أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   خيمة الثقافة والأدب (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=9)
-   -   كلام في موضوع العقل العربي (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=48641)

ابن حوران 07-11-2005 04:16 AM

كلام في موضوع العقل العربي
 
كلام في موضوع العقل العربي

(1)

لم يمر على الأمة العربية و الاسلامية عهد ، في تناقل المعرفة والثقافة بين أبنائها أفضل من عهد الخليفة العباسي المأمون .. حيث كان هناك من يكتب ويتحدث لخاصة الخاصة وهناك من يكتب لعامة الخاصة وهناك من يكتب لخاصة العامة و هناك من يكتب لعامة العامة ..

فكانت آثار المعرفة والعلوم تغطي على عموم أصناف المجتمع ، ويتبادل تلك المعرفة أبناء الأمة كل حسب قدرته اللغوية وكل حسب رصيده من تلك المعرفة ، وكان الخطاب المعرفي العام الذي يفقه لكل شؤون الحياة يجد طريقه لنفوس أبناء الأمة ، فيترك فعله القوي في تفجير طاقاتهم الإبداعية بنسق قوي منسجم مع روحية الاسلام الذي تمثله سلطة الخلافة ، وإرادة جماعية تتسم بالأنفة وأهلية الريادة في حمل الرسالة الى شعوب الأرض ..

فكان جسم الأمة يتحرك كتموجات بشرية مؤمنة بربها و ملتزمة بدينه ، وتعمل وفق إرادة الله في إطلاق ما ترك للعبد من هوامش كي يثبت طاعته المطلقة لله تعالى بما يرضيه ، ويؤمن لبقية العباد خدمة إخوانهم المبدعين لهم في تطوير مناحي حياتهم الدنيوية ..

وعندما تتجول في صفحات التاريخ فانك تجد واحات أو مدن زاخرة بسكانها المبدعين ، فتذهب لمدينة الفلك فتجد من يجذبك بجديته الدءوبة ، وتذهب الى مدينة الطب فتجد من يشدك نحو مبدعيها ، وفي اللغة والكيمياء والموسيقى والفلسفة وفي كل مناحي الحياة .. بطرز (معمارية ) متناسقة بين تلك المدن ، ويطيب لك البقاء في كل مدينة دون ضجر أو تفضيل من واحدة لأخرى ..


ومن هنا كان تماسك الأمة و بهاء لونها هو الطاغي على سماتها العامة ، ولم يكن للأمم الأخرى أي قدرة على مطاولة تلك الأمة .. بل كان الإعجاب والاحترام هو السمة التي كانت تطبع سلوك الأمم تجاه أمتنا ، فكانت تتمثل بتقديم الهدايا ، إعجابا واحتراما وهيبة ، وكانت مناهل الأمة مبذولة أمام كل أبناء الأمم لينهلوا من علمها ومعرفتها ، وهذا يتفق مع روحية الرسالة و هو ما مهد الطريق أمام الكثيرين لاعتناق الاسلام دون حروب فيما بعد ..

أما اليوم فان خاصة الخاصة تغلق جدرا حولها و لا يكاد يرشح من علمها ومعرفتها المحدودين ما يفيد أبناء الأمة ، فقد أغلقت المنافذ بين أصناف طبقات المعرفة ، حتى غدت وكأنها جزر لا اتصال بينها ..

فمفردات اللغة المكتوبة و المسموعة لا يكاد يفقهها الا القلة ، ومجالس العارفين لا يرتادها الا القلة ، وكتابات العارفين لا يقتنيها الا القلة .. وعندما يقتنوها بالصدفة فان الزمان الذي كتبت به سيصبح قديما ، عندما يتم قراءتها فتنعدم الفائدة من الاطلاع عليها ..

فالعلامات الثقافية هي كعلامات المرور ، يجب أن تكون علامة التحذير من منعطف قريبة بمسافة كافية من المنعطف نفسه ، فلا فائدة منها اذا وضعت بعد المنعطف بعدة أميال .. ولما كان تسارع التطور الحضاري في العقود الماضية من التقارب بمكان ، فعلى واضعي الإشارات الثقافية ان يكونوا على أهبة الاستعداد لوضع إشاراتهم في وقت يسمح للآخرين الاستفادة منه !

ابن حوران 08-11-2005 06:03 AM

كلام في موضوع العقل العربي

(2)

لم نقدم التقديم الأول من باب البطر الثقافي أو حشو الكلام ، لكن قدمناه كمحاولة للتمهيد لموضوع العقل العربي ، لتقديم ما يمكن من إسهام في منع الإحساس بالشعور بعبثية أداء المثقفين العرب ، و خيبة أملهم في اعتبار أن ما يقومون به هو عبارة عن نشاط لأناس عديمي الوزن ..


فان كان هذا الإحساس قد استفحل عند القارئ العربي .. فعزف عن قراءة ما يكتب ، حتى لو كان جادا .. فاذا شعر الكاتب أو المثقف الذي يحاول تقديم جزءا من رسالة الأمة في تصويب وضعها .. فان ينابيع هذا الجهد ستنضب شيئا فشيئا ، بحجة أنه لا يوجد من يقرأ ولا يوجد من ينتقد . وعندها ستملأ هذا الفراغ أقلام تم بريها أو تحضير مدادها في أمكنة مشبوهة ، همها الأول هو الإجهاز على ما تبقى من قلاع للدفاع عن موروثنا الحضاري ..


لكن لماذا ربطنا العنوان بمصطلح العقل ؟ فهل هناك عقلا عربيا و عقلا روسيا وعقلا أمريكيا الخ .. أليس العقل مصطلحا يقترن بالإنسان دون تخصيص جنسيته ، بل فقط لنميزه عن الحيوان و الكائنات الحية الأخرى ؟ ألم يكن من الأفضل استخدام كلمة فكر بدل عقل ، كي نخلص من تلك التساؤلات ؟ ..


بيد أنه لو استخدمنا كلمة فكر ، لتراءى لنا حصيلة النتاج الفكري لأمة من علوم مختلفة من فلك ورياضيات و طب و هندسة وفلسفة .. وهنا سيكون التمييز أكثر وضوحا عند أمة عن غيرها من الأمم . لكننا لا نناقش الفكر هنا كنتاج بل نناقشه كأداة منتجة لهذا النتاج .

ان الفكر ونتاج الفكر رغم ترابطهما العضوي و الصميمي ، لا يدلان في حالتنا العربية على الدلالة التي يرمز لها العقل ، فمصطلح العقل والذي ورد بالقرآن الكريم هو أو مشتقاته ( أفلا يعقلون ) ، له دلالة أكثر قدرة على التعبير عن العملية التي تتصل به في وقائع حدوثها أو استعمالها ..


عندما يكتب أحد المستشرقين عن واقع الأمة العربية ، أو يتناول أحد مناحيها فانه مهما اجتهد ، لن يكون ما يكتبه مطابقا لما هو فيها سواء كحالة عامة ، أو حتى المنحى الذي اختار الحديث عنه . كذلك الأمر عندما يؤلف أحد أبناء العرب عن أرسطو أو إفلاطون أو شكسبير .. وان نال فيما يكتب شهادة عليا ، فان كتابته ستكون ناقصة . ونقصان قيمة الكتابة آت من أن الكاتب في كل الحالات السابقة ، يكتب من خارج الحالة التي يكتب عنها ، أي أنه سيستخدم أداة ( العقل) التي لا تمت بصلة عن الحالة التي يكتب عنها .


اذ أن التفكير بواسطة ثقافة ما ، معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها ، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة الى المستقبل ، بل والنظرة الى العالم والى الكون والانسان ، كما تحددها مكونات تلك الثقافة . فاذا كان الإنسان يحمل معه تاريخه شاء أم كره ، كما يقال ، فكذلك انه يحمل الفكر معه ، شاء أم كره ..

العنود النبطيه 08-11-2005 07:43 AM

Re: كلام في موضوع العقل العربي
 
إقتباس:

الرسالة الأصلية كتبت بواسطة ابن حوران
[color=FF0000] فالعلامات الثقافية هي كعلامات المرور ، يجب أن تكون علامة التحذير من منعطف قريبة بمسافة كافية من المنعطف نفسه ، فلا فائدة منها اذا وضعت بعد المنعطف بعدة أميال ..

اخي الكريم ابن حوران

في هذه الحقبة المظلمة من تاريخ امتنا

نرى ان مشعل النور يقع في ايدي النخبة المثقفة

وعلى عاتقها يقع حمل التوعية والتنوير

فكيف ترى اخي ان تكون البداية

بعد هذه التراجعات المتتالية

وكيف تكون الخطوة الاولى للامام

بعد كل هذه الخطوات للخلف

بماذا تقترح ان تكون البداية وكيف؟؟؟؟؟

ابن حوران 12-11-2005 06:48 PM

أشكرك على المرور ..

أما لو كان أحدنا يزعم أن لديه و صفة تخلص الأمة مما هي فيه .. لكانت
الأمور أقرب للسحر .. و لكن تسهمين حضرتك كما يسهم الآخرون في الإشارة الى
ما يعتقد أنه جانب مهم .. فيمتلئ الفضاء الذهني بإشارات تتشذب شيئا
فشيئا بالمثاقفة و الديالكتيك .. وعندها سنلحق بإذن الله بمن سبقنا ..

ابن حوران 12-11-2005 06:52 PM

كلام في موضوع العقل العربي

(3)

بدءا لقد أثرت بي كتابات المفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري ، في هذا الموضوع (العقل) قبل خمس عشرة عاما .. وقد كنت أعاند نفسي معاندة كبيرة ، في محاولة هضم ما أقرأه .. فلا أمل من المحاولة بعد المحاولة ، خصوصا عندما يكون الموضوع يستهلك جانبا كبيرا من الوقت الذي كنت بحاجة ماسة له في تمشية أعمالي اليومية ، وهي كثيرة و متشعبة و تحتاج انتباها كبيرا ..


ولكن ما أن أعتقد أنني استوعبت شيئا ، حتى تفتح شهيتي على المعاندة و محاولة استيعاب المزيد .. ولما كنت أكبر بالرجل عمقه و حسن بناءه للمواضيع الكبرى ، كانت تنتابني موجات من مشاعر الأسى . صحيح أنني لست في امتحان لضرورة فهم ما في ثنايا طيات الكتاب .. فان فهمته أو لم أفهمه فليس هناك أثر مادي كبير و آني على ما سيؤول اليه وضعي ..


وعندما كنت أيئس أضع الكتاب بين عدة آلاف من الكتب في مكتبتي .. و أتأمل ذلك و أقول : كم من الأشخاص الذين يدعون الثقافة يعملون مثلي ، فيقتنوا الكتب ليذكروا ذلك من باب التباهي بتلك الخاصية ..


ثم بعد أن اعتقدت أني على قدر كاف من فهم ما جاء بالكتاب ثم السلسلة التي تلته ، انتابني شعور بالأسى ، وهو كيف يمكن لأكبر قدر من المثقفين أن يستفيدوا من تلك الأعمال الضخمة .. وتذكرت صديقا لي رئيس قسم الاجتماع في أحد الجامعات العربية .. حيث أطلعني على مئات الدراسات ( عناوينها ) من رسائل للماجستير و الدكتوراة .. وعندما سألته عن الكيفية التي تتحول به تلك الدراسات لإجراء يستفاد منه على صعيد المجتمع الواسع ، زم شفتيه وهز رأسه فأدركت كم نحن متخلفين عن أجدادنا عندما كانوا يتدرجوا في تفهيم مستويات الشعب على مراحل من خلال الشروحات الأقل تعقيدا ..


وعندما تذكرت أهمية دراسات الدكتور الجابري ، طبعا لا أزعم أنني على قدرة كافية بحيث أنني أتناولها بالشرح و التبسيط ، لا من حيث تغطيتها مجتمعة ، ولا من حيث التيقن من قدرتي على الاستمرار بتلك المحاولة لنهايتها ..


فهاأنذا أحاول الكتابة بهذا الموضوع ، ليس كشارح ولا كناقد ( حاشا لله أن أدعي تلك القدرة ) . ولكن سأكتب بقدر فهمي لمسائل قد تتماس مع ما كتب الرجل في بعض النقاط . فآليت على نفسي أن أذكر ذلك في تلك المقالة ، حتى اذا قرأ أحد المطلعين على كتابات الجابري ، لا يقذفني بصفات لا أتعمد أن تكون لدي !

ابن حوران 28-11-2005 07:28 AM

مناقشة العقل كأداة :

لنبتعد عن التصور بأن العقل هو رديف للفكر أو هو نفسه ، ولندرب أنفسنا على النظر اليه بوصفه كأداة ، وان تأخذ الأداة أحيانا صفتها التي تتكون لدى مستعملها ، أو من تعرض عليه ضمن حديث ، من خلال العمل الذي تقوم به .

فان ذكر لنا سكين أو شاكوش ، تقفز لدينا صورة العمل الذي تقوم به كل من تلك الأداتين ، ولا يمكن أن نبتعد بفصل العمل والدور التي تقوم به الأداة عن اسمها .

وكذلك الأمر بالنسبة للعقل كأداة تنتج عملية إكتناه ( تذوق وتقييم ) ما يعرض عليها من نتاجات سواء كان الناتج ، مادي كمادة غذائية أو صناعية ، أو ناتج ذهني كالفكر الأدبي و الفلسفي ..

وعندما اخترنا العنوان (كلام في العقل العربي ) ، لم نختره لتمجيد العقل العربي باعتباره ( خارقا ) أو استثنائيا ، ولم نختره لتبيان مدى انحطاطه (حاشا لله ) .. بل اخترناه لتبيان تلك الخصائص التي ينفرد بها كأداة ، كما تتكون لدى أي عقل آخر خصائص ، سواء كان يوناني أو صيني أو هندي الخ ..


هناك تمييز وضحه (لالاند) في الكلام عن العقل ، من المفيد الاستعانة به لصناعة مقتربات الحديث عن هذا الموضوع الذي يبدو أنه جاف و قاتم ، رغم ضرورة الحديث عنه للاستعانة بتفسير ما يجري حولنا ..

يضع لالاند العقل المكوِن ( بكسر الواو المشددة ) ويميزه عن العقل المكوَن (بفتح الواو المشددة) .. و أعطى الأول صفة الفاعل و الثاني صفة السائد ..

والعقل الفاعل هو عقل يتساوى به الجميع في كثير من الجوانب ، حيث يميز به الانسان عن الحيوان من خلال إدراكه العام للمخاطر ، الإرتفاع الشاهق النار ومخاطر ردات فعل الآخرين المفاجئة ، وان كانت تلك الصفات قد توجد عند بعض الحيوانات ، الا أنها تتميز عند الإنسان بأنها قابلة وقادرة على إنتاج قوانين ، تصبح على مرور الزمن مسلمات تسهم في تكوين العقل (المكوَن) أو العقل السائد ..


اذا سلمنا بهذا التمييز ، و نظرنا للعقل العربي السائد ، سنكون مطمئنين اذا ما عرفنا أن التأثير التاريخي المتراكم من ثقافة و حضارة و آثار و تراث ، وفن وسلوك متواصل عبر الأجيال ، بأن عروبة العقل العربي لها خصائص ، لم يحدث الخلط الثقافي والحضاري العالمي ما يفقدها السمة العامة لتلك الخصائص.

وان كنا لا نستطيع محاكمة العقل العربي الا من خلال ( العقل السائد) الذي اضطرب بعض الشيء في القرن الماضي ولا زال مضطربا ، في حسم انتماءه وولاءه للعقل الفاعل .. فبين موجات عقلية سائدة ، تريد الذوبان بالعقل الفاعل وبين موجات مشككة في وجاهة هذا النوع من العقل ..

ابن حوران 06-12-2005 06:30 AM

فحص العقل العربي من خلال غيره :

قد يكون هذا العنوان به شيء من الغرابة ، ولكون الموضوع به من المادة الجافة التي لا يرغبها الكثير من الناس هذه الأيام ، رغم أهميتها في الاستدلال على ما يجري حولنا ، من خلال تقمص النظر بآلة نظر الغير تجاهنا ..

و تكون متابعة هذه المواضيع ، كمتابعة أثر في الصحراء ، عندما يتقصى أحدهم أثر غيره .. فبين فعل الرياح و تداخل أقدام المارة وهم قلة ، و تشابكها مع آثار بعض الحيوانات البرية و غيرها ، قد يقع المتتبع بالتيه .

ولكي لا نضع أنفسنا بتيه مماثل ، فان مناقشة العقل ستنحصر بالعقل اليوناني والأوروبي ، مقارنة بالعقل العربي ، ليس لأن الآخرين من أهل حضارات في الصين والهند ووادي النيل و العراق القديم ، لن يكونوا أهلا للاستثناء ، بل لأن الصبغة العامة للنشاط العقلي عندهم كانت أقرب للطقوس السحرية و الميتافيزيقة ، أكثر منها في حالات اليونانيين و الأوروبيين و العرب .

****

لنناقش في البدء الثقافة اليونانية ونشاط العقل بها :

يقول كوسدروف ( يتحدد نظام كل ثقافة تبعا للتصور الذي تكونه لنفسها عن الله والإنسان و للعالم ، وللعلاقة التي تقيمها بين هذه المستويات الثلاثة من نظام الواقع ) .

وكان هناك فيلسوفان لهما الأثر البالغ ، في تكوين خط بداية لإطلاق العقل في شرح و تصور تلك العلاقة . وهما (هراقليطس) و ( اناكساجوراس) . فالأول هو من ابتدأ بالقول بفكرة ( اللوغوس) أو العقل الكوني .. فبعيدا عن الأساطير قال بوجود (قانون كلي) يحكم الظواهر ويتحكم في صيرورتها الدائمة الأبدية .

لقد قال هيراقليطس بملازمة (محايثة) العقل الكوني الطبيعة وتنظيمها من داخلها ، فهو بالنسبة للطبيعة كالنفس بالنسبة للإنسان .. وهو أشبه بنار إلهية لطيفة .. أو نور إلهي .. يسري في الطبيعة ويحكمها ..

أما (اناكساجوراس) فقال بشيء مختلف عن هذا العقل الكوني ، اذ أطلق عليه (النوس) .. وقال ان الأجسام تتكون من أجسام صغيرة متناهية في الصغر ، وتسبح في الكون عمياء لا تعلم مصيرها . وان مهمة العقل الكوني (النوس) هي تنظيمها و تحويلها لأشياء لها معنى و فاعلية منظمة ! ونظريته لا تترك مجالا للصدفة . ويقول ان هذا العقل الكوني هو من شكل الكواكب و الكائنات المنتشرة في كل الكون وفق نظام يعرفه هو .

ويختلف هنا عن هيراقليطس ، بان العقل الكوني لا يعيش وسط هذه الأجسام بل خارجها ، وهو الذي ينظمها !

اننا عندما نتتبع هذه الأقوال ، نستطيع تلمس إيمان هؤلاء الفلاسفة الذين عاشوا في أجواء ما قبل معرفتهم بالأديان السماوية ، بأنهم يبحثون عن الله من خلال آثار خلقه .. فهم يرفضون الفوضى في هذا الكون ، ويدركون ان نظامه المستقر ، وراءها قوة لا يدركونها بالحس المادي ، لكنهم يقرون بعظمتها .

ابن حوران 14-02-2006 03:59 PM

بين العقل العربي والثقافة :

(1)


اذا اعتمدنا تقسيم لالاند ، وناقشنا العقل العربي (المكوًن) (بتشديد الواو المفتوحة) .. وسنبقى على االتزام بهذا النوع من العقل ، حتى لا نضطر لتشكيله أو تعريفه بين قوسين .

ان العقل العربي المكون ، بوصفه جملة المبادئ والقواعد التي قدمتها وتقدمها الثقافة العربية ، للمنتمين اليها كأساس لاكتساب المعرفة .. وتفرض في نفس الوقت على هؤلاء المكتسبين نظاما معرفيا خاصا بهم ..

واذا أردنا أن نعرج مبكرا على النظام المعرفي ، حسب شرح (لالاند) نفسه ، فهو يقول بان العقل المكون : منظومة من القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما . هنا ينتهي تعريف لالاند .. وهنا يبدأ تتبعنا عن الفترة التاريخية المتصفة بال (ما) ..

فأي فترة من فترات التاريخ العربي نقصد ؟ عندما نتحدث عن العقل العربي بوصفه هذه ( المنظومة من القواعد ) . فاذا كان تعريف النظام المعرفي : هو جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية .. أو يمكن اختزال تعريف النظام المعرفي الى : هو البنية اللاشعورية .. فماذا يعني هذا الكلام ؟؟

عندما يتم الحديث عن أي مسألة بنيوية ، فالمعنى بهذا الحديث أساسا ، وجود ثوابت ومتغيرات .. وكذلك الحديث بالنسبة للعقل العربي ، فهناك الثابت وهناك المتغير .. وهو في الحقيقة يصلح للحديث عن الثقافة العربية ، وهذا ما يلزمنا عدم الفصل بينهما ، ذلك الفصل البائن ..

وقد يسأل سائل : هل يعني هذا اننا نوحد بين العقل والثقافة التي ينتمي لها على أساس أنهما مظران ل (بنية) واحدة ؟؟

ليكن ذلك ولكن بشرط القبول بالتعريف المشهور للثقافة (الثقافة هي ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء) .. عندها ستهدأ نفوسنا وندرك تلك الصلة بين العقل والثقافة ..

يبرز هنا تساؤل وجيها وبريئا : (ماذا بقي ثابتا في الثقافة العربية منذ العصر الجاهلي الى اليوم ؟؟ ولكنه سيفقد براءته ويصبح سؤالا ماكرا ، اذا أعدنا صياغته ب ( ماذا تغير في الثقافة العربية منذ الجاهلية الى اليوم ؟) .. وسيصبح سؤالا مستفزا للمثقف العربي ، أقول المثقف العربي .

فنحن نشعر أن زهير بن أبي سلمة وعنترة وابن عباس وابن حنبل والجاحظ وابن الأثير والفارابي والمتنبي .. حتى نصل الأفغاني و محمد عبده .. والعقاد ومحمد قاسم الشابي وبدر شاكر السياب واحمد شوقي و نزار قباني الخ من قوافل المبدعين .. نستشعر كأنهم أبطال مسرحية واحدة لم يسدل ولو للحظة واحدة ، فبغض النظر عن الزمان والبقعة الجغرافية ، فكل هؤلاء الشخوص قائمين .. يراهم المثقف العربي الذي يعقلن ما يرى من أحداث فيبدي رأيه بها أو يتصرف إزائها ..

ابن حوران 18-02-2006 04:51 AM

بين العقل العربي والثقافة

(2)

عندما ذكرنا في موضوع تعريف الثقافة ، بأنها ما يبقى بعد أن ينسى كل شيء ، فإن الذي ينسى لا يعدم بل ، سيخزن في اللاشعور و يستخدم في المسألة الإيبستمولوجية ، أي إكتناه المعرفة أو معرفة المعرفة و النظر اليها نظرة تقييمية سواء بالقبول أو التنافر والتضاد ..

ولتقريب تلك المسألة ، سنذكر على وجه السرعة ، ما نظر اليه كل من (جان بياجي ) و ( فرويد ) و(كروباسكايا ) .. للتأسيس على ما نرمي اليه في هذا الجزء من الحديث عن العقل العربي .

لقد حدد (جان بياجي) أن ما ينسى من الثقافات ، يخزن في (اللاشعور) ودون علم من خزنه ، والكيفية التي تم التخزين بها ، أو الكيفية التي يستخرج منها ذلك المخزون لاستعماله في الحكم على الأشياء ، أكبر ، أصغر ، أحلى ، أبشع ، أقوى ، أضعف ، أصعب ، أهون ، الخ من تلك الثنائيات التي يتخذ إزائها حكم بلمح البصر ..

تماما كما حدد فرويد تلك المسألة بالنسبة للعاشق و المعشوق ، لا يعلم لماذا يؤثر المعشوق دون الآخرين على عاشقه ، ويحدث له كما هائلا من الاختلاجات والهيام ، ولا يدري الكيفية التي تتم بها تلك التفاعلات الداخلية ، وقد تكون تلك الاختلاجات مثارا لانتقادات بعض المتعقلين ، الذين يسفهوا من فعل العاشق ، تجاه معشوقه ، في حين يقومون هم بنفس الاختلاجات مع معشوق آخر ، ولا يمكن تفهم تلك المشاعر دون أن يمر الشخص بتجربة مشابهة مع معشوق بعينه وهذه لا تتكرر في حالات الأفراد ..

أما (كروباسكايا) ، فإنها تقرر أنه لا يمكن أن تضاف معرفة أو عناصر معرفة جديدة الى معرفة الفرد ، الا إذا كان هناك نتوءات معرفية تستقبل تلك المعرفة الوافدة حديثا ، والمقصود بذلك أن الديانة مثلا عند الطفل تكون نتوءا معرفيا ، فالطفل المسلم لا يتقبل معرفة الديانة البوذية و يضيفها اليه كونه لا يملك نتوء معرفي خاص بها ، و طالب التاريخ ، لا يستطيع استيعاب أو مواصلة قراءة كتاب عن النظرية النسبية .. ما لم تستحدث نتوءات معرفية في كل الحالات !!

قد يقول قائل : وما علاقة كل هذا الكلام في مسألة العقل العربي ؟ .. لقد أوضحنا في الإيجازات الثلاثة السابقة ، حالات إثارة و إشغال إحساس الفرد كفرد ، ونحن هنا في حالة مناقشة عقل أمة ، إذا صح التعبير .. ففي حالة الفرد قد نستطيع تحديد زمن تكون الحالة الثقافية أو المعرفية أو حتى العاطفية ، على وجه التقريب ، لكن في الأمة ، كيف سيحدث ذلك ؟

لو أخذنا حالة الغرب ، كونه يضايقنا في ثقافتنا وعقلنا ووجودنا ، كمقياس للمقارنة ، فإننا نرى أن الغرب يحدد في حديثه عن نشاطه العقلي و الفكري في التاريخ الميلادي ، فعندما يحكي عن فيلسوف قديم يقول في عام 456ق م ، أو قسم تاريخ نشاط عقله الى العصر القديم و العصور الوسطى و عصر النهضة أو التنوير والعصر الحديث ، ويجد القارئ أن الحديث مترابط ، وكل عصر يدفع باتجاه الذي يليه ، ولا يتخاصم معه ، بل كل العصور على علاقة خدمية واضحة أو علاقة سلالاتية ان صح التعبير ..

في حين ، نؤرخ نحن حسب الحكم ، فنقول العصر الجاهلي و الأموي والعباسي ، ونغيب عدة قرون قد تصل الى ثمانية ثم نتحدث عن العصر الحديث أو عصر النهضة .

ونلحظ تداخل الأزمنة الثقافية في نفسية المثقف ، بشكل كبير ، وتخرج علينا في كل قرن دعوات قوية و مصرة ، لنسف كل ما استحدث على عصر من العصور . وتجد مثقفنا مثقفا جوالا متغيرا يوم علماني و يوم متدين ويوم ليبرالي و يوم يساري ويوم يميني ..

إن عدم التواصل في التطور هو ما جعل ثقافتنا و مواطنها أشبه بالجزر غير المربوطة ببعض عبر جسور ، فيقفز المثقف من جزيرة الى أخرى ، الى غير رجعة ، بل ويصنع قطيعة وعداءا مع سابقتها ، لقد تعامل المثقف مع تاريخه الثقافي ، كتاريخ ممزق ، فيستخرج أحيانا مقولات قديمة و يطرحها كمقولات حديثة ، ويستقبل مقولات دخيلة من غير حضارتنا و يطرحها على أساس بديل لا بد من اتباعه ..

لقد كان المفكرون من أجدادنا ينهون مقالاتهم ، ب ( والله أعلم ) ، وهي دلالة على تواضعهم وتقريرا عن عدم انتهاء البحث فيما قالوا.. ولكن المثقفون في هذا اليوم ، ينهونها ، ب ( و إن لم يعمل الناس بتلك الفكرة فالويل والثبور لهم ) .

لو أنهينا مقالتنا باستعارة مصطلح (ابراهيم بن سيار النظام ) . . بأن زمن الثقافة ليس ( مدة تعدها الحركة ) وحسب بل هو كذلك ( مدة يعدها السكون ) .. كما في انطلاقة السهم ، لا بد من ذكر حركة التوتر و شد القوس قبل الانطلاق !

ابن حوران 24-02-2006 05:36 AM

بين العقل العربي والثقافة

(3)

ان تشبيه الحياة الثقافية بالجزر المنقطع بعضها عن الآخر ، لم يكن تشبيها به مبالغة ، كما راجعني البعض بخصوصه ، بل إن هذا الوضع قد أثر على حياتنا الثقافية الراهنة ، وحاصرها محاصرة شديدة ، فعطل بذلك خدمة الثقافة العربية لأهدافها التي لم تفتأ منذ بداية تكوينها ، على الزعم بأنها تنشد الوحدة ، وتزعم بأنها تنشد سد أبواب الفرقة ..

ولكن استحضار مكوناتها منذ بداية التكوين ، و التسلح بها من أجل خدمة الأهداف ذاتها ، يوقع المثقفين والمفكرين ، في التمترس وراء إحداثيات تكوين تلك الثقافة ، فتصبح كأنها اجترار وتكرار و إعادة تكوين بشكل رديء ، حيث أن قوة تلك الأفكار و بريقها كان يبرر من الأحداث التي أحاطت بها وولدتها ، على لسان مؤرخين أو أدباء صاغوها وفق قراءاتهم لتلك الأحداث ..

فيصبح عقل المثقف الراهن ( كأداة ) لتقييم ما يجري حوله ، و صناعة مخططات المستقبل كمنهاج من قبل جيوش المثقفين و المفكرين الراهنين ، يصبح متأثرا ، بل و أسيرا لرؤية من افتتن بهم من مؤرخين و فقهاء سابقين .

ان النزوع لإعادة كتابة التاريخ الثقافي ، بهدف تمهيد طريق التفكير الوحدوي سواء بروح قومية أو اسلامية ، له ما يبرره إذ :

1 ـ ان تاريخ الثقافة العربية الذي نقرأه من خلال مناهج المدارس و الكليات ، هو تاريخ فرق ، وتاريخ طبقات و تاريخ مقالات وتاريخ رؤى مجزأة ، فهو تاريخ مفرق و ليس تاريخ موحد ، ومن الخطأ الانجرار الأعمى وراءه ، بشكله المقدم الينا من أجدادنا ، دون فهم دواعي تقديمه بهذا الشكل ..

2 ـ ان التاريخ الثقافي العالمي و العربي الراهن هو تاريخ ثقافي متخصص ، في حين كنا نجد بعض الفلكيين من أجدادنا يؤرخوا للفلك والفقه و النحو معا ، كما كان بعضهم يثبت مقالاته في الموسيقى و الطب والشريعة ، لذا فان الإقتداء الثقافي بأحدهم في مجال سيصطدم مع نظرة لا تكون ملزمة للمثقف الراهن أن يأخذ بها في مجال آخر ..

3 ـ ان زمن التاريخ الثقافي العربي الراهن ، هو زمن راكد أشبه ما يكون بالمعرض أو السوق ، تعرض به بضائع قديمة الصنع الى جانب سلع حديثة الصنع ، وتجد كل البضائع مشترين لها وفق خلط لا يكاد يكون ظاهرا في غير الثقافات العالمية .. فالأزمنة الثقافية عندنا متداخلة بشكل لا يولد قديمها جديدها بل يؤاخيه و يزامله و أحيانا يتقدم القديم على الحديث ..

4 ـ كما أن أزمنة التاريخ الثقافي العربي متداخلة ، فإن الأمكنة كذلك متداخلة ، فإن الروايات التاريخية تتناقض من حيث المكان لنفس القضية ، فان أردنا أن نقيم ما حدث في واقعة مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ، فان كتابات ابن عبد ربه الأندلسي أكثر حيادا من كتابات من هم في أمكنة أخرى .. فهنا قد يرتبط وعينا بأماكن الكوفة و البصرة والقاهرة والقيروان وقرطبة و دمشق ، بتنقل متداخل ، مع تداخل الصور المنقولة لمؤرخين و أدباء تلك الأماكن وغيرها .

5 ـ ان هناك اضطراب و انقطاع بين تاريخنا الثقافي العربي و التاريخ الثقافي العالمي ..وهو على حساب تاريخنا بالطبع ، على حساب دوره ومكانته في التاريخ العالمي ، ففي حين يدعي الغرب بأن أثر أجدادنا ، لا يكاد يرى ، فيؤسسوا لتاريخ أوروبا الثقافي من أيام اليونان الى العصر الحاضر مغفلين أثر العرب ، في تقديم تاريخ أوروبا القديم ، شارحين له و موظبين له بصورة فهمتها الأجيال التي تناولتها من العرب .. فان المثقفين العرب الحاليين غير قادرين على إثبات ذلك الأثر للعالم ، بل وقد يشاركونهم التشكيك بضحالة دور أجدادهم !

ابن حوران 06-03-2006 06:25 PM

الحديث عن تاريخ تطور الفكر العربي :

لقد اتفقنا منذ البداية للحديث عن العقل العربي .. كأداة للتفكير و التعقل ، تتكون من مخزونها المعرفي ( الثقافي و الفكري) .. لكن لو أراد أحد أن يتحدث عن نقطة بداية لتاريخ تلك الثقافة وذلك الفكر ، لاستطاع ان يهتدي لثلاثة نقاط بداية : الأولى تعلن عن التاريخ الجاهلي وهي بالكثير تمتد مئة سنة قبل الإسلام ، و نقطة البداية الثانية : هي العهد الإسلامي الذي يمتد متصاعدا الى ثمانية قرون ثم يتوقف وينحدر ، أو يختفي الى حين .. أما نقطة الانطلاقة الثالثة : فهي ما يسمى بعصر النهضة العربية والتي يؤرخ لها في بداية القرن التاسع عشر ..

ولكن لو أخذنا العصر الجاهلي ، فان تكوينه ارتبط ببقعة الجزيرة العربية ، وغير ملزم للتأريخ به في مناطق حسبت على المنطقة العربية ولا زالت ، فلا تعني وقائع تكوين الفكر أو الأدب بأشكاله المعروفة و التي طغى عليها الشعر .. مناطق كالمغرب العربي أو مصر أو السودان أو بلاد الشام و لحد ما العراق .

لكن الفترات التي تكونت بها المرحلة الثانية ( الإسلامية ) كانت تعني بالاطلاع على الأدب الجاهلي كمورث لصناعة الأدب الإسلامي ، بالرغم أنه لم يصنعه أو يؤسس عليه .. كما هي الحال في المرحلة الثالثة ( النهضة ) .. حيث لم تصنعها ما قبلها ، بل عندما نقوم بآلة تصويرنا لأي مرحلة ، نجد المرحلتين يظهران بالصورة ، رغم عن أنف المصور !

فكانت قرطبة كما هي مراكش كما هي بغداد والقاهرة و دمشق ، تتداول فكر المرحلتين الأولى و الثانية دون تكلف .. وكان رجال الفكر يتنقلون بين تلك الحواضر دون حرج ، ودون شعور بالغربة ..

أما في المرحلة الثالثة فكان المشرق العربي قد سبق المغرب بعدة عقود في تأسيس المرحلة الثالثة ( النهضة ) .. ولكن مع ظهور خصوصية القطر التي لازمت التفكير بالصورة الوحدوية ، لكن دون أن تشتهي بإلغاء الحالة القطرية ، فأصبح ظهور المراحل الثلاث متلازما متحاذيا ، لا يفترقن عن بعض ، بل ويتزاحمن في إثبات السيادة لواحدة على الأخريين .. حتى أصبح الماضي كجن يلازم الحاضر و يكبله دون أن يسمح له للانفلات و التأسيس لشكل يؤكد خصوصيته العربية المنتمية لأصالة واضحة ، والمستمرة في التأثير عالميا بشكل منادد لمواقع الفكر العالمي ، لا متسكعة بهوية تستحي أحيانا ، وتتفاخر بتعصب أحيانا أخرى ..

إن هذه الإشكالية الصعبة التي تواجه من يريد أن ينتقد العقل العربي ( لا يصفه وصفا ) .. من أجل الخروج به ليؤدي دوره ورسالته على الوجه الأكمل ، تقتضي الكشف عن تلك الأسرار ( الجني أو الراصد ) من أجل تحرير العقل الراهن لدفعه بالمسير ..

ابن حوران 19-03-2006 06:32 AM

الإطار المرجعي للفكر العربي :

(1)

إن من أكبر المشاكل التي تواجهنا كعرب ، في تحديد بداية تكوين العقل العربي ، هي مشكلة العصر الجاهلي ، فيكاد هذا العصر يشكل لنا عمقا مجهولا ، كمجاورة بدو لصحراء واسعة ، قبل امتلاك وسائل النقل الحديثة من طائرات وسيارات و غيرها ، فالحديث عن الصحراء يعتمد على قدرة الراوي في ابتكار صور .. وهل هو فعلا كان قد تعمق عشرات الأميال أو مئات الأميال من أصل آلاف ؟ ومن يستطيع تدقيق الرواية ، طالما غابت الحقيقة .

ولكن لو أخذنا العهد الجاهلي بوصفه الواقعي الذي أشار اليه القرآن الكريم ، فسنجد أن المقصود كان واضحا في أن هناك مجتمع يفتقد الوازع المدني ، نتيجة لغياب الدولة ، مقارنة بغير العرب من الشعوب التي عاصرتهم في ذلك العهد ، ويفتقد للوازع الخلقي الذي تمثل بغياب الدين ، فاستحق بذلك الوصف الجاهلي ..

لكن لو أخذنا النشاط الذهني ( العقلي لحد ما ) لوجدنا أن هؤلاء الناس الجاهليون لم يكونوا على مستوى متخلف ، فقد كان عندهم أسواقا يتبادلون فيها الشعر والنشاط اللغوي ، الذي يوحي بأنهم على درجة واعية من التحكم في مجادلة غيرهم من أبناء القبائل .. كما أن القرآن الكريم قد أورد محاججاتهم ، فرد عليهم بلغة ، تحتاج كل آية في عصرنا الراهن الاستعانة بلغويين مهرة لتبيان مقاصدها ، وهو دليل على تعاطيهم لعلم الكلام ( القريب من المنطق) قبل تأسيسه بمراحل ..

إن ما أصبح يهمنا اليوم ، ليس الكيفية التي كانت عليها العرب قبل الاسلام ، بقدر ما يهمنا من التأثير التي تركته تلك الكيفية فيما بعد والى يومنا الحاضر ..

لقد كان عهد كل من أبي بكر الصديق و عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، مليئا بالمعاداة السافرة ومحاولة قوية وصارمة في القطيعة مع العهد الجاهلي ، تجلى في أحد أشكاله بالتأريخ للهجرة ، كرمز لإعلان تلك القطيعة ..

لكن وبعد أن تشكلت بوادر الفتنة ، في أواخر أيام الخليفة عثمان بن عفان وما ترتب عليها من اصطفاف معسكر ضد آخر من بين صفوف المسلمين .. بدا الحكم الأموي وكأنه تجسيد لسلطة الأسرة ، أكثر من أن يكون تعبيرا عن رغبة عموم المسلمين . و بنفس الوقت كان لاتساع رقعة بلاد الدولة الاسلامية ، تنامي شعور بالزهو والافتخار بالدين الجديد و الدولة الجديدة لدى أبناء العرب الذين يلتفون حول الدولة الجديدة ..

في حين كان خصوم الدولة من الراضخين من غير العرب والذين أصبحوا تحت حكمهم ، بالإضافة لأصناف من المسلمين العرب الذين لم يرق لهم حكم غيرهم لهم .. كل هذا أوجد حالة مزدوجة من نمط تفكير جديد ، حالة تتوجه الى العمق الجاهلي للتفاخر بالأنساب ، وحالة تتجه الى غير العرب من المسلمين للاستقواء بهم على الحكم القائم .

هذا صنع وعاءا و أرضية خصبة لنمو الوعي والنشاط الشعوبي ، الذي تعدى شكل الخلط المعرفي و الثقافي الى التدخل في التركيز على الطائفة ، كما حدث في تشيع الشعوبيين من غير العرب لتسهيل بقاء أجواء الفتنة قائمة ..

كما جعل هذا الأمر القائمين على الأمر في تشكيل الصورة الجاهلية ، وفق أهوائهم وتكريسا لمطالبهم في تحديد الهوية الفكرية والثقافية ، فأعيد تدوين الشعر الجاهلي بصيغ شكك البعض فيها كما حدث مع الدكتور طه حسين ..

ابن حوران 05-04-2006 09:42 AM

الإطار المرجعي للفكر العربي :

( 2 )

لو كان أحدنا في نقطة مكانية ، فان الاتجاهات التي يقررها عن الأمكنة الأخرى هي غيرها عند من يقع شمالا منه ، فان الآخر عندما يتكلم عن الأول فانه يحدد مكانه جنوبا منه .. وتكون الأمكنة بعيدة أو قريبة ، عالية أو منخفضة وفقا لمكان وجود المتكلم .. كما هي الحالة عند رواد فضاء والحديث عن الكواكب والنجوم ، فيما بينهم .. تكون المركبة التي يتحدثون فيها هي الإطار المرجعي لتحديد جهات و مواضع و أبعاد ما يتكلمون عنه ، فوق ، تحت ، أبعد ، أقرب .. وفق إحداثيات المكان الذي يتكلم به المتكلم ..

عند الشعوب ، يكون الإطار المرجعي ، في الوعاء الثقافي المتكون لدى الشعب على مر السنين . ولكن لما كان من الصعوبة بمكان أن تتجسد الثقافة وتتمثل في باطن كل فرد بالتساوي مع أفراد الشعب ، لتصبح عنده ( لا شعور ) وهي ما تجعل الناس ( يعقلون ) الأمور بنفس الدرجة ، ويصبحوا متساوين فيها ، برزت مسألة عامة وهي تصف شعبا كاملا بصفة عقلية عامة ، لا يتصف بها غيره من الشعوب .. فتجد قبائل مثل (آرابيش ) و (تشومبولي) في مناطق غينيا بيساو ، تنظر للمرأة على أنها هي فارس القبيلة لا الرجل .. وتجد في السويد أن الناس ينظرون للعروس التي حافظت على عذريتها نظرة ناقصة !

إن تكوين الأحكام و التقييم للأشياء ، ينبع من المخزون الثقافي و المعرفي لأبناء شعب ، فيصبح هذا العمل عيبا مشينا ، وهذا العمل كله نبل و بطولة استنادا للصور التي حملها المخزون الثقافي ، الذي تكون لهذا الشعب ..

ان حدود المخزون الثقافي عند العرب تاريخيا ، بدأت عام 143 هـ ، وهو بداية عصر التدوين أيام الخليفة العباسي (المنصور ) ..

وعندما بدأ التدوين ، كان الأساس منه ، هو تدوين الأحاديث النبوية الشريفة ، فبرزت نشاطات في مكة و المدينة المنورة والكوفة والبصرة ودمشق وغيرها من الحواضر العربية ، وكان هذا النشاط الجماعي قد استلزم وجود تقنيات معينة ليكتسب صفة ( علم الحديث ) .. وقد رافقه نشاط لتكوين أسس لغوية مساعدة ، لتدوين النصوص لتك الأحاديث ، وكان يقال لمن يتكلم أنه يتكلم عن ( علم) ويميز عن ( الرأي ) لمن لا يتكلم وفق شروط ( علم الحديث ) .

لكن ( الرأي) لم يكن بعيدا عن نشاط العلم ، بل كان الرأي هو ( العقل) الذي يعطي صبغة ( المعقولية ) على حديث دون آخر .. وظهرت العنعنة ( من فلان عن فلان عن فلان) .. ويختم الراوي ( رأيه) بقوله حديث ( صحيح) .. ولما كان من غير المعقول أن يكون هناك حديثا ( صحيحا) بشكل قطعي ، كما لم يكن هناك حديث غير صحيح بشكل قطعي .. ولكن صحته من عدم صحته ، جاءت وفق ملائمة ذلك النص مع ما يمتلك الراوي من قناعات تعطيه أحقية أن يطلق عليه ( حديث صحيح ) .. وهذا ما جعل بعض الطوائف الإسلامية فيما بعد بسرد أحاديث ، لا تجيزها طوائف أخرى ..

علينا أن نعرف أيضا ، أن التدوين لم يكن إنتاجا بحد ذاته ، بل كان محاولة توثيق ما أنتج من قبل عصر التدوين خوفا من ضياعه ، فكان يخضع لغربلة و تمحيص و إضافة رأي المدون الذي لم يكن بعيدا عن عين الدولة ، ولذا فإن آراء المدون ( عقله ) سيراعي جانب رضا الدولة في حدود معينة ، وإلا لما وصل الينا ما دونه ، هذا فيما يخص الآراء التي قد تمس العدالة و أحقية الحاكم في تولي الحكم الخ ..

أما فيما يخص الأشعار والآداب و غيرها ، فكان هذا المنحى يحمل معه أهواء المدونين و آراءهم ..

إذن هذه حدود الوعاء الثقافي ( للعقل العربي ) .. حيث تشكلت بداياتها في عصر التدوين ، ومن خلال رؤية و تذوق ( إيبستولوجيا ) كانت قد تشكلت في ذلك العهد .. هل بقيت تلك الظروف قائمة وشاهدة على الموروث الثقافي أم تغيرت الآن .. وكم لها من تأثير على الحالة الإيبستمولوجية الراهنة ؟

ابن حوران 17-04-2006 06:57 AM

الإطار المرجعي للفكر العربي :

( 3 )

عندما يريد الباحث ، أو حتى القارئ ، أن يتتبع أثر تكوين بداية المرجعيات للفكر العربي بعين منهجية فاحصة و متأنية ومحايدة ، وينظر في السنين الأولى لعصر التدوين وبالذات الى ( العلم ) حيث كان يقصد به الأحاديث النبوية وما يتعلق بها .. فإن عليه أن يتفحص ( ما سكت عنه ) لا ما قيل وكتب فقط .

فلو نظرنا اليوم ، في عصرنا الراهن ، عما يكتب و يفسر من أحداث ، وما يملأ الصحف والمجلات و الكتب و وسائل الإعلام الأخرى ، لرأينا أن ( ما يسكت عنه ) أكبر و أكثر و أقرب للحقيقة ، ولكن الظرف السياسي ، وموازين القوى تحتم ، أن يطفو على السطح ما أقرب ، لمن بيده القوة الأكثر .. وان كان لا يستطيع محو و إزالة ما يثار من أصوات لا تتناسب مع صاحب القوة ..

ففي عصر تدوين الحديث والفقه ، ظهر ( ابن جريج ) بمكة ، و ( مالك .. الموطأ ) بالمدينة المنورة .. و( الأوزاعي ) بالشام .. و ( ابن أبي عروبة وحماد بن سلمة ) بالبصرة و ( معمر ) باليمن و ( سفيان الثوري ) بالكوفة ، وغيرهم في أماكن متعددة من بلاد المسلمين ..

وبالمقابل ، إذا عرفنا أن ( جعفر الصادق ) الإمام الشيعي الأكبر والمتوفى سنة 148 للهجرة ، قد تم في عهده تدوين علم الحديث ، وفق النظرة الشيعية ، فان نصوص ( علماء ) الحديث قد أغفلت جهده .. كما أغفل (علماء) الحديث الشيعة جهد الآخرين ، ليس سهوا من الطرفين ، بل إصرارا وفق وجهة نظر مراجعهم العليا ، والتي لم تكن بعيدة عن النظرة السياسية السائدة ، أو ما يعارضها .

ثم أصبح التباري عند العلماء برد جهود جمع الحديث و الفقه الى ما قبل البداية الرسمية لعصر التدوين ، وهي ( 143 للهجرة ) .. فيروي أهل السنة أن جهد جمع الحديث بدأ بأيام الخليفة الأموي ( عمر بن عبد العزيز 99 ـ 101 هـ) ، حيث كتب الى أهل الآفاق أن ( انظروا الى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجمعوه ) ..

ويرد أهل الشيعة على ذلك ، على لسان أحد كبار علمائهم ( السيد حسن الصدر المتوفى سنة 1354هـ ) ، بأن الشيعة قد بدئوا بجمع الحديث منذ عهد الخلفاء الراشدين ، فيشير الى أن ( سلمان الفارسي ! ) أول من صنف في الآثار وأن أبا ذر الغفاري كان أول من صنف الحديث ، و أن ابن أبي رافع (مولى الرسول صلوات الله عليه ) ألف كتابا بعنوان ( السنن و الأحكام والقضايا ) .

لقد كانت عملية الجهد في جمع الحديث ، في أحد أهدافها الخفية ، تتم ( لشرعنة) أو ترسيم ( جعله رسميا ) الحكم السياسي أو المعارضة له ..

لقد أوصل ذاك الماضي لنا وضعا ، جعل المستشرقين ، وخدم السياسات الغربية ، أن يصنفوا أن هناك إسلام ( سني ) و إسلام ( شيعي ) .. والحقيقة أن هناك ( عقل سني ) و ( عقل شيعي ) .. أي أن الأداة التي ينظر الى الأمور السياسية والحضارية تجاهها ومن خلفية دينية ( محاذية ) أو ( متقفية ) هي ما يجعلنا نميل الى ذلك التصنيف ..

هناك مسألة أخرى ، لم ينتبه لها من قام بعصر التدوين ، وما تبعهم من متأثرين بهم ، وهي نبذت لأنها لم تدخل في جانب العلم ( ! ) .. وهي النظرة الى علم الكلام و علوم الأوائل .. إذ أن تاريخ (143 هـ ) قد سبقه جهد (واصل بن عطاء ) المتوفى سنة 131 هـ ، وجهد ( الأمير خالد بن يزيد بن معاوية ) المتوفى سنة 85 هـ ، والذي اجتهد في علوم الكيمياء و الطب والترجمة ، في حين تم إغفال جهده والانتباه ل ( جابر بن حيان ) تلميذ (جعفر الصادق ) ..

ومن الجوانب الأخرى التي سكت عنها ، هو الجهد في حركة تعريب ( الدواوين) الذي ابتدأ في عصر عبد الملك بن مروان ، بعدما أخذ التلحين باللغة ، يتأثر بموظفي الدولة ( خبراء تكوينها ) الفرس والروم .. مما جعل هؤلاء أن يلتزموا تعلم اللغة العربية ويعلمونها لأولادهم ، وهذا ترك أثرا في تطويع لغة الشعر ، الى لغة حضارية أثرت فيما بعد على مسار تلك الحضارة ..

كما أغفل التدوين الجهد الذي بذله ( ابن المقفع ) في الكتابات السياسية ، والذي ظل كتابه ( كليلة ودمنة ) يأتي بالمرتبة الثانية بالتداول ، بعد القرآن الكريم ، رغم أن آراء ابن المقفع كانت طاغية على النص المترجم ، فإنه لم يشر في الكتاب أي إشارة الى القرآن .. وهي دوافع ( علمانية ) في النظر لمسألة السياسة ، لم تنتبه لها النصوص ..

ننتهي الى القول في هذا المجال ، بأن ملاحقة الماضي لأبناء اليوم ، هي من تقود سلوكهم ونشاطهم ( الإيبيستمولوجي ) .. والذي لا بد من تحييد الجانب المعرفي به ، أو على الأقل توظيفه بثوابته و نواقضه ، فيما يمهد لمرحلة تأسيسية أقدر على التعاطي مع الواقع ..

ابن حوران 02-05-2006 10:17 AM

الأعرابي .. صانع العالم العربي ..

(1)

ليس هناك جنس من البشر ، تؤثر اللغة فيهم وفي تفكيرهم ، من حيث الشكل والطريقة ، كما يحدث لأبناء العرب .. وإن كان لنا أن نتمعن في تلك الحالة فسنجد ذلك الافتخار باللغة المعلن عنه أحيانا والصامت أحيانا أخرى ، نابع من كونها لغة حية ، لم تصمد أي لغة عند البشر بالشكل الذي صمدت به اللغة العربية .. فلا يستطيع الانجليزي أن يفقه لغة شكسبير وهي لا تساوي ثلث المدة الزمنية التي يفقه بها ابن العرب لغة شعراء الجاهلية ..

ولذلك ارتبط العربي بالفصاحة وارتبط غيره بالعجمية ، وهي الصفة النقيض للفصاحة .. وقد ورد بالقرآن الكريم ، تلك الثنائية ( لسان عربي ) وبمكان آخر ورد ( عجمي ) كنقيض للعربي .. وهذه التزكية قد دفعت العربي على التباهي بقدرته الفصيحة على أقرانه من الذين اعتنقوا الإسلام فيما بعد ، وجعلت اللغة كأداة ( عقلية ) لأداة ( العقل) نفسه على الرؤية للأمور وفهمها ..

وعندما وضعت القواعد والاشتقاقات للغة العربية منذ أربعة عشر قرنا ، ولا زالت تلك القواعد ثابتة لحد اليوم .. فقد كانت الاشتقاقات و القواعد هي ذات النهج الذي بنيت عليه المحاكمات والاستنتاجات الفقهية .. وهنا سنتوقف عند هذا الحد لنعود اليه في المستقبل عندما نتكلم عن النظم المعرفية ..

لقد أحس العرب أنهم قدموا للعالم ، دين ولغة ، و تلك الثنائية ، جعلت من يدعون أنهم اعتنقوا الإسلام أن يثبتوا إدعائهم بشكل أكثر ، في تعلم اللغة وتعلم أصولها ونحوها ، الكتابة بها .. حتى يصبحوا من الذين يؤخذ عنهم و يتم ذكرهم .

وعندما تغيرت الحروف وتغيرت الكتابة عند الشعوب المسلمة ، من العربية الى لغاتهم الأصلية ، تم ربط هذا التغير بدوافع اجتماعية وسياسية ، أثرت على صب جهود العلماء في ماعون ( أو وعاء ) التفكير الذي ، يتغذى منه العقل العربي ( كأداة ) ..

يعد المفكر الألماني ( هردر ) [ 1744ـ 1803] أول رائد ربط اللغة بالفكر ، ونحن إذ نتحفظ على دوافعه القومية في نظريته ، لا بد أن نقر بالجزء الذي يتعلق باعتبار اللغة ( قالب ) لصنع الرؤية للعالم الخارجي و تقييم الأمور .. فالطفل تتكون نظرته و تتجسد للرؤية والتعبير عن الحياة من خلال الكلمات الأولى التي يأخذها من أمه ( لغة الأم ) .. ويبني عليها مداركه تدريجيا وفق ما يسمع من الآخرين .. فهذه الكلمات أو ( اللغة ) بنظر هردر هي بمثابة القالب الذي تصنع به الأفكار ، تماما كقالب الكيك أو الطوب ..

ويضيف ( هردر ) الى ما توصل اليه الفلاسفة في ( كل التراث الفكري العالمي) بأن [ الحقيقة و الخير والجمال ] هي أسمى ما يسعى اليه كل أبناء البشر ويعطيه ذلك القدر من قدسية تلك الأهداف .. فأضاف لها اللغة ، كركيزة مستترة تنافس أو تحاذي ذلك الثالوث .. وهو هنا يرمي بطرف خفي للقومية !

لقد شارك ( هردر ) بنظرته تلك عن أهمية اللغة و أثرها في العقل ، مجموعة من العلماء ( آدم شاف ، وإدوارد سابير وولهلم فون همبولد ) فلخصوا ذلك بمفاهيم يمكن تكثيف محتواها ب ( إننا نفكر كما نتكلم .. ونتكلم كما نفكر ) ..

وهناك أمثلة كثيرة ، ساقها العلماء للتدليل على صحة نظريتهم ، اعتمدوا فيها الحالة عند بعض الشعوب البدائية .. فضربوا مثلا أن البيئة التي تحتم على عينة من الناس شكل ودلالة المفردات ، كشعب ( الأسكيمو ) حيث أن المفردات الخاصة بالثلج والإنجماد وغيرها .. ليست معروفة عند أبناء الصحراء العربية ، فقد تجد عند الأسكيمو آلاف الكلمات الدالة على الثلج و أطواره ، في حين بالكاد يعرف ابن الصحراء العربية واحدة منها ( الثلج مثلا ) .. بالمقابل فإن المفردات التي يستعملها ابن الصحراء العربية الدالة على الرمل والحرارة ، فإنها ستكون بالآلاف ، ولا يعرف ابن الأسكيمو عنها شيئا ..

ابن حوران 26-05-2006 11:36 AM

( 2 )

إذا سجلنا اعترافا لليونانيين بأنهم أول من فكر بعلم ( الفلسفة والمنطق ) ووضع له أسس و تدرج في نموه .. فان علينا تسجيل الاعتراف للعرب بأنهم أول من فكر بعلم اللغة وتقعيدها .. أي وضع أصول القواعد لها ..

عندما انتشر الإسلام بشكل واسع ، واتسعت أركان الدولة الإسلامية ذات الصبغة العربية ، من خلال لغتها التي هي لغة القرآن الكريم .. وعندما أصبح الأفراد غير العرب هم الأكثرية ، وعندما أصبح خبراء الدولة وإنشاء دواوينها هم من غير العرب ، عند كل ذلك برزت مشاعر الخوف من ضياع اللغة و كثرة التلحين ، فظهرت تلك المشاعر عند أناس غير مركزيين ، أي لم تنتدبهم الدولة الى أن ينبروا لتلك المظاهر .. بل بادروا من تلقاء أنفسهم ، وبذلوا الجهد المضني و دفعوا من أموالهم الخاصة ، للتصدي لتلك الظاهرة التي استشعروا خطورتها منذ وقت مبكر ..

فظهر كوكبة من المتصدين لتصويب تلك الظاهرة ، منهم الليث بن نصر بن سيار المتوفى في اواسط القرن الهجري الثاني ، وحماد الراوية ، و الخليل بن أحمد

لقد كان وجه الإعجاز في موضوع تدوين اللغة ، في استخدام العقلية الرياضية في ذلك التدوين ، فاتجه الخليل بن احمد الى افتراض ان هناك ألفاظ في اللغة العربية ، تتكون من حرفين أو ثلاثة حروف أو أربعة أو خمسة حروف ، فعندما استخدم ما يشبه التوافيق و التباديل في الألفاظ ، ظهر لديه هو وفريق العمل الذي معه ، ما يزيد عن اثني عشر مليون لفظا ، فأسقط المستهجن منها ، و تتبع ما يمكن أن يكون لفظا مستعملا .

فعندما يظهر لفظ مثل شغظ أو صثر ، يستبعد مثل تلك الألفاظ و يتتبع ألفاظ معقولة مثل ضرب و خبز و ساجل الخ .. وهي طريقة أشبه باستخدام المنطق الرياضي و إخضاعه للواقع اللغوي .. وإن كان هناك من أخذ على هذا المنهج وعاب عليه ..

لقد أدرك أوائل الرواد بأن لغة و ألفاظ الحواضر ( المدن) والأرياف قد تلوثت بالتلحين لاختلاط أهلها بغير العرب .. فكان توجههم الى البادية ، حيث النقاء وعدم الخلط ، فكان أكثر الناس إقبالا من قبل رواد التدوين ، هم أكثر الناس خشونة و أكثرهم فقرا ، الحفاة الجياع البعيدين عن مظاهر الحضارة ..

لقد اكتشف أهل البدو ، أهمية صفاتهم أثناء فترة التدوين ، فأصبحوا يطلبوا ثمنا بدل بضاعتهم المطلوبة .. فكان قسم من رواد التدوين يرتحل عند البدو ، ليقوم بعمله ، وقسم من أهل البدو يرتحل الى الحواضر ليبيع سلعتهم المطلوبة .

لقد كان كتاب العين أول معجم في اللغة العربية ، أو قد يكون أول معجم في كل اللغات في الأرض .. وبغض النظر عن القصص التي أوردها الكثير ممن يشككون بأن من وضع هذا العمل هو الخليل أو الليث ، فتلك قصة لسنا في صددها *، بل سنحاول تتبع أثر هذا العمل في منهجة طبيعة التفكير ، أو طبيعة إطلاق العقل و تشغيله (كأداة ) ..

لقد أخضع الرواد الأوائل اللغة الى عملية تصنيع ، وبدوافع قومية و دينية قوية ، فلو سلمنا بالرواية التي تقول أن الليث بن ( المظفر) بن نصر بن سيار ، هو من قام بوضع هذه المنهجية ، للمسنا وجاهة القول بهذا النوع من التشكيك ، خصوصا إذا عدنا الى ( النصر بن سيار) والي الأمويين الداهية ، في خراسان ، والذي طالما حذر حكام بني أمية مما استشعره من خطر فارسي على العروبة ، وعلى الحراك الذي كان يحاك في خراسان لقلب نظام الحكم ( العربي) .

قد لا يتفق مع هذه الرؤية ، الكثير من الكتاب الذين لا يروا أن هناك عقلا عربيا ، ولا هناك زمنا ثقافيا ، كما طرح ذلك الدكتور هشام غصيب في كتابه الموسوم ب ( هل هناك عقل عربي؟) .. والذي وضعه لتفنيد ما جاء في سلسلة الدكتور محمد عابد الجابري ..*

إن نهج اللغويين هذا قد أثر في النحاة ( أهل النحو ) فأخذوا يتسابقون معهم صوب الأعراب ( سكان البادية ) .. وقد يتساءل القارئ : ولماذا كل هذا التسابق نحو الأعراب ، إذا كان الهدف منه حماية الدين واللغة ، فلما لم يتم التوجه الى القرآن نفسه ؟

لقد خشي الرواد الأولون من عدم قدرتهم على تحصين القرآن من القرآن نفسه ، لأنه جاء على سبع قراءات ، ولو أنهم توجهوا إليه لدخلوا في تخريجات (تأويل ) .. قد لا يعطيهم التحصين الكافي للقرآن ، فأرادوا الذهاب الى منابع اللغة التي نزل بها القرآن .. فاتجهوا الى المعزولين من العرب (البادية ) حيث لا اختلاط و لا تلحين .. كما اهتموا في ذات الوقت لجمع الشعر الجاهلي ، كمنبع ثابت و تقني من منابع اللغة .

لكن لا بد من تثبيت مسألة هنا ، وهي أن قولبة اللغة بالقالب البدوي ، والابتعاد عن المصادر الحضرية ( قريش مثلا ) وهي تتفوق على البدو في استعمال اللغة ، وبني إياد عرب العراق ، حيث تلتقي لغتهم كثيرا مع لغة أهل قريش .. كل ذلك أثر ولا يزال يؤثر في وسائل التعبير لدى العرب .

ــــــــــــــــ
مراجع :
الكامل في التاريخ ابن الأثير .. ص 1120 وصفحة 1192
العين : صفحة 1 و صفحة 214
هل هناك عقل عربي .. د هشام غصيب المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1993
تكوين العقل العربي .. د محمد عابد الجابري ص 82 ـ85/ مركز دراسات الوحدة العربية / بيروت ط5 1991

ابن حوران 14-06-2006 05:39 AM

( 3 )

لو جلس أحد المثقفين من العصر الحاضر بين جماعة من البدو ، وتكلم معهم بلغته التي يتكلم بها باقي المثقفين ، لرأى عيون البدو تدور شمالا ويمينا مستنكرة ما تسمع ، و متباهية في استنكارها أيضا ، فالعربي بنظر هؤلاء هو من يلتزم بموسيقى اللغة و انسيابيتها ، وفحول الشعر القدماء كانوا يكتسبوا صفة الفحولة ، من التزامهم بتلك الصفتين الموسيقى و الانسيابية في اللغة ..

وعليه عاشت اللغة العربية بقرونها الطويلة ، طالما كان يرمي أبناؤها الحريصون على نقائها ، كل ما يدخل على لغتهم من غريب .. فالجديد بنظرهم (يشم و يرمى في المزابل ) والقديم كلما زاد في قدمه وتعتق كلما زاد أصالة ..

إذا كانت صفة العفوية و الاعتماد على السماع عند البدو ، هي ما جعلتهم يحتفظون بنقاء اللغة العربية . فإن تلك الصفة هي ما أسرت علماء اللغة و النحو الذين وضعوا سياجا حول بدوية اللغة ، بحيث و ضعوا قوالب قوية أشبه بشبك الحماية على السجون أو المتاحف .. فلم يكن من السهل خروج محتويات المتحف ، أو إدخال ممنوعات لمن يسجن داخل السجن ..

إن تلك الأنفة والاعتزاز باللغة ، هي ما دفعت علماء الكلام من المعتزلة النظر باستهجان للمنطق الغربي الذي دخل مع الترجمات ، و أصبح له شيوخ ومنظرين ومبشرين ، والمناظرة المشهورة التي دارت بين كل من ( أبو البشر متي بن يونس ) وكان مشهورا بقدرته على الحديث لساعات ، مبشرا بفلسفة ومنطق أرسطو .. وكان يغمز بجانب فضل الفلسفة والمنطق الغربي على الحضارة العربية الإسلامية .. وبين ( أبو سعيد السيرافي ) .. أحد علماء الكلام المشهورين ، وذلك في مجلس الوزير ( الفضل بن جعفر بن الفرات ) وزير الخليفة العباسي (المقتدر ) .

قد نعود الى تلك المناظرة بشيء من التفصيل ، ولكنها كانت تنم عن رفض ومعاندة أنصار التمسك بالعربية و علومها ، وتبيان تقدمها على المنطق الغربي ، فعندما يسأل ( أبو سعيد السيرافي ) مناظره ( أبو البشر) : هل يجوز أن نقول زيد خير أخوته ؟ .. فيجيب (أبو البشر) : نعم يجوز .. ثم يعود أبو سعيد فيسأله : هل يجوز أن نقول : زيد خير الأخوة ؟ فيجيب (أبو البشر) على الفور : نعم يجوز !

فيبتسم أبو سعيد زاهيا بانتصاره وقائلا : أجبت في الأولى و أخطأت الإجابة ولم تكن مدركا أنك أخطأت .. و أجبت في الثانية و أصبت و لم تكن مدركا بأنك أصبت ..

فيستهجن ( أبو البشر ) كلامه ، ويتساءل : أليس الإجابتان مثل بعض ؟

فيرد أبو سعيد : عندما نسأل هل يجوز أن نقول أن زيدا خير أخوته ، فإن كان أخوة زيد (أحمد و محمد ومحمود) .. فإن زيدا لم يكن بين أخوته .. ولكن عندما نقول زيد خير الأخوة فيكون ( أحمد و محمد ومحمود وزيد ) مشمولين بالمفاضلة .. وهي الأصوب ..

وهنا يشرح ( أبو سعيد السيرافي ) : استصغار فكرة حصر المنطق بالغرب ، فيقول للصينيين منطق و للأفارقة منطق ، وللفرس منطق ، وللعرب منطقهم ، وكل ذلك يتبع اللغة !

في كل عصر يظهر من يكرس اعتزاز أبناء الأمة بخصائص أمتهم ، فبعد المعتزلة ..أفرد أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ، كتابا أسماه (الرد على المنطقيين ) .. بين فيه ثغرات هائلة في طريقتهم بالتفكير .. و إن كان يعتمد الجانب الديني في المحاكمة ، لكن الكتاب مليء بما يعزز فكرة صعوبة تقبل النمط (العقلي ) المولد خارج رحم الأمة .*

كما أن في العصر الحديث ، يظهر صراع بين الحركات الفكرية و الثقافية ، يطال حتى الشأن السياسي ، يكون منبع هذا الصراع ، هو الاتفاق على خط ابتداء حركة التأسيس لشكل الدولة ، وخلفية ذلك التأسيس المعرفية و ( الفقهية) .. وهذا ما يفسر اختلاف من يعتمدون الدين كأساس للإنطلاقة مع القوميين ، مع اليساريين .. *


وان كان من يؤمن في هذا الطرح و يفلسف له في العصر الحديث ، كالمفكر (الجابري ) والمفكر ( عبد السلام بن عبد العالي ) وكلاهما مغربيان ، فإن هناك من يستهجن مثل هذا الطرح ، محتكما لمعالجة المفكر المجري ( جورج لوكاش) عندما يناقش فلسفة الغرب الحديث ، و يرفض ربطها بالفلسفة اليونانية القديمة ، بل جعلها تنبع من خصوصية البنية الأساسية للوعي الاجتماعي السائد في الرأسمالية الأوروبية * .. وهو كلام يحمل وجاهته .. إذا ما حيدنا أثر اللغة تحييدا كاملا ..

ـــــــــ
المراجع :
الرد على المنطقيين / احمد بن تيمية / دار المعرفة / بيروت
هجرة النص الفلسفي / مقالة ل ( عبد السلام بن عبد العالي )
هل هناك عقل عربي ؟/ د هشام غصيب ص 92
تكوين العقل العربي/ د محمد عابد الجابري / مركز دراسات الوحدة العربية

ابن حوران 02-07-2006 07:54 AM

مساحة الفقه الإسلامي في العقل العربي :

( 1 )

لم يستطع علماء الغرب أن يربطوا نمو تطور الفقه عند المسلمين ( والعرب منهم بالذات ) في علوم الغرب القديمة .. وإن حاولوا الاجتهاد في ذلك مرارا ، فيقول المستشرق (هملتن جيب ) : ( لقد استغرق العمل الفقهي خلال القرون الثلاثة الأولى (للهجرة ) الطاقات الفكرية لدى الأمة الإسلامية الى حد كبير لا نظير له ، إذ لم يكن المسهمون في هذا الميدان هم علماء الكلام والمحدثون والإداريون فحسب ، بل أن علماء اللغة و المؤرخين و الأدباء أسهموا في نصيب في هذه المجموعة من المؤلفات التشريعية و مناقشة القضايا التشريعية ، وقلما تغلغل الشرع في حياة أمة وفي فكرها هذا التغلغل العميق مثلما فعل في الأدوار الأولى من المدنية الإسلامية )* 1

لقد انتشرت الجهود الفقهية و نمت ، وكثرت المؤلفات فيها ، ويكاد لا يخلو بيت من مؤلفات فقهية ، حتى في العصر الحديث . ويكاد لا يخلو خطاب سياسي من الإشارة ، ولو بطرف خفي الى الفقه الإسلامي ، حتى ولو كان موقف الخطاب ، محسوبا على الخط الرافض لزج الدين في السياسة ، فكان الفقه ولا يزال يؤثر تأثيرا عظيما في كينونة المؤيدين للحكم الإسلامي و المعارضين له .

ولم يقتصر تأثير الفقه الإسلامي على العرب وحدهم ، بل على شعوب الأقطار التي دخلت في الإسلام .. والملاحظ أن تاريخ البلاد الداخلة في الإسلام ، والذي سبق دخولها فيه ، لم يؤثر أي تأثير ملحوظ في النشاط الفقهي لتلك الشعوب ، فقد كانت القاعدة القائلة : ( الإسلام يجب ما قبله ) .. هي خط البداية الجديد لتلك الشعوب في اشتراكها بالنشاط الفقهي ..


و قد يلاحظ المتتبع لتطور النشاط الفقهي ، بأن الفقه في عهد الرسول الكريم صلوات الله عليه وحتى نهاية العهد الأموي ، كانت صبغته عملية ، وليست نظرية .. فكان الناس يتساءلون عن حكم بعض القضايا ، بعد وقوعها ، ليحتكموا عند الشرع فيها و ينظروا ما يقول ..

لكن بعد انتهاء العصر الأموي ، أصبح الفقه يأخذ منحى أشبه ما يكون بالنشاط الرياضي الذهني ، فكان يفترض افتراضات و يضع حلولا لتلك الافتراضات و يحدث أن تبرز معارضات للحلول الموضوعة لتلك الفرضيات ، التي لم تحدث أصلا ..وهذا يدلل على نشاط أقرب ما يكون ل ( الفلسفي) منه الى غير ذلك .. وقد ترك هذا النمط من النشاط الذهني أثره على البحوث الإسلامية وعلى نشاط العقل العربي ، من زاوية إكتناه مواطن الصحة من الخطأ فيه .. وهو ما يطلق عليه في العصر الحديث بالنشاط (الإيبستمولوجي ) .

ولم يوظف الفقه ، علم الكلام واللغة و الشريعة فحسب ، بل ذهب أبعد من ذلك ، الى علم الحساب الذي كانت المعرفة فيه ستتمم القدرة على تنفيذ مطابقات قسمة الإرث وغيرها من استخراج الزكاة الخ ..

وإن كان علم الجبر العربي مدين لجهة في تطوره ، فالجهة ستكون ودون شك علم الفقه .. ولا عجب فقد كان الخوارزمي أبو الجبر والذي عاش قسما من حياته في عصر المأمون أحد العاملين بالفقه ، قبل أن يصل الى روائعه في اللوغاريتمات و الجبر !* 2

المراجع :
ــــ
1ـ هملتون جيب : دراسات في حضارة الإسلام ص 263 .. ترجمة احسان عباس / دار العلم للملايين 1964
2 ـ كتاب الجبر والمقابلة / تحقيق علي مصطفى /دار الكتاب /القاهرة 1968

ابن حوران 24-07-2006 05:26 AM

مساحة الفقه الإسلامي في العقل العربي :

( 2 )


لقد حاول الجهد البشري منذ العصور القديمة ، أن يضع قوانين خاصة بسير الحياة و تفسيرها ، فكانت شرائع حمورابي ، كما كانت الألواح الإثني عشر عند اليونان ، كما كان للرومان وأهل الهند و الصين قوانينهم القديمة ..

عندما انتشر الفقه عند العرب ، كنشاط مقابل للفلسفة عند اليونانيين ، وكانوا كما أسلفنا يطلقون عليه ( العلم ) وعلى من يمارسه من الفقهاء ( العلماء ) ، ظهر في القرن الهجري الثاني ، مدارس فقهية ، كان همها التشريع للمجتمع ، في حين ظهر نوع متقدم من تلك العلوم وهو أصول الفقه ، كانت مهمته التشريع للعقل ..

( إن القواعد التي وضعها الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي عن ( قواعد المنهج ) التي وضعها ديكارت بالنسبة لتكوين الفكر الفرنسي خاصة والعقلانية الأوروبية الحديثة عامة ) * 1

لقد ظهر تياران عند بداية تشكل الفكر العربي الإسلامي ، تيار يتمسك بالموروث الإسلامي و يدعو الى اعتماده ( أصلا) وحيدا للحكم على الأشياء ، وتيار يتمسك بالرأي ويعتبره الأصل الذي يجب اعتماده ، سواء في الحكم على ما جد من الشؤون أو في فهم الموروث الإسلامي نفسه .

وعندما لم يكن هناك من يتجرأ على التكذيب بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتي تأتي قوتها في الفقه بعد كتاب الله عز وجل .. ولما كان جمع الحديث و تمحيصه و تصنيفه ، لم ينته بعد . كان لا بد أن تظهر نزعات في وضع قوانين خاصة لضبط شكل الفتاوى و ما ينتج عن الفقهاء من جهد .

لقد ظهر جدل عميق بين أهل النحو وأهل الكلام وتداخل مع النشاط الفقهي ، ففي حين تصدى أئمة المعتزلة ، وبعد تصفية الزنادقة ، الى النشاط الذي تسرب من خارج الدائرة العربية ، وبالذات أولئك الذي أتى من ( المانوية ) .. وقد تعدى نشاطهم هذا الجهات الخارجية ، ليتعقب ذلك النشاط داخل الدائرة الإسلامية العربية .. وهذا ما دفع ( أبو الحسن الأشعري ) للتأسيس لعلم الكلام ( والذي يقابل علم المنطق الغربي ) .. كما ظهر في علم النحو الذي كان يوظف في (التأويل ) ولم يكن بعيدا عن النشاط الديني بأي حال .. فكان الخليل بن أحمد وتلميذه ( سيبويه ) ..


كان الشافعي(150ـ 204 هـ) صاحب كتاب (الرسالة) معاصرا للخليل ابن احمد ، وتلميذه سيبويه ، وكان الخليل مؤسس علم ( العروض) و سيبويه مؤسس قواعد علم النحو وصاحب المؤلف الشهير ( الكتاب ) ولما كان الخليل قد وضع قوانين لضبط الشعر ، وسيبويه يضع قوانين لضبط النحو .. وطبعا إن الشافعي الطالب للعلم و الأستاذ المفكر الذي نظم الشعر و تفقه في اللغة و أصولها ، وتجول على كبار الشيوخ في كل منحى ، كان لا بد له أن يفكر بوضع قوانين للفقه ، وان كان يؤسس لنظام ( البيان ) نفسه .. فكان يتساءل : كيف البيان ؟ ويجيب :

( البيان اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول ، متشعبة الفروع . فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة : أنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه ، متقاربة الاستواء عنده ، وإن كان بعضها أشد تأكيد بيان من بعض ، ومختلفة عند من يجهل لسان العرب ) * 2

وهنا يحصر الشافعي مسألة البيان في خمسة وجوه :

الأول : ما أبانه الله لخلقه نصا بحيث لا يحتاج الى تأويل أو توضيح لأنه واضح بذاته ..ثانيا : ما أبانه الله لخلقه نصا ولكنه احتاج لنوع من التوضيح . ثالثا: ما أحكم الله فرضه في كتابه وبين كيف هو على لسان نبيه . رابعا : ما سكت عنه القرآن ولكن الرسول صلوات الله عليه أبانه فصار في قوة الوجوه السابقة . وأخيرا ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه . يقول الشافعي ( ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حل أو حرم إلا من جهة العلم . وجهة العلم : الخبر في الكتاب والسنة ، أو الإجماع أو القياس ) * 3

لقد كان الشافعي المشرع الأكبر للعقل العربي ، وقد كان الرأي قبله ، خصوصا عند أبي حنيفة ، حرا طليقا ، فقيده الشافعي واشترط عليه المعرفة بأخبار السلف و أصول اللغة .. وطبعا هذا الجانب الآخر من فكرة البيان ( الفقه واللغة)

يروى أن رجلا سأل أبا حنيفة عن شيء فأجابه فيه ، فقال الرجل معترضا : أنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا .. فقال أبو حنيفة : دعنا من هذا .. وروي عنه أن أحدهم ذكر أمامه أن ( البيِعان بالخيار ما لم يفترقا) أي أن البائع و الشاري يمكنهما التراجع عن صفقتهما طالما بقيا في نفس المكان . فقال أبو حنيفة محتجا : ( أرأيت ان كانا في سفينة ؟ أرأيت إن كانا في سجن ؟ أرأيت إن كانا في سفر ) .. وهي دلالة على عدم رضاءه عن تلك القاعدة بشكل مطلق ..بل لكل حادثة بيع ظرفها ..وهناك حادثة الذي حلف أن يطأ امرأته في رمضان وفي النهار .. كيف أفتاه أبو حنيفة بوجوب سفره الذي يحلل له الإفطار ثم عدم منع وطأ زوجته * 4

يتبع
ــــ
المراجع :
1 ـ دراسات في تاريخ الفكر العربي /د خليل السامرائي جامعة الموصل ص 159 / 1986
2 ـ تكوين العقل العربي / د محمد عابد الجابري / مركز دراسات الوحدة العربية /بيروت ط5 1991/ ص 103
3ـ الجابري / المصدر السابق 105
4ـ الجابري / المصدر السابق ص 106

rainbow 26-07-2006 04:21 AM

دراسة أكثر من رائعة ... تستحق الإعجاب والمتابعة الشديدين ....

أخشى أن أفسد أو أقطع تسلسل الموضوع بمشاركتى هذه ......

ابن حوران 09-08-2006 09:58 AM

جزيل الشكر لمروركم الكريم ..

ابن حوران 09-08-2006 10:02 AM

نقاط ملفتة للانتباه في قاعدة الثقافة العربية الإسلامية

عند بداية عصر التدوين (143هـ) ومن بعده بعقود ، أغفل العلماء بنشاطهم مسألة هامة وهي مسألة النقاش بموضوع الخلافة ، وما تلاها من تحول الى نظام ملكي .. وإن كان الشافعي (المتوفى في 204هـ) ، قد أشار الى تلك المسألة بقاعدته التي تعتمد على ( الكتاب والسنة والإجماع والقياس ) ، فإن تناول تلك المسألة في رأيه طالما لم يكن فيه نصا بالكتاب و لم يصرح به الرسول صلوات الله عليه ، فإن الإجماع و القياس هما الفيصل في مسألة تناقل السلطة عند الشافعي ..

ولعل أول كتاب تناول مسألة الخلافة و ما تبعها من تفرق على هامشها ، كان للمؤرخ السني الكبير المعروف أبي محمد عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدينوري (213ـ 276هـ) ، بكتابه الموسوم ( الإمامة والسياسة ) ، وقد يكون ـ بالرغم من الهنات والمآخذ عليه ـ أقدم مرجع سني يشرح وجهة نظر أهل السنة في مسألة الخلافة ..

ومن يقرأ خاتمة الكتاب يدرك ما رمينا إليه فهو ينهيه بالقول ( قد تم بعون الله تعالى ما به ابتدأنا ، وكمل وصف ما قصصنا من أيام خلفائنا وخير أئمتنا ، وفتن زمانهم وحروب أيامهم ، وانتهينا الى أيام الرشيد ووقفنا عند انقضاء دولته ، إذ لم يكن في اقتصاص أخبار من بعده ، ونقل حديث ما دار على أيديهم وما كان في زمانهم كبير منفعة ولا عظيم فائدة . وذلك لما انقضى أمرهم وصار ملكهم الى صبية أغمار غلب عليهم زنادقة العراق ، فصرفوهم الى كل جنون و أدخلوهم الى الكفر ، فلم يكن لهم بالعلماء والسنن حاجة ، واشتغلوا بلهوهم واستغنوا برأيهم ) *1

واضح من النص أن المؤلف قد كتبه قبل عهد المتوكل ، الذي أعاد الى السنة دورها المحوري ، وأن المؤلف توقف عند عهد الرشيد المتوفى سنة 193هـ ، وأنه ناقم على المعتزلة الذي أحاطوا بالخلفاء بين الرشيد والمتوكل ..

لقد أسس صاحب كتاب ( الإمامة والسياسة ) ، لاعتماد ما دار في سقيفة (بني ساعدة ) .. واعتمد إيماءة الرسول صلوات الله عليه ، بأن يؤم أبو بكر بالمصلين ، وهي الإمامة الصغرى (الصلاة) ، بأنه صاحب الحق في إمامة المسلمين و خلافة الرسول ، وهذا ما فسره عمر ابن الخطاب ..ثم أن إشارة واختيار أبي بكر لعمر ، لها قوة الحق في تولي عمر ابن الخطاب الإمامة ، كون أن أبا بكر خليفة الرسول ( وثاني الاثنين في الغار) .. وأهلية تولي عثمان وعلي بأنهما كانا من اختيار أهل العدل الذين اختارهم عمر رضوان الله عليهم جميعا ..

ولكن أهل الشيعة قد سبقوا أهل السنة في معارضتهم ونقاشاتهم لموضوع الخلافة ، مستعينين بنصوص اعتقدوا أنها قوية بما تدعم وجهات نظرهم ، وقد ابتدئوا بتكييفها منذ عهد جعفر الصادق ، مشككين في أحقية أبي بكر و عمر وعثمان بالخلافة دون علي .. وقد اعتبروا الطعن في الماضي قنطرة للطعن في الحاضر ..

وإن كانت الطائفة الزيدية ، قد اعترفت بخلافة كل من أبي بكر وعمر ، رغم إيمانهم بأحقية علي عليهما ، فإن كل الطوائف الأخرى ( الخوارج والمرجئة وغيرهم ) قد اعترفوا بخلافة الخلفاء الراشدين الأربعة ..

لكن أهل السنة عادوا و صعدوا بخطابهم بشكل أقوى بعد مرور قرن على خطاب ابن قتيبة .. ومرد ذلك يعود الى أن الشيعة كانوا قد صعدوا بخطابهم خصوصا بعد أن أسسوا دولتهم ( الفاطمية ) .. وعليه فان الحرج الذي كان يجعلهم يتكلموا منتقدين أسلوب الحكم بطريقة غير مباشرة تجنبا لسخط من في الحكم ، فقد أصبح لهم حكم ، وأصبح لهم قاعدة ينطلقون منها في مهاجمتهم من يعتقدون أنهم خصوم ..

فقد وظف أبو الحسن الأشعري ( 260ـ 324هـ) كل إمكانياته مستفيدا من كل من سبقه ، في الرد على من غمزوا بأحقية وأهلية الخلفاء الراشدين ، فاستفاد من أسلوب الشافعي الذي جعل الاجتهاد في الشريعة تقنينا للرأي ، فكان الأشعري قد جعل من الكلام في السياسة تشريعا للماضي .. ووضع كتابه المعروف باسم (الإبانة ) ليكمل ما جاء في كتاب الشافعي (الرسالة ) ..

المراجع
ـــ
1ـ تاريخ الخلفاء ( الإمامة والسياسة ) ابن قتيبة / القاهرة 1963 ص 207
2ـ تكوين العقل العربي / د محمد عابد الجابري / مركز دراسات الوحدة العربية /بيروت ط5 1991 ص 108
3ـ‘ السلطة لدى القبائل العربية / فؤاد اسحق الخوري /دار الساقي/ بيروت ط1/ 1991
4ـ في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام/ حسن خ غريب / دار الطليعة / بيروت /ط1 /1999ص 43

ابن حوران 25-08-2006 05:15 AM

التشريع للمشرِع :

(1)

لقد كان التشريع الجزء الأخير من جهد (أبي الحسن الأشعري ـ إمام المتكلمين ) الذي قال عنه ابن خلدون إنه " توسط بين الطرق ونفى التشبيه وأثبت الصفات المعنوية و قصر التنزيه على ما قصره عليه السلف و شهدت له الأدلة المخصصة لعمومه . فأثبت الصفات الأربع المعنوية (= الحياة والعلم والقدرة والإرادة ) والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس ، بطريق النقل والعقل . ورد على المبتدعة في ذلك كله ، وتكلم معهم فيما مهدوء لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح وكمل العقائد في البعث وأحوال الجنة والنار والثواب والعقاب ، وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية من قولهم أنها من عقائد الإيمان وأنه يجب على النبي تعيينها "*1

لقد اختار الأشعري عنوان كتابه (الإبانة ) عن قصد واضح ، ليبين ما قصده الشافعي في كتاب (الرسالة) .. وليرد فيه على المعتزلة في مسائل العقيدة ، وليرد على الشيعة في مسألة الإمامة .. لقد بدأ الرجلان (الشافعي والأشعري) كتابيهما بآيات قرآنية تدلل على ما أرادا تبيانه ، ثم عادوا الى الحديث مبتعدين عن أهل الرأي ، ليختطا طريقا يخاطب العقل بأسلوب السلف ..

لقد استهل (الأشعري) الفصل الذي عقده بعنوان (إبانة قول أهل الحق والسنة) بتقرير الأصول التي سيرتكز عليها ، وبما أن الشافعي كان معاصرا لابن حنبل ، ومتفقا معه على المسائل العقائدية فإننا نرى الأشعري الذي جاء بعدهما يقرر خطه في هذا النص " وديانتنا التي ندين بها : التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل ، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وما روى السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته و أجزل مثوبته قائلون ، ولما خالف قوله مخالفون " *2

وإذا عرفنا أن ابن حنبل قال في الشافعي ( لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث)*3 .. وهذا يجده من يبحث في هذا الشأن ، في رسالة ابن حنبل في (الرد على الزنادقة والجهمية ) *4

لكن نرى في الوقت الذي كان الأشعري ، يعارض ويفند ما يذهب إليه الشيعة والمعتزلة (في آن واحد) وهذا يلمسه من يتفحص موقف ابن حنبل في الثورة المسلحة التي قادها ضد الأمويين (الحارث بن سريج) الذي ادعى أنه المهدي المنتظر .. وكيف أن الأشعري وافق ذلك الموقف . إلا أن الأشعري قد استلهم طرق المعتزلة ذات الإطار العقلاني ، وهذا اتضح بشكل أكبر عند تلاميذه الذين خلفوه .


إن اختفاء نصوص أوائل المعتزلة ، كواصل ابن عطاء مؤسس الفرقة ، والمتوفى في سنة 131هـ و نصوص منظر الفرقة (أبي الهذيل العلاف ) المتوفى سنة 235هـ . جعل من الصعب على المطلع أن يجد على الدوافع العقلية التي أوجدت تلك الفرقة ( الحالة الإيبستيمولوجية) .. لكن سيجد الباحث أو القارئ ما يريد في النصوص الكاملة للقاضي (عبد الجبار) المتوفى 415هـ ، لكن الفاصل الزمني الذي يزيد عن مائتي عام بينه وبين الأوائل من المعتزلة سيعقد المسألة بعض الشيء ..

وإن أراد المطلع أن يتعرف على وجه التقريب على فكر المعتزلة ، فبالإمكان الإطلاع على رسالة ( أصول العدل والتوحيد ) للقاسم بن ابراهيم بن اسماعيل الرسي ( 169ـ 246هـ) .. والمفارقة أن مؤلف هذا الكتاب هو أحد أئمة الطائفة الزيدية (الشيعية) .. وهي تتشابه مع المعتزلة في كل شيء إلا في مسألة الإمامة ..

يقول الإمام (الرسي) : إن العبادة تنقسم على ثلاثة وجوه : أولهما معرفة الله ، والثاني معرفة ما يرضيه وما يغضبه ، والثالث اتباع ما يرضيه واجتناب ما يغضبه .. فهذه ثلاث عبادات من ثلاث حجج احتج بها المعبود على العباد ، وهي [ لاحظ الترتيب] العقل و الكتاب والرسول .. فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد وجاءت حجة الرسول بمعرفة كيفية العبادة ، والعقل أصل الحجتين الأخيرتين لأنهما عرفا به ولم يعرف بهما فافهم ذلك ..فأصل المعقول ما أجمع عليه العقلاء ..

يتبع

المراجع
ـــــ
1 ـ مقدمة ابن خلدون ج 3 ص 1046
2 ـ الأشعري /الإبانة ص 20
3ـ مقدمة للأستاذ شاكر لطبعة حققها عن رسالة الشافعي
4ـ عقائد السلف /علي سامي النشار /الإسكندرية 1971
( الهوامش أعلاه ذكرها الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي / ط5/ بيروت/ مركز دراسات الوحدة العربية / ص 132)
5ـ كتاب الملل والنحل / الإمام الشهرستاني / ص 85ـ94/ ط2 / القاهرة / 1954مكتبة الأنجلو المصرية / أشرف على إصدارها د محمود قاسم ، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة .

ابن حوران 11-09-2006 04:47 AM

استقالة العقل العربي :

( في الموروث القديم )

( 1 )


لو سلمنا بأن العقل أداة لتمييز ما يعرض عليها ، وانطلقنا من هذا التسليم لتتبع تكوين تلك الأداة و ما ظهر عليها من تطور لكان لزاما علينا اقتفاء أثر ذلك التطور منذ الأزمنة الغابرة ، قبل الإسلام ، وواضعناها في مقابلة العقل العربي الراهن الرسمي منه ( لغة المفكرين والأدباء ) والشعبي الذي يستدل بما يقوم به العقل الرسمي ..

فلو كانت أداة العقل كالسيارة مثلا ، فإن لها وقودا و قطع غيار ، وخبراء صيانة وتدريب الخ .. وهذه في حالتنا ستكون مدارس الفلسفة والفكر و ما تنشره وتقرره ليصبح بمثابة مساطر يقاس عليها ..

لقد انتقلت الصفوة المفكرة منذ أيام محمد علي باشا ، عندما قام بإرسال طلاب العلم الى أوروبا ليدرسوا مختلف مناحي العلوم ، فدرسوها وفق نظريات أوروبية ، ناقشت مخطوطات أجدادنا و شرحتها ولبستها بنكهة (إبستمولوجية ) أوروبية ، فعاد أبناء أمتنا يناقشوا قضاياها وفق مهنية فكرية غربية ، وحنين عروبي إسلامي مرتبك ، لا يبتعد كثيرا عن الاستعانة في النهاية عما تخطه أقلام الغربيين ..

إن ما ينشر اليوم من أبحاث عن الحركات الإسلامية ، في الغرب يفوق ما ينشر في بلادنا حوالي 27 مرة .. وتترجم تلك الأبحاث لمختلف اللغات و تعود إلينا لنترجمها كمنتوجات عربية إسلامية .. في حين يغلب الطابع الحماسي على مؤلفات مفكرينا ، دون الغوص في أعماق الأصل في الفكرة ، نتيجة تبني (التنحيل) والتفريق بصيغ الكتابة لهؤلاء المؤلفين وتأثر كتاباتهم بأمانيهم كأطراف ، لا كباحثين ..

إن من يقوم برتق شق في ثوب ، عليه أن يبدأ ما قبل الشق ، لكي يسد هذا الشق بقوة .. وهكذا ما يجب أن يكون في السعي لترميم شخصيتنا المرتبكة ..


لقد حدث أن ضربت تحويلات عن مسار طريق التتبع لنشأة العقل العربي ، أو محطات تزويده بالوقود وقطع الغيار ، قبل تلك الحالة التي نعيشها بقرون طويلة ، فإذا كان عصر الانحطاط الذي ألم بالأمة ولا يزال منذ مئات السنين ، هو ما دفعنا للإتكال على الغرب لكي نعرف أنفسنا من خلال عيونه .

فإن شيئا مماثلا وهاما قد حدث قبل ذلك بكثير ، ومهد لحدوث هذا الانحطاط . لقد تكدست كتب المعارف الفلسفية في مكتبة الإسكندرية منذ أيام اليونانيين (البطالسة ) .. ثم انتقلت الى أنطاكيا ، في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز ، وأصبح لها فروعا في فلسطين ، ثم انتقلت الى حران في عهد الخليفة المتوكل من سنة 232هـ الى سنة 247 هـ لتنتقل الى بغداد بعد ذلك ، وكان هذا الانتقال من أهم الأحداث الفكرية ، إذ كان الانتقال يعني انتقال ( المجلس العلمي) الذي كان يشبه دوره الى حد كبير دور ( الكرسي الفلسفي ) .

ابن حوران 28-09-2006 06:01 AM

استقالة العقل العربي :

( في الموروث القديم )

( 2 )




إن أهمية الموضوع الذي توصلنا إليه في المرة السابقة ، بأن المؤثرات التي تعمل عملها بالعقل العربي ، قد انتقلت من مكان لمكان ، وكانت تلك الأمكنة تقع على قرب من مكان الإدارة السياسية و ما يحيط بها من فقهاء و علماء يرضون بقول و يرفضون آخر .. فكانت تلك المراكز وشيوخها ترسم النظرة العامة لخاصة الخاصة و خاصة العامة ، لتصنع مزاجا يقبل به الحاكم ، أو يرفضه ، فإن قبل به كثر الشيوخ والعلماء الذين يتبنوا تلك النظرة الفلسفية ، وكثر طلاب العلم الذين يأخذونها من شيوخها و مدارسها لينقلونها الى مختلف الأصقاع ..

وإن رفضت وجهة النظر ، رحل صاحبها ، أو وضع في الحبس ، لكن نظرته يتم تداولها في السر ، أو يهرب أصحابها الى مكان آخر يقبل بالفكرة وأصحابها ، لرفضه من رفضها ..

وكان هناك عوامل لتصنيع وقود هذا العقل أو قطع غياره ( انسجاما مع المثال الذي شبهنا به العقل كأداة مثل السيارة ) .. ومن هذه العوامل :

1 ـ اللغة :

لم تكن أوضاع اللغة في السابق ، تختلف عما عليه الآن ، وإن كانت اللغة الآن قد دعمت بوسائل الإعلام الحديثة ، وانتشار المطابع و الكتب ، وغيرها من العوامل الأخرى .. إلا أن هناك حجم ضخم من اللهجات المحلية التي تحمل بثنايا كلماتها ومفرداتها مؤثرات تعمل عملها في تحديد النظرة لكثير من الأشياء ، وهي لا تقتصر على الأميين فحسب ، بل تؤثر حتى على المثقفين والمتعلمين ، لما هناك من مساحة كبيرة في تعاملات هؤلاء مع اللهجة المحلية ..

كما أن اللغة تعتمد بكثير من الأحيان على نوع من ( المنطق) الخاص بشعب دون آخر .. ولقد شكل فهم آية بالقرآن الكريم على ضوء ذلك المنطق ، نشاطا طال أمده أكثر من قرنين .. والآية هي : ( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ) الصافات 64و65 . .

لقد ارتكز بعض علماء المعتزلة على تلك الآيتين في تشكيكهم غير الصريح في اعتبار أن القرآن به بعض الضعف من حيث الصور ، وعليه فهم قد غمزوا بطرف أن يكون هو من عند الله .. وقد اعتمدوا في حجتهم تلك على أن العرب لا تشبه شيئين مجهولين على المشبه أو السامع .. فعندما يقول فلانة طويلة كالنخلة ، فإن كنا لم نتعرف الى فلانة و طولها ، لكننا نستطيع إخضاع الصورة لتخيل طول النخلة .. وعندما نقول مذاق كذا كالعسل .. فنتصور الموصوف الذي نجهله بالشيء الذي نعرفه .. من هنا استغرب علماء المعتزلة عدم الالتزام بالقاعدة المتعارف عليها عند العرب ، فالجحيم لم يتعرف عليه العرب وهو صورة من صور جهنم التي سيؤول إليها مصير الكفار ، وهذا لم يحدث حتى يتم التعرف عليه ، كذلك صفة طلع تلك الشجرة النابتة في الجحيم ، إذ وصف بأنه يشبه رؤوس الشياطين التي لم يتعرف عليها العرب أيضا ..

لقد بقي هذا الجدل حول الآيتين لمنتصف القرن الخامس الهجري ، عندما وجد نبات في اليمن اسمه (رؤوس الشياطين ) وعندها أعلن إمام المعتزلة القاضي عبد الجبار أنه آمن بأن هذا الكتاب هو من عند الله بشكل كامل ، لا لبس فيه .

كما أن التأويل ، الذي تعتمده بعض الطوائف الإسلامية ، لتبرير عرف درجت عليه تلك الطائفة ، في سلوك أو معاملة ، فإن استهجن أحد من غير أبناء تلك الطائفة ، ردوا عليه بتفسير للقرآن حسب فهمهم الذين كيفوه ليلاءم سلوكهم ويبرره ، فتجد لأخذ الخمس عند البعض ، أو زواج المتعة ، حججا تدعم بتأويل بعض الآيات بما يتكيف مع ما تمارسه تلك الطائفة ..

كما أن الأحاديث النبوية ، تسعف أولئك الذين يريدون تبرير سلوكهم الذي يؤمنون به ، وحتما فإن الحرية في موضوع الأحاديث هي أكثر من الحرية في موضوع النص القرآني ، الذي لا يتعدى التأويل أو الظن بالفهم حسب اللعب بجذر الكلمة ..

إن النخب الفقهية التي كانت تحيط بالحكام أو تعارضهم ، هي التي وثقت مساق الرؤى و الفهم لكثير من المسائل التي تعتبر علامات مرور للعقل في مشواره لفهم أي قضية ، في حين أن دهماء الناس ، الذين اختلط عليهم ما سمعوا من علماء أو وعاظ أو ما انتقل إليهم بالمشافهة من الأجيال الغابرة ، فتجد أن الدين الإسلامي أو المسيحي عند الأفارقة أو عند الصينيين يختلف عنه عند العرب ، فقد اختلطت المفاهيم القديمة من خلال التناقل الشفوي ، فقد سيطرت مفاهيم أو صور ( الهرمسية ) القديمة التي كانت سائدة في الهضبة الإيرانية ، وانتقلت الى مختلف أنحاء العالم ..

والهرمسية باختصار هي النظرة المتعلقة بنبي الله إدريس عليه السلام ، الذي عاش أكثر من ثمانية قرون علم الناس النجارة والكتابة والخياطة والطب وغيرها ، ويكاد أن يكون النبي الوحيد الذي لم يكن له أعداء ، وعندما توفاه الله شكك الناس بموته ، فمنهم من صار يتخيله بالنجوم ومنهم من اعتقد أنه هو (الله) .. ومنهم من اعتقد أنه ( ملك ) من الملائكة .. وأخيرا سيطرت فكرة أن يكون ( إدريس ، أو هرمس ) هو وكيل الله في الأرض .. ومن يتابع دور (البابا) في كل الطوائف المسيحية و ( المرجع الديني) عند بعض الطوائف الإسلامية ، سيعرف مدى ما قصدته من تأثير اللغة و ما يتسرب منها باللهجات العامية ، لتصبح نظريات تزاحم نظريات الفلاسفة و العلماء وكلها مؤثرات عقلية .

جنات عدن 28-09-2006 11:21 AM

من احد عوام عصر الجهل ... ارجوا ان تأخذ من المثقفين بعين الاعتبار

كتبت الأتى .. ولا سحر انما حق من الحق المبين
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم , بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله ذى الجلال والإكرام
اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتى , ورضيت لكم الأسلام دينا
وكانت هذة الآية آخر ما نزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع وقرأ بسورة - ق- فى صلاة العيد حيث حضرها المسلمون من أقاصى الأرض ليحملوا رسالتهم الى العالمين كاملة من الرحمن لعبادة الطائعين ليسعدوا هم ومن على الأرض بها فى الدنيا ويدخلوا برحمته جناته سبحانه وتعالى - والدين إخوانى وأخواتى هو الحياة بأكملها من عبادات ومعاملات وخلق ومشاعر وحكم أى خلاف بين العالمين من الأنس والجن وأخبار الأمم السابقة لنعتبر بهم ونعمل , ونبأ من بعدنا لنتقى ونحذر....وهذا ما أمرنا الله به فى اليوم ليلاً ثم نهاراً - ولنعد بعده للحج
يبدأ اليوم فى أحسن تقويم من صلاة المغرب
حيث يصلى كل المسلمين كبيرهم وصغيرهم رجالهم ونسائهم فى المسجد واقفين بالصف لله رب العالمين كما أمر الرسول الرجال فالصبيان غير البالغين فالنساء- وخير صفوف الرجال أولها وخير صفوف النساء آخرها .و ذلك خلف إمام صالح يتقى الله ولا يخشى فى الله لومة لائم - حيث يتم إختياره بأمر الرسول من قبل أهل القرآن فى الحى الذى به المسجد فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : تخيروا أئمتكم فإنهم وفدكم إلى الله - فهذا الأمر للمصلين . حيث يعلم الناس الخير وكافة ما أمر الله ويبين لهم حقوقهم الصغير والضعيف والمرأة وينصح لهم ويدلهم على كل ما ينفعهم مما علمة الله , ذلك بعد صلاة المغرب وهو الوقت المحدد للعلم فقط فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : نهى عن النوم قبل العشاء والحديث بعدها -والحديث هو حلقة العلم بالمسجد وهو مكان العلم وليس المدرسة فهى مكان علم اهل التوراة والتلميذ هو دارس التلمود - فهل علمت ..اللهم بلغت اللهم فاشهد
ثم صلاة العشاء
ثم يرجع المسلمون لبيوتهم ولا يخرج أحد من جنته إلا لضرورة- فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: جنة الرجل بيته- كما نهى عن خروج الصغار فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : إحبسوا صبيانكم عند فوعة العشاء فإن للشياطين خطفة - فلتحذرالأمهات على ابنائها- ثم بعد طعام العشاء ينام الصغار بعد أن يتعلموا آداب الإستئذان من سورة النور حيث موعد أول عورات الليل من بعد صلاة العشاء حيث يتمكن البالغ من الإختلاء بنفسه, حين يضع ثيابه أو الزوج مع زوجته , ويتعلم الصغار كل شئ عن العورة ويجاب عن أسئلتهم حتى يأتى دورهم فى العورة والحياة وهم يعلمون شرع الله فلا يذنبون, وليتزوج البالغين من المسلمين فى الوقت المحدد لهم عند بلوغهم بأمر الله ليصلحوا ولا يفسدون وليأخذوا حقهم الذى أعطاة الله لهم فإنة الصراط المستقيم وسنة المرسلين وأمر الله للقائمين على الأمرفقال الله تعالى وأنكحوا الآيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم- و قال الرسول صلى الله علية وسلم : ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا . فليبدأ الكبيربرحم الصغيرليحق له التوقيرطلب بر الوالدين حين يكبروا , فقد خلقنا الله أزواجا وخلق الإنسان ضعيفا - ولنعلم ما المقصود والمعنى من كلمة الرحم- ويريد الله أن يخفف عنا ويريد الشيطان أن يضلنا عن سبيل الله وصلة الرحم- والأيم هى من لا زوج لها من الإناث ويبدأ عمر الزواج لهن من عمر عائشة أم المؤمنين كما فى السنة والتى أتبعها عمر بن الخطاب فى زواجة من بنت على بن أبى طالب أى من عمر التاسعة ( ومن لديه علم آخر فليأت به للننشره) وحتى أى عمر ترغب فية المرأة فى الزواج ومهما كبر عمرها ذلك لمن تطيب له من الخاطبين- فأمر الأختيار يرجع له ولها كما فى السنة- والخاطبين الذين يعلموا بها عن طريق إمام المسجد كأفضل حل وأسرعة لهذا الأمر العظيم حيث يدل الأمام المسلمين على الخيرويعلم الناس الخلق الواجب للخاطب ومن يختار وكيف يصنع مع ولىأمرها - والصغيرة البكر و(اللائى لم يبلغن المحيض) تستأذن فى ذلك أى يأتى الخاطب لولى الأمر الصالح التقى فإن رضى الولى خلقه يستأذنها فيه فصمتها إجابتها وإلا فترفض حتى يأتيها من تقبلة ويشرح ذلك بالتفصيل لها لتعلم حقها ويمكنها ان تطلب ذلك من اى احد ان لم يدل ولى امرها عليها للخطاب فإن الحمد لله وليس لأحد . أما الثيب وهى التى سبق لها الزواج فتستأمر أى هى التى تقبل أو ترفض بل وتطلب رجل معين وتجعل أمرها لمن شاءت ان لم يكن لها ولى صالح ليزوجها من شاءت حيث أن لديها من العلم ما ليس للبكر التى لم تجرب من قبل - وليراعى ويفهم الجميع أن الزواج هو السبيل للجنه فليختار كل منا من ستكمل معه الحياة إلى الجنة إن شاء الله - وهنا نعلم كيف نحب ولماذا وعلى الحب نقاتل, وقد أمر الرسول بالآتى قال صلى الله عليه وسلم: أسروا الخطبة وأعلنوا النكاح فى المساجد - كما يجب على إمام المسجد أن يجتمع مع أولى الأمر وأهل المشورة من البلد للتشاور فى أمر الفريضةاى المهر حيث الأولى أن تخفف إقتداءا بالرسول فى تزويج فاطمة ابنته فمن أغلى منها زوجها بخاتم من حديد ذلك لمن يحب إتباع الرسول لأن الأهم هو الزواج وأهميته فى سرعته لحاجة المسلم إلية إحتياج أهم من الطعام والشراب والمسكن ليسكن اليها وهو أحس تقويم وهو الصراط المستقيم للشباب والذى يبدأ عمر الزواج عنده من اول يوم بلوغه , وبذلك نزيل أسباب الفساد المتفشى فينا بفعل السابقين الخائضين من الأباء على مر القرون مما فرق بين المرء وزوجة فى كيفيته ومدته والذى هو هدف الشيطان الأول والأخير فلنضع هذا السد أمام المفسدين كما صنع ذى القرنين عندما فاقت قوة الفساد الحد فهلموا عباد الله بناة السد ليخرج جيل وذرية طيبة يكن لنا فيه أجر غير ممنون,كما ورد فى سورة التين والزيتون وان الذرية الصالحة من أفضل الأعمال الصالحة التى يثاب عليها المسلم ( احل لكم ليلة الصيام الرفث الى نساءكم )

ثم النوم ثم عورة أخرى قبل
صلاة الفجر - الصلاة الوسطى
والإستعداد لصلاة الفجر للجميع ثم علم وتسبيح و بيانات الأمام قبل الذهاب للعمل فى فترة النهار أو المعاش حيث يخرج الرجال والشباب والذين بلغوا السعى من الذكور بعد إفطارهم ( فى غير رمضان ) معا للعمل فى أعمال صالحة نافعة من تجارة وصناعة وزراعة وصيد ورعى وكل ما هو نافع الكل يعمل معا , وفى هذة الأثناء تعمل النساء معا فى بيوتهم مع الصغيرات فى أعمال خفيفة ومربحة من صناعة الحرير وتربية طيور وزهور وملابس وخيام للسفر وما هم أدرى به بشرط عدم تقليد ما قلد المفسدون المبذرون فللعمل علم يجب ان نتعلمه ونتدبره وهكذا تواصل تام بين المسلمين لا يتخلله الشيطان فقد أمر الله المسلمون قائلا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان- قال الرسول : المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا, ثم يرتاح الجميع فى صلاة الضحى ليستمدوا القوة من الله بشكره ليزيدهم من فضلة ويستأنفوا عملهم بنشاط حتى
صلاة الظهر
حيث تنتهى الفترة المحدده للعمل ويأكل الجميع من رزق الله ويذبحوا بإسم الله حتى يأكل إخوانهم من الجن ايضا كما أمر الرسول القاسم بذلك فأن لهم من الطعام كل عظم ذكر اسم الله عليه اوفر ما يكون لحما , ثم عور ة صلاة الظهر والقيلولة فقد قال الرسول صلى الله علية وسلم قيلوا فإن الشياطين لا تقيل فيرزقك الله الرؤيا الصالحة ... حيث لا يتهول لك الشيطان بهذ الوقت ..فتسعد بها ذلك بصدق الحديث بتلاوة القرآن وتدبره والعمل به فأن الاصدق حديثا يرزق ارؤيا الصادقة ... ويبشر المسلمون بعضهم بالرؤىبعد
صلاة العصر
ثم تبدأ مهام العصر من زيارات للخاطبين وللأقارب وتواصل الجيران ورعاية الأيتام والفقراء ولعب الصغار ولهو الكبار من ركوب للخيل ورماية وأعمال قوة وما قد يرزق الله من أفكار فى سبيلة من وحى قرآنه عز وجل الخبير الحكيم

وبذلك ينتهى عمل اليوم ليلا ونهارا وكل يوم مالم يحدث أمربين المسلمين فنجد حكمة فى كتاب الله وسنة رسوله فلا نضل ونهتدى ولا نختلف
وبعد اخوانى واخواتى من المسلمين
هل ترى حكمة الاسلام فى الحياة , هل تحب ان تحيى به , ؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
أليس الله بأحكم الحاكمين
بلى ربى وأنا على ذلك من الشاهدين

تصور لما سيأمر به الخليفة ببساطة الدين ويسرة .. وبدون الاسترسال فى غياهب الكلام فى عصور وصفت من الرسول بعصور الظلام والجهل

محمد .................................................. .................................................. . آدم

جنات عدن 13-10-2006 07:52 AM

تابع .. للرفع

ابن حوران 11-11-2006 10:38 AM

استقالة العقل العربي :

( في الموروث القديم )


( 3 )

لقد كان لتفاعل الفلاسفة وتلاقح الاعتقادات الأثر الأهم في ما جعل أجيال الفلاسفة والمفكرين التي تلت عصر التدوين عند العرب أن تتأثر بهذا التلاقح .

ولعلى أوفى دراسة عن الهرمسية هي تلك التي قام بها الفرنسي المقتدر (فيستوجيير Festugere) والتي حقق فيها النصوص الهرمسية القديمة وترجمها في أربعة مجلدات للغة الفرنسية، ثم أردفها بأربعة مجلدات أخرى وضع بها دراسة عامة للفكر الأوروبي، وبالرغم من أن تلك الدراسات قد ربطها المفكر الفرنسي بالمركزية الأوروبية وبإفلاطون تحديدا، إلا أنها تعتبر دراسة قيمة .

ولتعديل الصورة يجب ذكر (أفاميا) تلك المدينة التي تقع جنوب أنطاكيا في سوريا ، وهي تسمى اليوم (قلعة المضيق) فقد كان لها دور يساوي دور الإسكندرية أو يزيد، وتكتسب أهميتها من أنها ملتقى لمعارف فلسفية كثيرة، فقد انتقلت إليها من الشرق معارف (فارس و العراق) ومن الشمال (أنطاكيا وآسيا الصغرى) حيث مدرسة (فرجاموس Pergame ) ومن الجنوب (فلسطين والإسكندرية) حيث شهدت (أفاميا) انتقال معظم محتويات مكتبة الإسكندرية، في عهد السلوقيين (خلفاء الإسكندر المكدوني ) في بلاد الشام، في حين كان (البطالسة) في مصر .. وقد وصل عدد سكان (أفاميا) في ذلك العهد زهاء (120) ألف نسمة ..

وقد ولد في (أفاميا) التي بقي أثرها حتى القرن الرابع الميلادي، مجموعة من الفلاسفة زاوجوا بين الفلسفية الشرقية والفلسفة الإغريقية فنشأت نمطية جديدة من التفكير العقلي والفلسفي، ثم أضيف مؤثر خارجي على أداء (أفاميا) هو احتكاك رجال اللاهوت اليهود والمسيحيين من فلسطين (جنوب أفاميا) .. وكان من أبرز من ولد بها من فلاسفة ( بوزيدنيوس) الذي يعتبر مصدرا رئيسيا (للهيلينيستية) التي غلب عليها الطابع الشرقي .. و ( سيردون) الفيلسوف السوري و آخرون.

وهكذا وبعد أن أصبحت أفاميا مركزا وقبلة للفلاسفة من مختلف الجهات، ولأكثر من أربعة قرون .. فقد تسللت الأفكار التي تجسدت من النشاط الفلسفي فيها الى حين ابتدأ النشاط الفلسفي (الفكري والعقلي) عند المسلمين في نهاية الدولة الأموية والدولة العباسية ..

وباستطاعتنا تلخيص المعتقدات الفلسفية والفكرية، التي تحاذت مع النشاط الديني المسيحي، وتعاملت مع بناه فلاسفة البراهما (الهنود) والمجوس وقدماء المصريين والعراقيين والتي كانت تتعامل مع فكرة ( الهرمسية ) بما يلي :

إقامة ثنائية حادة بين الإله والمادة، بين الخير والشر، باعتبارهما من طبيعتين مختلفتين تماما، وقد عبر تلك الثنائية خير تعبير (نومنيوس) كالآتي :

1ـ تصوير الإله الواحد كمدبر وهو الإله المتعالي وهو مصدر كل الخير وهو المنظم للكون .. ولكنه لا يدخل في علاقة ما مع الكون، بمعنى أنه منزَه عن الكون نفسه ..

2ـ بالمقابل هناك في الطرف الآخر (المادة) وهي مصدر النقص والشر، بل هي الشر نفسه، وباعتقاد أصحاب الرأي بأن تلك المادة قديمة جدا وهي لم تصدر عن مصدر الخير (الإله المتعالي) لأنها نقيض للخير، فلا يعقل أن يصدر الشر عن الخير ..

3ـ كان لا بد من طرف ثالث عند أصحاب هذا الاعتقاد، وهو ما وجد في النصوص الهرمسية : وهو (الإله الصانع) .. وعلاقته بالإله المتعالي حسب رأي أصحاب الاعتقاد : بأنه كالعلاقة بين مالك الحديقة والبستاني الذي يغرس الأشجار، فالإله المتعالي بذر البذور وأوجد الخلق والإله الصانع يتولى غرسها وإعادة توزيعها .. والإله الصانع عند هؤلاء أصبح وكأنه والعالم شيئا واحدا أمام الذات الإلهية العليا ..

إن هذا الشكل من التفكير والذي كان يسمى (الغنوصية) قد تسلل الى نفوس أو (عقول) الكثير من رجال الدين في الديانات (حتى السماوية) منها .. واحتل مكانا عند بعض الطوائف الإسلامية ولا يزال .. وهو يشكل دافعا إبستمولوجيا قويا لتصنيف الكثير من المواقف الدنيوية والتي تلف بطابع ديني بظاهرها ، إلا أن الجذور الفلسفية الغنوصية تظهر لمن يريد التأمل بكثير من هذا السلوك .. والذي أصبح يتسلل الى صانعي القرار السياسي في كثير من بلدان العالم من الولايات المتحدة حتى إيران ..

ابن حوران 06-12-2006 05:15 AM

تطور مفهوم العقل بعد الإسلام عند العرب :

لا يمكن أن نتوسع بموضوع (الهرمسية) أكثر مما ذكرنا في هذا المقام، الذي نزعم أنه قراءة متواضعة لما كتب في موضوع (العقل العربي) .. ولكننا أحببنا أن نمر عليه لإلقاء النظر على بداية تكوين الموروث العربي الإسلامي، الذي تأثر في بداية عصر التدوين وما بعده فيما أسماه (علم الأولين) ، وقد مررنا من خلال إشارات بسيطة عن التفاعل الذي استطاع به المفكرون العرب والمسلمين مع ما سبقهم من مفكرين يونانيين وهنود وغيرهم، من خلال الإرث الذي وصل من مكتبة الإسكندرية و (أفاميا) وغيرها ممن صنعوا أسس الفلسفة والمنطق قبل الإسلام ..

وإن المشككين في أن مكونات العقل العربي، والذين يشيرون الى أن العرب كانوا قد استوردوا مكونات علومهم الطبيعية والفلسفية من الخارج، مستندين في اتهامهم الى ذلك الحجم الكبير من المواد وأصناف العلوم التي تم نقلها من علوم الأولين .. أي الذين سبقوا الإسلام الذي أطلق طاقات المبدعين من الراغبين بتنشيط قدراتهم في تلك المجالات، سواء كانوا من أصل عربي أو من أصول غير عربية اعتنقوا الإسلام، أو حتى الرعايا غير الإسلامية التي كانت تقيم في كنف الدولة الإسلامية.

ولا يسعنا إلا أن نذكر حجة الذين يشككون في وجود عقل عربي إسلامي مستقل له خصوصياته، إذ يشيرون الى أن من يتفحص ما تناقلته النخب على مر السنين منذ عهد التدوين والدراسات التي خصصت لبحث ما أنتجته الأمم، سيجد (في وجهة نظر المشككين)، أن التأثر بتلك الدراسات والأفكار قد حُِبس في نطاق تلك النخب فتوارثت النخب إعجابها بنمطية تفكيرية، كما توارثت عداوة غيرها. في حين كانت الأغلبية الشعبية التي تواصلت منذ الأزل نقاط احتكامها لتسيير أمور حياتها بالمشافهة وبلغة أو (لهجات) تختلف عن تلك التي تناقلتها النخب الفكرية، وكانت نسبة تأثر الجماهير العريضة بنشاط النخب آني، ثم يزول وتبقى آثار المشافهة متواصلة (في المغرب العربي و المشرق ووادي النيل) .. حيث تحتضن اللهجات المحلية الأمثال والقيم والأغنية وأسماء الأشياء و صفاتها وقيمتها المعنوية وغيره .

لو أردنا التكلم بعدالة لقبلنا التسليم بهذا الرأي ـ ولو الى حد ما ـ فما نراه اليوم من خلافات بين النخب العراقية (على سبيل المثال) لوجدنا أن انبعاث نقاط الخلاف القديمة، قد أعيد ترميمها وتكييفها مع الواقع، دون أن تنجر فئات الشعب بكاملها التي تجاورت وتناسبت وتشاركت مع أبناء الطائفة أو القومية الأخرى دون حساب أو توقف عند نقاط اختلاف النخب.

وقد أشار ابن خلدون في صناعته لعلم (فلسفة التاريخ) لشكل التفاعلات الفكرية التي حدثت بين المسلمين ومن سبقهم. كما أن الشهرستاني بكتابه (الملل والنحل) قد ذكر ذلك بعين فاحصة عارفة لما نقله العرب والمسلمون عن اليونانيين والذي أسماهم الشهرستاني (أساطين الحكمة القدماء السبعة) ، كما أشار الى المتأخرين وهم (المشاؤون والرواقيون) أصحاب الرواق وأصحاب أرسطو طاليس، وقد ربط الشهرستاني كل ذلك بالهرمسية .

أما ابن خلدون فقد تتبع أثر القدماء وبالذات أولئك الذين أغاظهم ظهور الإسلام وبروز نجم مكة والمدينة المنورة .. فقد حاول هؤلاء المغتاظون من دس حجم ليس بقليل من الإسرائيليات والفارسيات (المفاهيم اليهودية والفارسية)، ليتبناها في النهاية مؤرخون عرب وإسلاميون وتبقى تزاحم أفكار المفكرين والمثقفين الى اليوم ..

وعند حالات تردي الإنتاج الفكري التي امتدت عدة قرون، ذهب الطلاب العرب الى أوروبا والغرب ليدرسوا تاريخ أمتهم على أيدي مستشرقين طوعوا ما سرقوه أو آل إليهم من مخطوطات ليخضعوه لفلسفتهم ورؤاهم الخاصة التي تناغمت مع عهد الحداثة الغربية وما رافقها من توثب إمبريالي، فغدت نخبنا الفكرية العربية (ممولة العقل العربي) تحتاط على تراث متشظي واجتهادات لم تجد طريقها الى العقل الجماعي الذي احتفظ بشعبيته الممتدة منذ آلاف السنين. وقد يكون هذا ما يفسر الصدود الجماهيري للالتفاف حول نخب تأتي وتذهب دون أن يأسف عليها الناس.

ابن حوران 28-12-2006 06:56 PM

الهوية العربية تلازم العقل العربي حتى داخل الهوية الإسلامية

( 1 )


لم ينصهر العرب خلال فتوحاتهم بالشعوب التي دخلوا إلى أقطارها، بل كونوا ثقافة ووضعوا أسسا لحضارة، وسلوكهم ذلك يعتبر من الظواهر الفريدة في التاريخ، حيث تنصهر الشعوب القادمة الى أقطار بواقع السكان الأصليين. وكان شعارهم الإسلام أولا ثم العربية ثانيا، ومن هنا جاء قوام النظام المعرفي (البياني) .. الفقه و اللغة ..

وقد لوحظ أن الحركة الثقافية والحضارية انطلقت مع انطلاق الدعوة للدين الجديد من مجتمع مدني ـ عكس ما يعتقد الكثيرون ـ فقد كان في مكة مجتمع يقسم الأدوار فيه كما هي في الدول الراقية وكانت حركة التجار في مكة والمدينة المنورة ـ فيما بعد ـ تسمح لهم بالاحتكاك بمجتمعات ذات طابع مدني، ومنذ الانطلاقة الأولى للإسلام فقد حض على العلم والتعلم واستنكر الأسلوب البدوي (الأعراب) وربط بين العلم والتعلم والدين ..

وقد نشطت الحركة الثقافية العربية الإسلامية مع الفتوحات مباشرة، فبعد أن كانت المدينة المنورة، تم تنشيط مراكز الكوفة والبصرة ثم الفسطاط والقيروان وأوكلت مهمة الريادة فيها لعرب معروفين بقدرتهم القيادية وإيمانهم الشديد بالدين الجديد. في حين لم يكن الاهتمام بالمراكز الثقافية القديمة: (حران، أفاميا، الإسكندرية ، أنطاكيا، جنديسابور) إلا متأخرا في القرن الثالث الهجري، بعد أن اعتقد العرب أنه لا خوف عليهم من الإطلاع على ثقافات غيرهم بعد أن أسسوا لنفسهم شخصية عربية إسلامية.

وقد انتبه الخليفة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، والذي كان يشغل قبل الإسلام منصب السفارة المحصور بآل نوفل قبل الإسلام، لظاهرة صيانة عروبة الشخصية الإسلامية في بداية الفتوحات فأرسل الى الأمصار رجالا قادرين على تعليم الآخرين أصول الدعوة، مثل ابن مسعود (الكوفة) وأبو الدرداء (الشام) وأبو موسى الأشعري (البصرة) وهؤلاء الذين علموا الناس كيفية قراءة القرآن وكيفية فهم ما يقرءون، فتكونت حولهم حلقات من القراء و توحدت النظرة في الفهم لهذا الدين الجديد الذي بشر بالعدالة والتحرر.

ثم ظهر التابعون بعد الموجة الأولى من الرواد الأوائل الذين توزعوا بالأمصار، وأدى التباين في الظروف المحلية لكل منطقة وما ورثه سكانها الأصليون من ماضيهم، فكانت النشاطات تختلف بالكيفية التي يتعامل بها المبشرون في الدين (في المرحلة الأولى)، ثم حراسة الإنجاز وعدم انحرافه، وكان هذا يتطلب الى العودة الى النموذج الأساسي التي بُنيت عليه الدعوة الجديدة، وكان الأساس لغوي بالدرجة الأولى ومن ثم فقهي يتعامل مع النصوص الأساسية من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.

وعندما تطورت فكرة جمع الأحاديث وفرزها كان على الجامعين أن يكونوا محترفين لغويا، فتشعب النشاط الثقافي والفكري الى محورين أساسيين الفقه واللغة .. فكانت مساحة توكيد الهوية اللغوية ( العربية) تلازم وتحاذي أي نشاط، فظهر معها التفاخر و ذكر الأنساب (قحطان عدنان ربيعة بكر تغلب أزد الخ) وبقيت ملازمة كل نشاط ومتدخلة فيه الى بداية العصر العثماني.

لقد توحدت اللغة العربية بلهجاتها ( حتى الفصحى منها) في بلاد الفتوحات، وساعدها بل أسس لها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، فغدت لغة التخاطب لغة موثقة بشكل أسس له وفق علوم القواعد واللغة والبلاغة و العروض، حتى توحدت معه الشخصية العربية على مر التاريخ وفق جدر و قنوات لا يمكن الخروج منها، حتى من قبل الأقوام التي انصهرت مع العرب (حملة الرسالة)، رغم ما جاء لتلك الأقوام من فرص كثيرة للتخلص من السلطة السياسية العربية ولكن ذلك ثبت عند الشعوب التي كان لديها استعداد للتلاقح الروحي مع العرب، لعلاقات قربى قديمة سبقت الإسلام بآلاف السنين، كما في مثال شعوب شمال إفريقيا والتي لم يدم فيها حكم العرب سوى قرون قليلة، فبقيت تفكر و(تعقل ) الأمور بنفس الأدوات التي يفكر فيها أبناء العرب الأقحاح و (يعقلون) بها. في حين لم يدم هذا الوضع في مناطق تفتقد الاستعداد للتلاقح الروحي، كما حدث عند شعوب اسبانيا رغم طول المدة التي حكم العرب بها تلك الشعوب.

لقد تدخلت الدولة العربية بعد أن استقر وضع شخصيتها في توجيه ومركزية تكوين الشخصية المتعلمة، وكان ذلك بشكل واضح في القرن الرابع الهجري، عندما تأسست المدارس و الكليات لتوزع علما موحدا يحمل نفس عناصر الشخصية أينما وجد، فكان الأزهر في عهد الفاطميين وكانت المدارس النظامية (نسبة لنظام الملك) .. و القرويين في المغرب.. وكانت حرية التنقل بين طالبي العلم والأساتذة بغض النظر عن طبيعة الحكم السياسي ودرجة العداء بين دولتي الحركة لهؤلاء ..

هذا التحرك الأفقي الذي كان يتم بين الأمصار فتجد عراقي يذهب ويقيم في الهند و مغربي يذهب ويقيم في الشام، ويذهب كلاهما إذا كان أستاذا فتسبقه شهرته (الاستعداد لتقبله) ويتبوأ مكانة علمية واضحة في مكانه الجديد.. أما التحرك العمودي والذي كان ينتقل عبر الزمن فتجد أنصار ومؤيدي وجهة نظر معينة يتنقلون عبر التاريخ الى عصرنا الحاضر، فمن يعتبر الخلاف السياسي الذي جرى بين علي ابن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان رضوان الله عليهما هو محرك لشكل تاريخ الأمة الإسلامية، فإنه يلحظ بسهولة مدى النظرة (الشعوبية) والعرقية.. فاهتمام الفرس ( المسلمين) ليس منبعه الحرص الديني، فلو كان كذلك لما أقيم لقاتل عمر بن الخطاب رضوان الله عليه وهو الخليفة العادل الذي شهد بعدله الفرس، مقاما ومزارا و ميدانا في طهران باسمه (أبو لؤلؤة المجوسي) .. ولما خلت كل إيران من اسم خالد وعمر وهما اللذان توفيا قبل فتنة علي ومعاوية وقبل مقتل الحسين .. لكن المسألة لها علاقة بزوال إمبراطورية (فارس) على يدي هذين القائدين !

ابن حوران 04-02-2007 10:15 AM

التأريخ للعقل العربي .. هل هو تضليل .. أم حقيقة لا نحسن التعبير عنها؟

نلاحظ أحيانا بأن هناك مثلا من أبناء الخليج العربي أو بلاد الشام قد غاب عن وطنه عشرة أو عشرين أو ثلاثين سنة وأحيانا أكثر .. عندما يعود لمسقط رأسه فإنه لا يحتاج من يذكره بما سيقوم به، فهو إن كان قبل مغادرته موطنه قد اعتاد بعض أشكال التعامل والسلوك، كأن ينزع حذاءه في باب الغرفة أو يقبل يد من هو في مقام والده .. فإن السنين التي غابها عن بلاده لن تنسيه تلك العادات إطلاقا ..

كما أن مذاق الطعام وطرق تناوله كما كانت في السابق ستجد طريقها لنفس الغائب الحاضر على وجه السرعة .. وقد يكون الذي نتحدث عنه قد تزوج أو عاشر من نساء المهجر .. ولكنه لن يجد صعوبة في التكيف السريع، حتى في شكل النظرة للمرأة، ليس كما كانت عليه عندما غادر موطنه، بل وما طرأ على تلك النظرة والتعامل أثناء غيابه!

فما الذي يحدث؟ هل كان الإنسان الذي نتحدث عنه في رحلة جوية، سواء كانت (أجواءها) العلوم التي تعلمها أو الأيديولوجيات التي اعتنقها أو العادات اليومية التي تعايشها .. فإن كل تلك الأجواء ستزول بمجرد هبوطه على الأرض (واقعه بجذور ماضيه) ..

لقد قابلت ذات يوم أحد أبناء حيفا الذين هاجروا الى الأرجنتين، وكان قد غاب زهاء خمسين عاما، كان هو وزوجته الأرجنتينية يحاولا أن يسألا أحدا عن مسألة ما، وكان يبدو عليهما ذلك، فهيأت نفسي لتمثيل دور الذي يقبل أن تنهال عليه وجبة من الأسئلة، وحدث ما أردت .. فعلمت ما علمت عن الرجل وأخبرني بطبيعة عمله، بلهجة عربية صعبة الفهم، فهو لم يمرنها منذ وقت طويل، فامرأته أرجنتينية .. وعمله غريب نوعا ما، حيث عندما سألته عنه أجاب، حيث كنت أساعده ليعبر عما في نفسه في مناولته بعض الكلمات لإسعافه من الثأثأة، فكان عمله هو (مصادقة الحيوانات!) هكذا ترجمته .. وتلخيص طبيعة عمله هو أنه يقدم الأعلاف للجاموس البري (البافلو) مجانا، لينفرد بأحدها (دون انتباه الآخرين) .. ويذبحه ويبيع لحمه .. إذن لا احتكاك مهني يؤثر على تنمية اللغة كأداة للعقل، وليس هناك مجال لتنمية رصيده السابق من المعرفة ..

ومع ذلك فاجأني من خلال تطفلي لسؤاله عن تلك (البقج) أو (الأكياس) التي كانت مطروحة جانبا .. فقال: إنها ملابس فولكلورية .. حيث أريد إنشاء فرقة دبكة فلسطينية! لقد كان عمره فوق الخمس وسبعين عاما عندما قابلته، ولكن (أس) معرفته وهويته لم تمحه سنون الغربة أو تستطيع حوافر أو قرون الجاموس أن تزيله من ذاكرته أو مخزونه المعرفي (العقل كوعاء) ..

ظاهرة أخرى تسترعي وجوب سؤالنا، عن التضليل والحقيقة في مسألة التأريخ للعقل .. وتلك الظاهرة هي التي تتعلق بعودة الملحدين من شيوعيين ويساريين وغيرهم الى دينهم ومواظبتهم على صلواتهم وقيامهم بمعظم فرائض الدين، هذا خلاف تحول بعضهم الى فلاسفة ودعاة دينيين ( مثل مصطفى محمود) .. إنهم يتعاملون مع إلحادهم وكأنها فترة احتراف رياضي في مجال ما، ثم تلي ذلك الاحتراف حالة اعتزال، لكن الاعتزال يعود الى حالة الإيمان السائدة قبل رحيل هؤلاء لمساحات الإلحاد ..

هناك من يقول أو سيقول: إنها حالة التوبة .. وتتعاظم الرغبة للتوبة كلما تقدم العمر .. حسنا .. لقد أسس هؤلاء التائبون على قاعدة (عقائدية) أقروا بها سابقا ثم تمردوا عليها وعادوا إليها .. إن كان كذلك .. فسنجد أن تلك القاعدة العقائدية تملك سلطات واسعة مستترة، قد ينطق بها أناس (كُلفوا) أو (تطوعوا) ليكون وعاظا .. أو أن تلك السلطة (تسكن) في أي نفس من المجموع العام للمجتمع ..

هنا يبرز سؤال: كم عمر هذه الشخصية المستترة والتي تحتل الكيان الجماعي لشخصية الأمة .. ومن يحصنها من العبث؟ ومن يطور عليها .. وهل تلك الجيوش من الباحثين الذين يقرؤون ويكتبون ويخطبون ليلا ونهارا، هم من يصون تلك الشخصية (العقلية) أم أن وجودهم وعدمه له نفس الأثر؟

إن تعجلنا في الإجابة على السؤال السابق سندخل في حالة من اللبس والارتباك، فإن قلنا إن هؤلاء ليسوا لهم أثر فإننا سنكون ظالمين لهم وللنظرية العلمية التي تستوجب التطور والحتمية. لكن سيدهشنا أكثر أن أكثر الملتزمين بالدين وفرائضه هم من الأميين أو الناس التي لا تقرأ .. وهي حالة وجدناها في صدر الإسلام .. حيث كانت تضحيات من حفظ عشرة آيات في بدء الرسالة أكبر من تضحيات من تعلم الفقه والحديث ونال الشهادات العليا هذه الأيام ..

إن تلك الظاهرة سنجد لها تفسير سنني يرتبط بالمجموع وسلوكهم ومصالحهم، وطرق اتقاءهم الأخطار و تغنيهم ببطولة أبناء مجموعتهم .. تماما كما تكون فنون (أصناف أو تحت أصناف ) الكائنات الحية الأخرى فهناك أصناف كثيرة من الثعالب، كل صنف له طرائقه في الصيد وقوائم أعداء وأمكنة اختباء تختلف عن الصنف الآخر ..

فلذلك نجد أن الدين لا يمنع أن يتضاد أبناء الدين الواحد فيما بينهم ليجدوا مبررات تفلسف عدائهم لأخوانهم في الدين ( إيران ـ العرب) .. سيقول قائل: إنها الفوارق الطائفية .. وعنا سنقول لقد اصطف أبناء الكرد السنة مع الفرس الشيعة وتعاونوا مع الأمريكان أصحاب الدين المختلف ضد أبناء العرب.. أين التضليل وأين الحقيقة في فواصل التأريخ للعقل العربي؟؟

ابن حوران 22-04-2007 02:44 PM

الجبرية في العقل الجماعي العربي :

لو دخل غريب الى حي، وتعرض الى عبث مجموعة من المراهقين أو الشباب المتزمتين الذين لا يرحبون بالغريب، فإنه يعود الى عقله الفردي ليقرر شكل سلوكه مع عبث العابثين، فهو قد حسب قوته وخمن عوامل قوة العابثين، فسيكون قراره التساهل ومحاولة التخلص من هؤلاء العابثين بأقل قدر ممكن من الأذى .. تماما كما يفعل حكم مباراة (كرة قدم) في اتخاذ قراراته في أجزاء من الثانية، فالموقف لا يسمح بالعودة لمرجع استشاري سواء كانت هيئة بشرية أو كتب مكتوب فيها ما يعينه على اتخاذ قراره ..

نحن لا نتكلم عن عقلية فردية، بل نتكلم عن عقل جماعي، وطبعا الكلام هنا لن يكون دقيقا في أي حالة من الأحوال، فلن يكن هناك كما أسلفنا سمة خاصة بسكان دولة كاملة أو مدينة كاملة أو حي كامل أو حتى أسرة تبين تطابق سلوك أفرادها وأداء عقولهم بشكل وكأن هذه المجموعات البشرية عبارة عن نسخ مكررة من فرد ومضروب بعدد المجموعة .. لكن نحن نتكلم عن السمات العامة التي تميز شعب أو حضارة بسمة ما، فنقول سلوك اليهود ونصفه على ضوء ما صنعنا من صورة متكررة فيما كتب عنهم وما وصلتنا أخبارهم عبر السنين، ونتغاضى عن أشخاص أو مفكرين أو علماء لا يروقهم سلوك اليهود، وهم من اليهود، تماما، كما نسمي كيس من (الحنطة) باسمه، حتى لو كان فيه من الشوائب ما يصل الى خمسه فيبقى كيس من القمح (هكذا اسمه) ..

في حالات وصف عمل العقل العربي، تكلمنا عن جانب مهم في تكوينه (كأداة) و (كوعاء) في نفس الوقت من خلال تطور وتراكم المفاهيم التي تحدد شكل ردة فعل تلك الأداة والتي تنضح مهاراتها من وعائها في نفس الوقت .. وهذا قد تعرضنا إليه من خلال النظرة السريعة في تأريخ الموروث المعرفي للأمة ..

لو نظرنا من باب المحاكمة الجماعية للعقل العربي من خلال، المقارنة في الأشكال الجماعية الإدارية (طبعا) وكيفية سلوكها وتحكيم العقل في أدائها اليومي، لرأينا أي فريق عمل ضيق تتوزع به الأدوار ليقوم كل عضو من الفريق بتفقيه أداءه و إخضاعه للعقل عنده (كوعاء) من خلال الاستعانة بمعرفته الخاصة (كمستشار) و (منفذ) بالفريق، هو من ينجح في إنجاز مهمته بصورة قاطعة وحاسمة. ففريق طبي يقوم بعملية جراحية يتوزع دوره بين الجراح والفيزيائي والمخدر وغيرهم، ولا تحتمل العملية أي خطأ من أخطاء الفريق. كذلك في فريق (كرة القدم) وفريق التعليم في الكليات الجامعية الخ ..

في الدولة الحديثة، لن يستطيع رأس الدولة أن يدير دولته إلا بتقسيمها، الى قطاعات جغرافية وتعيين حكام محليين و هم بدورهم ينسبون حكاما للمساحات الأصغر، هذا على صعيد السيطرة الجغرافية، وهو شأن معروف منذ القدم.. أما على صعيد التنوع فإن النشاطات ستقسم ويوضع لها مسئولون باسم وزير للمسئول الرأسي أو مدير عام ومدير ورئيس قسم للموظفين الأقل شأنا .. ثم يحيط رأس الدولة نفسه، بمستشارين خاصين يفهم كل منهم الشأن الذي يطلب منه الاستشارة فيه .. وهكذا يفعل الوزراء الخ ..

نعود الى الأمة أو الشعب بنشاطه الحضاري وما يخصه من نشاط عقلي يحدد سلوكه وتصرفه وقبوله لسلوك الدولة أو اعتراضه ورفضه لها .. ما الذي يحرس القيم التي تحافظ على سمات أمة أو شعب، وتجعل تطور معالمه الحضارية تنسجم مع مجمل الصفات التي عرف بها هذا الشعب؟

في السلوك الفردي تتحكم ثلاثة عوامل حاسمة في تحديد شكل السلوك للفرد أينما وجد، الأول: الحصيلة التراثية التي تزود القاعدة الخلقية بضوابط تجعل هذا السلوك مقبول اجتماعيا أو مرفوض، وهي تتمثل بالدين ومفاهيم الشرف والنزاهة وغيرها، ويغذي هذا العامل مجاميع الوعاظ و مناهج التعليم والأدباء والشعراء و الفنانون وغيرهم .. ويكون كل رجل مهم يعمل في تلك المناحي تحت رقابة غيره ممن يهتمون بالمنحى الذي يهتم به و يخضعونه لضوابط معقدة لها علاقة بشكل أو بآخر بالسمات الشخصية العامة للطابع الحضاري، فيهاجمونه إذا أخل بالالتزام بالسمة العامة للمجتمع وسماته التي عرف عنها، ويحيونه بالإشارة الى عمله في كتاباتهم وأحاديثهم الخ ..

والثاني: قوانين الدولة، وهي الرادع للمخالفين والضابط لحركة المجتمع بمختلف نشاطاته الاقتصادية والسياسية والأخلاقية وكل ما يصدر عن الأفراد أو المجموعات، وعندما تتناغم تلك القوانين مع السمات العامة للمجتمع وخصائص الشعب أو الأمة الحضارية، فإن قوة إضافية قد جاءت لتقوي الحراسة، على الصفات العامة للمجتمع وحضارته، وتدعم مسيرته نحو التطور بخطى ثابتة ومتناغمة مع أصالة صفاته.. وبعكسه أي عندما تتساهل القوانين في أداء الأفراد و غض النظر عن أخطائهم، فستكون الفوضى والارتباك و فقدان حماسة العاملين في النشاطات الأدبية المذكورة في تطوير خطاباتهم، كون أن القوانين لا تساعدهم في مهمتهم .. وتكون النتائج أكثر خطورة، عندما تغض القوانين النظر عن أشخاص أو مؤسسات تبشر بنسف المفاهيم التي اعتاد عليها المجتمع وخصوصا تلك الثوابت التي تمس حضارة البلاد بأعمق مواطنها، سواء كانت تلك التي تمس الدين أو الوطن ..

أما المصدر الثالث: فهو الصحبة والجماعة المحيطة بشكل دائم بالفرد، فتلميذ المدرسة أو طالب الجامعة يكون الطلاب هم صحبته اليومية التي يختلط بها، فيتغذى منها و يحاول أن يلتزم بسلوك شخصيتها العام تحت باب (نزعة القطيع) فلا يحاول الشذوذ عنها، حتى لو كان شذوذه هو الأصح .. وهذا يحدث في المجموعات المهنية سواء في التجارة أو الحرفة بكل أشكالها، حيث تتولد عادات وسلوكيات متأثرة بالأجواء الخلقية والقانونية السائدة ..

يتضح لنا أن المناداة بالمُثل والقيم، من قبل بعض الأصوات من كل المناحي، سيواجه صعوبات هائلة في إعادة النموذج العام للشخصية العربية و عمل العقل فيها وفق التدرج الذي صعدنا به في هذا التدريج .. لكن بجميع الحالات قد تسبت القوة المطالبة بالعودة الى النموذج العقلي العام للشخصية العامة للشعب أو الأمة، لكنها لن تموت، بل تبقى تتحين الفرص لعودة انطلاقتها من جديد، وهذه الحالة تتكرر في كل أمة حية ..

وإن كانت الجبرية آتية من سطوة القوى الثلاث في تحديد شكل السلوك وإعمال العقل في نمط لا تقبله الشخصية العامة للمجتمع، فإن تغيير تلك السطوة هو ما يفسح المجال لإطلاق العقل العربي و عودة نشاطه وفق ضوابط شخصيته من جديد ..

ابن حوران 07-06-2007 05:44 AM

عقل عربي أم عقول عربية؟

عندما تناول المفكر محمد عابد الجابري، موضوع العقل العربي، ووضع به ما يشبه الموسوعة الفكرية الشاملة في عدة كتب قيمة، هي: تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي، والعقل العربي السياسي، والخطاب العربي النهضوي، والتراث والحداثة وغيرها*1 ولم يبتعد في كتاباته الأخرى عن محور العقل العربي، فهو يعود الى هذا المحور عندما يتكلم عن الدولة والدين وعندما يتكلم عن (الإبستومولوجيا) لا يفارق محوره المفضل .. وأجد نفسي منحازا باعتزاز لنمطية مناقشاته تلك..

بهذه الأثناء ظهرت رؤى يتبناها مفكرون عرب آخرون، تتضاد مع منهجية الجابري، في محاكمته للعقل العربي، ولا أزعم أنني اطلعت عليها كاملة، كما لا أزعم بنفس الوقت أنني أكملت هضم منتجات الجابري بكمها الغزير. وتلك قضية أخرى لا تخلو من مبعث للشعور بالأسى والبؤس، خصوصا إذا كان ادعاؤنا نحن الطبقة الثالثة من المثقفين العرب، وفق التراتب الذي يضع المفكرين الكبار في المرتبة الأولى والمختصين الجامعيين من أساتذة، وكبار كتاب الصحافة والإعلام في المرتبة الثانية. وعندما يكون ادعاؤنا بأننا نشكل مقاربة تجسر أعمال من هم أكثر رقي منا مع من هم مثلنا أو بعدنا، فإن مهمتنا تكون منقوصة بشكل خطير عندما لا نستكمل فهم ما يُكتب ويُترجم من أعمال فكرية عظيمة..

وقد تكون حجج من ينتقدون منهج الجابري في محاكمة العقل العربي أو تحليله، تحمل في ثناياها بعض الوجاهة .. وإن كان بعضهم يغالي في النقد، فينكر أن هناك عقلا عربيا (هشام غصيب*2) فإن هناك من يقول أن هناك عقولا عربية .. وقد اختلف قسم منهم في الأسلوب ، ولم يعترض صراحة على المنهج كما فعل (عبد الله العروي)*3 و (أبو يعرب المرزوقي)*4


ولكن من يتتبع استنطاق الجابري للتاريخ والتراث والثقافة، سيدرك أهمية منهجه، الذي سيكشف بالنهاية الحالة الراهنة للعقل العربي، من خلال تتبع نتوءات المعرفة*5، وما تراكم ويتراكم على تلك النتوءات من معارف، والتي كونت في النهاية الوعاء (العقلي) العربي الراهن، بشكله المشخص بالاضطراب والمساجلة والتموج بين منحى وآخر ..

إذا كان العقل للإنسان الفرد، هو ما يملي عليه ما سيتخذ من ردة فعل تجاه ما يواجهه من مواقف حادة، أو ما يعرض عليه من آراء، تقبل التصديق والتكذيب، فيكون قرار الفرد صادرا من (أداة العقل) الذي يؤدي عمله على هدي ما تراكم في (وعاءه) المعرفي من معلومات يستدل من خلال تشابهها مع يمر به بشكل لحظي ..

فإن كان نوع الحدث، التعامل مع حالة اصطدام مركبة يقودها الفرد بمركبة أخرى أو بشخص يسير في الطريق، فإن عقل الفرد يأمره بشكل فوري باتخاذ ما يلزم، من التوقف وانتظار شرطي المرور أو التصالح الفوري أو الوصول للقضاء والاستعانة بأحد المحامين، أو أحيانا يأمره عقله بالهرب والاختفاء من ساحة الحدث!


وإن عُرض على الفرد خبرا من محطة تلفزيونية، فإنه سيعيد الخبر الى جذوره، ويستعيد تاريخ ما يعرف عن هذه المحطة وفهرس مثيلات الخبر المذاع ومدى صدقه أو كذبه، مقارنة بمحطات أخرى..

هذا، بالنسبة للفرد، وهو جزء ضئيل جدا من مجتمع أكبر هو الشعب أو الأمة، وكل واحد منهم له أداء مختلف عن الآخر كاختلاف البصمات، فكيف يكون هناك إذن عقل جماعي يشمل كل المجتمع بأفراده ؟

هل نتحدث إذن عن عقل عربي أم عقول عربية؟ هنا تكمن مواطن الاختلاف في المناهج بين المفكرين العرب، ومن يتأثر بهم من جمهور المثقفين في مختلف تراتبهم الثقافي ..

لكن في المثالين السابقين، اعتمد الفرد على حصيلة تجارب مشابهة لما مر بها هو، أو سمع من أصدقاءه أو أبناء مجتمعه، أو ما قرأ عنه من تجارب مشابهة حدثت في أزمنة وأمكنة مختلفة، وسيتم نسيان من ابتدأ التجربة حتى لو كان مخترعا علميا، وتصبح تلك التجربة مكوِن من مكونات التراث المحلي أو القومي أو العالمي، بمختلف المناحي العلمية والحربية والأدبية والدينية الخ

لا يُعقَل أنه إذا أراد أحدٌ أن يفكر بتصنيع سيارة، أن يجعل إطاراتها مربعة الشكل، ثم يكتشف بعد ذلك أنها لو كانت دائرية لكانت أفضل! فعمومية العلم تجعل أبناء الكرة الأرضية يستفيدون من تجارب بعضهم البعض.. ولا يتوقفون كثيرا عند المكتشف الأول لتلك المعلومة أو بلده أو دينه، فالمكتشفات عند الشعوب تبقى في مكانها فترة بسيطة ثم تضاف للتراث الإنساني ..

لكن يبقى هناك أساس يميز حضارة عن حضارة وشعب عن شعب، وسيبدو الشعب الواحد بنظر من هم خارجه وكأن أفراده عبارة عن نسخة واحدة مضروبة بعدد أبناء الشعب نفسه، وهذا ما ينظر إليه عندما نتحدث عن الشعب المصري أو اللبناني أو العراقي، فيما بيننا كعرب، وقد يختار أبناء مصر مدينة أو إقليم ليتندروا بالحديث عن أبناء ذلك الإقليم وكأنهم فرد واحد، ويفعل كذلك السوريون والعراقيون وغيرهم، وبالمقابل فإن من هم خارج العرب سينظرون للعرب وكأنهم نسخة واحدة لشخص ارتسمت صورته في أذهانهم ..


هذا ما تناوله صموئيل هانتنغتون في كتابه (صدام الحضارات)*6 عندما حاول وضع خطوط فاصلة بين الحضارات فبعد أن تسلسل في سمات سكان سردينيا و طرائقهم الحياتية واختلافها عن سكان نابولي و فينيسيا، وصل الى أن هناك شخصية إيطالية لها سماتها التي تميزها عن الألمانية والهولندية والإنجليزية، لكنها تلتقي كلها في سمات الشخصية الحضارية الأوروبية ..

لقد عالج الجابري تلك المسألة بإرجاعها ل (النظم المعرفية)، وكنا قد ذكرناها في الحلقات الأولى من هذا الملف، لكن باقتضاب وسنعود إليها ببعض التفصيل لاحقا ..

في إحدى السنوات حاولت جمع بعض بذور (النفل) وهو نبات رعوي معروف يتبع للعائلة البقولية، تستسيغه كل الحيوانات التي يقتنيها الإنسان، ويزيد إنتاجها وتتحسن أحوالها إذا تغذت عليه. وعندما تنطلق الحيوانات في المرعى فإنها تقبل على نبات (النفل) حتى تقضي عليه كله، ثم تنتقل بعد ذلك الى ما دونه من الأصناف الأقل جودة واستساغة منه. فاجتهدت في محاولة تكثير ذلك النبات بجمع قسم من بذوره الناضجة، وخصصت لها مكانا محددا من الأرض وبذرتها ورعيت بذورها بالاهتمام بسقيها وتعشيبها، وفق الأسس المعروفة في زراعة المحاصيل الحقلية. لكن لم ينبت من البذور ولا بذرة واحدة، لا في السنة الأولى ولا في السنة الثانية ولا بعدها .. وعندما بحثت في ذلك وجدت أن هناك العديد من أصناف النباتات الرعوية يمتلك خصائص تجعلها تمتنع فيها عن الإنبات بانتظام .. وتعاود الإنبات في ظروف لا دخل للإنسان فيها ..

هذه الحالة، من يتمعن في الجنس البشري، سيجدها ماثلة في سلوكه ومظاهر (عقلنته) وذروة نشاط عقله. فنحن لا نستطيع التعرف على عقل شعب إلا من خلال ما ينتجه هذا الشعب من عطاء حضاري، بأشكاله المختلفة، وقد تعبر عن هذا العقل الدولة، أو النخب المسموح لها بالتعبير من خلال قوانين وظروف الدولة نفسها .. وقد تكون عينة الدولة في كثير من الأزمان لا تعبر عن الحالة الحضارية لما يكمن في مخزون الشعب، وقد تمر فترات طويلة لا يتم التعرف بها على الإمكانيات الحضارية لهذا الشعب .. وقد رأينا أمثلة كثيرة، فاليهود يسبتون قرونا طويلة، وما أن تتاح لهم الفرصة حتى يعاودوا نشاطهم العقلي الذي يتطابق مع سالف عهدهم، وكذلك أهل الهند والأتراك وغيرهم ..

وهذا ما يؤكد أهمية مناقشة النظم المعرفية التي تحرس نمطية الجهد العقلي لأي شعب، وهو ما سنناقشه ببعض التفصيل لاحقا..

هوامش
ــــ
*1ـ سلسلة من المؤلفات نشر معظمها من خلال مركز دراسات الوحدة العربية
*2ـ هل هناك عقل عربي/قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري/ هشام غصيب/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت/ ط1/1993
*3ـ ثقافتنا في ضوء التاريخ/عبد الله العروي/المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء/المغرب/ط1/1983
*4ـ إصلاح العقل في الفلسفة العربية/أبو يعرب المرزوقي/ مركز دراسات الوحدة العربية/ط1/1994
*5ـ مصطلح قامت بنحته (كروبسكايا) زوجة لينين/ قرأته في كتيب سوفييتي مترجم للعربية، تحت عنوان (تكنيك القراءة والمطالعة) نسيت دار النشر وسنتها .. ولم أعد أملكه الآن..
*6ـ صدام الحضارات/ إصدار خاص قام به مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق/بيروت ط1/1995

ابن حوران 10-08-2007 02:09 PM

إخضاع المخزون المعرفي لنظم تتدخل في أداء العقل

لا يستطيع كائن من كان أن يحكم على المستوى العقلي لشعب وفق حالة سياسية معينة أو حالة تقنية تتعلق بكمية براءات الاختراع التي يسجلها أبناء ذلك الشعب أو الأمة، أو كمية الكتب ورسائل الأبحاث التي تُنسب الى أبناء تلك الأمة أو الشعب، فالأسود والأفيال تلغي كثيرا من خصائصها الطبيعية عندما تخضع لإرادات مدربيها في (سيرك)، أو عندما تعيش في حدائق للكسب السياحي والتجاري عليها ..

ولو تساوت الظروف السياسية والمدنية لكل شعوب الأرض، لكانت الأحكام المطلقة على الحالة العقلية لتلك الشعوب والأمم مختلفة عما هي سائدة عليه الآن، ولكانت فرص الإنتاج التقني والعلمي والحضاري، مختلفة عما هي عليه. ولكن سيبرز هنا تساؤل هو ما الذي يمنع تلك الشعوب والأمم من أن تنتزع فرصتها التي تأخذ بها دورها في النشاط الحضاري بكل أشكاله، أليس للمستوى العقلي العام لأفراد تلك الشعوب والأمم دور فيما هي عليه؟ وهو تساؤل وجيه ومهم في نفس الوقت .. واكتسابه وجاهته آتية من إعطاء الحالة المدنية باعتبارها مؤشرا للنشاط الكلي لعموم أفراد الشعب وما ينتج عنه من هياكل تنظم عطاء ذلك الشعب بما فيها مؤسسات الدولة والمجتمع المدني .. واكتسابه أهميته قادمة من أنه فيما لو تم حل هذا اللغز سنقترب حينها من التمهيد للدخول في الكيفية التي سيقوم بها العقل (الكلي) للشعب في أدائه للخروج مما هو فيه من حالة مترهلة مقززة، تثير سخرية من هم خارج هذه الأمة، وتجعل أبناء الأمة أنفسهم يحسون بانعدام وزنهم وعبثية دورهم العالمي..

يحاول بعض المفكرين العرب الإجابة عن تلك التساؤلات، بإرجاعها للنظم المعرفية التي تكون بمثابة رافعة تحمل ما يعرض عليها لتدخله لمختبر يحدد نوعية المعروض وصنفه وكيفية التعامل معه.. وهذه المسألة كونها تقبل الخضوع الى انتسابها لأمة أو شعب، فهي تقبل الخضوع ـ بكل تأكيد ـ لتطبيقها على الأفراد، حيث يطرح كل فرد يوميا كميات هائلة من الأسئلة على نفسه: هل أصمت .. هل أتكلم .. هل أقبل .. هل أشتري .. هل أبيع .. هل أهاجر .. هل أنتحر .. هل وهل .. ثم يتخذ ما يراه مناسبا وفق الإجابات التي يضعها لنفسه، وفق ما قاس عليه من مواقف متشابهة ..

أما في الأمة والشعب ذي الحضارة، فإن التناوب بالأجوبة على الأسئلة قد وصل من خلال ما تبقى من تراث مكتوب أو متناقل بين النخب الثقافية والسياسية والدينية والعلمية .. حقا، أن ليس هناك علما مطلقا، أو رأيا مطلقا، أو موقفا نهائيا في أي مسألة من تلك المسائل، فلا النظريات السياسية في العالم قد توقفت عند حد، ولا النظريات العلمية في العالم قد توقفت عند حد، فكل يوم نرى أجيالا جديدة من أصناف العلاجات البشرية وأجيالا من أجهزة الحاسوب والطائرات والآلات الخ .. كما كل يوم نرى مجتهدا في تفسير القرآن وتأويل الأحاديث، وتفسير العلمانية والاشتراكية والديمقراطية، يختلف مع من سبقه من مفسرين ولكنه يؤسس خلافه على ما قبله، يجاوره ولا يعاديه يرتكز عليه ويدعي أنه متفوق عليه ..

كل هذا يحصل وفق نظم معرفية ثلاث كما ركز عليها الفيلسوف محمد عابد الجابري، ( العرفاني والبياني والبرهاني) .. ونسب النظام العرفاني لشعوب شرق آسيا من الهند والصين واليابان وغيرها، والتي مفادها بأن هناك علاقة خفية بين ما يقوم به الإنسان مع السلطة والقوة الخفية للأبراج والكواكب، ولا زالت الصين تسمي العقود والسنوات والقرون بأسماء تلك الأبراج والكواكب، فهذا عقد العقرب وهذا عقد القوس وهذه السنة الفلانية الخ ..علما بأن النظام الرسمي للدولة يفترض أن ينتمي لبيئة مادية شيوعية، لا تعطي وزنا لمثل هذا الكلام!

أما النظام البرهاني الذي يسير عليه الغرب (بشكل عام) فيطلق العنان للخيال العلمي وما يرتبط به من نمو رياضي في تتابع الجدلية الحياتية، فتنعكس تلك المحاكمة على الأداء الفلسفي منذ بدايات وجوده قبل حوالي 25 قرنا، ثم ينعكس على طبيعة الأبنية والاختراعات فنمط أبنية الكاتدرائيات والكنائس وما يتعلق بها من إضافات شاهقة. تتناغم مع نمط ناطحات السحاب الحالية .. كذلك كان النشاط العلمي يصب في نفس الاتجاه فاختراع التلفون و بحوث الفضاء تنسجم مع هذا النظام المعرفي، ولم تقف نوعية الديانة أو الإلحاد عائقا أمام تلك الأنشطة، فتشابهت عند الروس والأوربيين الغربيين والأمريكان بغض النظر عن الانتماء الطائفي (أرثوذكس، بروتستانت، كاثوليك) ..

في حين كان النظام المعرفي البياني، وهو النظام السائد عند العرب (المسلمين) منهم بالذات، والذي لم يلتزم به المسلمون الآخرون من غير العرب، قوامه اللغة والفقه .. فقد غطى هذا النظام معظم أنشطة العقل العربي سواء من العرب أو من المسلمين من غير العرب الذين كانوا ينتهجون نفس منهج العرب المسلمين في التعاطي مع أنشطة العقل المختلفة .. فعالم الفلك وعالم الطب والرياضيات والحديث و التاريخ والفلسفة، لن يتخلوا عن الالتزام بهذا النهج (البياني) إطلاقا، فهم إن تحدثوا عن سبب من أسباب الأمراض، لن ينسوا تدخل الله عز وجل في تقدير ذلك السبب، وإن كانوا في صدد تقييم رسالة دكتوراه، فقد تسقط تلك الرسالة إن لم تكن متقنة من حيث اللغة، حتى في عصرنا الحديث .. فكان تلازم الفقه واللغة من مميزات النظام المعرفي البياني ..

ولو تعرض أحد أبناء الأمة العربية في عصرنا الحاضر، لطارئ مرضي أو جنائي، فإن أي مراقب متوسط الثقافة سيلاحظ بسهولة تداخل الأنظمة المعرفية الثلاثة على سلوكه وتعاطيه مع الموقف الذي يتعرض له .. فالمريض يذهب لأخصائي (طبيب) ويعرض حالته عليه، وهي حالة تلتقي مع نتاج النظام البرهاني. فإن لم يستفد من تكراره لمراجعاته، فإنه لن يتوانى عن مراجعة شيخ يقرأ عليه بعض الأوراد أو الآيات أو غيرها ، ويطمئنه بأن العمر محدود وأن المرض هو ابتلاء يتعرض إليه المؤمن لامتحان إيمانه من خلال صبره، وهو نشاط ينتمي للنظام المعرفي البياني. ولكن هناك من يذهب الى عراف يعلم بالسحر والفلك والنجوم ودورها بالتأثير على ما في داخل المرء من مرض وغيره، ومن يقلب محطات التلفزيون سيجد من بين مائة محطة أربع أو خمس محطات تتعامل مع الأبراج، وتنصح السائلين بالسفر أو إلغائه أو تأجيله، كما تنصح بإلغاء مشروع اقتصادي أحيانا! .. وهذا يتعلق بالنظام المعرفي العرفاني.

نحن أمة متوسطة، اختلطنا بكثير من أبناء الأمم وتثاقفنا معهم وتبادلنا الكثير من معارفهم فاختلطت معارفنا ونظمنا المعرفية مع الكثير من الأمم .. فلذلك لا غرابة أن ترتج رؤانا ويرتج عطاؤنا العقلي ويتصف بعدم الثبات ويصعب تصنيفه من خلال ما يُطرح من نشاطات عقلية مختلفة .. وكوننا في حالة من عدم الثبات وفي حالة من التراجع الحضاري والانكسار النفسي .. فلا شك أن المطالبة بالعودة الى الالتزام بالنظام المعرفي البياني هي التي ستطفو على السطح بعد كل حالة انكسار .. وستكون المقالات أو الردود على المقالات أو التحليل السياسي أو التحليل الاقتصادي والاجتماعي متسمة في أغلب الأحيان بسمة المطالبة بالعودة للالتزام بالنظام المعرفي البياني ..


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.