أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   خيمة الثقافة والأدب (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=9)
-   -   رواية ... (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=28617)

ساعدة 27-11-2002 02:57 AM

رواية ...
 
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

قرأت هذه الرواية ...

فأعجبتني..

فأحببت أن تطلعوا عليها..

و إليكم ..

الفصل الأول

في "ورشة" عملنا الصغيرة، تجتمع بضعة شعوب، وتلتقي عدة عروق وجنسيات..!‏

فأنت لو تجولت قليلاً بين العمال، وتابعت حركاتهم وتصرفاتهم، وتفرست في ملامحهم وهيئاتهم... لفوجئت بتلك الوجوه المختلفة، والعادات المتغايرة، والمواقف المتباينة..‏

ولو أنك أرهفت السمع، وأصغيت إلى أحاديثهم وهمساتهم، لوجدت عجباً!. فهذا لسان يتحرك بالأوردية، وهذه ألسنة تلهج بالتركية، وتلك نبرات حادة مميزة تشعرك بأن صاحبها كردي..‏

هذا بالإضافة -طبعاً- إلى اللغة العربية... والتي يتكلم بها المقاول أبو عدنان ومن معه من العمال السوريين، والمصريين، والأردنيين، واليمنيين، وغيرهم.. وهؤلاء جميعاً يشكلون المجموعة الكبرى والرئيسة بين مجموعات العمال..‏

عفواً.. أيها الأعزاء!.‏

لقد استرسلت في حديثي، وبدأته بداية غريبة من غير أن أعرفكم بنفسي: من أنا؟. وما صفتي؟. بل من دون أن أذكر لكم شيئاً عن الورشة التي أعمل بها.. أين هي، وماذا تنفذ؟.‏

أصلحني الله، فهذا طبعي دائماً، أبدأ الحديث بأشياء تخطر في ذهني وقت الحديث، فأنقلها إلى المستمع كيفما اتفق، من غير اعتبار لتسلسل معقول أو مقدمة مناسبة!...‏

على كل حال.. أنا تحسين.. تحسين الدمشقي.. شاب في مقتبل العمر.. مازلت خارج القفص الذهبي.. أعيش منذ سنوات في ديار الغربة، وأنا أعمل حالياً في ورشة المقاول السوري (أبو عدنان).. هذه الورشة نيط بها مهام بناء مدرسة حديثة في قرية منعزلة، ما برحت معالم التخلف تبدو واضحة في أزقتها وشوارعها ومساكنها.‏

عندما جاء أبو عدنان أول مرة، وعرض علي العمل معه كمعلم كهرباء.. سألته:‏

-وأين.. مكان العمل يا أبا عدنان؟..‏

أجابني: في منطقة تدعى (العويس)؟.‏

قلت له: وهل هي جديرة بالسكن؟..‏

هز أبو عدنان رأسه، وسحب نفساً طويلاً من (سيكارته) ثم قال:‏

-لا أخفي عنك، المنطقة يا تحسين متخلّفة، ومحرومة من كثير من الخدمات.. ولكن اطمئن، ستعيش في مسكن نظيف، وستلبى كل طلباتك..‏

ولم أعط أبا عدنان جواباً سريعاً، إذ ليس من عادتي الإفصاح عن رأيي بسرعة، أحب، أحب دائماً أن أفكر طويلاً قبل إبرام أي أمر، فكيف والأمر متعلق بعمل قد يستغرق شهوراً طويلة، وفي مكان لا أعرفه، ولم اسمع به من قبل!.‏

واتفقت مع أبي عدنان على أن يزورني في اليوم التالي، كي أبدي له موافقتي أو عدمها..‏

-2-‏

في هدأة الليل يدهمك القلق، وتصارعك الوساوس والهواجس، وتعود إلى ذاكرتك صور الأمس البعيد والقريب، وبخاصة إذا كنت مقبلاً على مشروع جديد... لا تعرف مصاعبه ولا تدرك نتائجه، فأنت تراه حلقة مجهولة من حلقات تلك السلسلة التي بدأت منذ أن لمست قدماك أرض الغربة، وشرعت تمشي بإصرار وعناد في طريق مزروعة بالأشواك محفوفة بالعذاب..‏

بت ليلتي أدور في أرجاء البيت، ألوب، كما لو أنني أضعت شيئاً..‏

بت ليلتي، والحيرة تمزقني، والتردد يقهرني، والقرار الصعب الذي أريد الإمساك به يتملص من بين يدي!.‏

هل أقبل هذا العمل أم لا..‏

إنني في حالة يرثى لها، وموقفي محرج للغاية.. إنني هنا في ديار الغربة منذ خمس سنوات.. لقد كان العمل متوفراً في بداية مجيئي، لكنه الآن يعاني من القلّة! وهو -إن وجد- فجدواه ضئيلة!... لم تعد المدن الكبرى تطعم خبزاً، الخبز فيها يحتاج إلى اللف والدوران، وإلى أساليب غريبة أعجز عن ممارستها.. كثيرون الذين يتجهون الآن إلى الريف والقرى، فهناك وإن كانت الحياة صعبة، فالمال متوفر والجدوى طيبة..‏

هذه ناحية...‏

والمشكلة الثانية أنني فقدت بطاقة الإقامة، أو بمعنى أصح (إقامتي) انتهت مدتها، ولا يحق لي الآن إخراج أخرى، لأن جواز سفري فُقد أيضاً! وعلى صفحاته (فيزة) الدخول، ولا إقامة بدون صورة مصدّقة لهذه الصفحات..‏

لا تسألوني كيف فقدت جواز سفري.. فلهذا قصة مطولة لن أذكرها هنا.. ربما سأسردها عليكم في موضع آخر من هذا الحديث.. ربما!.‏

ونعود إلى موضوع الإقامة..‏

فقدانها يعني أنني معرض في أية لحظة لأن تمسكني إحدى الدوريات المنتشرة في هذه المدينة.. والتهمة التي ستوجه إلي هي الوجود غير المشروع داخل الدولة، وهذه التهمة كافية لأن أساق كنعجة ذليلة، وأحمل داخل قفص متجول، ثم أرغم على السفر في أول طائرة راحلة إلى بلدي.. وهنا الطامة الكبرى.‏

إذاً.. لا خيار لي!.‏

وما أصعب أن يفكر المرء في أمر لا خيار له فيه، وليس أمامه غير حل يتيم لا شقيق له!!.‏

-3-‏

عندما جاء (أبو عدنان) في اليوم التالي، وبيده ورقة العقد جاهزة للتوقيع.. كان يبدو متأكداً من موافقتي!. فهو أدرى بحالي، وهو يعرف أنني أمام إغراء عرضه لا مناص لي من القبول.. ناقشته قليلاً في الأجر، ثم انتقلت إلى مدة العمل، ومراحل سيره وتسليمه.. وأخيراً المبلغ الذي سيدفعه أحد الطرفين في حال إخلاله ببنود العقد.. وقبل أن أوقع الورقة، أمسكت بالقلم، وحركته في الفضاء قليلاً.. ثم قلت:‏

-أنت تعرف يا أبا عدنان.. أن حياتي في هذه المدينة لها طابع خاص، وأنت ترى كيف أنني -على الرغم من ضيق ذات اليد- أعيش في منزل مريح، أحاول أن أوفر فيه كل وسائل الرفاهية.. مكيّف، ثلاجة، تلفزيون، فيديو، المقاعد المريحة والأسرة الناعمة!! لا أريد منك يا أبا عدنان منزلاً في (العويس) مثل منزلي هذا، ولكن عسى أن يكون سكني هناك مجهزاً بما أراه ضرورياً لحياة أي إنسان عصري!.‏

قال أبو عدنان وهو يدفع إلي بورقة العقد:‏

-لا تخف.. وقّع هنا.. وستسرّ كثيراً حين تصل إلى منزلك في العويس.‏

وحرك المرآة الصغيرة المعلقة، حتى باتت على مرمى نظري تماماً.. شهقت باستغراب، إذ لم يكن الوجه الذي أراه هو وجهي الذي أعرفه وآلفه!.‏

لقد تحولت أنا أيضاً شخصاً آخر، شبيهاً بتلك الشخصيات الخرافية، التي كانت تثير فينا الرعب، ونحن نستمع إلى حكاياتها من جداتنا..



قريبا سأنزل الفصل الثاني إنشاء الله ..

مع محبتي..
:) :) :) :)

محمد ب 28-11-2002 03:13 AM

شكراً أخي ساعدة على هذا الجهد.
هل من مزيد من المعلومات عن الكاتب ومكان النشر؟

ساعدة 30-11-2002 02:14 AM

أخي الكريم محمد ..

عفوا
لا شكر على واجب
و آمل أن البداية أعجبتك .

أما عن المعلومات التي طلبتها ..
الحقيقة أن صديقا لي يرسلها إلي على بريدي و لا أعرف من أين له بها
..

سأسأله و إن عرفت سأخبركم فورا بإذن الله تعالى

سلام ...
|: |: |: |:

ساعدة 30-11-2002 02:54 PM

و إليكم ....

الفصل الثاني

-1-‏

انطلقت سيارة (أبي عدنان) بنا حوالي السادسة صباحاً... وعندما أصبحنا خارج المدينة، وتخلصنا من طرقها المتفرعة، وجسورها المعلقة، وسياراتها التي ليس لها عدد.. أطلق أبو عدنان العنان لسيارته.‏

وقد حاولت أن أحافظ على رباطة جأشي، بيد أن عيني فضحت أمري!. لأنني كنت أنظر بطرفها إلى عداد السرعة، وأتابع دوران السهم الذي تعدى المائة والثلاثين!.‏

وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت بعض السيارات تمر بنا.. وتسبقنا!.‏

على كل حال، السرعة الجنونية شيء طبيعي في هذا البلد، وعلى هذه الطريق بالذات.. ولكن المصيبة أن أية حادثة تحدث، فإن الموت نتيجة شبه حتمية لأصحابها.‏

بعد مسيرة ثلاث ساعات تقريباً، لاح أمامنا مفرق للسيارات..‏

خفف أبو عدنان قليلاً من سرعته، ثم دار باتجاه الطريق الأيسر، وبعدها تابع سيره بسرعته المعهودة، بل وزاد عليها قليلاً.. لأن ازدحام السيارات قد تناقص إلى الربع في هذه الطريق الفرعية..‏

اعتلت الشمس كبد السماء، وغدت أشعتها شواظاً مخيفاً يلسع كل من يجرؤ على تعريض بشرته لها.. ومما عقّد الحالة أكثر فأكثر، تعطل مكيف السيارة، فكنا مضطرين إلى فتح النوافذ الزجاجية كي يخفف الهواء شيئاً من حرارة الجو.. ولكن حتى هذا الهواء بالذات، كان يلفح وجهي بضرباته الساخنة.. وأحسست بالعرق يتدفق من مسام جلدي بغزارة، والبلل يغمرني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي!.‏

وطلبتُ من أبي عدنان أن يغيثني بالوقوف في أقرب محطة، عسى أن نجد فيها شيئاً من المثلجات أو (البارد) كما يسمونه هنا.. وفعلاً، توقف في أول استراحة صادفتنا.. كانت كغيرها من الاستراحات المتناثرة على طريق هذا البلد: بناء اسمنتي مفتوح الجوانب، تنتشر تحت سقفه الخشبي مقاعد طويلة من القش، وبين كل مقعدين هناك طاولة مستطيلة مصنوعة من الخشب أيضاً.‏

اتجهت نحو مكان ظليل، وتهالكت على أقرب مقعد فيه.. لحقني أبو عدنان وهو ينادي النادل كي يأتيه بالبارد، ويعمّر له (شيشة)..‏

ضحكت قائلاً:‏

-شيشة!. وفي هذا الجو اللاهب..‏

أجاب أبو عدنان:‏

-إنني معتادها في أي وقت.‏

وبعد قليل، جيء بالشيشة والمشروبات..‏

وبينما كانت قرقرة شيشة أبي عدنان تملأ الجو بألحانها الغربية.. كنت أشرب (البارد) باستمراء، وأنا أتأمل هذه الشيشة الغربية العملاقة، ذات (النربيش) الملون المفرط في الطول والثخانة!!.‏

-2-‏

تابعنا السير، بعد أن نعمنا بقسط وافر من الراحة.. وعاد الهواء الساخن يلفح وجهينا.‏

قال أبو عدنان وهو يخفف سرعته قبل أن يصل إلى (مطب) ممتد على عرض الطريق:‏

-أرجو أن نمر بسلام.. فهنا مركز شرطة.‏

وأربد وجهي عندما مرت كلمة (شرطة).. فقد تذكرتُ أن لا (إقامة) معي..‏

وتصنّع أبو عدنان الابتسام حين أحس بقلقي... قال:‏

-لا تخف.. فهم نادراً ما يوقفون سيارة ذات (نمرة) خاصة..‏

ومسح جبينه بباطن كفه.. تابع حديثه:‏

-ثم.. من يجرؤ على تعريض نفسه لحرارة الظهيرة...‏

وفعلاً.. مرت سيارة أبي عدنان أمام المركز.. ولم يكن هناك أي شرطي واقف أمام الباب... تجاوزنا المركز، فوضعت يدي على قلبي وتنهدت بارتياح...‏

بعد فترة من الزمن، أحسست بشيء من الضجر، تململت في مكاني.. أحس بي أبو عدنان، فقال:‏

-اصبر قليلاً.. لقد اقتربنا من مدينة (البحري).‏

وندت من فمي صيحة مفاجئة، قال أبو عدنان باستغراب:‏

-ما بك!.‏

قلت وأنا أشير بسبابتي إلى مجموعة من الأبنية والفيلات الحديثة لاحت من بعيد:‏

-أهذه.. مدينة البحري!‏

قال:‏

-لا.. إنها الهيئة الوطنية للمشاريع.. وهذه مساكن العمال والموظفين.. على كل، إنها أول المعالم التي تدل على اقترابنا من مدينة البحري.‏

ظهرت (البحري) أخيراً.. وعندما دخلنا إليها وسرنا في شوارعها.. أخذت أتأمل مخازنها ودكاكينها بشغف، وأتابع أسواقها وسكانها بإعجاب.. كان كل شيء فيها يغلب عليه الترتيب والتجديد والنظافة.. قال أبو عدنان:‏

-إنها مدينة جديدة بمعنى الكلمة..‏

وصمت قليلاً.. ثم تابع:‏

-لو جئت إلى هنا قبل سنوات قليلة، لوجدت أمامك بلدة متخلفة.. ولكن يد البناء والعمران امتدت إليها منذ عهد قريب، وبخاصة بعد أن أنشئت فيها مصفاة للنفط ومحطة لتحلية المياه.‏

وقطع حديث أبي عدنان صوت الكابح.. ووقوف السيارة بجانب بناء جديد كغيره من الأبنية المجاورة..‏

ضحك أبو عدنان وهو يفتح باب بيته قائلاً:‏

-هلم إلى الحمام، فأنت بحاجة ماسة إليه.‏

قلت له ممازحاً:‏

-لا أظنني بحاجة إليه، فقد نعمت بحمام (عرق) كامل في أثناء الطريق!!‏

-3-‏

مهما تحدثت عن المشاق التي عانيتها، والصعوبات التي لاقيتها.. في أثناء سفري هذا إلى مدينة (البحري)، فإنها لا تعد شيئاً إذا قورنت بعناء السفر من (البحري) إلى (العويس)، وبالتحديد من (النخلي) إلى العويس... فأنت إذا أردت أن تذهب إلى العويس عليك أن تذهب أولاً إلى بلدة (النخلي)، وهي بلدة صغيرة تبعد حوالي خمسة وخمسين كيلو متراً عن البحري.. وبعد وصولك إلى هذه البلدة، عليك أن تودع تلك الطريق الناعمة المعبدة، قبل أن ترمي بنفسك وبسيارتك في أحضان طريق وعرة يتجاوز طولها تسعين كيلو متراً!. ولو وضعت هذه الطريق الوعرة في كفة، ووضعت في الكفة الأخرى كل المسافات التي قطعتها، لرجحت كفة هذه الطريق حتماً!!.‏

بالمناسبة.. أنا لم أخبركم أن أبا عدنان قد استبدل في مدينة (البحريّ) بسيارته الصغيرة المريحة.. أخرى جبلية من نوع (جيب)، في البداية لم أعرف السبب، لكن عندما قطعت أمتاراً قليلة من طريق (العويس) الوعرة عرفت قيمة الجيب، وأدركت بأنه لو كانت السيارة الصغيرة معنا.. لتحطمت فعلاً!‏

كانت السيارة تتجه تارة إلى يمين الطريق وتارة أخرى إلى يسارها، وكانت ترتفع في مكان وتنخفض في مكان ثان، وأحياناً كانت تمر فوق مطب مفاجئ فتقذف جسمي إلى أعلى لدرجة أن رأسي يصطدم بالسقف.. وكان الغبار الكثيف يدخل الشقوق والنوافذ فيغمر وجهي، ويملأ جوفي، ويعمي عيني.. وبخاصة عندما تمر بنا سيارة مسرعة تحمل وراءها تلك الزوبعة المخيفة التي تخفي كل المناظر من حولنا، وتجبر أبا عدنان على تخفيف سرعته كي لا يصطدم بشيء لا يراه!!.‏

وكان أبو عدنان قد تحول شخصاً آخر.. لقد تغير لون شعره وبشرته تماماً، فأصبح شبحاً مخيفاً لا تميز ملامحه!. نظرت إليه وأنا أضحك.. فنظر إلي هو الآخر مبتسماً، ثم قال بتهكم:‏

-لا تضحك علي.. انظر إلى وجهك في المرآة.‏

وحرك المرآة الصغيرة المعلقة، حتى باتت على مرمى نظري تماماً.. شهقت باستغراب، إذ لم يكن الوجه الذي أراه هو وجهي الذي أعرفه وآلفه!.‏

لقد تحولت أنا أيضاً شخصاً آخر، شبيهاً بتلك الشخصيات الخرافية، التي كانت تثير فينا الرعب، ونحن نستمع إلى حكاياتها من جداتنا..‏

ضحكت وضحكت.. ولم أكن أدري أأضحك من هذا المنظر الغريب، أم أضحك على نفسي التي سقتها إلى هذا المكان العجيب!!.‏

-4-‏

لم أعد أحسب حساباً للوقت، فهذه أطول طريق عرفتها في حياتي!.‏

أخذت أتابع بعيني تلك الجبال السوداء التي لا نهاية لها.. كانت الطريق تخترقها أحياناً، وأحياناً ترتفع إلى قممها، وأحياناً أخرى تزحف زحفاً وهي تلامس سفوحها!. وكادت الأرض أن تكون جرداء قاحلة لولا بضع شجيرات قصيرة، غريبة المظهر، تبدو بين حين وحين على جانبيّ الطريق.‏

وكان يقطع الدرب بين فترة وأخرى جمل متبختر أو حمار عنيد أو عنزة متشردة، فنضطر إلى الوقوف ريثما يمر موكبه من أمامنا!... على كل حال كانت الحيوانات الشاردة محط تسلية لنا ومثار أنس في طريقنا التي لم تكن تجود علينا بغير التراب!..‏

يا الله!...‏

أفي جوف هذا الصحراء تكمن حياة؟!‏

أبعد هذه المسافات الموغلة هناك سكان وحركة ومجتمع؟!‏

في الحقيقة... أتمنى لو أن أبا عدنان لوى عنان سيارته، وكر راجعاً! فأنا أشعر- وإن كان شعوري هذا جاء متأخراً- أن الطمع قد أعماني عن النظر في العواقب.‏

***‏

وأخيراً، لاحت العويس..‏

عرفت ذلك عندما أشار أبو عدنان إلى البيوت البعيدة، قائلاً وابتسامة النصر مرتسمة على شفتيه المتشققتين:‏

-لقد وصلنا أخيراً..‏

وهمست مردداً:‏

-أخيراً... أخيراً...


إلى اللقاء في الفصل الثالث بإذن الله ..

أخوكم في الله ..
:) :) :) :)

ساعدة 04-12-2002 02:10 AM

كل عام و أنتم بألف خير
أتمنى لكم عيدا مباركا سعيدا

إليكم ....
الفصل الثالث

-1-‏

العويس قرية كثيفة السكان، واسعة المساحة، تمتد على خط طولي يسعى بين عدة جبال، وعند كتف كل جبل.. مجموعة من البيوت المتراصة أو المتفرقة، أما عرض القرية فبسيط للغاية! لكن طولها ممتد إلى مسافات بعيدة بحيث يصعب عليك السير على قدميك، بل أنت تحتاج إلى سيارة تقلّك عبر هذا الامتداد.. وكثيراً ما تنقطع البيوت والدكاكين، حتى تظن أنك انتهيت من العمران، ولكنك تفاجأ بعد قليل بظهور مبان أخرى تشعرك بأنك لم تبتعد بعد عن حدود البلدة.‏

وتوقف أبو عدنان بجانب أرض متسعة، ارتفعت فيها أعمدة إسمنتية، أشار إليها وهو يقول:‏

-هذه هي المدرسة الجديدة.‏

ثم طلب مني أن أحمل حقيبتي، وألحقه إلى بيت صغير متربع خلف المدرسة، كان بيتاً ريفياً بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى.. فهناك خزّان مياه مكشوف، وهناك مزرعة أكثر أشجارها نخيل، وهناك سبيل يستقي منه العابرون ماءً لشربهم، وهناك تيس يرعى، وديك يصيح، وحصان يصهل، وحمار ينهق، وعصافير تغرد..‏

صاح أبو عدنان:‏

-تعال يا تحسين.. تعال لتقابل أصحابك الجدد..‏

وعندما دخلت السكن، فوجئت بجمع كبير يجلس في فنائه.. قام أفراده لتحيتي، وهم يرددون بلهجة شامية محببة:‏

-مرحباً بالضيف الجديد..‏

جلست قليلاً مع الشباب، وقد انتابني شيء من الوحشة، فهذا أول لقاء بيني وبينهم، ومن يدري.. ماذا يخبئ المستقبل..‏

غمزني أبو عدنان قائلاً:‏

-هات فراشك، وضعه هنا.. إنه مكان مناسب.‏

فتحت فمي مستغرباً:‏

-ولكن أين غرفتي؟!..‏

ضحك أبو عدنان وقال:‏

-البيت الضيق، يتسع لألف صديق.. ستنام بالطبع مع الشباب، وفي هذه الغرفة.‏

لم يكن عرق الطريق قد جف بعد، ولم يكن غباره المقيت قد مُسح عن وجهي وشعري وثيابي.. عندما قمت ونيران الغضب تتأجج في صدري، وهرعت إلى حقيبتي فاتحاً إياها بنزق، أخرجت ورقة العقد.. ومزقتها بانفعال إرباً إرباً.. ثم رميت مزقها أمام أبي عدنان ونظرات التحدي تكاد تثقب وجهه:‏

-هيا.. أعدني إلى المكان الذي أحضرتني منه، وهناك سأرضيك بما تريد، لأنني الطرف المنسحب من تنفيذ العقد.‏

ولم يرد أبو عدنان، بل نظر إلي ببرود.. بينما قام بعض الشباب لتهدئتي، طالبين مني التريث.. إذ ربما غيرت رأيي بعد معرفة ظروف المعيشة.. قالوا لي:‏

-ستسرّ معنا في هذا البيت المتواضع.. جرب أياماً معدودة ولن تخسر شيئاً.‏

في كلماتهم طيبة ساحرة، وعاطفة مريحة.. جلست، وأنا أتمتم بكلمات اعتذار غير مفهومة.. ثم جئت بفراشي، ووضعته في المكان الذي اختاره لي أبو عدنان.. ألقيت بجسدي المنهك عليه، ثم غطيت وجهي بالوسادة، وأخذت أبكي بكاءً مراً!!!‏

-2-‏

استيقظت باكراً على صياح الديكة.. نظرت حولي فلم أجد أحداً.. تذكرت أحداث الليلة الفائتة، عادت الغصة لتسكن في حلقي، بلعت ريقي بصعوبة، وأنا أشعر وكأن البكاء يعاودني من جديد.. تحاملت على نفسي، وقمت من فراشي وأنا أتلفت هنا وهناك.. أين ذهبوا.. يبدو أنهم جميعاً يزاولون أعمالهم في هذه الساعة المبكرة!.. وضعت (المنشفة) على كتفي، وخرجت من السكن.. دهمني نور النهار الذي غمر الأرجاء، وداعبني هواء الصباح بنسماته الندية العليلة.. نظرت إلى العصافير الملونة تطير هنا وهناك وهي تملأ الفضاء بألحانها الشجية، وتابعت بنظري جذوع النخيل وسعفه الخضر وعناقيده المدلاة الشهية.. ثم التفت إلى الأفق الشرقي، وقد بدأ يتمخض عن شمس تضحك ليوم جديد..‏

أحسست بالسعادة تغمرني فجأة، فلا شيء يفوق حبي للطبيعة الساحرة.. نعم، أحسست بالسعادة.. فها هي ذي السحب السوداء التي أحاطت بي قد تبددت، وها هي ذي شموس الأمل والتفاؤل قد أشرقت من جديد، وها أنذا أشعر أنني على أبواب قرار جديد.. أيضاً!.‏

لماذا لا أبقى؟ حقاً... لماذا لا أبقى؟... وهل هناك ضير من السكن مع هؤلاء تحت سقف واحد، ما دام التفاهم هو اللغة المشتركة بين الجميع.‏

صوت أبي عدنان يناديني من بعيد، ويوقظني من تأملاتي وتساؤلاتي.. رأيته يلوح من مرتفع يطل على البيت، رددت تحيته بحركة مقتضبة من يدي.. صاح أبو عدنان ثانية:‏

-هيا.. انته من حمامك.. وتعال لأريك مكان عملك..‏

هززت رأسي، ثم اتجهت إلى ذلك الحمام الميداني، الذي نصبت جدرانه الخشبية قرب المزرعة.‏

-3-‏

المدرسة الجديدة التي كلفت ورشتنا ببنائها، مدرسة نموذجية بكل معنى الكلمة.. فبالإضافة إلى غرف الصف والأساتذة والإدارة، هناك مسجد ومسرح ومكتبة ومطعم وإذاعة وقاعة مطالعة.. وهذه مرافق لا تتوفر عادة إلا في أفضل مدارس الدولة، وقد علمت أن تكاليف هذه المدرسة ملايين عديدة، وقد كان كثيرون يطمعون في استلام هذا المشروع المغري، إلا أن أبا عدنان -بوسائله الخاصة- كان السباق في استلامه..‏

بالإضافة إلى مجموعة العمال السوريين الذين التقيتهم في البيت، والذين سأعيش معهم طيلة فترة عملي في هذا المشروع.. هناك أفراد من جنسيات متعددة تقوم بعملها داخل الورشة، وقد كنت أحب الإصغاء إلى أحاديثهم وكلماتهم التي لا أفقه بعضاً منها!!. وأحب المقارنة بين النبرات المختلفة التي تميز ألسنتهم.. وكثيراً ما يحلو لي أن أردد بعض الكلمات من غير أن أفهم معناها...‏

كانوا يضحكون مني، وهم يقولون بلغة عربية مفككة:‏

-أنت.. ما في كلام صح!‏

ويشيرون إلى رأسي، ثم يتابعون حديثهم (المكسر):‏

-هادا خربان.. أنت لازم علوم مظبوط...‏

***‏

انسجمت في البداية مع عملي.. خاصة وأن المساعدين الهنود الذين وضعهم أبو عدنان تحت تصرفي كانوا على مستوى لا بأس به من الفطنة والنباهة.. وكانوا يفهمون تماماً ما أرشدهم إليه من عمل، على الرغم من أن وسيلة التفاهم لم تكن أكثر من الإشارة، أو بضع كلمات من العربية المفككة ا لبسيطة التي لا يفقهون غيرها!!!.


هذا هو الفصل الثالث
لا أعتقد أنني سأنزل الفصل الرابع هنا قريبا
سأسافر فترة العيد ( ادعوا لي بالسلامة ... )

مع خالص محبتي و تحياتي للجميع ..
أخوكم ...
:) :) :) :)

ساعدة 07-12-2002 09:26 PM

عدنا ...

و إليكم إخواني ...

الفصل الرابع

-1-‏

الأيام هنا قطار متحرك تشابهت محطاته..‏

رتوبة ما بعدها رتوبة، وجمود رهيب في مسيرة الحياة.‏

كنت أقضي الليل في انتظار النهار، وأدفع النهار كي أستقبل الليل! أما الملل فقد فرض صداقته الدائمة علي، والضجر بات حبيباً وفياً شديد التعلق بي!.‏

كانت (العويس) بلدة في منتهى التخلف، محرومة من أبسط الخدمات التي يتطلبها الإنسان المعاصر.. فالماء فيها لا يأتي إلى البيوت عبر شبكات خاصة، بل يعبّأ في خزانات كبيرة موجودة في كل مسكن.. والكهرباء شبه مفقودة في هذه البلدة، باستثناء الكهرباء التي تولدها (مولّدات) خاصة تابعة لبعض المنازل.. أما إذا أردت الاتصال هاتفياً بأحد، فستصاب بخيبة أمل كبيرة، لأنك لن تجد هاتفاً واحداً في كل (العويس)!. أضف إلى ذلك أن الشوارع غير معبدة وتطفح بالأوساخ والقاذورات..‏

والمواصلات العامة مقطوعة، فلا خروج من العويس، ولا رجوع إليها إلا بسيارة خاصة، وهيهات أن تجد سيارة خاصة ينقلك صاحبها بسعر معقول!.‏

وإذا عرجنا على الطعام، فستفاجأ حين أخبرك بأن الخضار والفواكه الطازجة لا ترد الأسواق إلا في مواسم خاصة ومحدودة! وهي ترد لتباع للغرباء فقط، لأن أهالي العويس ألفوا طعامهم المفضل (الكبسة).. وهو الأرز المسلوق وفوقه قطع اللحم نصف الناضجة.. يتناولونه في الفطور وعند الغداء وعلى العشاء!!. وهم إن أكلوا شيئاً من الخضراوات؛ فمصدره تلك المعلبات المتنوعة التي تغمر أسواقهم!.‏

ولا تسألني عن البريد.. فسيارة البريد الصفراء المصفحة (!) لا تأتي إلا في يومين فقط خلال الأسبوع كله.. وعليك -إذا أردت إرسال رسالة أو استلامها -أن تنتظر يوم السبت أو يوم الثلاثاء كي تحقق رغبتك الفريدة هذه.‏

فوق هذا وذاك، فالعويس محرومة من المكتبات.. وليس هناك من يلتفت إلى بيع وشراء الصحف والمجلات، مسكينة العويس.. إنها شبه معزولة عن العالم الخارجي، وهي تكاد تكون منفى حقيقياً يعاقب فيه المجرمون والأشقياء!!.‏

أقول.. أصبحت للملل صديقاً! إذ لا مكان تذهب إليه ولا طريق تسير عليها! حتى إذا أحببت أن تتنزه في الليل مستغلاً قدوم نسماته العليلة، فإن رجال (العسس) يعترضون طريقك، ويجرون معك تحقيقاً، ثم بعد السؤال والجواب يطلبون منك العودة إلى بيتك.. هذا إذا كنت محظوظاً! أما إذا كنت سيّئ الحظ، فإنهم سيرجونك بكل لطف ولباقة أن ترافقهم إلى مركز الشرطة، حيث ستنعم هناك بليلة هانئة فيها ألوان من كرم الضيافة لا تخطر على بالك!... فنظام منع التجول نظام صارم، فرضه أهل العويس على أنفسهم، ابتداء من تغلغل الظلام وتغلبه على بقايا الضياء!!..‏

ماذا أفعل.. أين أقضي وقتي؟!‏

والفراغ ممل قاتل.. ولا شيء هنا يسد هذا الفراغ!؟‏

-2-‏

الآلام تجر الآلام، والعذاب يذكرك بالعذاب‏

وشقاء اليوم.. يعيد إلى ذاكرتك شقاء الأمس......‏

(تلويحة الأيدي الصغيرة.. مازالت مزروعة في بصره..‏

ووجه العجوز الباكي، مازال مطبوعاً في خياله..‏

ما أغلى تلك الدموع التي زيّنت وجنتيها الذابلتين، وأعطتها بريقاً سحرياً ليس له مثيل..‏

كان وداعاً ولا كل وداع.... التفّت أمه واخوته الصغار حوله، كل منهم يحاول أن يحظى قبل غيره بعناقه وتقبيله... ما أصعب تلك المواقف، فيها تتفجر العواطف الإنسانية دفعة واحدة، وكأنها بركان ثائر وجد فوهته!.‏

كان الأمل.. وكانوا الطامحين في وعوده!...‏

كان البطل، وكانوا اللاهثين وراء انتصاراته!.‏

كان المنار، وكانوا المهتدين بنور مصابيحه!.‏

* * * *‏

مرت الأيام.. والرياح تجري بما لا تشتهي السفن!.‏

مرت الأيام.. والأمور تزداد تعقيداً، والحياة تنتقل من سيئ إلى أسوأ!‏

لقد صدمه الواقع الجديد، وأربكته حياة الغربة.... التفاؤل يضمحل، والأمل يخبو، ورسائله -هي الأخرى- بدأت بالتناقص مع تزايد الخيبة... تناقصت شيئاً فشيئاً حتى توقفت تماماً، وانقطعت -مع توقفها- أخباره عن الأهل وصلته مع أمه واخوته.‏

مرت الأيام..‏

والقادمون من أرض الوطن، يحملون نبأ موت العجوز، وتشرد الأطفال! والوجه المسافر، ما زال بعيداً في ديار الغربة.‏

أين كلماته ووعوده؟.‏

أين ماله الذي ينقذ العائلة، وينقلها من الضيق إلى السعة؟.‏

أين الغد المشرق، والمستقبل الباسم؟‏

ولكن..‏

أيعود الغائب صفر اليدين بعد هذه الغيبة الطويلة؟!..‏

ما جمعه.... بدده في ديار الغربة..‏

وهو ينتظر عودة المال، وهناك ينتظرون عودة الأخ المسافر!.‏

ترى..‏

هل تتحقق الأماني...‏

هل تحل هذه المعادلة الصعبة؟!..).‏

-3-‏

شهور أربعة كاملة مرت على مجيئي إلى العويس..‏

شهور ولا كل الشهور..‏

صباحاً.. أنخرط في عملي من غير أن ألتفت إلى أحد، وعصراً أتناول لقيمات الغداء بعد حمامي السريع.. ثم أجلس أمام المزرعة وقد اعترتني ملالة بلغت حد النزق، يحدثني بعضهم فأردّ بكلمات مقتضبة، ويمازحني آخرون فلا يجدون مني غير الصدّ والتأفف.. أصبحت معزولاً، أو بالأحرى أنا الذي عزلت نفسي عن المجموعة.. لم تكن مشاركتي لها إلا في النوم والطعام، وما عداهما، فأنا في واد وهم في واد آخر‍‍!..‏

كارثة كبرى.. أن يصبح الإنسان مجرد آلة تتحرك.. جهاز فاقد الشعور يسير بلا طموح أو هدف مرسوم..‏

العمل والنوم والطعام.. مظاهر معروفة في هذه الحياة.. ولكنها ليست (كل) الحياة.‏

ومصيبتي أنني أصبحت إنساناً يعمل ويأكل وينام.. فقط، بحيث لو سألتني: وماذا بعد.. ماذا عن المستقبل المأمول؟ عن الغد الجديد الذي ترنو إليه..‏

لأجبتك بكل برود:‏

-لا أعرف.. فتفكيري لم يعد مشغولاً بمثل هذه الأمور!!!!‏

* * * *‏

عادة واحدة.. لم يتخل عنها تفكيري، ربما لمحاولته الارتباط مع الجديد في هذه الحياة، ولو بخيط واه!!‏

هذه العادة هي الاهتمام بالمتعاقدين العرب الذين يردون إلى العويس للتدريس، وتسقط أخبارهم.‏

فكلما سمعت بمجيء أستاذ جديد، حاولت فتح باب للتعارف.. ولكن من بعيد.. مكتفياً بمعرفتي الرسمية له، دون أن أجرب تمزيق الحجاب الفاصل بيني وبينه!.‏

تعرّفت أبا أحمد، وأبا حسن، وأبا سالم، وغيرهم، وكانوا جميعاً متزوجين ترافقهم عائلاتهم، وكثيراً ما كانوا يزورون الورشة، ويسهرون مع أفرادها.. كنت أجلس معهم صامتاً، أستمع إلى أحاديثهم من غير أن أنبس ببنت شفة!. حتى أنهم استغربوا سكوتي، وحاولوا أكثر من مرة جرّي إلى الحديث معهم.. لكنهم بعد عدة محاولات فاشلة، توقفوا كغيرهم.. وبادلوني صمتاً بصمت، وإهمالاً بإهمال!.‏

لماذا كنت أتصرف بهذه الطريقة مع الآخرين؟.‏

أنا بالذات.. لم أعرف جواباً لهذا السؤال!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

أخوكم ...
:) :) :) :)

ساعدة 08-12-2002 12:25 PM

و ها هو ...


الفصل الخامس

-1-‏

متعاقد جديد.. جاء إلى العويس..‏

والشيء الذي أثار فضولي أكثر، أن هذا المتعاقد لا يمت إلى سلك التدريس بصلة، بل هو طبيب جاء ليعمل في المستوصف الحكومي..‏

وهذه أول مرة يأتي فيها طبيب عربي إلى العويس!!‏

من هو هذا الطبيب؟ ماهي صفاته؟ هل هو مسرور بمجيئه إلى هنا، أم إنه مكره -كغيره- على العمل في العويس؟‏

ترى.. هل هو اجتماعي يحب التعارف والاندماج مع الآخرين؟ أم إنه -كبعض الأطباء- يحاول أن يحيط نفسه بهالة من الغموض والترفع.. ترى، هل سيزور الورشة أسوة بغيره من المتعاقدين العرب كي يعرف المجموعة السورية العاملة فيها؟.. أم إنه سينتظر زيارتنا له وتحرشنا به.. أم إنه لن يلقي بالاً لكل هذه الأمور؟؟‏

-2-‏

قال أبو عدنان:‏

-مرحباً بالشباب.... تفضلوا.‏

وحملقت إلى وجوه القادمين، ميزت منها وجه أبي أحمد، ووجه أبي سالم، ووجهاً جديداً لم ألمحه من قبل!.‏

وصافحنا الشباب، ودعاهم أبو عدنان للجلوس في صدر المجلس، ثم أسرع إلى دولة القهوة ليقوم بواجب الضيافة..‏

قال أبو أحمد مستبقاً الحديث:‏

-معنا اليوم ضيف عربي جديد، انضم إلى قائمة نزلاء العويس!.. إنه الدكتور فارس، الذي جاء ليعمل في مستوصف البلدة.‏

ورددنا بصوت كاد أن يكون واحداً:‏

-أهلاً وسهلاً..‏

أضاف أبو أحمد:‏

-ضيفنا وأخونا الجديد.. وصل منذ أسبوع تقريباً.. وهو يواجه الغربة للمرة الأولى.‏

قال أبو سالم:‏

-الحقيقة.. كلنا غرباء.. وكلنا نعاني من آلام الاغتراب، ونتجرع كؤوسه المرة كل يوم.. ولكن لقاءاتنا هذه، قد تخفف بعض آلامنا وأحزاننا.‏

ووافقه أبو أحمد بقوله:‏

-فعلاً، فعلاً.. فاجتماعنا هذا يعيد إلينا الجو الذي نألفه في بلداننا، مثلاً أنا أشعر أن هذا البيت قطعة من بلدي.. بلهجة سكانه، وطريقة تفكيرهم، وأسلوب عملهم.. حتى بالكيفية التي يطهون بها طعامهم!.‏

وضحك أبو عدنان قائلاً:‏

-يبدو أنك قد جعت يا أبا أحمد!‏

أجاب أبو أحمد مبتسماً:‏

-ليس تماماً.. ولكن رائحة الطعام التي تسربت من باب هذا المطبخ، هي ما أثار اهتمامي!!‏

قال أبو عدنان بصوت عال:‏

-أبشر، أبشر.. سنطعمكم بعد قليل طبخة شامية شهيرة صنعتها يد الشباب.‏

-3-‏

كان يأكل صامتاً.. وكانت اللقمة تقف أحياناً في يده وهو يحدق إلى وجوه المحدثين، ثم تعود إلى رحلتها الطبيعية، كان يبتسم عندما تُروى فكاهة أو تُذكر طرفة، ولكنه لم يتكلم قط! ولم تتحرك شفتاه إلا عند انتهائه من طعامه، وقتئذ تمتم ببضع كلمات شاكرة، ثم غادر المائدة متعثراً، وفي عينيه سؤال عن مكان المغسلة.‏

وأسرعت بالقيام، لأكون الدليل الذي يرشده إلى صنبور الماء.‏

تبعني، وصمته مازال مرافقاً له.. ناولته لوح الصابون، استلمه مني، وقد ارتعشت على شفتيه ابتسامة، ثم بدأ يغسل يديه بهدوء وتأن..‏

كان نحيل الجسم، طويل القامة، عريض الجبين، خفيف الشعر.. كان ثوبه نظيفاً وإن كان يعوزه الكي! وكان جيبه العلوي منتفخاً بكدسة من الأوراق ربطت بقلم حبر جديد.. وكانت معالم القلق بادية في حركاته.. أحسست بارتباكه من نظراتي، فأشحت بوجهي كي يأخذ حريته بعيداً عن عيني المراقبتين..‏

غمرني ارتياح غريب لوجودي معه، وأحببت، أن أتقرب منه أكثر فأكثر..‏

حين ناولته (المنشفة) كي يمسح بها آثار الماء، قدمت له نفسي قائلاً:‏

-أخوكم.. تحسين، تحسين الدمشقي.‏

أجابني بأدب جم:‏

-تشرفنا يا أخ تحسين.. وأنا فارس.‏

وشجعتني إجابته المتواضعة على الاستمرار.. فقلت:‏

-من أي بلد.. دكتور فارس..‏

ضحك وقال:‏

-وهل يهمك أن تعرف هذا.. أنا عربي وكفى.‏

ولم أحاول تكرار السؤال، فقد سبق أن عرفت مسقط رأسه من (لكنة) كلامه، لكنني كنت أحب التأكد فقط.‏

حاولت تغيير مجرى الحديث.. سألته:‏

-أأعجبتكم العويس؟.‏

بدا مرتبكاً حين سمع السؤال، لكنه رفع رأسه وقال بكلمات متقطعة:‏

-الحقيقة.. البلدة مقبولة.. ولكن!‏

وصمت قليلاً بعد كلمة (ولكن).. وكدت أقول له: ولكن ماذا؟. بيد أنه استمر في حديثه الذي غمرته نبرة حزن مفاجئة:‏

-ولكن.. ليتني بقيت في بلدي.‏

قلت له باستغراب:‏

-أليست هذه رغبتكم.. عفواً دكتور أقصد: ألم تكن راغباً بالمجيء؟.‏

قال.. وعيناه الحزينتان تنظران بعيداً:‏

-صحيح، لقد جئت بمشيئتي.. ولكنني لا أخفي عنك، أنا نادم.. نادم!‏

أحسست بأن وراء هذا الوجه الهادئ بركاناً يوشك أن ينفجر.. حاولت تلطيف الجو:‏

-كلنا مثلك يا دكتور.. نندم في البداية.. لكننا سرعان ما نألف الوضع!!‏

قال، وهو يحرك سبابته بالنفي:‏

-لا.. لست أنا.. صحيح أنني أتيت برغبتي، ولكنها رغبة المجْبَر!!‏

(رغبة) و (بالإجبار)!... كيف توافق ذلك!.. دفعني الفضول إلى خرق الستار أكثر فأكثر، قلت له:‏

-الواحد منا يا دكتور.. مضطر للغربة، كي يجمع قرشين نظيفين، يستطيع بهما بناء حياته.‏

أخذ يفرك (المنشفة) بانفعال، وخرجت الكلمات مهزوزة من بين شفتيه المرتجفتين:‏

-لعنة الله على الفلوس.. ما قيمتها إن لم تجد سبيلاً إلى السعادة!!.‏

قلت:‏

-ولكن.. لابد منها يا دكتور، لابد منها!.‏

قال، وهو يدفع المنشفة إلي:‏

-يا رجل!! لابد منها لمن هو بحاجة إليها!.‏

سألته بنبرة دهشة:‏

-هل هذا يعني، أنك في غنى عنها!.‏

قال، وهو يحاول رسم ابتسامة على وجهه الحزين:‏

-لا أقصد ذلك.. ولكن والحمد لله الحالة مستورة في بلدي.. لي عيادة ممتازة في وسط المدينة، ولدي زبائن محترمون، ولا شيء ينقصني..‏

وبدون وعي صحت:‏

-إذاً... لماذا أتيت؟‏

وشعرت بأن صيغة سؤالي كانت غير مهذبة.. لم أعرف كيف أعتذر وأتراجع عن خطئي! لاحظ هو ارتباكي، فوضع يده على كتفي وقال بلهجة مشجعة:‏

-لا عليك، لا عليك.. ولكن لا تنح علي باللائمة!.‏

وتنهد.. ثم قال بنبرة تقطر أسى:‏

-على كل حال.. جازى الله من كان السبب.‏

إذاً.. القصة أعمق مما أتصور.. لم أرغب في متابعة الحديث نفسه، خاصة بعد أن أوصلته إلى تلك النقطة الحرجة.. قلت لنفسي: أترك بقية القصة لظرف أكثر مناسبة.‏

وهززت رأسي، ثم أشرت بيدي إلى باب البيت قائلاً:‏

-تفضل يا دكتور.. فالجماعة بانتظارك.‏

ودلف صامتاً.. ثم أخذ مكانه.. ومعالم الحزن مازالت مرتسمة على وجهه.



أرجو أن تستمتعوا بقراءة هذه الرواية

أخوكم
:) :) :) :)

ساعدة 09-12-2002 05:39 AM

هذا هو ....

الفصل السادس

-1-‏

-أكثر ما يحزّ في نفسي، أنهم يسموننا (أجانب)!‏

قال عبارته هذه، ثم تنهد بعمق.‏

قلت:‏

-لم أنت مستاء من هذه التسمية يا دكتور!! لقد اعتدناها، وستعتادها أنت أيضاً، بعد أن تقضي أياماً أخرى في خدمة هذه البلد.‏

قال وهو يهز رأسه:‏

-يا أخ تحسين.. إنها تسمية جارحة، ولقب مؤذ.. إنني أحس بسكين تطعن قلبي حين يقال لي (أنت أجنبي)، وأنا إنسان عربي أعيش في بلد عربي يفترض فيه الأصالة!‏

قلت له:‏

-وماذا يضيرك من هذه التسمية.. ليسمونا كما يحلو لهم، فالأمور بحاجة إلى شيء من (التطنيش)!!‏

قال بانفعال:‏

-لا أقدر على تحمل هذه الكلمة؟ إنني في بلد هو منبع للأصالة العربية، ومورد لأخلاق العرب، ومَعْلَم للضيافة والكرم والسلوك العربي.. مع ذلك ففيه من ينظر إليك على أنك أجنبي غريب، جئت إليه لأخذ فلوسه وابتزاز أمواله، متناسياً كل مجهود تقدمه له، وكل خدمة تؤديها لمجتمعه.‏

قلت، مكرراً أفكاري السابقة:‏

-على كل حال، ما دام الأمر لا يتعدى التسمية، ولا يصل إلى حقوقك الأساسية.. فلا أرى أنه يستحق منك هذا الانفعال.‏

التفت إلي، وأجابني بحدة:‏

-ومن قال لك إنه لا يمس شيئاً من حقوقي!! ليست حقوقي يا صاحبي هي استلام الراتب في نهاية كل شهر.. بل حقوقي أن أشعر بأنني أعيش في مجتمع عدل ومساواة، أن أعامَل أمام القانون كما يعامَل أي فرد في هذه البلد، أن تطبق علي الأحكام التي تطبق على كل إنسان في هذا المجتمع، أن أقف موقف الند بجانب أي شخص يحمل جنسية هذه الدولة.‏

قلت، محاولاً تهدئته:‏

-وهل يعاملونك معاملة شاذة، تختلف عن معاملة الآخرين.‏

نظر إلي شزراً.. وقد تضرجت وجنتاه، قال:‏

-آه.. لو غيرك قالها! فأنت أدرى مني بهذه الأمور، بعد أن مضى على وجودك هنا عدة سنوات! انظر يا تحسين.. في الدوائر الرسمية معاملتك تختلف، وفي الأسواق والدكاكين معاملتك تختلف، وفي مكان عملك النظرة إليك تختلف تماماً عن نظرتهم إلى أي إنسان متجنّس يمارس مهنتك نفسها، حتى راتبك يختلف اختلافاً غير معقول عن رواتب الآخرين الذين يقدمون المجهود نفسه ويحملون المؤهلات ذاتها إن لم تكن أدنى منها!.. بل، حتى شرطي السير- الذي تلقاه في طريقك دائماً- يعاملك بطريقة تختلف.. فهو يشدد عليك فيما يتعلق بالرخصة والاستمارة، ولا يقبل منك أية رخصة دولية مهما تكن سمعتها.. بينما تراه يغض النظر عندما تمر أمامه سيارة مسرعة يسوقها طفل يرتدي الزي الوطني، ولا يتجاوز عمره تسع أو عشر سنوات!!.‏

كان الدكتور فارس منفعلاً في حديثه، وهذه طبيعته عندما يتطرق إلى المواضيع الحساسة، وبحكم كونه إنساناً مرهف الحس سريع التأثر.. لم أكن أستغرب منه هذا الانفعال، فمناقشاتي معه- والتي كانت تجري بين حين وآخر- قد علمتني الكثير الكثير من طباعه وعاداته، وأقنعتني بأن السر العميق الذي يحمله والذي كان سبباً لمجيئه إلى هذا البلد، يحتاج إلى مزيد من الانفتاح والمصارحة والحوار كي يفصح عنه!!.‏

قلت للدكتور فارس.. وأنا أحاول جره إلى مزيد من الحديث:‏

-ولكن هذا يحدث في أي بلد.. دائماً معاملة الغرباء تختلف عن معاملة المواطنين الأصليين!‏

قال.. وابتسامة سخرية مرتسمة على شفتيه:‏

-فعلا هذا يحدث في أي بلد! ولكن بطريقة معكوسة!!‏

سألته:‏

-كيف؟!‏

قال:‏

-في بلدك بالذات- مثلاً- تطلقون على الآخرين تسمية خاصة، ولكن بدلاً من تسميتهم بـ (أجانب) تسمونهم (الأشقاء العرب).. كما أنكم تعاملونهم بطريقة تختلف.. فعلاً، ولكن بالطريقة التي يعامل بها الضيف، فأنتم تعطونهم دوركم حين يتطلب الأمر الوقوف بالدور، وأنتم تسهّلون معاملاتهم وتسيّرونها بسرعة عندما يتعلق الأمر بالدوائر الرسمية، وأنتم تسألون دائماً عن أحوالهم وتطمئنون على حسن أوضاعهم عندما يسكنون بجواركم أو يعملون معكم في مكان واحد.. أنتم تحاولون جهدكم أن لا تشعروهم بالغربة، تحاولون إقناع الواحد منهم أنه يعيش بينكم فرداً من أفرادكم، بل أنتم تفضلونه على أنفسكم في كثير من الأمور.‏

لم يكن لدي جواب.. فهززت رأسي.‏

وتابع الدكتور حديثه، بلهجة يغلب عليها الهدوء:‏

-يا أخي.. يكفي أن الغربة قاسية بطبيعة الحال. فأنت منسلخ عن أهلك وأحبابك ومجتمعك الذي ألفته منذ نعومة أظفارك، وأنت بعيد عن ديارك التي شهدت أيامك الأولى، وعاداتك التي مشيت عليها منذ أن وعيت هذه الحياة.. يقتلك الشوق كل يوم مائة مرة، ويذبحك الحنين كل يوم مائة مرة، وتخنقك اللهفة إلى رؤية الوجوه البعيدة كل يوم مائة مرة.. نعم يا أخي، الغربة قاسية قاسية، وأنت بحاجة إلى أناس يواسونك في غربتك هذه، ويخففون عنك عناءها وضيقها وأذاها.. لكنك هنا تفاجأ بالعكس، أجل تفاجأ بالعكس، تفاجأ بمن يزيد من مرارة هذه الغربة، بمن يجدّد آلامها ويضاعف أحزانها!‏

وصمت....‏

نظر إلى بعيد بعينين مغرورقتين، وكأنه يحاول أن يستشف من الجبال الجرداء ما يساعده على إتمام حديثه!‏

وعادت كلماته تطرق سمعي بإيقاع عجيب:‏

-إننا شعب واحد، وأمة واحدة... المفروض أن يسافر الواحد منا بحرية ويتجول بحرية.. أن يشعر بأنه يعيش في بلده مهما تباعدت الأسفار وتغيرت المسافات، وإلا.. فما فائدة هذه الشعارات المرفوعة وتلك الأهداف الموضوعة، إن لم نطبقها في سلوكنا اليومي وتعاملنا الشخصي، وعلى جميع المستويات عامة كانت أم خاصة؟‏

إن الوحدة لا تتحقق إلا بتآلف القلوب، وتراحم النفوس..‏

وكي تقوم الوحدة الحقيقية في بلداننا، علينا أن نقيمها أولاً في صدورنا!


البقية في الطريق إن شاء الله تعالى ...

أخوكم ..
:) :) :) :)

محمد ب 09-12-2002 09:40 AM

هذا الوصف التوثيقي لحياة هذه الشريحة من البشر كان بالفعل مثيراً جداً للاهتمام.
واللغة كانت سليمة:)
يبدو أننا صرنا هذه الأيام مضطرين للإشادة بهذه النقطة التي كانت بديهية عند الجيل السبق.
وأخي ساعدة يستحق كل شكر على إتحافنا بهذه الصور الحية التي أدعو رواد هذه الخيمة لقراءتها ولن يندموا!
ولم أزل في انتظار معرفة الكاتب..

محمد ب 09-12-2002 09:41 AM

ومن باب الفضول:هل الكاتب معلم مدرسة؟
لا أعرف لماذا عندي حدس بأنه معلم!

ساعدة 10-12-2002 08:35 AM

الحقيقة أخي العزيز محمد يشرفني مرورك بهذه الصفحة
و يسرني كثيرا أن الرواية أعجبتك

أما بالنسبة للكاتب فقد أرسل لي صديقي باسم الموقع الذي أنزل منه هذه الرواية ..
_ على فكرة أنا أقرأ الفصل الذي أنزله هنا بعد أن أنزله مباشرة لأن من يرسل الفصول لي يرسلها بالقطارة _

الكاتب هو : د. موفق أبو طوق ... ( لم أسمع باسمه قبل الآن و لا أعرف ما هو عمله ) .

و الرواية من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001

أما الموقع الذي تجدها فيه فقد رفض صاحبي أن يخبرني به لأنه يريدني أن أتابع القصة حسب إرساله لها و رغم أنه بإمكاني أن أجد الموقع لكنني راعيت رغبته هذه

بإمكانك أخي أن تدخل على محرك بحث
google.com
ثم اكتب ( اتحاد الكتاب العرب دمشق )
و بالتأكيد ستجد الموقع ..

و اعذرني على تأخر وصول المعلومات إليك ..

مع خالص المودة ..
(; (; (; (;

ساعدة 10-12-2002 08:39 AM

و ها هو ...



الفصل السابع

-1-‏

لا بد لمن يعاشر الدكتور، من أن يشعر بأنه أمام إنسان ذي أطوار غريبة.. فهو يراه - أحياناً- صامتاً لا يتكلم مع أحد، همّه أن يطرق رأسه ويمعن في التفكير، أو ينظر إلى بعيد نظرات شاردة لا معنى لها، أو يحملق إلى وجه محدثه ببرود يكاد يصل إلى حد البلاهة.. وأحياناً أخرى يراه مندمجاً في أحاديثه مع الآخرين، يدافع بقوة وصلابة عن رأيه، وينظر نظرات مركزة في وجه محدثه، ويصغي بانتباه إلى كل كلمة يتفوه بها!!‏

ولكنه سواء أكان في صمته أم في حديثه، في نفوره أم في إقباله.. فقد كنت أحس أن شيئاً ما في داخله يعذّبه، بل يكاد يقضي عليه.. فمعالم الحزن ما غابت يوما عن وجهه، والضحك كان شبه محرم على فيه، وهو إن ضحك فما كانت هذه (الضحكة) لتخرج من أعماق صدره أبداً!‏

مع الأيام.. ازدادت علاقتي بالدكتور فارس، وتوطدت صداقتي معه.. كثيراً ما كنت أزوره في العيادة الحكومية حين يخف عدد المراجعين، وكثيراً ما كان يزورنا في ورشة عملنا.. حتى أن زملائي العمال استغربوا ذلك التحول الذي طرأ على شخصيتي، إذ تغيرت بعض طبائعي، وأخذت أسامرهم وأحادثهم وأشاركهم في أعمال البيت!.. ولعل الصداقة الجديدة هي التي أحيت في نفسي شيئاً من الحماسة لهذه الحياة.. ولعل أصحابي أدركوا هذا السبب أيضاً، لذا فإنهم كانوا ينادونني بلهفة حين يدلف الدكتور من الباب:‏

-جاء صديقك يا تحسين!‏

وما كان الدكتور لينزعج من أن أُسَمَّى صديقا له، فالصداقة بين عامل وطبيب طبيعية جداً، وفق المبادئ المأخوذ بها إلى حدّ الهوس!‏

-2-‏

كان موعد زيارة الدكتور لنا قبيل التاسعة.. ولا يكاد يأخذ مكانه في المجلس حتى يمسك بالمذياع، ويدير إبرته ببطء حتى تقف عند محطة عالمية تبثّ أخبارها في ذلك الوقت.. ونضطر إلى السكوت طوال المدة التي تستمر فيها النشرة!.. كنت ألاحظ انفعاله مع كل خبر، كان يعيش مع الأخبار وكأنه في عالم آخر.. عالم لسنا نحن من سكانه! وعندما تنتهي الأخبار، يعود إلينا.. بصمته أو بحديثه.. حسب الطور الذي يعيش فيه!!‏

أحياناً.. كان الدكتور يحدثني بكلمات غير مفهومة! وكأنه يقصد من وراء كلماته هذه أن أشاركه مشكلته التي يعاني منها، من غير أن أعرف ما هي المشكلة بالتحديد!! مصيبة كبرى أن يحمل الإنسان في صدره هماً عظيماً ثم لا يقدر أن يبوح به أمام الآخرين! فهو حين يطرح أمامهم همومه وأحزانه يشعر براحة كبرى، فكيف إذا وجد بعد الطرح حلولاً ناجعة تشفيه!! أتمنى لو يبوح الدكتور لي بما يعتلج في صدره لعلي -وبإمكاناتي البسيطة- أتمكن من مساعدته في الوصول إلى درب الحلول وطريق الشفاء... ولكنه لم يفعل ذلك حتى الآن، ولا أعلم إن كان سيقدم على ذلك في المستقبل؟؟‏

-3-‏

قال لي يوماً:‏

- إنني أبحث عن توازن فكري ونفسي.. لقد اختل هذا التوازن منذ أن قررت الهجرة، وقدمت إلى هذا البلد.. ثم ازداد الاختلال معي حين ذقت الوحدة في أبشع معانيها، وعايشت العزلة في أشنع صورها.. لقد انقلبت بعض الأسس التي كنت أعتمد عليها في سلوكي وتفكيري، وبت أشك في معايير كانت ثابتة مؤكدة في مخيلتي!‏

إنني أشعر وكأنني ريشة في مهب الريح.. وأحس بأن أفكاري تسبح في محيط بلا شطآن، وتحوم في فضاء ليس له حدود!!‏

وسكت الدكتور فجأة!‏

وحين نظرت إلى وجهه، صدمني البريق الذي تشعه عيناه.. هاتان العينان المغرورقتان بالدموع!! هذه أول مرة أرى فيها الدكتور يبكي! كانت دموعه- التي حاول مسحها بسرعة- دليلاً على عمق المأساة التي يعاني منها، وضخامة المصيبة التي يعيش معها.. لقد بكى أمامي اليوم مضطراً! ترى ماذا يفعل عندما يكون وحيداً بين أربعة جدران؟ أي نشيج أو نحيب يمكن أن يسمع منه! مسكين يا دكتور فارس، لقد تزاملت لديك الغربة والكربة، وتصادقت عندك العزلة والهموم.. أي سر رهيب ذلك الذي تحمله في أعماقك؟! ليتك تفتح لي صدرك قليلاً، وتميط اللثام عن معالم هذا السر.. ولكنني لن أطلب، لا لن أطلب ذلك منك، لأن طلبي سيزيد آلامك، ولن تكون وراءه أية فائدة!!‏

-4-‏

في أحاديث السياسة، كان الدكتور يصول ويجول.. يبدو أن الحديث السياسي- على الرغم من مرارته- ينسيه شيئاً من همومه الذاتية.. لاحظت هذه النقطة الإيجابية أكثر من مرة، لذا حاولت الاستفادة منها قدر الإمكان.. فكثيراً ما كنت أثير أمام الدكتور موضوعاً سياسياً ما، أو أطرح أمامه خبراً جديداً نقلته الإذاعة.. وكنت أطلب منه التحليل وإبداء الرأي، وما كان عند هذا الطلب يخجلني قط!!‏

آراء الدكتور وطروحاته السياسية، تدل على سعة أفقه، وعمق تجربته، ودقة ملاحظته.. كان يقوّم الأمور بطريقة (بانورامية) شاملة، فلا يتوقف عند الحدث الجزئي، بل يحاول ربطه بما سبقه أو رافقه من أحداث أخرى أثّرت فيه وأثّر فيها.. وكان ينظر إلى المستقبل نظرة بعيدة وفريدة، ويسعى دائماً أن يصل بين أمجاد الماضي وهزائم الحاضر، بين دروس الأمس وأحداث اليوم.. كانت ثقافته الإنسانية عالية، وإطلاعاته السياسية غزيرة، وله ذاكرة عجيبة لا يعلوها الصدأ حافلة بأخبار وأحداث ومناسبات وتواريخ قلما يتذكرها الإنسان العادي!!‏

كان يردد دائماً: مشكلتنا الأساسية أننا ننسى، نعيش الحاضر فقط، ونبني أمورنا كلها على وقائع الحاضر، دون أن نتساءل كيف تسنى لهذه الوقائع أن تجري لولا استباقها بوقائع أخرى حدثت في الماضي.؟!!‏

****‏

أكثر الناس احتداداً في النقاش مع الدكتور فارس.. كان المهندس فؤاد!‏

كانت آراؤهما السياسية متباينة، ووجهات نظرهما متعاكسة.. وكانت جلسات حوارهما صاخبة حامية.. تعلو فيها الأصوات، ويحلو فيها التحدي، وتستفز خلالها الأعصاب!‏

وما أكثر المواضيع الفكرية والسياسية التي تطرح على بساط بحثهما، وما أكثر الخطوط الحمراء التي يتجاوزونها في معاركهما الكلامية! على كل حال، لم يكن من الضروري الوصول إلى هدنة، أو وقف لإطلاق نار الاتهام.. فهذا أمر بعيد المنال في جلساتهما حامية الوطيس، خاصة وأن تحليل القضايا المعاصرة بات مشكلة عويصة، والسعي إلى بقعة ضوء وسط هذا الظلام المخيم أمسى شاقاً منهكاً، والاتفاق على رأي واحد وفكرة مشتركة هو في غاية الصعوبة ومنتهى التعقيد.‏

***‏



أخوكم في الله ..
:) :) :) :)

ساعدة 10-12-2002 08:42 AM

تكملة ..

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


-نحن لا نطفئ الشمس.. كما تدّعي! إنني أتوق إلى إزاحة الظلام الذي يخيم على أوطاننا. ويبسط رداءه المقيت على أمتنا الواحدة.‏

قال المهندس كلمته تلك.. وأخذ ينظر إلى الدكتور فارس نظرة ذات مغزى!‏

قال الدكتور فارس:‏

-ولكنك تهرب من مسلمات تعتبر ألف باء الفكرة العربية، وتشيح بوجهك عن قضايا لها صلة متينة بإحياء هذه الأمة..‏

أجاب المهندس فؤاد:‏

-ومن قال لك إنني أفعل ذلك.. إن الأمور تعاكس تصوراتك تماماً..‏

قال الدكتور، وهو يحرك سبابته حركة عصبية:‏

-أفكارك المطروحة تثبت صحة ما أقول، وكلامك المتكرر يؤكد دائماً تلك الاتجاهات السلبية.‏

احتد المهندس قائلاً:‏

-لا يا دكتور.. إنك تفسر كلامي تفسيراً غير حقيقي.. فأنا لدي اعتبارات معينة أنت لا تدركها!.‏

وارتسمت على وجه الدكتور أكثر من إشارة استفهام.. قال:‏

-كيف!؟ كيف تفسر لي هذه الهُوّى العميقة التي فصلت بين أبناء الشعب العربي الواحد.. كلٌ في دولته المصطنعة، وكلٌ يسير وفق خط يخالف خطوط الآخرين، وكلٌ يحاول أن يرتدي ثوب الإقليمية الضيقة الذي يغاير في شكله ولونه ثياب أشقائه!!؟‏

ثم.. أليس هناك من يحاول أن يمسخ فكرة (الوحدة)، ليحولها إلى مجرد اتفاق في الرأي، أو تقارب في وجهات النظر، أو تبادل في الخبرات العلمية والتقنية، أو تعاون في المجالات الثقافية والاقتصادية الصناعية!؟ وهذه جميعاً أشكال مزاجية لا حول لها ولا قوة، أشكال خلبية لا يسعها أن تكون بديلاً عن (الوحدة) الحقيقية، أشكال هشة يمكن أن تقرر بجرّة قلم، ويمكن أن تمحى من الوجود.. بجرّة قلم أيضاً!..‏

رفع المهندس كفه المبسوطة، وكأنه يطلب من الدكتور فارس التروي قبل إصدار الحكم... قال بلهجة هادئة:‏

ـ يا دكتور... تراكمات السنين الماضية، لا تحل بين عشية وضحاها.. لابد يا دكتور من تقارب العقول بعد تقارب القلوب، لابد من إزاحة الجهل المخيم، والفقر المدقع، والارتجال في اتخاذ القرارات، والفوضى في تنفيذ الإصلاحات.. لابد من إيجاد وحدة سلوكية قبل قيام وحدة رسمية.‏

وابتسم الدكتور ابتسامة باهتة... قال ساخراً:‏

ـ *هه... ومتى تنتهي تلك الاستعدادات يا صديقي؟!.. أبعد سنة، أبعد عشر سنوات، أم بعد مائة سنة؟!!..‏

ـ يا دكتور، لابد من الصبر والتريث.. إن عملية التجميع وحدها لا تكفي.‏

وضم المهندس أصابعه، ثم تابع حديثه مكرراً حركة يده التمثيلية:‏

ـ عندما توحّد شعباً متخلفاً مع آخر مثله، فالناتج الرياضي شعبٌ أشدُّ تخلفاً من السابقَيْن، لأن فكرة التخلف ترسخت في النفوس أكثر فأكثر، وكلا الطرفين سيلمس تشجيعاً من جانب الطرف الثاني.‏

قال الدكتور فارس بحدة:‏

ـ يا (باشمهندس)... ليس الأمر كذلك، ما دمنا أمة واحدة... فنحن دولة واحدة، والوحدة التي تسميها باصطلاحك تجميعاً.. هي في الحقيقة ضم للجهود المتعددة ككل... هي تكامل حقيقي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.. فمنك الخبرة، ومني العمل، ومن زيد المال، ومن عمرو التخطيط والمتابعة.‏

أنا أحب الوحدة، وأنت تحبها، والأخوة الموجودون معنا في هذا المجلس يشاركوننا ذلك الشعور أيضاً.. فلماذا التريث؟ لماذا الانتظار؟! كنا ننتظر الاستقلال وهاقد نالته الدول العربية، وكنا ننتظر الاستقرار، وهاقد حصل عليه الجميع بلا استثناء... فما هي الموانع، وماهي العقبات... إلام ننتظر؟... وعلام نؤجل عمل اليوم إلى الغد؟!..‏

وران على المجلس صمت ثقيل.. قطعه المهندس فؤاد بقوله:‏

ـ لا تنس يا دكتور التجارب السابقة، لا تنس تجربة الوحدة بين الإقليمين الشقيقين، والمآل الذي آلت إليه الدولة العربية المتحدة التي كنا نعتبرها نواة للوحدة الشاملة.‏

هز الدكتور رأسه، وتنهد بأسى، وكأنَّ ذكر تلك الوحدة قد أثار في نفسه شجوناً ذات طابع مميز...‏

قال بصوت خافت: مسكينة تلك الوحدة، فمهما تكن أخطاؤها، فإنها لم تدفعنا إلى المرحلة التي تبيح لنا أن نزيلها من ضمائرنا كمبدأ، ونقتلها في أعماق نفوسنا كفكرة، ونذبحها كما تذبح النعاج!...‏

إن أوزار النكسات التي منيت بها أمتنا العربية.. بدءاً من نكسة حزيران، وانتهاءً بالتنازلات العربية التي أوهمت بأن تحرير فلسطين وإنقاذ كامل ترابها الوطني ضرب من الجنون أو شطحة من شطحات الخيال... إن هذه الأوزار تقع على أكتاف الذين صنعوا الانفصال، أو غفلوا عن هذه الوحدة.‏

لقد كادت هذه الوحدة أن تكون فكي كماشة تعصر إسرائيل عصراً، وكان في إمكاننا تقويم أخطائنا من الداخل... أي في إطار الدولة العربية القائمة آنئذٍ، وماكان الانفصال حلاً حتمياً يجب اللجوء إليه، لأن انفصال دمشق عن حلب في المفهوم العربي، ليس أكثر سوءاً من انفصال دمشق عن القاهرة... فثوب الوحدة ملزمون بارتدائه جميعاً... شئنا أم أبينا، وليس في يد أي منا صلاحية خلعه... إذ من أعطى الأفراد حق التنازل عن حق الأمة؟!!...‏

هناك أخطاء، هذا أمر لا ينكر، ولكن هل هي أخطاء خاصة بدولة الوحدة.. لأنها دولة وحدة، أم أنها أخطاء قابلة للوقوع في أ ية دولة عربية أخرى، إقليمية كانت أم وحدوية أم اتحادية.. على كل حال، الذين شاركوا في هذه الأخطاء، أطراف متعددة... النظام، المعارضة، المبالغون في المثالية، الغارقون في العاطفة.. كلهم يتحملون مسؤولية ما حدث... ولكن، هل الوقوع في الخطأ يعني صرف النظر عن العمل ككل؟!.. لا يا صديقي، يجب أن تكون هذه التجربة دافعاً لنا إلى الأمام، يجب أن نستفيد من كل ما جرى، لنبني البناء العربي الجديد على أسس سليمة، وقواعد متينة، ومقومات تراثية وعصرية متشابكة.‏

وانبرى المهندس قائلاً بسرعة وكأنه اكتشف شيئاً جديداً:‏

ـ إذاً.. أنت معي في أن الدراسة ضرورية قبل القيام بأي عمل وحدوي.‏

أجاب الدكتور فارس بهدوء: كل عمل بحاجة إلى تفكير وتخطيط قبل تنفيذه.. ولكن بشرط أن يكون هناك اهتمام حقيقي جدي بهذا العمل... أما إذا فقد الاهتمام، فلا عمل ولا...‏

وقاطعه المهندس فؤاد: الاهتمام موجود يا دكتور... ولكن لابد للتفكير والتخطيط من زمن...‏

قال الدكتور بصوت يرشح مرارةً:‏

ـ الزمن المعقول... مقبول إلى حد ما، ولكن الزمن الطويل ليس من صالحنا... عشرات السنين مرت على تجربة الوحدة، ونحن نبتعد أكثر فأكثر عن الدولة العربية الواحدة.. أصبحت لكل قطر شخصيته المميزة التي ينادي بها في قوانينه وإعلامه وأغانيه وأناشيده!... شخصية قطرية هزيلة، بدلاً من الشخصية العربية الممتلئة والتي كانت هدفاً نسعى إليه وأملاً نرنو إلى تحقيقه!..‏

إننا يا أخي نزداد ـ مع الأيام ـ ابتعاداً عن بعضنا... تقاليدنا بدأت تتمايز، "أفكارنا بدأت تتصارع، أهدافنا بدأت تتنافر..إنك تشعر ولاشك أن قيام الوحدة في الخمسينيات كان أسهل بكثير من قيامها من الستينيات، وقيامها في الستينيات أكثر سهولة من قيامها في السبعينيات!..فناهيك عن الثمانينات والتسعينيات ومطالع القرن الجديد!!...‏

إن الزمن ياصديقي يسبقنا، وعلينا أن نركض ونركض كي نلحق به..‏



****‏



الذي يستمع إلى الدكتور فارس، وهو يتحدث في أمور السياسة، لا يتصور أنه أمام ذلك الإنسان القلق الحائر الزائغ البصر الذي لا يجرؤ على رفع رأسه!...‏

والذي يصغي إلى أفكاره المنظمة وتحليلاته المرتبة، لا يتوقع أنها تصدر من الفم الذي لا يكاد ينطق بشيء... وهو إن نطق فكلماته مشتتة، وألفاظه مبعثرة، لا تكاد تحمل ـ حين جمعها ـ جملة مفيدة أو معنىً مقبولاً!!‏

غريب أمر البشر... في تكوينهم النفسي عجائب وأية عجائب!! فسبحانك يا رب، آمنت بك وصدقت!!..



~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

لي طلب من جميع من يدخل هذه الصفحة ..

هلا سجل كل منكم رأيه بهذه الرواية و نقده لها ؟

أخوكم ...
:) :) :) :)

ساعدة 10-12-2002 09:41 PM

و هذا هو ..



الفصل الثامن

ـ 1 ـ‏

جاء شهر حزيران، وجاء معه الحر الشديد الذي لا يُحتمل! ومما زاد الطين بلّة أننا لم نكن نملك وسائل رادعة تقينا شر هذا الحر، فنحن محرومون من الكهرباء، بمعنى آخر نحن محرومون من المكيفات والمراوح والثلاجات... ولم يكن الماء العادي ليطفئ حرارة الجوف، ولم تكن المراوح اليدوية ـ التي صنعناها من الورق المقوى ـ لتمنع عنا اللفحات الساخنة!... وكنا ـ حين ينتصف النهار ـ نسبح في نهر من العرق، العرق الذي يتدفق بغزارة من جميع مسام جلودنا!! كنا نتوقف عن العمل تماماً عندما يحين وقت الظهيرة، ونبحث عن مكان ظليل نتفيأ فيه ليخفف ولو قليلاً من لسعات الحر، وكانت تمر بنا الساعات الطويلة قبل أن تكسر حدة الشمس، ويميل قرصها نحو الأفق الغربي!..‏

في الليل، كنا نتعرض إلى هجوم عنيف من أسراب الهوام والناموس، الذي كان يلسعنا بلا هوادة، ومن غير شفقة أو رحمة، ويغطي وجوهنا وأجسامنا بنقاط حمراء تستدعي الحك الدائم... كنا نحاول تغطية أجسادنا بالملاءة فنكاد نختنق، فنسعى إلى ترك جزء يسير قرب الأنف من غير غطاء كي نتنفس، ولكن حتى هذا الجزء الظاهر الصغير لم يكن لينجو من اللسعات! نصحونا بـ(الكلّة)، ولكن هي الأخرى لم تأت بفائدة تذكر، لأن الحشرات الدقيقة كانت تدخل بسهولة عبر عيونها مهما تكن صغيرة!!‏

ولا نكاد ننتهي ـ مع انتهاء الليل ـ من الصراع مع الهوام والناموس، حتى يبدأ الذباب بأرتاله الكثيفة هجوماً منظماً آخر.. والذباب هنا (ثقيل الدم) بطريقة لا يتصورها عقل... ومهما تحاول (نشّه) وإبعاده، فهو لا محالة عائد إلى المكان الذي أبعدته عنه! فنضطر إلى ترك أسرّتنا مكرهين، وعيوننا نصف مغمضة، ورؤوسنا (مفتولة) ما تزال بحاجة إلى مزيد من النوم!...‏

وكأنَّ الحرَّ الشديد... قد دفع بعض الحشرات الكبيرة السامة إلى الهجرة من أوكارها الصخرية والترابية، واللجوء إلى البيوت لتتقاسم الحياة مع أهلها! فلأول مرة أرى العقارب الضخمة تمشي بخيلاء بيننا، فلا نكاد نقتل واحداً حتى يظهر آخر، وكنا نخاف حين جلوسنا أو عند نومنا أن نغدر بلسعة، لذا كنا حريصين على ملاحظة أسرّتنا والانتباه إلى أماكن جلوسنا، وكنا ننفض أمتعتنا وثيابنا نفضاً دائماً خشية أن يكون هناك عقرب لعين يتربص بنا!..‏

الحقيقة.. حياتنا باتت لا تطاق وسط هذه المنغصات.‏

وكنت ألوم نفسي دائماً على استمراري في البقاء، وتقاعسي عن العودة الفورية بمجرد معرفتي ظروف الحياة هنا... ولكن، لات ساعة مندم، فلا فائدة.. لقد بدأت، وعلي المتابعة حتى النهاية، وخليق بي أن لا أقع في مثل هذا المأزق ثانية!..‏

ـ 2 ـ‏

وازدادت زيارات الدكتور لنا، كان ـ أيضاً ـ يهرب من منزله الذي لم يعد يطاق! كان يقول لي: لم يعد هناك نوم لا في الليل ولا في النهار!... أغمض عيني فلا أستطيع النوم، ولا أجني من هذه الإغماضة إلا مزيداً من الوساوس والهواجس، التي أهرب منها إليكم!..‏

وجاءني يوماً.. وطلب مني أن ألحق به إلى مكان سيارته، حيث فتحها وأخرج منها فراشاً ووسادة ودثاراً.. قال لي: ساعدني..‏

ثم ركض أمامي إلى المسكن، وأخذ مكاناً في أحد أركانه قائلاً:‏

ـ سأبقى معكم هذه الفترة... أكاد أموت من الوحدة!..‏

قلت: ولكن...‏

قاطعني:‏

ـ لا تقلق.. سأعيش معكم كما تعيشون.. آنس بوجودكم قربي، وأجد أيضاً لقمة طيبة أتناولها حين أجوع.‏

في الواقع.. كنت متحرجاً من أن يلازمنا الدكتور ملازمة دائمة، فنحن العمال لنا طريقة خشنة خاصة في العيش، ربما لا توافق الدكتور الذي يبدو معتاداً النعومة والرخاء والبحبوحة.. كما أنني لا أعرف رأي الزملاء الذين يعيشون معي، كيف سيستقبلون وجود الدكتور معنا؟!..‏

المشكلة الأولى مرت بسلام.. فالدكتور فارس مستعدّ تماماً لتحمل أي شيء مقابل العيش مع الآخرين، والابتعاد عن الوحدة والعزلة! والمشكلة الثانية لم تكن في الحقيقة مشكلة، لأن أصدقائي سبقوني إلى الترحيب بالدكتور!...‏

وقد لاحظت بعض التغيير على الدكتور خلال وجوده معنا.. صار يمزج بين حين وحين، وخفّ صمته عن ذي قبل.. وكنا نحاول أن لا نكلّفه أي عمل منزلي، فكان أن تطوع بإحضار مشترياتنا من السوق بسيارته، وكنا نحتاج فعلاً إلى من يساعدنا في ذلك، لأن السوق بعيدة جداً، طريقها وعرة صعبة.‏

مع مرور الزمن، أصبح الدكتور وجهاً مألوفاً في الورشة. وأزيلت (الكلفة) بيننا وبينه، وتخلينا عن كثير من الرسميات في معاملتنا له، كما خفف هو الكثير من خجله خلال تعامله معنا!.‏

-3-‏

ارتفع بناء المدرسة، وأخذ شكله يتميز ويأخذ أبعاده وتطاول على البيوت المتناثرة حوله، وبدا وكأنه ينظر إليها بشموخ وكبرياء!. وقد كنا نستقبل كل يوم عشرات المواطنين الذين كانوا يتجمعون قرب المدرسة، يتفرجون ويحملقون بدهشة وإعجاب على ذلك المبنى الجديد، الكبير في حجمه، الجميل في منظره، وزخارفه، القوي في بنيانه وأركانه... وكثيراً ما كانوا يسألون:‏

-متى سينتهي البناء؟ متى سيتم دوام طلابنا فيه؟.‏

كنا نطمئنهم قائلين:‏

-قريباً.. قريباً إن شاء الله.‏

وكان جوابنا هذا، يطلق ألسنتهم بالشكر والثناء.‏

فعلاً، كنا قد أنجزنا القسم الأعظم من أعمالنا في هذا البناء، وكان الجميع يعملون بجدّ ونشاط..‏

كلٌ في مهنته... كنت قد أنهيت تقريباً من جميع التمديدات الكهربائية الداخلية والخارجية، وبدأت بتركيب الأجهزة الخاصة بالتدفئة والتبريد والإضاءة.. وقد ضاعف لي أبو عدنان عدد العمال الذين يعملون معي، مما ساعد في أن يكون عملي سائراً سيراً مرضياً... ويبدو أن التآلف مع الجو قد ساعد أيضاً في رفع الهمة وشحذ العزيمة.. فالغريب لا يبقى غريباً، والوضع الشاذ يصبح مع الأيام وضعاً طبيعياً ومقبولاً.. وأهم شيء في العمل أن يقبل الإنسان عليه بنفس راضية.. فإذا لم تتوفر مثل هذه النفسية فإن عقبات عديدة سيصطدم بها، ولن يكون قادراً على إزاحتها بسهولة.‏

ولا أخفي عنكم.. أن النموذج الذي وضع لهذه المدرسة نموذج جميل، بل جميل للغاية, وقد يستغرب الإنسان العادي أن يجد مثل هذا النموذج في مثل هذه المنطقة!... ولعله يحدث نفسه: ليتهم قدّموا لهذه المنطقة الخدمات الضرورية قبل أن يبنوا مثل هذا البناء، ليتهم أمّنوا لها الكهرباء، والماء، والهاتف، والمواصلات، والطرق المعبدة، والخضراوات.. قبل أن يدفعوا الملايين لإنجاز مثل هذه المدرسة!! ولكن هذا التساؤل لن يفيد شيئاً، فالعقلية التي يفكر بها القائمون على الأعمال لها طبيعة خاصة هنا.. وما دام المشروع قد تمت الموافقة عليه، فلا بد من ترجمته عملياً... وإن كانت هناك مشاريع أخرى ينبغي أن تحوز الأولوية.‏

الحوادث الفردية التي طرأت في أثناء العمل كانت بسيطة وقليلة.. ولعل مردّ ذلك إلى التحذير المستمر من وقوع أي حادث لنا، لأن إمكانات المعالجة في المنطقة بسيطة للغاية، وهذا يعني أن المصاب (تروح من كيسه)... وهذا ما دفعنا بالطبع إلى الحرص الشديد والحذر الدائم.‏

ولكن لا ينجي حذر من قدر.. فقد وقعت بعض الحوادث القليلة كما ذكرت، وكان الدكتور فارس لا يتوانى عن الإسراع في معالجة أي جرح أو كدمة مهما تكن بسيطة.. وكثيراً ما كان يدور علينا في الورشة، يتفقد أحوالنا الصحية، ويتابع بلهفة العمل الذي نقوم به، ويهز رأسه إعجاباً كلما شاهد إنجازاً يستحق التقدير.


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


إخواني ..

أصبحت أحب د.فارس كثيرا
من وجهة نظريهو بطل القصة ..

ما رأيكم أنتم ؟

أخوكم في الله ...
:) :) :) :)

ساعدة 12-12-2002 11:55 PM

الفصل التاسع

ـ 1 ـ‏

في القلب شريحة كتب عليها: (الوطن)، تعيش مادام القلب حياً، وتموت إن توقف عن الخفقان!... تشتكي فيتداعى لها سائر القلب بالسهر والحمى.. تتأوّه فتتغير دقاته وتزداد آلامه ولا يعود له نبضه الحقيقي إلا عندما تعود لها صحتها وعافيتها!..‏

والعدو اللدود الذي يهاجم هذه الشريحة يسمى: (الغربة).. مرض خبيث موجع مؤلم، لا تفيد معه المهدئات والمسكنات مهما تكن قوة تأثيرها، ولا شفاء منه إلا حين استئصاله واستبعاده تماماً!...‏

كلنا مرضى بهذا الداء اللعين..‏

ولكن الأعراض مختلفة تتفاوت في حدّتها بين شخص وآخر، وأكثر الأعراض وضوحاً وإيلاماً كانت عند صاحبنا الدكتور فارس!..‏

يذكر الوطن الأول بلغة العشاق الغارقين في بحار الوله والهيام!..‏

ويردد اسمه بطرب وتأثر، وكأنه أغنية رائعة لحنها أعظم فناني هذا العالم.‏

المطر يذكّره بالوطن، والشمس تذكّره بالوطن، والقمر والنجوم تعيد إلى مخيلته ذكرى الوطن، حتى الأحجار التي كنا نرصفها، والحصى التي كنا نستعملها.. كان يقارنها بأحجار وحصى الوطن!..‏

ويحك يا صاحبي: أي داء ذلك الذي تعاني منه!..‏

فالأيام تمر، والعمر يمضي.. ولا ندري أنكحل عيوننا برؤية ذلك الحبيب البعيد، أنموت فيه وتختلط عظامنا بذرات ترابه، أم أن الموت سيدهمنا في ديار الغربة، وعيوننا شاخصة إلى ذلك الوطن الغالي؟!..‏

قال:‏

ـ لست مستعداً لأن أعيش حياتي هنا، وقلبي يتفتت حسرة ولوعة.‏

قلت: تجمّل بالصبر... انغمس في واقعك الجديد، حاول أن تنسى.‏

قال: وكيف أنسى! .. وهل ينسى الظمآن الماء؟ هل ينسى الجائع الطعام؟!...‏

قلت: وما الفائدة.. تذكره وأنت بعيد عنه، فلن ينوبك من ذكراه غير الحسرات.‏

قال: أتعرف يا صديقي أنني سأعود؟.‏

قلت مستغرباً: تعود!. متى، وكيف؟. لقد جئت من أجل هدف، فهل حققته؟.‏

قال، وهو يضع يده على كتفي:‏

-اسمع يا صاحبي.. لقد أتيت إلى هنا في لحظة من لحظات الطيش!. تصورت الأمان هنا، والعيش الرغيد هنا، والسعادة كلها هنا.. ولكنني وجدت نفسي مخطئاً في تقديراتي تلك، فالسعادة لا تأتي أبداً من وراء مظاهر خادعة... هناك شيء في الداخل لا يعوض.. شيء لن أستعيده إلا بالعودة إلى وطني الغالي وأهلي الأعزاء...‏

قلت: ولكن يا دكتور.. أليس من الأفضل أن تبقى بضع سنين هنا... تبني نفسك وتقوّي عودك.. ثم ترجع؟.‏

قال: وهذه السنوات التي سأمضيها هنا.. أليسَت محسوبة من عمري، أليس علي أن أعيشها أيضاً.. لا، دعني، دعني أقض حياتي كما أحبّ وأريد..‏

قلت: والوطن هناك، هل...‏

قاطعني قائلاً: إنه ينتظرني.. ينتظرني على الرغم من الآلام!.‏

-2-‏

ازداد ولع الدكتور فارس بجهاز الراديو، وتضاعف اهتمامه بالنشرات العربية والعالمية..‏

فالأخبار القادمة تحمل رائحة غريبة، وأحداثها تدق جرس الإنذار بعنف.. ومع مرور الأيام.. أخذت الأحداث طابعاً مأساوياً قلما عايشنا مثله في عصرنا العربي الراهن!.‏

فالحصار الخانق يشتد حول (المناطق العربية)، والمقاتلون المحاصرون براً وبحراً وجواً يستبسلون في الدفاع عن بيوتهم وأعراضهم وكرامتهم، العالم كله يتحدث عن الشجاعة الفائقة التي يظهرها الرجال والنساء والأطفال، وجيش العدو يمعن في همجيته ووحشيته، وكأنه يريد إبادة كل شيء يحمل اسم فلسطين، يريد أن يمحو من ذاكرة العالم كل ما يذكّر بالقضية!.‏

وصديقي الدكتور، بات نصف مجنون!. لا يكاد يمسك نفسه من وطأة الأحداث.. المذياع معه ليل نهار، في غدوه ورواحه، في أوقات عمله وساعات راحته.. انفعاله غريب، وتهجمه غريب.. كان يردد بصوت هيستيري صارخ:‏

-لقد خذلوهم، لقد خذلوهم... ويح العرب، أي ذل يعيشونه!.‏

نعم يا صاحبي..‏

نعم، فالتفرقة تؤدي إلى كل شيء، والتمزق الذي يعانيه الجسد العربي لا يفاجئنا حين يصل بنا إلى هذه النهاية!.‏

لا غرابة في الموضوع يا صاحبي، لا غرابة على الإطلاق!.‏

الكلام لن يحرر أوطاناً..‏

والتصريحات لا تنقذ الديار وتحمي المقدسات..‏

والأمة لا تعيش ببرقيات التأييد ورسائل الاستنكار!.‏

مسكين أيها الوطن.. ظلمك أهلك وأبناؤك، تركوك وأنت في أمس الحاجة إليهم.. كلٌ يغني على ليلاه، وليلى الجميع، ليلى الحقيقة، ليلى القضية.. تبحث عن عاشق مخلص، عن محبّ صادق.. تبحث عمن يذوب في هواها، ويتحرق شوقاً لوصالها ورضاها.. تبحث هنا وتفتش هناك، ولكن أنى لها أن تجد معتصم القرن الحادي والعشرين.


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

سلام ..
:) :) :) :)

ساعدة 18-12-2002 11:51 AM

الفصل العاشر

-1-‏

أكاد اقول: إن مشروع المدرسة قد انتهى، إذ لم تبق هناك غير لمسات أخيرة، ومن ثم يُسَلَّم البناء إلى الجهة المسؤولة.. كنت أتساءل بيني وبين نفسي: لماذا نبني؟. الهدم سهل جداً في وطننا الكبير الغالي؟. يحتاج تشييد البناء فيه إلى شهور وأعوام، وفي لحظات يحصد صاروخ حاقد كل ما بذلته السواعد المفتولة والعقول المفكرة!. أنبني كي يهدم الآخرون!!. أما علينا أن نهيئ في البداية الحماية والحصانة، قبل أن نوجّه جهودنا إلى البناء؟!.‏

في الحياة المتناقضة، تكثر التساؤلات.. وربما لا يجد المرء لها جواباً! لأنه يعيش في وضع يعاكس الوضع الطبيعي، وضع شاذ يسرق منه أي توازن نفسي أو فكري، وضع يحرمه من الثبات على الرأي والاعتماد الحقيقي على النفس!.‏

بات الحزن لغة رسمية في ورشتنا، نسينا لغات الفرح والدعابة والمزاح! فالأخبار المأساوية القادمة.. سرقت كل شيء جميل في حياتنا...‏

تمر بالمرء مناسبات يحتاج فيها إلى ابتسامة.. قد يتخلص من ورطة، أو يصل إلى هدف يسعى إليه منذ زمن.. ولكن، حتى هذه الابتسامة بات رسمها صَعْباً على الشفاه!!. لم أبتسم إطلاقاً حين جاء أبو عدنان يحمل إلي الخبر الذي تصور أنه سيدفعني إلى القفز من فرط السعادة.. قال لي:‏

-أبشر يا تحسين.. لقد تم العثور على جواز سفرك في السفارة، وليس هناك أي (إشكال) بالنسبة له.. أنت الآن حر كعصفور طليق، تستطيع السفر، وتستطيع البقاء، وتستطيع التنقل.. ولن يضايقك أحد بسؤاله بعد اليوم!..‏

لم أبتسم...‏

تلقيت النبأ ببرود قاتل، ظن أبو عدنان أنني لم أفهم مقالته، كرر كلماته مرة أخرى، فاضطررت أن أسحب من فمي عدة كلمات:‏

-شكراً يا أبا عدنان.. بشارتك هذه تستدعي سروري حقاً!.‏

وتركت أبا عدنان وهو يرمقني بدهشة، تخيل أنني قد أصبت بمسّ.. ولكن أين أنا وأين أنت يا أبا عدنان، كلٌ منا في واد بعيد عن الوادي الآخر!. عقلي ليس هنا أيها الصديق، عقلي هناك مع الأحباب المحاصرين، الذين يتلقون السهام الغادرة بصدور مفتوحة وقلوب شجاعة!.‏

-2-‏

أيكتفي الإنسان بالتفرج من بعيد؟.‏

أيكتفي بالحسرات والآهات؟.‏

أيكتفي بذرف الدموع وتوزيع التهم وكيل الشتائم؟.‏

في رأسي أفكار متضاربة، آراء متشعبة.. أي صراع عنيف ذلك الذي يجري فيه، أحسّ به وكأنه يوشك على الانفجار...‏

أتابع أنباء القتلى والجرحى، تبثها محطات عالمية مختلفة، في الوقت الذي تبث فيه بعض المحطات العربية: برامج فنية، وفقرات ترفيهية، ومباريات رياضية، وحفلات انتخاب ملكات جمال!!.‏

وما من داع للاستغراب.. والواحد منا، يدفع منذ زمن طويل، بعيداً عن قضاياه المصيرية، ويحيّد في المسائل التي لا تمسّه مباشرة، ويُملى عليه بطريقة أو بأخرى.. بأن ما يجري في قطر عربي آخر يمسّ أهله فقط، ولا علاقة له به لا من قريب ولا من بعيد!.‏

ما من داع لاستغراب الصمت العربي، أو التصريحات الرسمية التي تأتي من باب إسقاط العتب.. فما عاد هناك شيء يهزنا من الأعماق، وما عادت هناك قيم وتصورات تدفعنا إلى التفاعل الحقيقي مع الحدث، وتحثنا على التواصل معه قلباً وقالباً!!.‏

* * * *‏

جاءني الدكتور فارس، وقد غمره هدوء غريب.. قال لي:‏

-هيّئ نفسك لوداعي.. فأنا راحل غداً..‏

قلت: إلى أين؟.‏

قال: إلى أرض البطولات.. إلى الوطن الغالي.. فقد بلغ السيل الزبى!.‏

قلت: وعملك.. هدفك.. وجودك هنا؟!؟.‏

قال: لقد انتهى كل شيء.. قدّمت استقالتي.. وأنا مسافر غداً..‏

قلت: بهذه السهولة.!!‏

قال: نعم...‏

قلت: يا صاحبي. هل فكرت ملياً بالأمر؟.‏

قال: لقد فكرت بما فيه الكفاية.. وأنا مرتاح جداً لهذا القرار.‏

سكت قليلاً.. ثم تابع حديثه:‏

-لقد غادرتُ الوطن الأول.. وأنا أتصور أن الحياة فيه باتت لا تطاق، إذ لم أكن أميناً على شيء يخصّني هناك!. معارك دائمة، انفجارات متكررة، مداهمات يومية، ذبح، قتل، خطف.. تصورت صعوبة التغيير، واستحالة تبديل الأمور، وتصورت بأن السفر بعيداً سينقذني مما أخاف منه، ويمنحني الطمأنينة والراحة.. ولكن ما حدث هو العكس، العكس تماماً!!. لاحقني الوطن على الرغم من آلاف الكيلومترات، حاصرني هنا في وحدتي ووحشتي، اقتحم علي كلّ منافذ تفكيري، وهاجم كل محاولة للسلوى والنسيان!.. كانت ذكراه تضخم وتضخم كل يوم، كانت صوره وذكراه تتركني نصف مجنون.. أكثر من مرة دفعت إلى حافة الانهيار، أكثر من مرة فُتِحت أمامي أبواب الضياع.. لم أكن طبيعياً، ولعلك أنت بالذات لاحظت ذلك، وحاولت أن تكشف السر!.‏

اليوم يا صديقي.. سيطر الوطن علي، نداؤه سحرني، أسكرني.. أنا عائد إليك أيها الحبيب لأقوم بواجبي هناك، لأعيش مع الأحباب والأصحاب، لأقف معهم في وجه الغزاة الطامعين، أساعد الجريح، وأشجع الصحيح المعافى.. أنا عائد إليك أيها العزيز، فقد طال البعد، واشتد الشوق، وتعاظم الحنين.. فافتح لي أحضانك، وضمني إليك.. أنا عائد إليك أيها الغالي كي أنال شرف الدفاع عنك..‏

-3-‏

بعضهم يسبق الآخرين في اتخاذ القرار، وبعضهم يقرر بعد أن يشجعه قرار الآخرين.. الناس درجات!.‏

قلت لصديقي الدكتور فارس، قاطعاً عليه حماسته:‏

-انتظر.. ألا تريد رفيقاً في السفر؟.‏

قال مستغرباً:‏

-من؟‏

قلت، وكأنني ألقي قنبلة جاهزة للانفجار:‏

-أنا..‏

قال:‏

-أنت!!.‏

قلت، وشفتاي تختلجان من التأثر والانفعال:‏

-أجل أنا.. ألا يعجبك هذا الصاحب؟.‏

قال، وكأنه يكرر أسئلتي السابقة نفسها:‏

-وهذا البناء.. وعقد عملك.. و....؟!.‏

قاطعته قائلاً:‏

-أعمالي انتهت تقريباً.. ولن يمانع المقاول من أن يتمم معلم آخر ما تبقى منها.. على كل حال، أنا مستعد لكل الاحتمالات.. انتظرني هنا، ريثما أقابل أبا عدنان..‏

وتركت الدكتور قبل أن يفتح فمه بكلمة..‏

وإلى غرفة المقاول أبي عدنان حملتني خطواتي الواثقة ......................













































































































































~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ النهايـــــــــــــــــــــــــــــة ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~

أتمنى أن الرواية أعجبتكم

أخوكم في الله
:) :) :) :)


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.