الولاية متفاضلة، وإنما يقصد بالولي من كمل بحسب استطاعته الإيمان والتقوى، وغلب عليه في أ حواله الإيمان والتقوى، وذلك لقول الله -جل وعلا-: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) ) يونس ، فجعل الأولياء هم المؤمنين المتقين، إذن فمن عاد مؤمنا متقيا قد سعى في تكميل إيمانه وتقواه بحسب قدرته، ولم يعرف عنه ما يخدش كمال إيمانه، وكمال تقواه، فإنه مؤذن بحرب من الله يعني: معلم ومهدد بإيصال عقوبة الله -جل وعلا- له؛ لأن هذا الولي محبوب لله -جل وعلا- منصور من الله -جل وعلا- والواجب أن تحب المرء لمحبة الله -جل وعلا له. قال: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) يعني: أن أحب القربات إلى الله -جل وعلا- أن يتقرب إليه بها العبد أن يتقرب العبد بالفرائض، هذه أحب القربات إلى الله -جل وعلا-: الصلوات الخمس، حيث تصلى وتقام، والزكاة المفروضة، والصيام المفروض، والحج المفروض ، والأمور الواجبة، وكل أمر افترضه الله -جل وعلا- عليه فالتقرب إليه به. وأحب الأشياء إليه -جل وعلا- وهذا خلاف ما يأتي لبعض النفوس، في أنهم يحصل عندهم خشوع و تذلل في النوافل ما لا يحصل في الفرائض، بل ويرجون بالنوافل ما لا يرجون بالفرائض، وهذا خلاف العلم، والله -جل جلاله- كما جاء في هذا الحديث القدسي : إنما يحب بل أحب ما يتقرب إليه به -جل وعلا- ما افترضه سبحانه. فافترض الله -جل وعلا- الفرائض؛ لأنه يحب أن يتعبد بها .. يتبع .. |
قال: ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) يعني: لا يزال يتقرب بالنوافل: نوافل العبادات بعد الفرائض؛ حتى يحبه الله -جل وعلا- وهذا يعني: أنه صار له كثرة النوافل وصفا، بحيث كثر منه إتيانه بنوافل العبادات من صلاة وصيام وصدقات وحج وعمرة وأشباه ذلك. قال: ( حتى أحبه ) وهذا يدل على أن محبة الله -جل وعلا -تجلب بالسعي في طاعته بأداء النوافل، والسعي فيها بعد أداء الفرائض، والتقرب إلى الله -جل وعلا- بها. قال: ( فإذا أحببته ) لمحبة الله -جل وعلا - لعبده أثر، فما هذا الأثر؟ قال: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به… ) إلى آخره ، هذا فسره علماء الحديث وعلماء السنة بقوله: ( كنت سمعه الذي يسمع به ) يعني: أوفقه وأسدده في سمعه وفي بصره، وفي ما يعمل بيده، وفيما يمشي إليه برجله، فمعنى قوله: ( كنت سمعه ) يعني: أوفقه في سمعه، وهذا ليس من التأويل؛ لأن القاطع الشرعي النصي أن الله -جل وعلا - لا يكون بذاته سمعا، ولا يكون بذاته بصرا، ولا يكون بذاته يدا، ولا يكون بذاته رجلا -جل وعلا - وتقدس وتعاظم ربنا، فدل على القاطع الشرعي على أن قوله: ( كنت سمعه الذي يسمع به ) يعني: أنه يوفق في سمعه، ويسدد فلا يسمع إلا ما يحب الله -جل وعلا - أن يسمع، ولا يبصر إلا ما يحب الله -جل وعلا - أن يبصر، ولا يعمل بيده ولا يبطش بيده إلا بما يحب الله -جل وعلا - أن يعمل باليد، أو يبطش بها، وكذلك في الرجل التي يمشي بها، وغلاة الصوفية استدلوا بهذا على مسألة الحلول، وهناك رواية موضوعة زادوها في هذا الحديث بعد قوله: ( ورجله التي يمشي بها ) قال: " وحتى يقول للشيء كن فيكون "، وهذا من جراء عقيدة الحلول، وهذه مروية لكنها بأسانيد منكرة، وحكم عليها طائفة من أهل العلم بالوضع. قال: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) يعني: والله لئن سألني لأعطينه؛ لأن اللام في قوله " لئن " هذه واقعة في جواب القسم، ويكون قبلها قسم، ( لئن سألني لأعطينه ) يعني: والله لئن سألني لأعطينه، ما سأل يعني: أن يكون مجاب الدعوة ( ولئن استعاذني لأعيذنه ) وهذا فرع من الجملة قبلها، جعلني الله وإياكم من خاصة عباده وأوليائه. إنتهى شرح الحديث الثامن والثلاثون تحياتي :) |
الف شكر اخى الفاضل
بارك الله فيك وجزاك الله خير الجزاء وجعل هذا الموضوع القيم والمميز فى ميزان حسناتك |
إقتباس:
وجزاك أنت أيضا أخي الكريم خير الجزاء على مرورك العاطر ، ودعواتك الطيبات تحياتي :) |
الحديث التاسع والثلاثون إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ) حديث حسن، رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما. هذا الحديث -أيضا- فيه بيان فضل الله -جل وعلا - ورحمته بالمؤمنين قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ) ففي قوله: ( إن الله تجاوز لي ) ما يفهم أن هذا من خصائص هذه الأمة، فغيرنا من الأمم إذا هم بالعبد بحسنة لم تكتب له حسنة، وإذا هم بسيئة فتركها لم تكتب له حسنة، وكذلك في خصائص كثيرة ومنها: التجاوز عن الخطأ والنسيان، فرحم الله -جل وعلا - هذه الأمة بنبيها صلى الله عليه وسلم وتجاوز لها عن الخطأ والنسيان. ولما نزل قول الله -جل وعلا - في آخر سورة البقرة: ( لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) ، شق ذلك على الصحابة - رضوان الله عليهم - جدا حتى نزلت الآية الأخرى، وهي قوله -جل وعلا -: ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) البقرة ، فدعا بها الصحابة - رضوان الله عليهم - قال الله -جل وعلا-: قد فعلت، وقوله -جل وعلا -: قد فعلت، في معنى هذا الحديث، بل هذا الحديث في معنى الآية، فدل ذلك على أن من أخطأ، فإنه لا إثم عليه، ومن نسي فلا إثم عليه، لكن هذا مختص بالحكم التكليفي. أما الحكم الوضعي، فإنه يؤاخذ بخطئه وبنسيانه يعني: ما يتعلق بالضمانات، فإذا أخطأ، فقتل مؤمنا خطأ، فإنه يؤاخذ بالحكم الوضعي عليه بالدية، وما يتبع ذلك وأما الإثم، فإنه لا إثم عليه؛ لأنه أخطأ وكذلك إذا أخطأ، فاعتدى على أحد في ماله، أو في جسمه، أو في أشباه ذلك، فإنه لا إثم عليه من جهة حق الله -جل وعلا - . أما حق العباد في الحكم الوضعي، فإنهم مؤاخذون به، يعني أن الآية، والحديث دلا على التجاوز فيما كان في حق الله؛ لأن الله هو الذي تجاوز، وتجاوزه -جل وعلا - عن حقه -سبحانه وتعالى- وهذا هو المتعلق بالحكم التكليفي، كما هو معروف في بحثه في موضوعه، في علم أصول الفقه، والخطأ غير النسيان، وكذلك الإكراه ما يكره عليه -أيضا- يختلف عنهما، فالخطأ إرادة الشيء وحصول غيره من غير قصد لذلك، والنسيان الذهول عن الشيء، والإكراه، أو قوله: ( ما استكرهوا عليه ) يعني: ما أكرهوا عليه، فعملوا شيئا على جهة الإكراه، والله -جل وعلا - قال: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) الآية في سورة النحل وهذا فيه من حيث التفريعات الفقهية مباحث كثيرة نطويها؛ طلبا للاختصار. إنتهى شرح الحديث التاسع والثلاثون تحياتي :) |
الحديث الأربعون كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. ) رواه البخاري. هذا الحديث، حديث ابن عمر رضي الله عنه ووصية النبي صلى الله عليه وسلم له به حياة القلوب؛ لأن به الابتعاد عن الاغترار بهذه الدنيا بشباب المرء، أو بصحته، أو بعمره، أو بما حوله. قال ابن عمر - رضي الله عنهما - : ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي ) وهذا يدل على الاهتمام بابن عمر، وكان إذ ذاك شابا صغيرا في العشر الثانية من عمره، قال: أخذ بمنكبي، فقال: ( كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل ) وهذه من أعظم الوصية المطابقة للواقع لو عقل الناس، فإن الإنسان ابتدأ حياته في الجنة ونزل إلى هذه الأرض ابتلاء، فهو فيها غريب ، أو عابر سبيل، فزيارته للدنيا - زيارة الجنس البشري - بأجمعه للدنيا هذه زيارة غريب، وإلا فإن مكان آدم ومن تبعه على إيمانه وتقواه وتوحيد الله -جل وعلا - والإخلاص له، فالمنزل هو الجنة، وإنما أخرج آدم من الجنة ابتلاء وجزاء على معصيته، وهذا إذا تأملته وجدت أن المرء المسلم حقيق أن يوطن نفسه، وأن يربيها على أن منزله الجنة، وليس هي هذه الدنيا، وهو في هذه الدنيا في دار ابتلاء، وإنما هو غريب، أو عابر سبيل كما قال المصطفى، صلى الله عليه وسلم . وما أحسن استشهاد ابن القيم - رحمه الله تعالى - إذا ذكر أن حنين المسلم للجنة، وأن حبه للجنة ورغبه فيها هو بسبب أنها موطنه الأول، وأنه هو الآن سبي للعدو، ورحل عن أوطانه بسبب سبي إبليس لأبينا آدم، وهل ترى أن يرجع إلى داره الأولى أم لا ولهذا ما أحسن قول الشاعر: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... مـا الحـب إلا للحبيب الأول وهو الله -جلا جلاله-: كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينـــه أبــدا لأول مــنزل وهي الجنة. وهذا إنما يخلص له قلب المنيبين إلى الله -جل وعلا - دائما، المخبتين له، الذين تعلقت قلوبهم بالله حبا ورغبا ورهبا وطاعة، وتعلقت قلوبهم بدار الكرامة بالجنة، ويعملون لها وكأنها بين أعينهم، فهم في الدنيا كأنهم غرباء، أو كأنهم عابرو سبيل، ومن كان على هذه الحال غريب، أو عابر سبيل، فإنه لا يأنس بمقامه؛ لأن الغريب لا يأنس إلا بين أهله، وعابر السبيل دائما على عجل من أمره، وهذه حقيقة الدنيا، فإنه لو عاش ابن آدم ما عاش، عاش نوح ألف سنة منها تسعمائة وخمسون سنة في قومه: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) العنكبوت ، ثم مضت وانتهت، وعاش أقوام مئات السنين ومضوا وانتهوا، وعاش قوم مائة سنة وثمانين، وأربعين وخمسين. فالحقيقة أنهم غرباء وعابرو سبيل، مروا بهذه الدنيا وذهبوا، والموت يصبح المرء ويمسيه، فيجب على المرء أن ينتبه إلى نفسه، وأعظم ما يصاب به العبد أن يصاب بالغفلة عن هذه الحقيقة ، الغفلة عن حقيقة الدنيا ما هي، فإذا من الله عليك بمعرفة حقيقة الدنيا، وأنها دار غربة، وأنها دار ابتلاء، دار اختبار، دار ممر وليست دار مقر، فإنه يصحو قلبه، وأما إذا غفل عن هذه الحقيقة، فإنه يصاب قلبه من مقاتله، أيقظنا الله وإياكم من أنواع الغفلات. ابن عمر رضي الله عنه كان يوصي بمقتضى الوصية، فيقول: ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ) يعني: كن على حذر دائما من الموت أن يفاجأك، فكن على استعداد، وقد قيل في عدد من علماء السلف علماء الحديث: كان فلان لو قيل له: إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله. لو قيل له : إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله، وهذا يكون باستحضار حق الله -جل وعلا - دائما، وأنه إذا تعبد، فإنه يستحضر ذلك، ويخلص فيه لربه، وإذا خالف أهله يكون على الإخلاص وامتثال الشريعة ، وإذا باع، أو اشترى يكون على الإخلاص، ويكون على الرغب في إتيان الحلال، وهكذا في كل أمر يأتيه، فإنه يكون على علم، وهذا فضل أهل العلم أنهم إذا تحركوا وعملوا، ففي كل حال يكونون فيه يستحضرون الحكم الشرعي فيه، فيمتثلون، أو يفعلون، وإن غلطوا، أو إن أذنبوا فسرعان ما يستغفرون، فيكونون بعد الاستغفار أمثل مما هم قبله، وهذه مقامات؛ ولهذا قال: ( وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك ) رواه البخاري. إنتهى شرح الحديث الأربعون تحياتي :) |
اخي الفاضل الوافي بارك الله فيك وجزاك الله الجنة |
إقتباس:
وفيك أختي الفاضلة وشكرا لك على دعوتك الطيبة تحياتي :) |
الحديث الحادي والأربعون لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح. هذا الحديث حديث مشهور؛ وذلك لكونه في كتاب التوحيد قال -عليه الصلاة والسلام-: ( لا يؤمن أحدكم، حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) وهذا حديث حسن، كما حسنه هنا النووي، بل قال: حديث حسن صحيح، وسبب تحسينه أنه في معنى الآية، وهي قوله -جل وعلا -: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (65) النساء ، وتحسين الحديث، بمجيء آية فيها معناه. مذهب كثير من المتقدمين من أهل العلم كابن جرير الطبري ، وجماعة من حذاق الأئمة والمحدثين. وقوله هنا: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) يعني: الإيمان الكامل لا يكون، حتى يكون هوى المرء ورغبة المرء تبعا لما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم يعني: أن يجعل مراد الرسول صلى الله عليه وسلم مقدما على مراده، وأن يكون شرع النبي صلى الله عليه وسلم مقدما على هواه ، وهكذا، فإذا تعارض رغبه وما جاء به، جاءت به السنة، فإنه يقدم ما جاءت به السنة وهذا جاء بيانه في آيات كثيرة، وفي أحاديث كثيرة ، كقول الله -جل وعلا -: في سورة التوبة ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ) …الآية إلى أن قال: ( أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) فالواجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإذا كان كذلك فسيكون هوى المرء تبعا لما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم . إذاً في قوله: ( لا يؤمن أحدكم ) هذا فيه نفي لكمال الإيمان الواجب وهذا ظاهر من القاعدة التي سبق أن ذكرناها لكم إنتهى شرح الحديث الحادي والأربعون تحياتي :) |
الحديث الثاني والأربعون والأخـــــــير يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال الله -تعالى- : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، والله أعلم وصلى الله على محمد عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله -تعالى-: ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ) المقصود بابن آدم هنا المسلم الذي اتبع رسالة الرسول الذي أرسل إليه، فمن اتبع رسالة موسى -عليه السلام- في زمنه كان منادى بهذا النداء، من اتبع رسالة عيسى في زمنه كان منادى بهذا النداء. وبعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من يحظى على هذا الأجر وعلى هذا الفضل والثواب هو من اتبع المصطفى صلى الله عليه وسلم وأقر له بختم الرسالة، وشهد له بالنبوة والرسالة، واتبعه على ما جاء به. قال -جلا وعلا- : ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ) وهذه الجملة في معنى قول الله -جل وعلا -: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر فالعبد إذا أذنب وسارع إلى التوبة، ودعا الله -جل وعلا - أن يغفر له، ورجى ما عند الله -جل وعلا - فإنه يغفر له على ما كان منه من الذنوب مهما كانت بالتوبة ( التوبة تجب ما قبلها ) . وقوله -جل وعلا - هنا: ( إنك ما دعوتني ورجوتني ) فيه أن الدعاء مع الرجاء موجبان لمغفرة الله -جل وعلا - وهناك من يدعو، وهو ضعيف الظن بربه، لا يحسن الظن بربه وقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: قال الله -تعالى-: ( أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء ) والعبد إذا دعا الله -جل وعلا - مستغفرا لذنبه يدعو مستغفرا ومستحضرا أن فضل الله عظيم، وأنه يرجو الله أن يغفر، وأن الله سيغفر له. فإذا عظم الرجاء بالله، وأيقن أن الله -جل وعلا - سيغفر له، وعظم ذلك في قلبه، حصل له مطلوبه؛ لأن في ذلك إحسان الظن بالله، وإعظام الرغبة بالله -جل وعلا - وهناك عبادات قلبية كثيرة تجتمع على العبد المذنب حين طلبه الاستغفار وقبول التوبة، حين طلبه المغفرة وقبول التوبة، تجتمع عليه عبادات قلبية كثيرة توجب مغفرة الذنوب فضلا من الله -جل وعلا - وتكرما. .. يتبع .. |
Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.