أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   الخيمة السياسية (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=11)
-   -   التعقيب على موضوع ( الامامة ) 2 (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=12222)

صالح عبد الرحمن 14-08-2001 02:01 AM

التعقيب على موضوع ( الامامة ) 2
 
المسألة الأولى : الأدلة العقلية والمنطقية على الامامة.

الأدلة كما طرحها الأخ أسعد الأسعد:

لقد اتفق جميع المسلمين على ضرورة أن يتولى أحد الصحابة الأمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ولم يقل أحد بجواز أن يبقى الأمر بعد رسول الله بدون خليفة يرعى مصالح الأمة ،، وهذا معناه أن ( الإمامة ) أو ( الخلافة ) من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها ولا يمكن أن يبقى هذا المنصب شاغرا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله بأي حال من الأحوال.

ونظرا لضرورة هذا المنصب وخطورته فلا يمكننا أن نتصور أن يتركه الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وآله دون بيان .. وكلنا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وآله حينما خرج لغزوة تبوك خرج بدون الإمام علي عليه السلام وأبقاه في المدينة ليقوم بإدارة شؤونها أثناء غيابه صلى الله عليه وآله وقال له: ( لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي ) رواه مسلم في حديث المنـزلة في باب فضائل الإمام علي عليه السلام. فإذا كان لا ينبغي للرسول أن يخرج من المدينة خروجا مؤقتاً دون أن يترك أحدا يخلفه ويقوم مقامه فيها فكيف ينبغي له أن يخرج من الدنيا بأسرها دون أن يترك من يخلفه ويقوم مقامه من بعده ؟ وها نحن نرى العالم كله يفعل الشيء نفسه فحينما يغادر الحاكم دولته لفترة مؤقتة لابد من تكليف أحد ليقوم مقامه.

ولهذا فنحن الشيعة نعتقد أن ترك بيان هذا الأمر فيه تقصير من الله سبحانه وتعالى أومن الرسول صلى الله عليه وآله وحاشا لله وحاشا للرسول أن يصدر منهما أي تقصير ولهذا فنحن نرى أن الله تعالى قد بين هذا الأمر في القرآن الكريم كما بينه الرسول في أحاديثه امتثالا لأمر الله تعالى.

صالح عبد الرحمن 14-08-2001 02:04 AM

رد صالح عبد الرحمن

الاستدلال بالعقل أو بالمنطق سواء على أهمية مسألة " الامامة " وضروريتها أو على أن الشارع لم يترك مسألة الخلافة من دون بيان، أو على أن الشارع قد عالج مسألة الخلافة بتعيين الامام بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خطأ، وذلك للأسباب التالية:

أولا- العقل أو الفكر هو نقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع، فالعملية الفكرية لا يمكن أن توجد إلا إذا توفرت أربعة شروط هي : الدماغ الصالح للربط، الحواس، الواقع الذي يراد التفكير فيه، والمعلومات السابقة التي يفسر بواسطتها الواقع . فإذا نقص عنصر واحد من هذه العناصر الأربعة لا يمكن اجراء العملية الفكرية، من هنا كان التفكير في غير الواقع المحسوس ليس فكرا ولا تفكيرا وانما هو تخيل وأوهام. فالعقل مجردا عن النصوص الشرعية لا يستطيع أن يدرك ان كانت الامامة ضرورة شرعية أم لا كما لا يستطيع أن يدرك ان كان الله تعالى سيعين الخليفة تعيينا أم سيوكل هذه المهمة للمسلمين أنفسهم أو أنه سيضع حلولا أخرى. وكل محاولة للتنبأ بما في علم الله تعالى أو بما يريده الله أو بما لا يريده من دون أن يخبرنا الله تعالى بذلك هي مجرد عملية تخيل لا أكثر ولا أقل فلا يعول عليها ولا يصح الاستناد إليها .

ثانيا- قال الله تعالى : { لا تدركه الأبصار } { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } { ليس كمثله شيء } ، فلا يصح أن نقيس الغائب على الشاهد أي لا يصح أن نقيس الله تعالى على الانسان ، فعقل الانسان محدود ولا يستطيع أن يدرك غير المحدود، ولا يصح قياس غير المحدود على المحدود، فما تراه عقولنا واجبا أو تقصيرا إنما هو بناء على قوانين هذا العالم فلا يصح أن نخضعه جلّ وعلا شأنه لهذه القوانين وهو الذي خلق العالم، وهو الذي يديره حسب هذه القوانين التي جعلها له. وعليه فلا يصح أن نقول يجب على الله تعالى أن يفعل كذا ، أو أن نقول إذا لم يفعل كذا يكون مقصرا، كقولك بتقصير الله سبحانه وتعالى ان ترك بيان من يكون الخليفة من بعد الرسول، قال تعالى { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون }.

ثالثا- تتفاوت العقول في فهم المعالجات ، فكما يمكن أن يتصور العقل معالجة مسألة خلافة الرسول في الحكم بتعيينه من قبل الشارع يمكن أن يتصورها بجعل الأمر للمسلمين يختارون من بينهم من يرضونه خليفة، أو بتشكيل مجلس دائم لاختيار الخليفة، أو بغير ذلك من الحلول والمعالجات ممكنة التطبيق عقلا وفعلا. فلا يستطيع العقل أن يوجب معالجة بعينها على الله تعالى . فالايجاب العقلي للتعيين خطأ من هذه الناحية أيضا.

رابعا- وأما القول بالاستخلاف بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم قياسا على استخلافه لبعض اصحابه على المدينة أثناء غيابه عنها لبينما يرجع من غزواته فليس هو قياسا شرعيا وانما هو قياس عقلي وادراك منطقي ، والقياس العقلي خطأ ولا يجوز. وأما أنه ليس قياسا شرعيا فذلك لعدم وجود العلة الشرعية أي العلة التي يدل عليها الدليل الشرعي. وليس مجرد وجود شبه يعني وجود علة شرعية، والقياس بمجرد وجود الشبه أو بمجرد وجود جامع مشترك في أمر هو القياس العقلي والادراك المنطقي وهو ما لا يجوز شرعا. وأيضا الحكم في الفرع " المقيس " ليس مماثلا للحكم في الأصل " المقيس عليه " لا في عينه ولا في جنسه، فالمقيس عليه استخلاف على المدينة فقط، والعمل به يكون في أثناء حياته صلى الله عليه وسلم فقط بل لبينما يرجع من غزواته، وهو أي استخلاف غيره على المدينة عمل من أعمال الحكم مما هو من صلاحيات رئيس الدولة ولا يلزم به من يأتي بعده، وأما المقيس فاستخلاف في رئاسة الدولة أي رئاسة عامة لجميع المسلمين ، وهو استخلاف بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو تشريع للمسلمين أي وحي من الله تعالى يلزم به جميع المسلمين لأن التعيين يكون هو بيان كيفية تنصيب الخليفة من بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . لكن حتى لو كانت العلة الشرعية موجودة وحتى لو تماثل الحكمين فإن وجود نص شرعي في حكم المقيس يمنع من القياس، فإذا وجد نص شرعي في الفرع أي في المقيس فلا محل للقياس، فالقياس يعمل به حين لا يوجد نص، ولم يقل أحد بعدم وجود نص شرعي يبين كيفية تنصيب الخليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وانما الخلاف حاصل في فهم هذه الكيفية ، وأنت نفسك تقول بوجود نص بل نصوص في التعيين، وغيرك يقول بوجود النصوص الدالة على أن كيفية تعيين الخليفة هي البيعة .

وأما أن القياس العقلي خطأ ولا يجوز فذلك لأن الأخذ بالادراك المنطقي يقتضي التسوية بين المتماثلات في أحكامها ولذلك يجعل القياس موجودا بين كل أمرين بينهما وجه شبه ، ولكن الشرع كثيرا ما فرق بين المتماثلات أي جعل للمتماثلات احكاما مختلفة ، كما أنه كثيرا ما جمع بين المختلفات أي جعل للمختلفات أحكاما واحدة ، وأيضا أثبت الشارع أحكاما لا مجال للعقل فيها. أما التفريق بين المتماثلات فمثاله أن الشارع قد أوجب غسل الثوب من بول الصبية الأنثى والرش من بول الصبي الغلام وأوجب الصوم على الحائض دون الصلاة ، وجعل عدة المطلقة ثلاثة قروء وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام مع استواء حال الرحم فيهما . فهذه أحكام تتشابه في أمر ويوجد فيها جامع فجاء الشارع وجعل لكل منهما حكما غير حكم الآخر ، مما يدل على أن مجرد وجود الجامع في أمر لا يكفي في للقياس، بل لا بد أن يكون هذا الجامع علة شرعية قد نص عليها الشرع . وأما قيام الشارع بالجمع بين المختلفات فمثاله الجمع بين الماء والتراب في جواز الطهارة مع أن الماء ينظف والتراب يشوه، وجعل الضمان واجبا على من قتل حيوانا أو طيرا في الصيد سواء أكان قتل الصيد عمدا أو خطأ مع أن هناك فرقا بين قتل الخطأ وقتل العمد، وجعل القتل عقوبة للمرتد وعقوبة للزاني المحصن وان اختلفت كيفيته مع أن هناك فرقا بين عمل كل منهما. وأما الأحكام التي لا مجال للعقل فيها فمثاله أن الشرع قد أوجب التعفف أي غض البصر بالنسبة إلى الحرة الشوهاء شعرها وبشرتها مع أن الطبع لا يميل إليها ، ولم يوجب غض البصر بالنسبة إلى الأمة الحسناء التي يميل إليها الطبع. وأيضا فقد أوجب الله تعالى القطع في سرقة القليل دون الغصب الكثير ، وشرط في شهادة الزنا أربعة رجال واكتفى بشاهدة القتل باثنين مع أن القتل أغلظ من الزنا، وأوجب الزكاة في الذهب والفضة ولم يشرعها في الماس والياقوت وغيرهما من المعادن النفيسة ، واحل البيع وحرم الربا مع أن كلا منهما بيع وهما متماثلان ، ونهى عن تقديس الأحجار وأمر بتقبيل الحجر الأسود ، وغير ذلك كثير. فلو جعل للعقل أن يفهم من مجموع الشرع علة ، أو يفهم من ظاهر النص علة، أو يفهم من مجرد التماثل بين حكمين وجود القياس بينهما لحرم كثيرا مما أباحه الله وأحل كثيرا مما حرمه الله ، ولذلك لا يجوز أن يحصل القياس إلا في علة ورد النص بها ، ولهذا يقول سيدنا عليّ رضي الله عنه : ( لو كان الدين يؤخذ قياسا لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره ) وفي رواية : ( لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحقَّ بالمسح من ظاهرهما ، ولكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهرهما ).

لجميع هذه الأسباب كان من الخطأ أن تستدل بالعقل أو بالمنطق على ضرورة وجود نص بتعيين الخليفة. على أن الاستعانة بالمنطق لأجل إثبات صحة رأي معين يعتبر دليلا أو مؤشرا إما على افتقار ذلك الرأي إلى الدليل الشرعي أو على ضعف دلالة الدليل الشرعي عليه وإلا فيجب أن يُصار الى الدليل الشرعي نفسه مباشرة دون الحاجة إلى المقدمات المنطقية . فإذا كان الشارع قد عيّن الخليفة من بعد الرسول فيجب أن يؤتى بنص التعيين، فلا حاجة لوضع مقدمات منطقية لأجل اثبات ضرورة وجود نص في التعيين . فالاتيان بنص التعيين يكون هو الدليل على وجوده، وتكون دلالة النص على تعيين الشخص المعين كخليفة من بعد الرسول هي الدليل على تعيينه.

وبناء عليه فإن الدليل سواء على أن الشارع اعتبر الامامة ضرورة شرعية أو على أن الشارع لم يترك مسألة الخلافة من دون بيان أو على ماهية هذا البيان إنما هو الأدلة الشرعية وليس المنطق أو العقل. وقد دل الكتاب والسنة واجماع الصحابة رضوان الله عليهم على أن تنصيب خليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم واجب شرعي ، واجماع الصحابة يعتبر دليلا شرعيا كالكتاب والسنة والقياس ، فكونهم أجمعوا على تنصيب امام بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك يعتبر دليلا شرعيا على وجوب تنصيب الامام وليس هو دليلا عقليا. والأدلة من الكتاب والسنة واجماع الصحابة دلت أيضا على كيفية معالجة الشارع لموضوع الخلافة. فالأدلة الشرعية لا العقلية ولا المنطق هي الدليل على أن الشارع لم يترك مسألة الخلافة من دون بيان وهي نفسها الدليل على الكيفية التي عيّنها الشارع في تنصيب الامام .

صالح عبد الرحمن 14-08-2001 02:07 AM

رد الأخ أسعد الأسعد

وأما ما يخص التعقيب الذي كتبته فإننا نستطيع من خلاله أن ننتهي إلى أننا متفقون تمام الاتفاق على ضرورة تعيين إمام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ولكننا مختلفين في الاستدلال على هذه الضرورة . فأنت ترى أن الدليل على هذه الضرورة محصور في الأدلة الشرعية بينما أنا أرى أن الأدلة على هذه الضرورة هي أدلة عقلية وشرعية.
وأما تعليقي على ما ورد في تعقيبك السابق فهو كالآتي :

أولا : لقد حكمت بخطأ الاستدلال بالعقل أو المنطق على ضرورة ( الإمامة ) وعلى ضرورة بيانها من قبل الشارع المقدس وذكرت لذلك عدة أسباب فقلت في السبب الأول أن ( العقل أو الفكر هو نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع ) وملاحظتي على كلامك هذا هي أنك أولا جعلت العقل والفكر شيئا واحدا وهما بالطبع ليسا كذلك فالعقل هو الملكة التي حبانا الله إياها لنكون قادرين على إدراك الأمور المنطقية .. فبالعقل ندرك أن الكل أعظم من الجزء وبالعقل ندرك أن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في أكثر من مكان واحد في وقت واحد .. فالعقل إذن هو أداة التفكير الأولى .. وأما الفكر فهو حصيلة ما اكتسبه الإنسان من خلال استخدامه للعقل ومن خلال تعلمه وتجاربه.. ثانيا أنك اعتبرت العقل هو عملية ( نقل الواقع إلى الدماغ ) والعقل كما أوضحنا ليس كذلك بل وليس من مهمته ذلك أيضا وإنما هو أداة تعمل كما يعمل الميزان فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير. كما وأنك قلت أن ( التفكير في غير الواقع المحسوس ليس فكرا ولا تفكيرا وإنما هو تخيل وأوهام ) والواقع أن حصرك التفكير في الأمور الحسية في غير محله لأننا نرى العقل يدرك أمورا غير حسية كثيرة فمثلاً نرى العقل يدرك المعاني والمعاني ليست من المحسوسات ولا يقتصر إدراكه للمعاني على معاني الأمور المحسوسة بل يدرك معاني الأمور غير المحسوسة أيضا فيدرك مثلا معنى العدم ولا خلاف بأن العدم من الأمور غير المحسوسة كما أن العقل يدرك أن الأعداد لا نهاية لها ويدرك عدم وجود أكثر من إله ( دون الحاجة إلى أي دليل نقلي ) ويدرك ضرورة أن يكون هناك خالق لكل مخلوق وعلة لكل معلول ويدرك أن هناك أمورا مستحيلة كاجتماع المتناقضين وكل ذلك ليست من الأمور الحسية. لذلك فإن محاولتك إثبات أن مجال العقل هو فقط العالم المحسوس نرى أنها محاولة غير ناجحة. وبما أنك اعتمدت في إثبات عدم قدرة العقل على إدراك ( ضرورة الإمامة ) على هذه المحاولة فإن إثباتك غير قائم.

والغريب أنك تتبنى هذا الرأي فحسب معلوماتي أن الماديين هم الذين يقولون بأن العقل مجاله المحسوسات فقط وقد تم التصدي لقولهم وإثبات فساده حتى خلت الساحات العلمية من هذا القول.

وأما الآيات الكريمة { لا تدركه الأبصار } { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } { ليس كمثله شيء } فإنها تـنـزه الله عن إن إمكانية وصفه أو رؤيته عز وجل ولا تنفي وجود ضروريات يحكم بها العقل حتى لو كانت هذه الضروريات متعلقة بالله سبحانه وتعالى وقد يعتبر البعض لأول وهلة أن في هذه العبارة جرأة على الله سبحانه وتعالى ولكن بقليل من التأمل فإن تلك العبارة هي من كمال التوحيد وللتوضيح أذكر هذه الأمثلة :

1ـ العقل يدرك أن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود وأنه قديم وليس محدث.

2ـ العقل يدرك ويقرر أن الله سبحانه وتعالى ليس له جسم لأن لو كان له جسم لكان محدودا ومفتقرا للمكان الذي يوجد فيه والله تعالى غني مطلق غير مفتقر لأي شيء ثم أننا لو قبلنا بقول أن الله مجسم وأنه محدود وأنه محتاج للمكان فإن ذلك يلزمنا بالقول بأن المكان قديم وليس مخلوق والحال أن المكان من المخلوقات ولم يقل أحد خلاف ذلك.

3ـ العقل يقرر أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصدر منه القبيح كالكذب أو الظلم.
وغير ذلك مما يقرره العقل.

بل لولا هذه الضروريات التي يقررها العقل لما ثبت شيء مما جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وآله لأننا إذا قلنا أن العقل لا يقرر هذه الضروريات ومنها ( نفي الكذب عن الله سبحانه وتعالى ) فإن إمكانية الكذب تبقى قائمة مهما نفاها الله عن نفسه لأنه كلما نفى ذلك عن نفسه يبقى احتمال كونه كاذبا في كل نفي يأتي به .. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وبذلك نقول أن العقل يقرر ويدرك أن الصدق واجب على الله تعالى. والجدير بالملاحظة أننا عندما نقول أن شيئا ما واجب على الله فإننا لا نقولها من باب إصدار الأوامر على الله بل من باب الإقرار بالواقع فعندما نقول يجب على الله الصدق فنحن لا نصدر الأمر على الله بأن يكون صادقا بل هو إقرار بشيء لا يمكن إلا أن يكون.

ذكرت حفظك الله في ( ثالثا ) أن : الاستخلاف بعد موت الرسول صلى الله عليه وآله قياسا على استخلافه لبعض أصحابه على المدينة أثناء غيابه عنها لبينما يرجع من غزواته ليس قياسا شرعيا وإنما هو قياس عقلي وإدراك منطقي ، والقياس العقلي خطأ ولا يجوز.
فأقول تعقيبا على ذلك أن القياس المنطقي ليس خطأ في جميع الأحوال فهناك نوع من القياس المنطقي صحيح ولا غبار عليه وذلك عندما يكون تحت قاعدة الأولى ( بفتح الهمزة ) ومثال ذلك : الآية الكريمة ( ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) فإن الآية منعت من قول أف للوالدين وهذا يدل على منع ما هو أعظم من ذلك بمعنى أننا نستطيع القول : بما أن قول أف للوالدين محرم فمن باب أولى أن يكون الصراخ عليهم محرم وكذلك ضربهم وهذا قياس منطقي ولا يعترض عليه أحد. والقياس في الاستخلاف من هذا الباب أيضا.

على أن ضرورة الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله واضحة عقلا بشكل لا يحتمل أي تشكيك .. فهل يجيز العقل أن تظل الدولة الإسلامية التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وآله دون خليفة ؟ لا أظن أن أحدا لديه أدنى درجات العقل يقول بذلك.

وأما قولك في ( ثانيا ) : تتفاوت العقول في فهم المعالجات ، فكما يمكن أن يتصور العقل معالجة مسألة خلافة الرسول في الحكم بتعيينه من قبل الشارع يمكن أن يتصورها بجعل الأمر للمسلمين يختارون من بينهم من يرضونه خليفة، أو بتشكيل مجلس دائم لاختيار الخليفة، أو بغير ذلك من الحلول والمعالجات ممكنة التطبيق عقلا وفعلا. فلا يستطيع العقل أن يوجب معالجة بعينها على الله تعالى . فالايجاب العقلي للتعيين خطأ من هذه الناحية أيضا.
فإنك بذلك قد أثرت نقطة من نقاط الخلاف الأساسية بين الشيعة والسنة وهي تتعلق بالقول بضرورة العصمة للإمام الذي يخلف الرسول وبيان ذلك هو الآتي :

من المعلوم أن من الضروري أن يكون هناك إمام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ومن المعلوم أيضا أن الله قد فرض علينا طاعته فإذا لم يكن هذا الإمام معصوما فمن الممكن أن يأمرنا بما يخالف شرع الله فإذا حصل منه ذلك وقد أمرنا الله بطاعته فمعنى ذلك أن الله أمرنا بتنفيذ تلك الأوامر المخالفة للشرع.. وقد تقول أننا نستطيع أن لا نطيعه إلا إذا أمر بالحق أما إذا خالف الحق فليس له علينا طاعة.. فأقول ردا على هذا القول أن الإمام العادل عندما يأمرنا بشيء فلابد أنه قد رأى ذلك حقا وصوابا . ولكن في حالة أن أصبح ما يراه الإمام حقا يراه بعض الرعية باطلا كيف بنا أن نميز من هو صاحب الرأي الصحيح ؟ ثم رأي من يكون نافذا ؟ فإن قلت أمر الإمام هو الذي يجب أن يكون نافذا فسوف نقع في نفس الإشكال الذي أوضحناه قبل قليل وهو أنه في حالة كون الإمام مخطئا فسوف تكون النتيجة أن الله قد أمرنا بتنفيذ ما يخالف الشرع ؟ كما وسينتج عندنا إشكال آخر وهو كيف يستطيع أولئك الذين رأوا الإمام مخطئا أن يطيعوه ؟ ألا يعتبر ذلك طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؟
أما إذا قلت أمر من خالفه هو الذي يكون نافذا فنكون قد خالفنا رأي الإمام دون أن نجزم بخطئه فنحن لم نجزم بصحة رأي من خالفه .. ثم ماذا لو تعددت الآراء التي خالفت رأي الإمام ولم يتيسر الاتفاق ؟ هل يعمل كل صاحب رأي برأيه ؟ وباختصار فإن الإمام إذا لم يكن معصوما فلن تستقيم الأمور ولن نستطيع أن نطيع الله الطاعة الحقيقية ولن نعرف هل نحن نطيع الله أم نعصيه ..
ومن خلال ما سبق يتضح أن الإيجاب العقلي للتعيين صواب لأن من خلال ما سبق يثبت أن العقل لا يقبل معالجة الخلافة بغير العصمة وحيث أن العصمة محصورة في جهة معينة اختارها الله سبحانه وتعالى فإن الخلافة محصورة في نفس تلك الجهة.
وأما قولك : ( أن الاستعانة بالمنطق لأجل إثبات صحة رأي معين يعتبر دليلا أو مؤشرا إما على افتقار ذلك الرأي إلى الدليل الشرعي أو على ضعف دلالة الدليل الشرعي عليه وإلا فيجب أن يُصار الى الدليل الشرعي نفسه مباشرة دون الحاجة إلى المقدمات المنطقية . فإذا كان الشارع قد عيّن الخليفة من بعد الرسول فيجب أن يؤتى بنص التعيين، فلا حاجة لوضع مقدمات منطقية لأجل اثبات ضرورة وجود نص في التعيين . فالاتيان بنص التعيين يكون هو الدليل على وجوده، وتكون دلالة النص على تعيين الشخص المعين كخليفة من بعد الرسول هي الدليل على تعيينه ).

فتعليقا على ذلك أقول أننا قد أوضحنا أن الاستعانة بالمنطق على دلالة رأي معين من الأمور المقبولة . بل من الثابت أن إثبات وجود الله سبحانه وتعالى ينحصر في الإثباتات العقلية والمنطقية ومعنى ذلك أن الإثباتات العقلية لا تدل على الضعف بل العكس هو الصحيح على أننا لا نحصر أدلة تعـيـيـن الخليفة على العقل والمنطق فقط بل لدينا من الأدلة النقلية ما يكفي لذلك سواء من القرآن أو السنة وقد ذكرت لك في مشاركتي السابقة بعض تلك الأدلة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك أيها الأخ العزيز ولجميع المؤمنين والمؤمنات وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

محب الاسلام 14-08-2001 06:25 AM

السلام عليكم...

جزاك الله خيرا على هذا الجهد الطيب...

والعلم النافع...

نفع الله بك المسلمين...

صالح عبد الرحمن 15-08-2001 07:02 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخي الكريم أسعد الأسعد
درست ردك المتعلق بالمسألة الأولى والتي هي " الأدلة العقلية والمنطقية " ، وبعد الدراسة والتفكير والبحث توصلت الى ما يلي :

أولا- الفكر والادراك والعقل بمعنى واحد ، فهي أسماء متعددة لمسمى واحد . ويطلق الفكر ويراد منه التفكير ، أي العملية التفكيرية . وقد يطلق ويراد منه نتيجة التفكير ، أي ما توصل اليه الانسان من العملية التفكيرية. وسياق الجملة هو الذي يحدد المعنى المراد. فالمهم أن هناك عملية تفكيرية وهناك نتيجة لها، فالمطلوب بحثه وإعطاء رأي فيه هو : كيف يفكر الانسان أو ما هي عملية التفكير ، وما هي الأشياء التي تتكون منها ؟ ثم ما هي نتيجة عملية التفكير ؟ هذا هو الموضوع وهذا هو محل البحث.
وتعريف العقل الذي ورد في تعقيبي السابق هو نفس تعريف الطريقة العقلية في التفكير أو هو بيان واقع عملية التفكير، وليس هو تعريفا للفكر بمعنى نتيجة عملية التفكير . فالعقل أو الطريقة العقلية في التفكير أو العملية التفكيرية هو : ( نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع ). وأما الفكر بمعنى نتيجة عملية التفكير فهو : ( حكم على واقع ) أو ( تعبير عن واقع ) أو ( وصف الواقع ) . وحتى لا يحصل خلط بالمصطلحات فلن استعمل كلمة الفكر إلا بمعنى نتيجة العملية التفكيرية.

ولتوضيح واقع عملية التفكير وواقع الفكر بمعنى نتيجة عملية التفكير أضع المثال التالي :
لو سألتني ما هذا الشيء - ولنفترض أن هذا الشيء هو كتاب – فإن جوابي يكون : هذا كتاب. هنا يوجد أمران اولهما العملية التفكيرية او العقلية أو الادراكية التي حصلت وثانيهما هي نتيجة عملية التفكير أي الفكر. أما الأمر الأول والذي هو العملية التفكيرية التي حصلت فهي الآتي : انتقل واقع الكتاب الى دماغي بواسطة حاسة البصر على سبيل المثال، وفي دماغي يوجد قدر معين من المعلومات التي تفسر ما هو هذا الشيء الذي سألتني عنه، وبفعل خاصية الربط التي في الدماغ ترتبط صورة الواقع المطبوعة في الدماغ بالمعلومات السابقة التي تفسر الواقع فيحصل من عملية الربط بين الوقع والمعلومات التي تفسره ادراك ما هو هذا الشيء، أي ادراك أنه كتاب، وهذا الادراك لواقع الكتاب هو الحكم الذي يصدره الدماغ على الواقع ، فهذا الحكم هو نتيجة العملية التفكيرية. وكنتيجة لادراك الانسان لواقع الأشياء فإنه يتصرف تجاهها بحسب ادراكه لها ، فليس اطلاق لفظة كتاب هو المقصود بالفكر وإنما المقصود ادراك واقع الكتاب أي معرفة كنه هذا الشيء أو ماهيته. لذلك قد تتعدد اللغة التي يعبر بها عن الكتاب لكن يظل الادراك واحدا ، فسواء استعملت لفظة " كتاب " أو استعملت لفظة " a book " فإني أكون قد عبرت عن نفس الواقع المدرك في ذهني. فالفكر بمعنى نتيجة عملية التفكير هو الحكم على الواقع .
من هنا يتبين أن العملية التفكيرية التي هي نفسها العقل ليست عضوا من أعضاء جسم الانسان وإنما هي عملية تتكون من أربعة أشياء هي : الدماغ الصالح للربط، الواقع الذي يراد التفكير فيه أو الحكم عليه، حاسة واحدة على الأقل من الحواس الخمسة، والمعلومات السابقة التي يفسر بواسطتها الواقع. فلو نقص عنصر واحد من هذه العناصر الأربعة فإن العملية التفكيرية لا يمكن أن تحصل .
فمثلا لو سألتك ما هو معنى النص التالي :

De wereld-ontvanger waarover u nu beschikt kan een aantal golfflengtebanden ontvangen .

فإذا لم يكن عندك معلومات سابقة عن اللغة التي كتب بها هذا النص فلا يمكن أن تدرك معناه . فمع أن الواقع محسوس ( النص ) وقد انتقل الى دماغك بواسطة حاسة البصر إلا أنك لا تستطيع التفكير فيه لعدم توفر المعلومات السابقة التي تفسره ، وبالتالي لا تستطيع ان تصدر حكمك عليه.
ومثلا لو سألتك الأسألة التالية المتعلقة بالجن :
ما هي صورة الجن ؟ هل هي كالانسان ام كالحيوان ام كالطير أم غير ذلك ؟ هل للجن أسنان وكم عددها ؟ هل التزواج والتناسل بين الجن كما هو عند الانسان ؟ الحليب هو غذاء طفل الانسان منذ ولادته وحتى فطامه ، فما هو غذاء الطفل الجني ؟ الانسان اذا جرح ينزف دما، الجني ماذا ينزف ؟
مثل هذه الأسألة المتعلقة بالجن لا تستطيع إعطاء أجوبة عليها لسببين : أولها لأن الجن واقع لا يقع تحت حس الانسان، وثانيهما لعدم وجود معلومات سابقة عن الأمور التي سألتك عنها. فكل محاولة للاجابة هي مجرد تخيل وأوهام .

وعليه فحتى يحصل التفكير وحتى نعقل الأشياء وحتى ندرك الأمور وحتى يوجد الفكر لا بد من وجود دماغ وواقع وحواس ومعلومات سابقة، فتعريف العقل أو التفكير هو : ( نقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع ) وليس هو عملية ( نقل الواقع إلى الدماغ ) فقط كما أوردت نقلا عني . فتعريف العقل هو التعريف الذي ينص على الأشياء الأربعة التي يتكون منها العقل وينص على دور كل عنصر منها في عملية التفكير وهذا التعريف هو وصف واقع العملية التفكيرية نفسها. وأما نتيجة عملية التفكير فهي ادراك الواقع أو الحكم على الواقع ، والذي يطلق عليه الفكر .

صالح عبد الرحمن 15-08-2001 07:04 PM

ثانيا- أما تعريفك انت للعقل أو للتفكير فإنه تعريف غامض مبهم لا يمكن لمتلقيه أن يضع اصبعه على واقعه الذي يدل عليه فوق أنه خطأ . وهذا يتضح بمجرد عرض التعريفات التي وردت في تعقيبك :
( فالعقل هو الملكة التي حبانا الله إياها لنكون قادرين على إدراك الأمور المنطقية .. فبالعقل ندرك أن الكل أعظم من الجزء وبالعقل ندرك أن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في أكثر من مكان واحد في وقت واحد .. فالعقل إذن هو أداة التفكير الأولى .. وأما الفكر فهو حصيلة ما اكتسبه الإنسان من خلال استخدامه للعقل ومن خلال تعلمه وتجاربه.. ثانيا أنك اعتبرت العقل هو عملية ( نقل الواقع إلى الدماغ ) والعقل كما أوضحنا ليس كذلك بل وليس من مهمته ذلك أيضا وإنما هو أداة تعمل كما يعمل الميزان فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير ).

يفهم من هذا النص أنك تفرق بين ثلاثة أمور هي : العقل ، التفكير ، الفكر ، إلا انك لم تضع معنى محددا لكل مصطلح من هذه المصطلحات الثلاث ، فمثلا عرّفتَ العقل مرة بانه الملكة التي بواسطتها ندرك الأمور المنطقية ، ومرة بأنه أداة التفكير الأولى ، ومرة بأنه أداة التوزين أو الميزان، لكنك لم تقل ولا لمرة واحدة ما هي هذه الملكة أو ما هي هذه الأداة أو ما هو هذا الميزان، أي لم تبين مم يتكون العقل أو ما هي ماهيته، وهل هو عضو من أعضاء الانسان أم هو عملية يدخل في تكوينها مجموعة من العناصر ؟ كما لم تبين كيف تقوم هذه الملكة أو هذه الأداة أو هذا الميزان بدوره في عملية الادراك أو التفكير أو التوزين ، فتعريف العقل بأنه ملكة أو أداة أو ميزان هو تعريف غامض لا يمكن المتلقي من وضع اصبعه على مدلوله.

وأما تعريفك للتفكير فيفهم من الجملة الأولى أن التفكير هو عملية ادراك الأمور المنطقية ، ويفهم من الجملة الأخيرة أن التفكير هو عملية توزين ما يتم نقله للدماغ لاصدار الحكم عليه، وهذان التعريفان لا يوجد فيهما أي شيء يجيب على سؤال كيف نفكر ؟ فلا يوجد فيهما أي بيان للكيفية التي تحصل بها عملية التفكير، كما لا يوجد فيها بيان للعناصر التي تشترك في إيجاد التفكير . فكلمة " ادراك " في الجملة الأولى كلمة رديفة للتفكير فهي ليست بيانا لها، أو لنقل هي نفسها تحتاج الى بيان ، وأيضا الأمور المنطقية تحتاج الى شرح وبيان أي توضيح ما هو المنطق. وأما تعريف التفكير بأنه عملية توزين فوصف غامض لا يبين كيف تتم عملية التوزين ولا وجه الفرق بين الميزان العقلي والميزان الذي توزن به كتل الأشياء ، كما لم يبين وحدة القياس ما هي. وأيضا لم تبين من خلال هذا التعريف ما هو هذا الشيء الذي يتم وزنه بعد نقله الى الدماغ لاصدار الحكم عليه، كما لم تبين واسطة النقل ما هي ، فالشيء المنقول لم تأت على ذكره، وواسطة النقل لم تأت على ذكرها ، مع ان الشيء المنقول الى الدماغ وكذلك واسطة نقله جزء لا يتجزء من عملية التفكير " التوزين ". أما عبارة ( فبالعقل ندرك أن الكل أعظم من الجزء وبالعقل ندرك أن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في أكثر من مكان واحد في وقت واحد ) فهي نص على واحدة من نتائج العقل أي على فكر من الأفكار الناتجة عن العقل وليس هي وصفا لواقع العقل ولا هي بيان لكيفية الادراك أو التفكير ، فمع أنها عبارة توضيحية لمعنى العقل إلا أنها بدل أن تبين ما هو العقل تحدثت عن نتيجة عمله فلم تزل الغموض الذي يكتنف تعريف العقل أو تعريف التفكير ، فهذه العبارة لا تجيب على سؤال ما هو العقل ؟ ولا على سؤال كيف نفكر ؟ أو مم تتكون عملية التفكير ؟
وأما تعريفك للفكر : ( وأما الفكر فهو حصيلة ما اكتسبه الإنسان من خلال استخدامه للعقل ومن خلال تعلمه وتجاربه) فأيضا غامض لا يمكن وضع الاصبع على مدلوله ، لانك استعملت وصفا عاما غير محدد وهو كلمة حصيلة، فالتعريف لا يوضح ما هي هذه الحصيلة التي اكتسبها الانسان من خلال تعلمه وتجاربه .

من هنا يتبين أن التعريفات التي أوردتها غامضة ومبهمة لأنها صيغت بألفاظ عامة غير محددة، فلا تصلح لنقض تعريف العقل بأنه ( نقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة تفسره )، فقولك بأن العقل ملكة وأداة وميزان لا ينقض هذا التعريف لأني بكل بساطة أقول لك بأن ما ورد فيه هو تفسير لملكة العقل وهو بيان لحقيقة هذه الأداة، وهو وصف لواقع هذا الميزان ، واقول لك أيضا بان عملية التوزين هي هذه العملية المنصوص عليها في التعريف. هذا من حيث الغموض والابهام الذي يحيط بجميع التعريفات الواردة في النص أعلاه ، ومن حيث عدم صلاحيتها لنقض تعريف العقل.


ثالثا- أما أن تعريفك خطأ فذلك لأنك حصرت العقل أو التفكير بادراك الأمور المنطقية فقط ، مع أن المنطق هو أسلوب من أساليب العقل وليس هو العقل ، فلا يصح أن يعرف العقل بأسلوب من أساليبه، ففي مثال الكتاب المذكور أعلاه في النقطة الأولى أصدرت حكمي على الواقع مباشرة انه كتاب ، أي من دون الاستعانة بالقضايا المنطقية ، ومعلوم أن المنطق أقل قضاياه اثنتان. فالانسان يدرك أن هذا حجر وهذه شجرة وهذا نهر وهذا تراب وهذه طائرة وهذه سيارة من خلال الحس المباشر بواقعها فيفسر الواقع بالمعلومات السابقة التي تفسره، من دون الاستعانة بالقضايا المنطقية. وبنفس الطريقة العقلية يدرك أن واحد زائد واحد تساوي اثنان، وأن الاثنان أكثر من الواحد، وأن وجود الشخص في مكان يمنع من وجوده في مكان آخر في نفس الوقت. فليس التفكير كله منطق، وليست النتائج كلها نصل اليها وصولا منطقيا، بل يمكن الاستغناء عن المنطق مطلقا. لأنه ليس طريقة في التفكير وانما هو اسلوب، والعقل أو طريقة التفكير العقلية هو الطريقة أي الكيفية الدائمة في التفكير . على أن العقل فطري في الانسان وأما المنطق فعلم يحتاج الانسان لتعلم قواعده، وقد تأثر به المسلمون نتيجة لاحتكاكهم بالفلسفة اليونانية وقد تعلموه وتسلحوا به للرد على الفلاسفة. فالعقل هو الأصل أو هو الأساس ، ولأن المنطق أسلوب وليس طريقة في التفكير فإنه يحتاج الى وجود العناصر الأربعة التي يشترط وجودها في العقل، إذ أن المنطق يشترط في قضاياه ان تنتهي كل منها الى الحس. وعليه فالمنطق هو أسلوب من أساليب البحث المبنية على الطريقة العقلية فلا يصح أن تعرف " بتشديد الراء " طريقة التفكير العقلية باسلوب من اساليبها.


رابعا- على الرغم من غموض تعريفاتك وعلى الرغم من الخطأ الذي وقعت فيه إلا أن التعريفات التي أوردتها في تعقيبك تشترط أيضا توفر العناصر الأربعة حتى توجد العملية التفكيرية، فقولك ( فالعقل هو الملكة التي حبانا الله إياها لنكون قادرين على إدراك الأمور المنطقية ) اقرار بشرط وجود الحواس والواقع لأن المنطق يشترط انتهاء كل قضية من قضاياه الى الحس. وأما قولك ( فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير ) ففيه اقرار صريح بشرط وجود الدماغ ، وفيه اقرار ضمني بشرط وجود الواقع والحواس وكذلك المعلومات السابقة . أما الواقع فإنه إذا لم يكن هذا الذي يتم نقله إلى الدماغ هو الواقع فماذا يكون ؟ وإذا لم يكن الواقع هو ما نريد التفكير فيه واصدار الحكم عليه فبماذا سنفكر ، وعلى ماذا سنصدر الحكم ؟ وإذا لم تكن الحواس هي واسطة نقل الواقع إلى الدماغ فما هي هذه الواسطة ؟ وأيضا إذا لم تكن وحدة القياس أو وحدة التوزين هي المعلومات السابقة التي تفسر الواقع فماذا تكون ؟ فالواقع هو الذي يتم نقله الى الدماغ بواسطة الحواس ويجري التفكير فيه بربطه بالمعلومات السابقة التي تفسره فيصدر الدماغ حكمه عليه.

صالح عبد الرحمن 15-08-2001 07:08 PM

خامسا- أما الأمثلة التي أوردتها لاثبات أن التفكير يمكن أن يحصل في غير الواقع المحسوس فلا يصلح أي منها لاثبات ذلك، وبيان ذلك كما يلي :

اللفظة او الكلمة سواء أكانت مكتوبة أم كانت مسموعة هي واقع محسوس، فالتفكير فيها هو تفكير في واقع محسوس، فإذا سألت مثلا عن معنى كلمة الخلافة أو عن معنى كلمة ولي أو سألت عن معنى كلمة عدم فإن هذه الكلمات تنقل بواسطة الحواس الى الدماغ، وفي الدماغ يرتبط واقع الكلمة بالمعلومات السابقة التي تفسرها فيصدر الدماغ حكمه عليها، فالتفكير جرى في واقع محسوس هو الكلمة ، والحكم الذي صدر قد صدر على هذا الواقع المحسوس. فسواء أكان المعنى له واقع محسوس أم لا فإن التفكير لم يجر في المعنى وكذلك الحكم لم يصدر على المعنى وإنما التفكير قد جرى في الكلمة والحكم قد صدر عليها.


أما التفكير في المعاني فإن قولك " والمعاني ليست من المحسوسات " هو نفي للحس عن كل المعاني، وهذا خطأ. والظاهر أنك تخلط بين الواقع المحسوس وبين الواقع الملموس، فكأنك تعتقد أن الواقع المحسوس هو الواقع المادي الملموس ، ولما كانت المعاني ليست ملموسة قلت أنها ليست محسوسة. مع ان الواقع خلاف ذلك فليس كل ما يحس يلمس وان كان كل ما يلمس يحس، بمعنى أن كل واقع ملموس هو واقع محسوس، ولكن ليس كل واقع محسوس هو واقع ملموس، لأن اللمس محصور بحاسة اللمس فقط، فمثلا الظلم يحس ولا يلمس، والفخر يحس ولا يلمس والشجاعة تحس ولا تلمس والعزة تحس ولا تلمس والخزي والعار يحس ولا يلمس والاهانة تحس ولا تلمس، وعظمة الله تعالى تحس ولا تلمس ، والعجز والاحتياج اليه سبحانه وتعالى يحس ولا يلمس، وهكذا جميع الأمور المعنوية والروحية تحس ولا تلمس، وأما الأشياء المادية فإنها تحس وتلمس كالرغيف يحس ويلمس والماء يحس ويلمس والتراب يحس ويلمس، فالمقصود بالواقع المحسوس ليس هو الأشياء المادية الملموسة فقط بل كل ما يحس. فالتفكير في جميع هذه المعاني هو تفكير فيما يحس .


واما التفكير في المعاني التي ليس لها واقع محسوس كمعنى العدم فمستحيل. لأن الواقع شرط في التفكير. فالعقل لا يمكن أن يدرك حقيقة العدم وان كان للعدم معنى معينا في الذهن . والظاهر أنك تخلط بين تصور الذهن لمعنى العدم وبين ادراك العقل لواقع العدم. فلفظة العدم لم توضع لغة للتعبير عن واقع العدم وانما وضعت للتعبير عن المعنى الذهني للعدم، ومن هنا كان هناك فرقا بين اللغة والفكر، إذ اللغة هي الألفاظ الموضوعة للتعبير عن المعاني الموجودة في الذهن بقطع النظر عن الواقع، وأما الفكر فهو الحكم على الواقع، واللفظ لم يوضع للدلالة على حقيقة الواقع ولا على الحكم عليه ، بل وضع للتعبير عما في الذهن سواء طابق الواقع ام خالفه، فاللفظ للمعاني الذهنية الداخلية لا الخارجية بينما الفكر هو الحكم على الواقع. فتصور المعنى الذي وضع له اللفظ ليس معناه ادراك الواقع الخارجي للمعنى وانما معناه استحضار الصورة الذهنية التي وضع اللفظ لها، ولذلك إذا اطلق اللفظ استحضر الذهن الصورة التي وضع لها سواء اكان لهذه الصورة واقع محسوس في الخارج ام لا. وهذا ليس فكرا ولا تفكيرا وإنما هو استحضار للصورة الذهنية التي وضع اللفظ لها. فإذا كان لهذا المعنى واقع خارجي محسوس وأدركه الشخص فإن هذا الادراك يكون فكرا، والتفكير في واقع المعنى يكون تفكيرا.
فمثلا اليك هذا النص : ( سرت على سطح البحر ماشيا كما امشي على الطريق حتى تعبت قدماي، ثم حركت يداي كحركة جناحي الطير ، فطرت كما تطير الطيور، فعزمت أن اصل الى القمر فوصلته مع بزوغ الفجر، استقبلني اهله بحفاوة بالغة، انقضى شهر كانه يوم ثم عدت كما تعود الطيور المهاجرة الا اوطانها). هذا كلام له معنى ويمكن شرحه وتفسيره وكل انسان يستطيع أن يتصور المعنى الموجود في هذا النص. لكن مع ذلك فإن هذا النص ليس فكرا أي ليس هو نتاج العقل وإنما هو نتاج المخيلة أي هو تخيل واوهام أو هذيان أو احلام اليقظة كما يقولون ، وذلك لأن المعنى لا واقع له . فكون القارىء أو السامع لهذا النص يستطيع استحضار الصور الذهنية للألفاظ التي صيغ بها هذا النص لا يعني أنه قد أدرك واقعه، فالتفكير في معنى هذا النص ليس فكرا ولا تفكيرا .
وبناء عليه فإن الصورة الذهنية للعدم ليست فكرا ، والذهن إنما يستحضر هذه الصورة عند اطلاق لفظة العدم أو عند سماعها، وهذا ليس فكرا ولا تفكيرا، أي ليس هو ادراكا عقليا للعدم . وأما ايماننا بأن الأشياء قد خلقها الله سبحانه وتعالى من عدم فليس ناتجا عن احساسنا بواقع العدم أو من التفكير بالعدم، وإنما من التفكير بواقع محسوس هو واقع الكون والانسان والحياة ، فقد أدرك العقل عجز المخلوقات واحتياجها الى غيرها، فأدرك ان لها بداية أي أنها وجدت بعد أن لم تكن أي بعد أن كانت عدما. فالتفكير هو تفكير في واقع محسوس هو الكون والانسان والحياة والحكم قد صدر على هذا الواقع المحسوس وليس على العدم.


وأما قولك ان العقل يدرك أن الأعداد لا نهاية لها ، فمن المعلوم بداهة أن كل ما سوى الله تعالى محدود، الأعداد وغير الأعداد، والقول بأن الأعداد لانهائية مصطلح رياضي وليس هو وصفا حقيقيا، فمثلا العدد بين رقمين هو عدد لا نهائي مع أنه محدود لأنه يقع بين رقمين . فعدم قدرتنا على عد الأعداد لا يعني أن لا نهاية لها. ومن المسلمات العقلية أن ما له بداية له نهاية. ومن المسلمات العقلية أيضا أن مجموع المحدودات محدود. وأيضا الأعداد ليست شيئا قائما بذاته ، بمعنى أن العدد يقترن بأمور وأشياء فتقول مثلا عدد السكان كذا أو عدد الطلاب كذا أو عدد أكياس الطحين كذا، وكل ما يقترن به العدد محدود فلا يوجد شيء عدده غير محدود لأن كل شيء ما سوى الله تعالى محدود.
وهنا أود لفت النظر بأن الحكم على الأعداد بأنها لانهائية - بغض النظر عن انه خطأ - هو حكم على واقع محسوس هو الأعداد ، أي حكمنا على الأعداد التي يقع عليها حسنا بأن لا نهاية لها ، فالتفكير الذي حصل هو تفكير في واقع محسوس، والحكم الذي صدر هو حكم على واقع محسوس ، فليس هو تفكيرا في الأعداد التي لم يصل اليها الحس ولا الحكم صدر على ما لم يحس منها.


وأما أن العقل يدرك عدم وجود اكثر من اله فإنه آت من التفكير في الواقع المحسوس وليس من التفكير في ذات الله تعالى، قال تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } { إذا لذهب كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } فانتظام امر السماوات والارض في نظام واحد واستقرارهما على حالهما هو الدليل على عدم وجود آلهة مع الله أي هو الدليل على وحدانية الاله وهو الله سبحانه وتعالى. فالحس نقل واقع السماوات والأرض الى الدماغ والتفكير جرى فيهما والحكم صدر عليهما بأن مالكهما واحد هو الله سبحانه وتعالى. فذات الله سبحانه وتعالى ليست هي ما وقع عليه الحس ولا كانت هي محل التفكير ولا الحكم صدر عليها. وأيضا انتقل واقع الأشياء التي ادعيت لها الألوهة كالأصنام الى الدماغ بواسطة الحواس وبوجود المعلومات السابقة عن الألوهة وعن الأصنام حكمنا على الأصنام بأنها ليست آلهة.


وأما قولك أن العقل ( يدرك ضرورة أن يكون هناك خالق لكل مخلوق )، فإن تركيب الجملة غير دقيق لأن مفهومها لا يمنع من تعدد الخالق، والصواب أن يقال " خالق لكل المخلوقات " فالمخلوقات تدل على وجود الخالق، أو وجود الخالق مدرك من وجود المخلوقات. على أي حال المثال لا يدل على حصول التفكير في غير الواقع المحسوس، لأن التفكير في وجود الخالق إنما يكون من خلال التفكير في مخلوقاته، فالتفكير في الكون والانسان والحياة يوصل الى ادراك وجود الخالق. والكون والانسان والحياة واقع يقع عليه الحس. ومن جهة أخرى فإن المخلوق هو أثر للخالق، وأثر الخالق جزء من وجوده، فالتفكير في المخلوق هو تفكير في وجود الله تعالى لا في ذاته ، فوجوده تعالى مدرك بالحس من ادراك مخلوقاته. فالواقع الذي انتقل الى الدماغ بواسطة الحواس هو المخلوق أي اثر الخالق عز وجل وليس ذاته جل شأنه، والتفكير جرى بهذا المخلوق أي بأثر الخالق لا بذاته، أي في وجوده سبحانه وتعالى لا في ذاته، ونتيجة التفكير هي صدور الحكم على المخلوق بانه مخلوق، فكان هذا هو الدليل على وجود الخالق.


وأما أن العقل يدرك أن لكل علة معلول وأن هناك أمورا مستحيلة كاجتماع المتناقضين، فإن هاتين القاعدتين توصل اليهما العقل من خلال التفكير في الواقع المحسوس، واصبحتا مسلمتين عقليتين نتيجة تكرار ادراك العقل لانطباقهما على الواقع المحسوس وعدم تخلفهما ولا لمرة واحدة. فلا يوجد في هاذين المثالين أي وجه للاستدلال على أن التفكير يصح في غير الواقع المحسوس، اللهم الا اذا كان للخلط بين الواقع المحسوس والواقع الملموس أثر في ذلك.

صالح عبد الرحمن 15-08-2001 07:09 PM

وبناء عليه فقد تبين أن تعريف العقل بأنه ( نقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة تفسره ) صحيح، كما تبين أن تعريفك لا يصلح للرد على هذا التعريف ولا ينقض أيا مما ورد فيه ، بل يقر بجميع الشروط التي تضمنها ، كما ثبت أن جميع الأمثلة التي أوردتها لنقضه لم يصلح أي منها لهذا الغرض، وبذلك يبقى الاحتجاج بتعريف العقل على عدم صحة الايجاب العقلي على الله تعالى سواء في موضوع الاستخلاف أو في غيره قائما إلى أن يثبت العكس.


أما قولك : ( والغريب أنك تتبنى هذا الرأي فحسب معلوماتي أن الماديين هم الذين يقولون بأن العقل مجاله المحسوسات فقط وقد تم التصدي لقولهم وإثبات فساده حتى خلت الساحات العلمية من هذا القول ) .

فأولا قد تبين أن التعريف الذي يشترط وجود الواقع المحسوس كشرط للتفكير صحيح وسيظل كذلك حتى يثبت خطؤه. وثانيا الطريقة العقلية في التفكير هي طريقة القرآن الكريم سواء في اقامة البرهان او في بيان الأحكام. وثالثا الفلاسفة فقط هم الذين ينكرون شرط الواقع المحسوس في البحث والتفكير لذلك أجازوا لأنفسهم البحث والتفكير فيما وراء الطبيعة . ورابعا قولك " أن الماديين هم فقط الذين يقولون بأن العقل مجاله المحسوسات فقط " ناتج عن أنك تخلط بين الواقع المحسوس وبين الواقع المادي الملموس وقد بينت لك وجه الفرق بين الواقعين. وخامسا قولك " حتى خلت الساحة العلمية من هذا القول " فلا أدري كيف يمكن لك أن تثبت هذا الادعاء، فليس هو مجرد ادعاء يفتقر الى الدليل بل الواقع يخالفه.

بقيت ثلاث مسائل هي : الضرورات العقلية المتعلقة بالله سبحانه وتعالى، القياس المنطقي، عصمة الامام . والله هو المستعان.

صالح عبد الرحمن 17-08-2001 01:24 PM

ورد في تعقيبك : ( وأما الآيات الكريمة { لا تدركه الأبصار } { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } { ليس كمثله شيء } فإنها تـنـزه الله عن إن إمكانية وصفه أو رؤيته عز وجل ولا تنفي وجود ضروريات يحكم بها العقل حتى لو كانت هذه الضروريات متعلقة بالله سبحانه وتعالى...).
وقد أوردت ثلاثة أمثلة على الضروريات العقلية أولها أن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود وأنه قديم وليس بمحدث، وثانيها نفي الجسمية عن الله سبحانه وتعالى، وثالثها نفي ان يصدر ما هو قبيح من الله سبحانه وتعالى.

وأما تعقيبي فعلى النحو الآتي:

أولا- أنت نفسك قلت : ( فإنها تـنـزه الله عن إمكانية وصفه ) ومفهوم قولك هذا ان الآيات تدل على أنه لا يمكن لعقولنا أن تصف الله سبحانه وتعالى بما لم يصف به نفسه.


ثانيا- كلمة الخالق لها مدلول محدد وهو الأزلي واجب الوجود، والأزلي واجب الوجود لا يمكن أن يكون محدودا، لأن المحدود عاجز وناقص ومحتاج. فقيام الدليل العقلي على وجود الخالق معناه قيام الدليل على وجود الأزلي واجب الوجود أو غير المحدود. وهذا كله بحث في وجود الذات الأزلية واجبة الوجود وليس هو بحثا في نفس الذات. وقد أدركنا وجودها بالحس من ادراكنا لوجود المخلوق. بمعنى أن وجود الله أمر محسوس ومدرك عن طريق الحس لأن الأشياء المدركة المحسوسة قد دل احتياجها الى الأزلي ، على وجود الخالق . فالبرهان لم يثبت صفة لله تعالى بانه ازلي واجب الوجود أو أنه غير محدود أو أنه غير عاجز وغير ناقص وغير محتاج بل البرهان أثبت وجود الذات الأزلية واجبة الوجود وهي الله سبحانه وتعالى.


ثالثا- ذات الله سبحانه وتعالى لا تقع تحت الحس، والله سبحانه وتعالى { ليس كمثله شيء } فلا يمكن التفكير في ذات الله تعالى ، ولا يمكن قياسها على الانسان، فلا يصح أن نوجب الفعل الحسن على الله تعالى أو أن ننفي الفعل القبيح عنه سبحانه وتعالى حسب فهم الانسان للحسن وللقبيح. فقد حسن الله سبحانه وتعالى افعالا ينفر منها الانسان ولا تتفق مع ما يراه عقله، قال تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم }، وكانت العرب ترى في زواج الرجل من زوجة ابنه بالتبني فعلا قبيحا وتنفر منه نفوسهم، فحسن الله سبحانه وتعالى هذا الفعل، وقد نزل في ذلك قوله تعالى : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا }. وفي نفس الوقت نجد أن الله سبحانه وتعالى قد قبح أفعالا يميل اليها الانسان كالزنا . كما أن هناك صفات يقبحها العقل كالكذب وجاء الشرع فحسنه في أحوال معينة كالحرب واصلاح ذات البين والكذب بين الزوجين، فلم يجعل الله تعالى كل الكذب قبيحا. فإذا كان العقل عاجزا عن الحكم بما يصح وبما لا يصح أن يصدر من الانسان فكيف يمكن له ان يحكم بما يصح وبما لا يصح أن يصدر من الخالق الذي خلق الانسان ؟! وإذا لم يكن للانسان الحق في اصدار الأحكام بالحسن والقبح على أفعاله هو فكيف يعطى الحق في اصدار الأحكام بالحسن والقبح على أفعال خالقه ؟!


رابعا- قال تعالى : { قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا امرا * قال ألم أقل لك انك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك انك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه اجرا * قال هذا فراق بيني وبينك . سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } { وما فعلته عن أمري . ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا }.

فهذه الآيات الكريمة تبين ان هناك أفعالا قبيح ان يفعلها الانسان لكنها بالنسبة لخالق الانسان فعلها حسن وليس بقبيح، فنفس الفعل يكون قبيحا بالنسبة للانسان وحسنا بالنسبة لله سبحانه وتعالى.
وأيضا هذه الآيات تبين بشكل واضح أن عقل الانسان عاجز عن الاحاطة بحكمة الله سبحانه وتعالى من الفعل أو بالعلة التي لأجلها فعل الفعل، لأن الحكمة أو العلة في علم الله تعالى ، وعلمه لا يقع تحت حس الانسان، فإذا لم يرد نص بالحكمة أو بالعلة لا يمكن أن ندركها، وكل قول بالحكمة أو بالعلة من غير النص هو مجرد فرض نظري. فلا يصح أن يتصور العقل حكمة أو علة ثم بناء على ذلك نوجب على الله سبحانه وتعالى أن يفعل فعلا أو أن ننفي عنه فعل هذا الفعل.


خامسا- لو ترك للانسان أن يوجب الفعل الحسن على الله تعالى وان ينفي عنه الفعل القبيح لاختلف الحكم على الله سبحانه وتعالى باختلاف الأشخاص والازمان. فالمشاهد المحسوس ان الانسان يحكم على أشياء أنها حسنة اليوم ثم يحكم عليها غدا أنها قبيحة ، ويحكم على أشياء انها قبيحة أمس ويحكم عليها نفسها اليوم أنها حسنة ، وبذلك يختلف الحكم على الشيء الواحد ولا يكون حكما ثابتا ، فيحصل الخطأ . وهذا يعني أن يكون الفعل في زمن واجبا على الله تعالى وفي زمن آخر واجب النفي عنه، ويكون حسنا بالنسبة لأشخاص وقبيحا بالنسبة لغيرهم ، وهذا كله مما لا يصح قطعا.

صالح عبد الرحمن 19-08-2001 04:40 PM

القياس المنطقي

ورد في تعقيبك : ( أن القياس المنطقي ليس خطأ في جميع الأحوال فهناك نوع من القياس المنطقي صحيح ولا غبار عليه وذلك عندما يكون تحت قاعدة الأولى ( بفتح الهمزة ) ومثال ذلك : الآية الكريمة ( ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) فإن الآية منعت من قول أف للوالدين وهذا يدل على منع ما هو أعظم من ذلك بمعنى أننا نستطيع القول : بما أن قول أف للوالدين محرم فمن باب أولى أن يكون الصراخ عليهم محرم وكذلك ضربهم وهذا قياس منطقي ولا يعترض عليه أحد. والقياس في الاستخلاف من هذا الباب أيضا.
على أن ضرورة الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله واضحة عقلا بشكل لا يحتمل أي تشكيك .. فهل يجيز العقل أن تظل الدولة الإسلامية التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وآله دون خليفة ؟ لا أظن أن أحدا لديه أدنى درجات العقل يقول بذلك ).


أما تعقيبي فكما يلي :

أولا- تحريم ضرب الوالدين المفهوم من قوله تعالى : { ولا تقل لهما أف } إنما فهم من الآية بدلالة مفهوم الموافقة. ومفهوم الموافقة يسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب والمراد به معنى الخطاب . ودلالة المفهوم هي : " ما فهم من اللفظ في محل السكوت ، فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقا لمدلوله في محل النطق هو مفهوم الموافقة، فهي مفهومه من اللفظ ولكن في محل السكوت لا في محل النطق، أي هي المعنى المسكوت عنه اللازم للمعنى المنطوق به، فهي فهم من اللفظ لا قياسا على مدلول اللفظ، ولهذا فهي من الدلالة اللفظية وليست هي من الدلالة القياسية، فيكون مستند الحكم في محل السكوت هو فحوى الدلالة اللفظية لا الدلالة القياسية ".


ثانيا- أما قولك أن الاستدلال بالمنطق ليس كله خطأ، فقولك صحيح لكن ليس على اطلاقه إذ أن القياس المنطقي كله خطأ في التشريع أو في استنباط الأحكام. وذلك لأن القياس المنطقي يقتضي التسوية بين المتماثلات ، وقد ثبت أن الشارع قد فرق بين المتماثلات وجمع في نفس الوقت بين المختلفات، وشرع احكاما لا مجال للعقل فيها. وقد بينت ذلك بالأمثلة إلا أنك لم ترد عليها. مع أن مثالا واحدا فقط يثبت أن الشارع قد فرق بين المتماثلات في الأحكام أو انه قد جمع بين المختلفات يكفي لنقض فكرة القياس المنطقي في التشريع لأن العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما، فلو اعتبر الشارع وجه الشبه أو العلة العقلية علة في الأحكام لكان حكم المتماثلات واحدا ولكان حكم المختلفات مختلفا . فمثلا مع وجود شبه بين الصوم والصلاة من حيث ان كلا منها عبادة إلا ان حكمهما بالنسبة للحائض مختلف، وهذا يعني أن الشارع لم يعتبر وجه الشبه والذي هو العبادة علة في عدم صلاة الحائض. ولو أخذنا بالقياس المنطقي لقلنا بعدم الصوم للحائض، وهذه النتيجة المنطقية تتناقض مع الحكم الشرعي المستنبط من النص. فهذا المثل يكفي وحده لعدم اعتبار القياس المنطقي في استنباط الأحكام الشرعية.

على أننا في نفس مثال الاستخلاف على المدينة يمكن أن نخرج بنتيجة منطقية غير النتيجة التي خرجت بها، ذلك أن جميع التعيينات التي أجراها الرسول صلى الله عليه وسلم للعمال والولاة في أثناء حياته ليست ملزمة للمسلمين بعد موته، فإذا قسنا تعيين الخليفة من بعده على تعيين العمال والولاة قياسا منطقيا فإن النتيجة المنطقية ان تعيين رئيس الدولة الذي أجراه الرسول صلى الله عليه وسلم في أثناء حياته لا يكون ملزما للمسلمين بعد موته.


ثالثا- القياس الشرعي هو الحاق امر بآخر في الحكم الشرعي لاتحاد بينهما في العلة ، أي لاتحادهما في الباعث على الحكم في كل منهما، ومعلوم أنه اذا وجد حكم في الأمر المقيس فلا يعمل بالقياس وانما يؤخذ حكم المقيس من النص. فإذا امتنع القياس مع وجود علة شرعية لوجود حكم في الأمر الذي يراد قياسه فالأولى أن يمتنع القياس المنطقي الخالي من العلة الشرعية، والذي يوجد فيه قابلية المغالطة والتضليل لاستناده الى مجرد وجود شبه بين المقيس والمقيس عليه . وفي المسألة التي نناقشها يوجد نص يدل على حكم تنصيب الخليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يصح أن يؤخذ الحكم الشرعي في الامامة قياسا على مسألة اخرى.


رابعا- أما قولك ( على أن ضرورة الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله واضحة عقلا بشكل لا يحتمل أي تشكيك .. فهل يجيز العقل أن تظل الدولة الإسلامية التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وآله دون خليفة ؟ لا أظن أن أحدا لديه أدنى درجات العقل يقول بذلك ) فأرد عليه من وجهين :

الأول : لم أقل أن العقل قد أجاز ذلك أو أنه لم يجز ذلك، وانما قلت هذه المسألة لا دخل للعقل فيها ، الذي يحكم فيها هو الله تعالى وليس العقل .

الثاني : ان عقل الذين يقولون بالتعيين قد اجاز ان تظل الدولة الاسلامية التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون الخليفة الذي عينه الله تعالى طيلة عمر هذه الدولة باستثناء فترة حكم سيدنا عليّ وابنه الحسن رضي الله عنهما والتي استمرت من سنة 35 هجري وحتى أوائل سنة 41 للهجرة أي حوالي خمس سنوات فقط من عمر الدولة الذي استمر لأكثر من 1300 سنة هجرية. وقد أجازت عقولهم أيضا أن الله سبحانه وتعالى يقوم بتغييب الخليفة الثاني عشر منذ سنة 260 للهجرة والى ما شاء الله ليس فقط من رئاسة الدولة التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل من الوجود بين الناس مع أنه حجة الله على خلقه. فإذا كان العقل قد قبل بذلك فإن الأولى أن يقبل بفكرة أن الله سبحانه وتعالى لم يعين الخليفة بل ترك الأمر للمسلمين يختارون من يشاؤون في رئاسة الدولة، وأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل الامام حجة وانما حاكما يحكم بما انزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

أسعد الأسعد 19-08-2001 04:57 PM

الأخ الكريم صالح عبد الرحمن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من خلال تعقيبك الأخير يبدو لي أنني لم أوفق في عرض ما أردت عرضه بالأسلوب الصحيح أو بالأسلوب الذي يسهل على القارئ فهم ما كنت أود بيانه ولعل ذلك يعود لتواضع قدراتي في الكتابة مما أدى إلى عدم وضوح الفكرة لديك وفي هذه المرة سأحاول قدر الإمكان توضيح ما عجزت عن توضيحه في المرة السابقة ..

فقد أخذت عليك أيها الأخ الكريم أنك اعتبرت العقل والفكر شيئاً واحدا وفي تعقيبك التالي أضفت أن التفكير هو أيضا يأخذ نفس معنى العقل والفكر ثم أضفت موضحا أن الفكر قد يطلق على عملية التفكير وقد يطلق على نتيجة التفكير. من ذلك نفهم أنك ترى أن العقل والتفكير والفكر ( الذي هو بمعنى عملية التفكير ) شيئا واحدا.
ثم أخذت عليك أنك حصرت مجال العقل في المحسوسات.

فأما ما يخص النقطة الأولى ولتوضيح أن العقل والتفكير شيئان مختلفان أرى من المناسب أن أشبه العقل بالميزان وأشبه التفكير بعملية الوزن التي تتم بواسطة ذلك الميزان فكما أن بواسطة الميزان تتم عملية الوزن فإن بواسطة العقل تتم عملية التفكير وأنت عندما تعتبر العقل والتفكير شيئا واحدا تكون كمن اعتبر الميزان والوزن شيئا واحدا. من ذلك تستطيع أن تلاحظ أن العقل ليس عملية إجرائية كالتفكير بل هو الأداة التي بواسطتها تتم عملية التفكير وينطبق ذلك على الميزان أيضا فإن الميزان ليس عملية إجرائية وإنما هو الأداة التي بواسطتها تتم عملية الوزن .. لذلك لا ينبغي أبداً أن نخلط بين الأداة وبين العملية التي يقوم بها.

وأما تعبيري عن العقل تارة بأنه أداة وتارة أخرى بأنه ملكة وتارة ثالثة بأنه ميزان فقد كان القصد منها الزيادة في التوضيح ولكن يبدو أنني فشلت في ذلك .. وقد كنت أتوقع أنني حينما أستخدم تلك التعبيرات المختلفة أكون كمن يعبر عن الميزان تارة بأنه أداة وتارة أخرى بأنه جهاز وتارة ثالثة بأنه آلة ولا أرى في ذلك أي خلل في هذه الاستخدامات ولو عدنا إلى تلك الاستخدامات نراها على النحو الأتي : ( ملكة وأداة وميزان ) فأما استخدامي لكلمة أداة فلأنه ( أي العقل ) الشيء المستخدم لأداء عملية التفكير وأما استخدامي لكلمة ميزان ففيه تشبيه العقل بالميزان وهو كما أراه تشبيه قريب جدا وأما استخدامي لكلمة ملكة فأقصد بها أنه نوع من القدرات التي زودنا بها الخالق سبحانه وتعالى.

وفي الحقيقة فأنني لم أكن أرى أن الكلمة كانت تحتاج لتوضيح أكثر من بيان أنها نوع من أنواع القدرات وبذلك لن أستطيع أن أبين حقيقتها وكنهها وماهيتها بأكثر من ذلك فكما يملك الإنسان القدرة على الحركة والقدرة على السمع والقدرة على النطق والقدرة على الإبصار يملك أيضا القدرة على التفكير .. وكما أن أداة السمع هي الأذن وأداة الإبصار هي العين وأداة النطق هي اللسان فإن أداة التفكير هي العقل.

كما أنك أيها الأخ العزيز تستطيع أن تلاحظ الفرق بين العقل والتفكير من خلال أنك لا تستطيع أن تستخدم كلمة العقل محل كلمة التفكير في عباراتك التي تنشئها فلو كان العقل والتفكير شيئا واحدا لأمكنك أن تستخدم كل كلمة منهما محل الأخرى فيؤديان نفس المعنى.
من ذلك يتضح أن العقل والتفكير شيئان مختلفان.

وأما المثال الذي أتيت به لتوضيح عملية التفكير وهو مثال ( الكتاب ) فإنك ذكرت فيه أن العملية التفكيرية التي حصلت حينما أردت أن تجيب على ذلك السؤال جرت على النحو الآتي : ( انتقل واقع الكتاب الى دماغي بواسطة حاسة البصر على سبيل المثال، وفي دماغي يوجد قدر معين من المعلومات التي تفسر ما هو هذا الشيء الذي سألتني عنه، وبفعل خاصية الربط التي في الدماغ ترتبط صورة الواقع المطبوعة في الدماغ بالمعلومات السابقة التي تفسر الواقع فيحصل من عملية الربط بين الوقع والمعلومات التي تفسره ادراك ما هو هذا الشيء، أي ادراك أنه كتاب، وهذا الادراك لواقع الكتاب هو الحكم الذي يصدره الدماغ على الواقع ، فهذا الحكم هو نتيجة العملية التفكيرية)

ولو تأملنا قولك هذا لوجدنا أن معظم فقراته تعاني من خلل معين أو أنها تحتاج إلى بيان أوضح وأدق ..
فأما قولك ( انتقل واقع الكتاب إلى دماغي ) فإني أتصور أنك لو قلت بدلا من ذلك ( انتقلت صورة الكتاب إلى دماغي ) لكان ذلك أدق وأسلم إذ أن واقع الشيء لا ينتقل إلى الدماغ بل تنعكس صورة منه فقط.

واما قولك : ( وفي دماغي يوجد قدر معين من المعلومات التي تفسر ما هو هذا الشيء الذي سألتني عنه ) فيفهم منه أن المعلومات السابقة هي التي تفسر الواقع وهذا ما لا يمكن قبوله فليس لأي معلومة أي قدرة على فعل أي شيء بل ينحصر دورها في أنها تكون أحد المرتكزات التي يعتمد عليها العقل في فهم الواقع فعندما يكون لدينا معلومتان على الشكل الآتي : المعلومة الأولى وهي أن ( أ ) أكبر من ( ب ) والمعلومة الثانية هي أن ( ب ) أكبر من ( ج ) ثم نسأل أيهما أكبر ( أ ) أو ( ج ) فإن العقل باستخدامه هاتين المعلومتين كمعطيات أولية أو كمقدمات أو كمعلومات سابقة يستطيع أن يدرك أيهما أكبر وبذلك تتكون لدينا معلومة ثالثة وهي أن ( أ ) أكبر من ( ج ) .. وهنا نلاحظ أننا بالعقل استطعنا أن نصل إلى المعلومة الثالثة وأدركنا العلاقة بين ( أ ) و ( ب ) وذلك بالاعتماد على المعلومتين السابقتين لا أن المعلومتين السابقتين هما اللتان توصلتا للمعلومة الثالثة أي أن المعلومتين السابقتين هما من العناصر التي اعتمد عليها العقل للوصول للمعلومة الثالثة لا أنهما بنفسهما قد توصلتا إلى المعلومة الثالثة. لذلك فإن قولك في هذه الفقرة بأن المعلومات السابقة هي التي تفسر الواقع قول خاطئ.

كما أننا من خلال هذه العبارة نفهم أنك تعتبر وجود معلومات سابقة شرطا لابد منه كي تتم عملية الفهم وهنا أتساءل ما هي المعلومات التي ينبغي أن تتوفر في الدماغ لكي ندرك أن النقيضان لا يجتمعان ؟

بل لو كان وجود المعلومات السابقة شرطا لما أمكننا معرفة أي شيء لأننا قد خرجنا من أمهاتنا وليس لدينا أي معلومة فكيف أمكننا أن ندرك تلك الأمور التي أدركناها في بداية طفولتنا ولم يكن لدينا أي معلومات سابقة ؟
كما أن اشتراط وجود معلومات سابقة كي نستطيع أن نفهم يعني أننا لا نستطيع أن ندرك أي شيء جديد لا يرتبط بالمعلومات التي في حوزتنا. والحال أننا قادرين على تعلم ونفهم أموراً كثيرة غير متعلقة بأي معلومة سابقة. فمثلا نستطيع أن نتعلم لغة جديدة حتى لو لم يكن لدينا أي معرفة سابقة بها.

وهنا لابد أن نفرق بين إدراكنا القانون أو القاعدة وبين تطبيقاتنا لتلك القاعدة فمثلا إدراكنا لاستحالة أن يطالبنا الله بالصوم والإفطار في يوم واحد يعتبر تطبيقا للقانون العقلي الذي يقرر استحالة اجتماع النقيضين فلو قلنا لأي إنسان عاقل عليك أن تصوم غدا نهارا وعليك أيضا أن تفطر غدا نهارا فإنه سيدرك أن ذلك مستحيل وسيظل مدركا لهذه الاستحالة حتى لو فشل في التعبير عنها .. كذلك لو قلنا لطفل يدرس في الصف الأول الابتدائي عليك أن تذهب غداً إلى المدرسة ولكن عليك أن لا تذهب غداً إلى المدرسة فإنه سوف يدرك أن الجمع بين الذهاب وعدم الذهاب في آن واحد مستحيل لأنه يدرك بعقله أن الجمع بين النقيضين مستحيل حتى لو لم تسعفه قدراته على التعبير بأن يوضح لماذا الذهاب وعدم الذهاب لا يجتمعان وحتى لو لم يسمع بكلمة ( النقيض ) أو بعبارة ( النقيضان لا يجتمعان ). إذن فالقوانين العقلية الأولية نستطيع إدراكها تلقائيا ودون الاستعانة بأي معلومات سابقة.

وأما قولك : ( وبفعل خاصية الربط التي في الدماغ ترتبط صورة الواقع المطبوعة في الدماغ بالمعلومات السابقة التي تفسر الواقع )

فإنك قد كررت قولك بأن المعلومة هي التي تقوم بالتفسير ولا أدري هل للمعلومات أي عقل أو إحساس أو أي قدرة تمكنها من تقديم أي نوع من التفاسير ؟

من هذه الملاحظات يبدو واضحا أن وصفك لعملية التفكير غير دقيق بل غير صحيح .. بل أستطيع القول أن المثال الذي أتيت به غير صالح ليكون مثالا على الفهم أو التفكير فهو لا يعدو عن كونه مثلا للاسترجاع أو ما يسمى بالاستظهار وهي عملية استرجاع أو استظهار معلومة سابقة وهذا ليس فيه أي فهم.
ولزيادة توضيح ذلك نتساءل ماذا لو أنك قد نسيت تلك الكلمة والتي هي ( كتاب ) ولم تستطع الإجابة على ذلك السؤال فهل ذلك يعني أنك لم تعرف هذا الشيء الذي أمامك ؟ بالتأكيد أننا نستطيع أن نحتمل أنك استطعت التعرف على هذا الذي أمامك ولكنك نسيت تلك الكلمة التي تدل عليه وتعبر بها عن معرفتك ؟ والعكس أيضا صحيح فقد تجيب على السؤال وتقول أنه كتاب ولكنك لا تفهم معنى الكتاب مطلقا. وهذا يحصل في كثير من الأحيان فهناك من الأجهزة الطبية مثلا لا نعرف عنها أي شيء سوى أننا نعرف أسماءها فقط فهل ذلك يعتبر فهما ؟
من ذلك يتضح أن التعرف على الأشياء لا يعتبر فهما لذلك نقول أن هذا المثال غير صالح لتوضيح عملية الفهم .. أما الفهم الذي هو إدراك معنى الشيء ( لا التعرف عليه فقط ) فإن مثالك لم يأت به مطلقا وخير مثال للتفريق بين الاسترجاع والفهم هو أن نقارن بين من يحفظ القرآن وبين من يفهمه وأرى أن الفرق هنا واضح.
بعد هذا العرض نستطيع أن ندرك الفرق بين العقل والتفكير والفكر فأقول أن العقل هو تلك القدرة التي تجعلنا قادرين على التفكير والفهم .. وأما التفكير فهو العملية التي يجريها العقل للوصول لفهم معين .. وأما الفهم فهو النتيجة التي ندركها من خلال التفكير.

وتبقى النقطة الأخرى التي أخذتها عليك وهي حصرك مجال العقل في المحسوسات فقط وسوف أقوم ببيانها قريبا إنشاء الله تعالى وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

صالح عبد الرحمن 22-08-2001 01:37 PM

هل الامام معصوم ؟

حجتك العقلية التي اقمتها على ضرورة العصمة للامام أوردتها من خلال هذا النص :
( من المعلوم أن من الضروري أن يكون هناك إمام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ومن المعلوم أيضا أن الله قد فرض علينا طاعته فإذا لم يكن هذا الإمام معصوما فمن الممكن أن يأمرنا بما يخالف شرع الله فإذا حصل منه ذلك وقد أمرنا الله بطاعته فمعنى ذلك أن الله أمرنا بتنفيذ تلك الأوامر المخالفة للشرع.. وقد تقول أننا نستطيع أن لا نطيعه إلا إذا أمر بالحق أما إذا خالف الحق فليس له علينا طاعة.. فأقول ردا على هذا القول أن الإمام العادل عندما يأمرنا بشيء فلابد أنه قد رأى ذلك حقا وصوابا . ولكن في حالة أن أصبح ما يراه الإمام حقا يراه بعض الرعية باطلا كيف بنا أن نميز من هو صاحب الرأي الصحيح ؟ ثم رأي من يكون نافذا ؟ فإن قلت أمر الإمام هو الذي يجب أن يكون نافذا فسوف نقع في نفس الإشكال الذي أوضحناه قبل قليل وهو أنه في حالة كون الإمام مخطئا فسوف تكون النتيجة أن الله قد أمرنا بتنفيذ ما يخالف الشرع ؟ كما وسينتج عندنا إشكال آخر وهو كيف يستطيع أولئك الذين رأوا الإمام مخطئا أن يطيعوه ؟ ألا يعتبر ذلك طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؟
أما إذا قلت أمر من خالفه هو الذي يكون نافذا فنكون قد خالفنا رأي الإمام دون أن نجزم بخطئه فنحن لم نجزم بصحة رأي من خالفه .. ثم ماذا لو تعددت الآراء التي خالفت رأي الإمام ولم يتيسر الاتفاق ؟ هل يعمل كل صاحب رأي برأيه ؟ وباختصار فإن الإمام إذا لم يكن معصوما فلن تستقيم الأمور ولن نستطيع أن نطيع الله الطاعة الحقيقية ولن نعرف هل نحن نطيع الله أم نعصيه ..).

صالح عبد الرحمن 22-08-2001 01:41 PM

وأما ردي فهو الآتي :

النتيجة المنطقية التي انتهيت اليها خطأ لأنها بنيت على سلسلة من القضايا المغلوطة، وحتى يتضح خطأ الاستنتاج المنطقي أرتب بعض مقدماتك المنطقية على النحو الآتي :

مقدمة أولى : ( طاعة الامام فرض )، مقدمة ثانية : ( الامام غير المعصوم قد يامرنا بما يخالف شرع الله ) النتيجة ( أن الله يأمرنا بتنفيذ ما يخالف شرع الله) .

أما المغالطة فتكمن في المقدمة الأولى ، ذلك أن طاعة الامام مقيدة وليست مطلقة، فصحيح أن الله تعالى قد أمرنا بطاعة الامام إلا أن الصحيح أيضا أن الله سبحانه وتعالى قد استثنى من الطاعة الأمر بالمعصية، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وقال : ( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا امر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) أي الطاعة انما تكون في حدود الاسلام. فإذا أمر الامام بمعصية الله فلا طاعة له. على أن المراد بالمعصية المعصية التي لا توجد شبهة في أنها معصية، اما لو أمر بشيء يراه هو حلالا وتراه انت حراما فتجب طاعته، ولا يعتبر هذا أمرا بمعصية، بل هو أمر بفعل الحلال. وكما استثنى الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعصية من وجوب الطاعة استثنى ظهور الكفر البواح من تحريم الخروج على الامام واشهار السيف في وجهه، فعن عبادة بن الصامت قال : ( دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما اخذ علينا ان بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا واثرة علينا وان لا ننازع الامر اهله الا ان ترو كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان ) ، والمراد بالكفر البواح الكفر الذي قام الدليل القاطع على أنه كفر ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتف بقوله ( كفرا بواحا ) بل ألحقها بقوله ( عندكم فيه من الله برهان ) وكلمة برهان لا تطلق الا على الدليل القطعي، ولهذا كان وجود الدليل القاطع على انه كفر شرطا من شروط الخروج، فإذا كانت هناك شبهة بانه ليس بكفر، أو كان هناك دليل ظني بانه كفر كحديث آحاد ولو كان صحيحا، فانه لا يحل الخروج، لان الخروج لا يحل الا اذا كان هناك دليل قطعي بانه كفر .

وعليه فكان المفروض إما أن تنص في المقدمة الأولى على هذين الاستثنائين أو أن تضع مقدمة ثالثة بالنص عليهما، ولو فعلت ذلك لما خرجت بنتيجة أن الله يأمرنا بتنفيذ ما يخالف شرع الله، وبالتالي لما أوجدت من خلال هذا السياق المنطقي المسوغ للقول بعصمة الامام .

مثال آخر : مقدمة أولى : ( طاعة الامام فرض )، مقدمة ثانية : ( الامام غير المعصوم قد يخطأ ) النتيجة ( الله يأمرنا بتنفيذ ما يخالف شرع الله) وأيضا ( طاعة الامام تكون طاعة لمخلوق في معصية الخالق) .

واما المغالطة هنا فتكمن في التسوية بين الوقوع في الخطأ وبين مخالفة شرع الله أو بين الخطأ وبين المعصية، فمع أن المقدمة الثانية نصت على كلمة " خطأ " إلا أن النتيجة نصت على كلمة " مخالفة شرع الله " وعلى كلمة " المعصية " فبدل أن تكون النتيجة ( أن الله يأمرنا بتنفيذ أمر الامام حتى لو كان مخطأ ) جعلت النتيجة ( أن الله يأمرنا بتنفيذ ما يخالف شرع الله ) وكذلك ( أن ذلك يعتبر طاعة للمخلوق في معصية الخالق ) مع أن الخطأ لا يساوي المعصية أو مخالفة شرع الله تعالى.

وأما أن الخطأ ليس هو مخالفة لشرع الله ولا هو معصية للخالق، فلا أدل على ذلك من أن المجتهد المخطأ مأجور في خطأه، قال صلى الله عليه وسلم : ( ان اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وان أخطأ فله أجر واحد ) ، فلو كان الخطأ في الاجتهاد مخالفة لشرع الله أو كان معصية لله تعالى لما استحق المجتهد المخطأ الأجر، لأن المعصية يترتب عليها الاثم لا الأجر أو الثواب. وفي يوم الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف أحدا منهم. فلو كان المخطأون منهم عاصون أو مخالفون لشرع الله لما سكت عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأن سكوته تشريع. وبعد الرسول صلى الله عليه وسلم أجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على جواز اختلافهم في فهم بعض النصوص الشرعية، ولا يمكن أن يجمعوا على مخالفة شرع الله تعالى أو على فعل المعصية لأن اجماع الصحابة يعتبر دليلا شرعيا كالكتاب والسنة والقياس.

وأما القضايا الأخرى التي وردت في استدلالك فهي الآتي :
( وقد تقول أننا نستطيع أن لا نطيعه إلا إذا أمر بالحق أما إذا خالف الحق فليس له علينا طاعة .. فأقول ردا على هذا القول أن الإمام العادل عندما يأمرنا بشيء فلابد أنه قد رأى ذلك حقا وصوابا . ولكن في حالة أن أصبح ما يراه الإمام حقا يراه بعض الرعية باطلا كيف بنا أن نميز من هو صاحب الرأي الصحيح ؟ ) .
( أما إذا قلت أمر من خالفه هو الذي يكون نافذا فنكون قد خالفنا رأي الإمام دون أن نجزم بخطئه فنحن لم نجزم بصحة رأي من خالفه .. ثم ماذا لو تعددت الآراء التي خالفت رأي الإمام ولم يتيسر الاتفاق ؟ هل يعمل كل صاحب رأي برأيه ؟ وباختصار فإن الإمام إذا لم يكن معصوما فلن تستقيم الأمور ولن نستطيع أن نطيع الله الطاعة الحقيقية ولن نعرف هل نحن نطيع الله أم نعصيه ..)

ما ورد في هذه النصوص خطأ أيضا، وذلك لما يلي :

الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد ، وخطاب الشارع إما أن يكون قطعيا أو يكون ظنيا، والاجتهاد في القطعي غير وارد ، لأن الصواب في الأحكام الشرعية التي دلت عليها النصوص القطعية متعين وليس فيها إلا رأي واحد قطعي. ولا يكون النص قطعيا إلا إذا كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة. وقطعي الثبوت هو القرآن الكريم والحديث المتواتر. وأما النصوص الظنية سواء ظنية الثبوت " الحديث غير المتواتر " أو ظنية الدلالة فهي محل الاجتهاد ، وفيها تختلف أفهام المجتهدين. والاجتهاد لغة هو استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة ، واما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه. فالحكم الشرعي يفهم من خطاب الشارع باجتهاد صحيح، أي أن اجتهاد المجتهدين هو الذي يظهر الحكم الشرعي، ويكون حكم الله في حق كل مجتهد هو ما أدى اليه اجتهاده وغلب على ظنه. فالاجتهاد هو استفراغ الوسع في ( طلب الظن ) وحكم الله في حق المجتهد هو ( ما غلب على ظنه ) لأن دلالة الدليل الظني على الحكم الشرعي ظنية ولا يمكن أن تكون قطعية، بل لا يشترط في الأحكام الشرعية القطع واليقين كما يشترط في العقائد.
من هنا يتبين أن الشرط فيما يأمرنا به الامام هو أن يغلب على ظنه أن حكم الله في هذه المسألة هو كذا، فنحن مأمورون بطاعته فيما غلب على ظنه أنه هو حكم الله فيها، وليس فقط في الأمور القطعية. فموضوع الحق والباطل غير وارد في اختلاف آراء المجتهدين، لأن الحكم الشرعي المستنبط من الدليل الظني لا يمكن أن يكون إلا ظنيا، فلا يستطيع أحد ان يدعي أن رأيه هو الحق وأن رأي غيره هو الباطل ما دام الرأيان مستنبطين من الدليل الظني، فلا الامام يحق له أن يقول أن رأيه هو الحق، ولا المخالفين له في الرأي يحق لهم ان يقولوا عن رأيه أنه باطل.
من هنا نجد أن أصحاب المذاهب من المجتهدين كانوا يعتبرون استنباطهم للأحكام الشرعية صوابا يحتمل الخطأ ، وكان كل واحد منهم يقول : إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط. فالحكم الذي يستنبطه المجتهد هو بالنسبة له صواب يحتمل الخطأ ، وبالنسبة لغيره خطأ يحتمل الصواب. فما يأمرنا به الامام هو بالنسبة له صواب يحتمل الخطأ وليس حقا، وبالنسبة لمن يخالفه هو خطأ يحتمل الصواب وليس باطلا .


" غير أن هذه الأحكام الشرعية اختلف فيها الصحابة، ففهم بعضهم من النصوص الشرعية شيئا غير ما كان يفهمه البعض الآخر، وكان كل يسير حسب فهمه ، ويكون فهمه حكم الله في حقه، ولكن هناك أحكام شرعية تقتضي رعاية شؤون الأمة أن يسير المسلمون جميعا على رأي واحد فيها وان لا يسير كل بحسب اجتهاده، وقد حصل ذلك بالفعل فقد رأى أبو بكر رضي الله عنه أن يوزع المال بين المسلمين بالتساوي ، لأنه حقهم جميعا بالتساوي . ورأى عمر رضي الله عنه أنه لا يصح أن يعطى من قاتل رسول الله كمن قاتل معه ، وأن يعطى الفقير كالغني ، ولكن أبا بكر كان هو الخليفة فأمر بالعمل برأيه ، أي تبنى توزيع المال بالتساوي ، فاتبعه المسلمون في ذلك ، وسار عليه القضاة والولاة، وخضع له عمر، وعمل برأي أبي بكر ونفذه ، ولما جاء عمر خليفة تبنى رأيا يخالف رأي أبي بكر ، أي أمر برأيه بتوزيع المال بالتفاضل لا بالتساوي ، فيعطى حسب القدم والحاجة، فاتبعه المسلمون ، وعمل به الولاة والقضاة ، فكان اجماع الصحابة منعقدا على أن للامام أن يتبنى أحكاما معينة ويأمر بالعمل بها، وعلى المسلمين طاعتها ولو خالفت اجتهادهم ، وترك العمل بآرائهم واجتهاداتهم ". ومن هذا الاجماع أخذت القواعد الشرعية المشهورة : ( امر الامام برفع الخلاف ) ( امر الامام نافذ ) ( للسلطان ان يحدث من الاقضية بقدر ما يحدث من مشكلات ) . فالامام وحده من له حق جعل الاحكام الشرعية حين يتبناها نافذة فتصبح حينئذ قوانين تجب طاعتها، ولا تجوز مخالفتها.

لكن لو حصل تنازع بين الامام والرعية سواء في حكم من أحكام الشرع أم في غير ذلك من المظالم التي قد تقع من الدولة على الناس فما هو العلاج ؟
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . ذلك خير وأحسن تأويلا }، ورد التنازع الى الله والرسول هو رده إلى القضاء. فالقضاء هو الذي يرفع النزاع بين الناس وبين الدولة، وحكمه نافذ .

من هنا يتبين أن الشارع قد أثبت احتمال وقوع تنازع بين الامام وبين الناس، وأثبت احتمال وقوع خلاف في فهم الأحكام الشرعية من النصوص الشرعية، وأثبت أن الامام قد يخطأ، وأنه قد يعصي أو قد يأمر بالمعصية بل أثبت امكانية أن يظهر منه الكفر البواح، فبين الحكم الواجب في كل مسألة من هذه المسائل . فهذه الوقائع التي أثبت الشارع امكانية وقوعها ووضع لها معالجات جعلت أنت من احتمال وقوعها قضايا منطقية بنيت عليها الاستنتاج بضرورة أن يكون الامام معصوما حتى لا تقع !!!

والخلاصة هي أن النتيجة التي توصلت اليها وهي القول بضرورة العصمة للامام خطأ لأنها بنيت على خطأ.

صالح عبد الرحمن 22-08-2001 01:42 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخي الفاضل أسعد الأسعد
المعلومات السابقة والواقع المحسوس شرطان من شروط العملية الفكرية ، لذلك لن أناقش ما ورد في ردك الأخير حتى تنتهي من الرد على شرط الواقع المحسوس ، وذلك لأجل تسهيل عملية النقاش.

الأخ الفاضل محب الاسلام
جزاك الله خيرا، واسأله تعالى أن يزيدنا وجميع المسلمين حبا في الاسلام .

أسعد الأسعد 22-08-2001 07:34 PM

قبل الانتقال إلى مناقشة النقطة الثانية وهي النقطة المتعلقة بحصرك مجال العقل في المحسوسات أرى أن هناك بعض النقاط ينبغي الإشارة إليها وهي كالآتي :
جاء في تعقيبك أن الجملة الأولى في تعريفي للعقل يفهم منها أن ( التفكير هو عملية ادراك الأمور المنطقية ) وأنا في الحقيقة أستغرب منك هذا الفهم فلو رجعنا للجملة الأولى من تعريفي للعقل نجدها كالآتي : ( فالعقل هو الملكة التي حبانا الله إياها لنكون قادرين على إدراك الأمور المنطقية ) ولا أعرف كيف فهمت من هذه الجملة ذلك الفهم فالجملة واضحة وصريحة وكل من يقرأها يفهم منها أنني قد حاولت توضيح معنى العقل على أنه قدرة معينة قد زودنا الله بها لنكون قادرين على فهم الأمور وإذا كان هناك من مؤاخذة على هذا التعريف فهي المؤاخذة التي تفضلت بها وهي أنني حصرت عمل العقل في الأمور المنطقية وسوف أحاول الاطلاع على هذه النقطة وفهمها أما فهمك الذي ذكرته فهو أجنبي تماما عن تلك الجملة ولا يمت لها بأي صلة.

ولزيادة توضيح خطأ هذا الفهم وتوضيح ما أقصده أنا من تعريفي للعقل سأقوم بتشبيه العقل بأنه القدرة على المشي وتشبيه التفكير بأنه عملية المشي وتشبيه الإدراك أو الفهم بأنه الوصول إلى المكان الذي نريده. فنحن عندما تكون لدينا القدرة على المشي نقوم بعملية المشي وبواسطة هذا المشي نصل إلى المكان الذي نريده ونطبق ذلك على العقل فنقول عندما تكون لدينا القدرة على التفكير نقوم بالتفكير وبواسطة التفكير نصل للفهم وندرك الأمور.

وهذا ما ينطبق على تعريفي وأما فهمك الذي يقول أن ( التفكير هو عملية إدراك الأمور المنطقية ) فليس له أي علاقة بتعريفي لأن فهمك هذا يقول أن التفكير هو إدراك الأمور المنطقية بينما يفهم من تعريفي أننا بواسطة التفكير نصل إلى الإدراك أي أن التفكير مقدمة وسبب لحصول الإدراك وليس هو الإدراك. ويتبين هذا بوضوح بالرجوع للشرح الذي ذكرته قبل قليل.

وأما ما يخص مطالبتك إياي ببيان حقيقة العقل لنضع الإصبع عليه فإنني في الحقيقة لا أجد نفسي قادرا على بيانه بأكثر من كونه إحدى القدرات التي يتمتع بها الإنسان وهذه القدرة هي التي تجعله قادرا على التفكير والإدراك .. ولكن لا بأس في أن تساعدني على تحقيق هذا الشيء وذلك بأن تبين لي حقيقة القدرة التي تجعلنا قادرين على السمع وحقيقة القدرة التي تجعلنا قادرين على النطق وعلى ضوء ذلك ربما أكون قادرا على ببيان حقيقة العقل بشكل تستطيع معه أن تضع إصبعك عليه.

وأما عبارتك ( كما لم تبين واسطة النقل ما هي ، فالشيء المنقول لم تأت على ذكره، وواسطة النقل لم تأت على ذكرها ، مع أن الشيء المنقول إلى الدماغ وكذلك واسطة نقله جزء لا يتجزأ من عملية التفكير " التوزين " ) فأنا أستغربها أيضا فما دخل واسطة النقل بعملية التفكير ولماذا هي جزء من منها .. فما دخل الواسطة التي نقلت الأشياء المراد وزنها بعملية الوزن ؟ وما الفرق بين أن تسألني شفويا فتكون الأذن هي الواسطة وبين أن تسألني كتابة فتكون العين هي الواسطة ؟ ما دخل هذا في التفكير؟
وأما ما جاء في ثالثا حيث أخذت علي أنني حصرت العقل أو التفكير بإدراك الأمور المنطقية فقط مع أن المنطق هو أسلوب من أساليب العقل فإن قولك هذا جميل وقد استفدت منه الكثير وجزاك الله خيرا على هذا التنبيه غير أنني لم أفهم عبارتك أن الإنسان يمكنه الاستغناء عن المنطق وأرجو لو توضح ذلك ولا بأس بالاستعانة ببعض الأمثلة.

أما ما جاء في رابعا فإني أحتاج لمعرفة مرادك من كلمة ( واقع ) فهل تقصد منها ذات الشيء فإذا قلت واقع الكتاب فهل تقصد ذات الكتاب الموجود في الخارج أم أنك تقصد من هذه الكلمة معنى الشيء وليس ذاته ؟ فلو فرضنا أنك تقصد المعنى الأول فإن ذلك ممتنع فالكتاب ذاته لا ينتقل إلى الدماغ ولو فرضنا أنك تقصد المعنى الثاني فإن ذلك يتعارض مع قولك بأن العقل يتعامل مع الأمور الحسية لأن الذي انتقل إلى الدماغ لم يكن شيء حسي فالشيء الحسي بقي مكانه في الخارج وأما الذي انتقل إلى الدماغ فهو معنى ذلك الشيء الحسي وهذا معناه أن العقل لا يتعامل مع الشيء الحسي بل أنه يتعامل مع معناه .. لذلك فإننا حينما نسمع كلمة كتاب فإننا ندرك معناها مباشرة ومن ثم فإن التعامل يتم مع المعنى لا مع الكلمة ذاتها وما يؤكد هذا المعنى أننا لا نستطيع أن نتعامل مع تلك الكلمة لو أننا لم ندرك معناها فالتعامل إذن يتم مع المعنى وليس مع الكلمة .. ثم أننا في كثير من الأحيان نفكر في أمور غير موجودة إطلاقا بل مجرد فرضيات وحسابات فـنقول مثلا لو عملنا كذا لنتج عندنا كذا ثم نقوم بحسابات منطقية لعدد من الفرضيات لنصل في النهاية إلى قرار معين أو نصل إلى نظرية معينة .. وهنا أتساءل ألا يعتبر هذا الجهد الذي بذلناه تفكيرا ؟ مع أننا لم نستعن بأي حاسة من حواسنا فنحن لم نر ولم نسمع ولم نلمس ولم نتذوق ولم نشم أي شيء ومع ذلك فقد قمنا بعملية التفكير .

أما ما جاء في خامسا من أن التفكير لا يتم إلا في واقع محسوس فقد أثبتنا قبل قليل خطأ هذا القول والذي يبدو لي أنك حينما تلاحظ أن كثيرا من المعاني تنتقل إلى العقل عن طريق الحواس كحاسة البصر مثلا فإن ذلك يجعلك تحكم بأن العقل يجري في محيط المحسوسات فقط لذلك لابد لك وأن تفرق بين ذات الشيء وبين معناه ثم لابد وأن تلاحظ أن العقل يتعامل مع المعنى لا مع الشيء حتى لو كانت الوسيلة التي نقلت معنى الشيء إلى العقل هي وسيلة حسية فإن ذلك لا يغير في الأمر شيء .

كما وأننا كثيرا ما ندرك الأمور غير الحسية بواسطة إدراكنا لأمور حسية ومن المفروض أن هذا لا يجعلنا نعتقد بأن إدراكنا قد وقع على شيء حسي فالشيء الحسي في هذه الحالة لا يعدو عن كونه وسيلة لأن ندرك شيئا غير حسي ومثال على ذلك لو أن أحدا أخبرنا بشيء معين وبواسطة بعض القرائن الحسية أدركنا أنه كان كاذبا كما لو أننا رأيناه في مكان آخر في نفس الوقت الذي ذكره لنا في كلامه فإن إدراكنا لكذبه جاء بعد تفكير منطقي أجريناه على الدلالات التي أدركناها واستخلصناها من تلك القرائن الحسية أي أن التفكير لا يتم في القرائن نفسها لأن القرينة هنا هي رؤيتنا له في مكان آخر في نفس الوقت الذي ذكره لنا وحاسة البصر هنا المسؤولة عن رؤيته ليست مسؤولة عن ربط ذلك بالقانون العقلي الذي يقول باستحالة وجود شخص معين في مكانين مختلفين في وقت واحد فهذا ليس من شأنها فالتفكير إذن لا يتم في ذات الأمور الحسية بل في معانيها ودلالاتها وبذلك فإن التفكير هنا لم يكن حبيس الأمور الحسية كما وأن الشيء الذي فهمناه وتوصلنا إليه وهو الكذب ليس من الأمور الحسية ولو كان كذلك لاستطاع كل إنسان أن يكتشف الكذب حتى لو كان فاقدا للعقل أرأيت الحرارة هل هناك من لا يدركها ؟ ولو ادعى أحد أن الكذب من الأمور الحسية فإننا سوف نطالبه بأن يبين لنا ما هي الحاسة المسؤولة عن الإحساس بالكذب. وعلى ذلك نقول أن الكذب من الأمور التي يتم إدراكها بالعقل وليس بالحس وإن استعانتنا بالأمور الحسية لإدراك أمورا غير حسية لا ينبغي أن يؤثر علينا ويجعلنا نعتقد بأن تفكيرنا وإدراكنا تم في محيط حسي.

وزيادة في توضيح وإثبات أن التفكير لا ينحصر في إدراك الأمور الحسية أسوق لك بعض الأمثلة على ذلك :
فأنت مثلا حينما تقرأ مقالة معينة وتحاول فهم ما ترمي إليه هذه المقالة ولنفرض أنها غامضة وصعبة الفهم فإنك أثناء تفكيرك ومحاولتك فهم تلك المقالة سوف تجد نفسك غارقا في معان تلك المقالة وبعيدا كل البعد عن كلماتها التي قد يصل عددها إلى ألف كلمة أو أكثر.

كما وأنك قد تكون مسؤولا عن تبليغ رسالة معينة شفويا ولكن قد تجد نفسك قد نسيت نص الرسالة ولكنك مدرك معناها جيدا فتقوم بتبليغ الرسالة دون استخدام أي كلمة من كلماتها الأصلية.

كما وأننا كثيرا ما ندرك أمورا من خلال عبارات معينة نقرأها أو نسمعها مع أن هذه الأمور التي فهمناها لم تكن موجودة في تلك العبارات التي قرأناها أو سمعناها فمثلا الآية الكريمة ( ولا تقل لهما أف … ) نفهم منها أن الصراخ على الوالدين وضربهما شيء محرم مع أن الآية لم تذكر الضرب أو الصراخ وهذا معناه أننا حينما فكرنا في هذه الآية لم نفكر في ذات كلماتها وإنما فكرنا في معاني هذه الكلمات ودلالاتها لأن المعنى الذي توصلنا إليه لم يكن له أي كلمة في هذه الآية وهذا ما يتعارض مع قولك ( فسواء أكان المعنى له واقع محسوس أم لا فإن التفكير لم يجر في المعنى وكذلك الحكم لم يصدر على المعنى وإنما التفكير قد جرى في الكلمة والحكم قد صدر عليها ) فهنا لم يتم نقل واقع محسوس يدل على ذلك المعنى بل لم يكن له أي واقع محسوس وإنما توصلنا إلى هذا المعنى عن طريق فهمنا لواقع آخر.

كما أنك بعبارتك هذه تجعل المعنى تابعا للكلمة والحال أن المعنى هو الأصل وهو سابق على الكلمة ولم توجد الكلمة إلا للتعبير عن المعنى فهي لا تعدو عن كونها وسيلة للتعبير عن المعنى وإيصاله للآخرين.

وأنت ترى نفسك حينما تكون لديك فكرة معينة تريد التعبير عنها فإنك تستخدم الكلمات وتوظفها لتعبر بها عن فكرتك فالكلمات إذن تأتي بعد وجود المعنى بمعنى أن في أوقات معينة قد تكون لدينا أفكار وليس لدينا أي كلمة للتعبير عنها بل قد نعبر عنها بتعبيرات خاطئة أو ربما نعجز عن إيجاد الكلمات التي تعبر عن الأفكار التي لدينا وهذا معناه أن الأفكار قد توجد بلا كلمات وهذا بالطبع ينفي فكرة أن التفكير يجري في الكلمة ولو كان التفكير يجري في الكلمات لما استطعنا أن نفكر في أي شيء إلا بكلماته ولأصبح كل معنى نحمله لابد وأن نحمل معه الكلمات التي تعبر عنه.

وقد قلت أيضا أنني حسب الظاهر أخلط بين الواقع المحسوس وبين الواقع الملموس وقلت ما نصه ( أما التفكير في المعاني فإن قولك " والمعاني ليست من المحسوسات " هو نفي للحس عن كل المعاني، وهذا خطأ. والظاهر أنك تخلط بين الواقع المحسوس وبين الواقع الملموس، فكأنك تعتقد أن الواقع المحسوس هو الواقع المادي الملموس ، ولما كانت المعاني ليست ملموسة قلت أنها ليست محسوسة. مع أن الواقع خلاف ذلك فليس كل ما يحس يلمس وان كان كل ما يلمس يحس، بمعنى أن كل واقع ملموس هو واقع محسوس، ولكن ليس كل واقع محسوس هو واقع ملموس، لأن اللمس محصور بحاسة اللمس فقط، فمثلا الظلم يحس ولا يلمس، والفخر يحس ولا يلمس والشجاعة تحس ولا تلمس والعزة تحس ولا تلمس والخزي والعار يحس ولا يلمس والاهانة تحس ولا تلمس، وعظمة الله تعالى تحس ولا تلمس ، والعجز والاحتياج اليه سبحانه وتعالى يحس ولا يلمس، وهكذا جميع الأمور المعنوية والروحية تحس ولا تلمس، وأما الأشياء المادية فإنها تحس وتلمس كالرغيف يحس ويلمس والماء يحس ويلمس والتراب يحس ويلمس، فالمقصود بالواقع المحسوس ليس هو الأشياء المادية الملموسة فقط بل كل ما يحس. فالتفكير في جميع هذه المعاني هو تفكير فيما يحس.

وأود هنا التأكيد على أنني على معرفة تامة بأن الحواس التي لدينا هي خمس حواس ولا أخلط بينها ولكن حسب ما ظهر لي أنك قد خلطت بين الإحساس وبين الشعور وهذا الخلط يقع فيه كثير من الناس فالإحساس متعلق بما يحس به الإنسان عن طريق حواسه الخمس أما الأمثلة التي أتيت بها كالظلم والإهانة والعزة فهي متعلقة بالمشاعر وليس بالأحاسيس والتفريق بين هذه وتلك سهل للغاية حيث نرى أن الأمور المتعلقة بالإحساس تابعة لحاسة معينة بشكل مباشر ويستطيع كل إنسان بصرف النظر عن مستوى تفكيره بل كل حيوان أيضا أن يحس بها مادامت تلك الحاسة سليمة فكل إنسان وكل حيوان يستطيع أن يرى مادام لم يفقد بصره وكل إنسان وكل حيوان يستطيع أن يسمع مادامت أذناه سليمتين وهكذا بقية الحواس وأما الشعور فإنه غير متعلق بحاسة معينة فليست العين مسؤولة عن الشعور بالخوف لو رأينا أسدا يحاول الاقتراب منا وإنما هي مسؤولة فقط عن الرؤية أما الخوف فيأتي نتيجة إدراكنا للخطر الذي يمثله هذا المشهد لذلك فإن الشخص الذي لا يدرك خطورة ذلك الأسد الذي رآه كأن يكون مجنونا مثلا أو أن المعلومات التي يعرفها عن الأسد معلومات خاطئة بحيث جعلته يعتقد أن الأسد حيوان أليف فإنه لن يشعر بالخوف منه مع أنه قد رآه كما رأوه الآخرون ومعنى ذلك أن الخوف ليس من الأمور التي نحسها وإنما هو من الأمور التي نشعر بها وهكذا بقية الأمثلة التي جئت بها ولو كانت هذه الأمثلة من الأمور التي نحس بها لأصبح لها حواس كالحواس الخمس فكما أن حاسة البصر هي العين يجب أن يكون لكل واحد من تلك الأمثلة عضوا معينا ليكون المسؤول عن تلك الحاسة فيكون لحاسة الخوف عضو معينا ولحاسة الإهانة عضوا آخر ولحاسة الظلم أيضا عضوا معينا وهكذا..

من ذلك يتبين أن هذه المعاني ليست من المحسوسات والتفكير فيها أو إدراكها ليس تفكيرا أو إدراكا لشيء محسوس.

وأما قولك أن الأعداد ليست شيئا قائما بذاته فهذا خلاف الواقع نعم لو قلت أن الأعداد ليست شيئا ماديا فإن كلامك يكون صحيحا أما أن تنفي وجودها فهذا نفي لشيء موجود ونتعامل معه بشكل مستمر والأعداد عندما لا تكون مقترنة بأي شيء تسمى بـ ( الأعداد المجردة ) وينبغي أن نخلط بين العدد والمعدود.

وأما قولك ( فمن المعلوم بداهة أن كل ما سوى الله تعالى محدود، الأعداد وغير الأعداد ) فهو قول لم أستطع رده وفي نفس الوقت أجد نفسي لا أستطيع أن أتصور وجود نهاية للأعداد إذ أنني أفترض أن باستطاعتنا زيادة أي عدد بغض النظر عن معرفتنا له أو عدمها لذلك فأنا محتاج للبحث في هذا التعارض والسؤال عنه. ولكن في نفس الوقت أجدك قد أقررت بوجود الأعداد اللانهائية وذلك في عبارتك ( العدد بين رقمين هو عدد لانهائي مع أنه محدود لأنه يقع بين رقمين ) وأنت هنا جمعت بين اللانهائي وبين المحدود في نفس الوقت. فإن كان اللفظان بنفس المعنى فهذا تناقض وإن كانا مختلفين بحيث من الممكن أن يكون الشيء محدودا وفي نفس الوقت لانهائيا فإن اعتراضك على قولي بأن الأعداد لانهاية لها في غير محله وخصوصا وأن اعتراضك على قولي جاء معتمدا على عبارتك ( أن ما سوى الله فهو محدود ) أي أنك عارضت كلمة ( لانهائي ) بكلمة ( غير محدود ) وهذا معناه أنك اعتبرت كلمة ( لانهائي ) مرادفة لكلمة ( لامحدود ) وهذا ما جعلك تقع في تناقض صريح حينما تقول ( العدد بين رقمين هو عدد لانهائي مع أنه محدود لأنه يقع بين رقمين ) لأن من خلال اعتبارك أن كلمة ( لانهائي ) مرادفة لكلمة ( لامحدود ) فإننا نستطيع أن نقرأ عبارتك كالآتي : ( العدد بين رقمين هو عدد لانهائي مع أنه نهائي لأنه يقع بين رقمين ) وهذا هو عين التناقض.

وأما قولك (أثر الخالق جزء من وجوده ) فأرى أن الجملة غير صحيحة بسبب بسيط وهو أن الوجود لا يتجزأ. ولو أنك قلت (أثر الخالق دليل على وجوده ) لكان ذلك أقرب إلى الصواب لأن هذه الموجودات وهذا الكون هي آثار تدل على وجود خالق لها مع ملاحظة أن الأثر لا يدل دائما على وجود صاحب الأثر فقد يزول صاحب الأثر ويبقى أثره قائما بمعنى أن الأثر يدل بالضرورة على وجود صاحب له في لحظة حدوثه ولكن لا يدل على وجوده حاليا وإلى الأبد.

وبناء عليه فقد تبين أن تعريف العقل بأنه ( نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة تفسره ) غير صحيح على الإطلاق كما تبين أن القول بأن العقل والتفكير والفكر شيء واحد غير صحيح أيضا كما تبين أن القول باشتراط الواقع المحسوس في عملية التفكير غير صحيح ، وبذلك ينتفي الاحتجاج بتعريف العقل على عدم صحة الإيجاب العقلي على الله تعالى في موضوع الاستخلاف.

السحابة 23-08-2001 05:38 PM

الأخ أسعد

بعد السلام والتحية
قرأت شيئاً مما دار بينك وبين الأخ صالح ووفهمت أنك تقول بعصمة الإمام وهو يخالفك في ذلك وأريد أن أستفسر فيما يتعلق بهذه المسألة خصوصاً وسؤالي :

أنت تقول أن الإمام معصوم ومعلوم أن الحسن والحسين سبطي سول الله صلى الله عليه وسلم هما إمامان معصومان - في مذهبك - والمطلع على كتب التاريخ يجد أن الإمام الحسين لم يتنازل عن الخلافة ليزيد بن معاوية في حين تنازل عنها الإمام الحسن فأيهما الصواب وأيهما من وافق العصمة ؟ وهل الذي لم يوافق الصواب منهما معصوم أيضاً وهل يمكن أن يكون الصواب في هذه الحادثة هو كلا الأمرين - التنازل وعدمه - ؟

.....

ولأن الموضوع الأساس هو حول الإمامة أقول :

ذكرت إن الله أشار في كتابه إلى أن علياً رضي الله عنه هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين فأين الآية الدالة على ذلك ؟
أما من الحديث فقد أشار الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى استخلافه لأبي بكر اصديق رضي الله عنه في أحاديث صحاح منها أنه صلى اله عليه وسلم استخلفه في الصلاة بالمؤمنين وفي هذا إشارة قوية لاستخلافه حيث علق الصحابة رضي الله عنهم على هذا الحديث بقولهم :"رضيه الرسول صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا"


ولو سلمنا أنه ورد نص باستخلاف علي - ولم يصح في ذلك شيء - فنقول :

قد رضي علي رضي الله عنه بأبي بكر خليفة وبايعه أفلا يسعكم ما وسع إمامكم !
أم أن القضية مجرد إثارة لا طائل من ورائها ؟

ثم أينكم في عهد أبي بكر لتبينوا للناس هذا البيان ؟


وإذا أردنا أن نستدل بالعقل فلم لا نخوض في مسائل أكبر من هذه ؟
مثلاُ قولكم إن هناك مصحفاً لفاطمة اختصها رسول الله به غير الذي بين أيدينا - المنقول بالتواتر-

أفلا يترتب على هذا القول أن ينسب الرسول إلى الخيانة وعدم القيام بالرسالة حيث لم يبلغ القرآن كاملاً للناس واختص ابنته دونهم بشيء منه ؟

أسأل الله أن يدلنا وإياكم إلى درب الصواب وأن يوفق الجميع لما فيه رضاه إنه ولي ذلك والقادر عليه

صالح عبد الرحمن 25-08-2001 11:57 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ الفاضل أسعد الأسعد

إليك ما يلي :


أولا- السؤال المطروح هو : العملية التفكيرية ما هي ؟ أي كيف نفكر ؟ ما هي شروط عملية التفكير ؟ ما هي العناصر أو الأدوات التي لا بد من وجودها حتى نفكر ؟
هذا هو موضوع البحث، وهذا بالضبط ما له علاقة مباشرة بمسألة الاستدلال العقلي على وجوب تعيين الامام. فأنت قد جعلت العقل دليلا على أن الواجب على الله تعالى هو أن يعين الامام من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه إذا لم يفعل ذلك يكون مقصرا، وأما حجتي في نقض دليلك فهي أن ذات الله سبحانه وتعالى لا تقع تحت الحس ، فلا يمكن التفكير فيها، ولا يصح قياسها على الانسان، فلا يصح أن نوجب على الله سبحانه وتعالى فعل الحسن واجتناب القبيح بحسب فهم الانسان للحسن وللقبح. وحجتي أيضا أن علم الله تعالى لا يقع تحت الحس فلا يمكن أن نعلم ان كان الله سبحانه وتعالى يريد أن يعين الامام أم أنه يريد أن يجعل امر اختياره للمسلمين، فكل محاولة للتنبأ بما في علم الله تعالى أو بما يريده الله أو بما لا يريده من دون أن يخبرنا الله تعالى به هي مجرد عملية تخيل لا أكثر ولا أقل فلا يعول عليها ولا يصح الاستناد إليها، وهذا بالضبط ما أوردته في أول تعقيب لي على طرحك، فالموضوع هو شروط عملية التفكير ، أي هل يمكن أن نفكر فيما لا يقع تحت الحس أم لا ؟ هل يمكن أن نصدر أحكاما على الله تعالى او على أفعاله او أن ندرك علل أفعاله أو حكمته من كل فعل ؟ هل يمكن أن تتصور عقولنا عللا ثم بناء عليها نوجب على الله تعالى أن يفعل أو أن لا يفعل الفعل ؟

فالسؤال المطروح هو شروط عملية التفكير أي الدماغ والواقع والحواس والمعلومات السابقة التي يفسر بواسطتها الواقع ، هل يمكن التفكير بدون أي واحد منها أم لا ؟ ومصطلح العقل معناه حسب استخدامي له نفس معنى عملية التفكير، فالتعريف الذي احتججت به عليك هو تعريف العملية التفكيرية ، والنقاش حول التعريف هو نقاش حول شروط عملية التفكير، فاستعمالي للعقل وللتفكير استعمال واحد، وهذا نص ما ورد في أول ردي لي على استدلالك العقلي على ايجاب التعيين على الله تعالى :
( العقل أو الفكر هو نقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع، فالعملية الفكرية لا يمكن أن توجد إلا إذا توفرت أربعة شروط هي : الدماغ الصالح للربط، الحواس، الواقع الذي يراد التفكير فيه، والمعلومات السابقة التي يفسر بواسطتها الواقع . فإذا نقص عنصر واحد من هذه العناصر الأربعة لا يمكن اجراء العملية الفكرية، من هنا كان التفكير في غير الواقع المحسوس ليس فكرا ولا تفكيرا وانما هو تخيل وأوهام. فالعقل مجردا عن النصوص الشرعية لا يستطيع أن يدرك ان كانت الامامة ضرورة شرعية أم لا كما لا يستطيع أن يدرك ان كان الله تعالى سيعين الخليفة تعيينا أم سيوكل هذه المهمة للمسلمين أنفسهم أو أنه سيضع حلولا أخرى. وكل محاولة للتنبأ بما في علم الله تعالى أو بما يريده الله أو بما لا يريده من دون أن يخبرنا الله تعالى بذلك هي مجرد عملية تخيل لا أكثر ولا أقل فلا يعول عليها ولا يصح الاستناد إليها .)
فهذا النص يتحدث عن العقل بمعنى عملية التفكير، أي يتحدث عن شروط عملية التفكير، فقد ورد بعد تعريف العقل مباشرة ( فالعملية الفكرية لا يمكن أن توجد إلا إذا توفرت أربعة شروط هي : الدماغ الصالح للربط، الحواس، الواقع الذي يراد التفكير فيه، والمعلومات السابقة التي يفسر بواسطتها الواقع ).

فالاستدلال ووجه الاحتجاج بالتعريف هو استدلال بشروط عملية التفكير، وقد أكدت على ذلك في ردي الثاني عليك بتاريخ 15\8\2001 فقد ورد فيه ما نصه: ( وتعريف العقل الذي ورد في تعقيبي السابق هو نفس تعريف الطريقة العقلية في التفكير أو هو بيان واقع عملية التفكير). بل أني كررت النص على ذلك في أكثر من موضع حتى يكون تعريف العملية التفكيرية هو محل البحث والنقاش لأنه الأساس في الاستدلال على خطأ الايجاب العقلي للتعيين.


ثانيا- الشرط هو : ( ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ) فمثلا كون الطهارة شرط في صحة الصلاة، معناه أنه لا توجد الصلاة اذا لم توجد الطهارة ، ولكن قد توجد الطهارة ولا توجد الصلاة. فعندما نقول أن عملية التفكير لها أربعة شروط، فإن معنى ذلك أن عملية التفكير لا يمكن أن توجد إلا بوجود الشروط الأربعة مجتمعة، فلو نقص منها شرط واحد لم توجد عملية التفكير. وعليه فإن تعريف العملية التفكيرية بأنها ( نقل الواقع الى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع ) هو نص على الشروط الأربعة التي يجب توفرها حتى يوجد التفكير مع بيان دور كل شرط من هذه الشروط الأربعة في عملية التفكير. فالدماغ والواقع والحواس والمعلومات السابقة التي يفسر بواسطتها الواقع هي الشروط الأربعة التي يجب توفرها حتى توجد عملية التفكير، فإذا نقص أي عنصر من هذه العناصر الأربعة لم يوجد التفكير. فطريقة اثبات صحة هذا التعريف تكون باثبات استحالة التفكير في حال عدم أي عنصر من هذه العناصر الأربعة ويكون ذلك بضرب مثل يكون خاليا من عنصر واحد من هذه العناصر، فإذا استحالت عملية التفكير يكون العنصر الغائب شرطا في التفكير، لأن الشرط يلزم من عدمه العدم.

وقد طلبت منك التفكير في مسألتين لأثبت استحالة التفكير سواء في غير الواقع المحسوس أو بدون وجود المعلومات السابقة التي يفسر بواسطتها الواقع. فقد ورد في ردي عليك بتاريخ 15\8\2001 ما نصه :

( من هنا يتبين أن العملية التفكيرية التي هي نفسها العقل ليست عضوا من أعضاء جسم الانسان وإنما هي عملية تتكون من أربعة أشياء هي : الدماغ الصالح للربط، الواقع الذي يراد التفكير فيه أو الحكم عليه، حاسة واحدة على الأقل من الحواس الخمسة، والمعلومات السابقة التي يفسر بواسطتها الواقع. فلو نقص عنصر واحد من هذه العناصر الأربعة فإن العملية التفكيرية لا يمكن أن تحصل .
فمثلا لو سألتك ما هو معنى النص التالي :

De wereld-ontvanger waarover u nu beschikt kan een aantal golfflengtebanden ontvangen .

فإذا لم يكن عندك معلومات سابقة عن اللغة التي كتب بها هذا النص فلا يمكن أن تدرك معناه . فمع أن الواقع محسوس ( النص ) وقد انتقل الى دماغك بواسطة حاسة البصر إلا أنك لا تستطيع التفكير فيه لعدم توفر المعلومات السابقة التي تفسره ، وبالتالي لا تستطيع ان تصدر حكمك عليه.

ومثلا لو سألتك الأسألة التالية المتعلقة بالجن :
ما هي صورة الجن ؟ هل هي كالانسان ام كالحيوان ام كالطير أم غير ذلك ؟ هل للجن أسنان وكم عددها ؟ هل التزواج والتناسل بين الجن كما هو عند الانسان ؟ الحليب هو غذاء طفل الانسان منذ ولادته وحتى فطامه ، فما هو غذاء الطفل الجني ؟ الانسان اذا جرح ينزف دما، الجني ماذا ينزف ؟

مثل هذه الأسألة المتعلقة بالجن لا تستطيع إعطاء أجوبة عليها لسببين : أولها لأن الجن واقع لا يقع تحت حس الانسان، وثانيهما لعدم وجود معلومات سابقة عن الأمور التي سألتك عنها. فكل محاولة للاجابة هي مجرد تخيل وأوهام ).

إلا أنك أخي الفاضل قد تجاهلت هذين المثالين في تعقيبيك الأخيرين تجاهلا تاما، مع أنهما البرهان الذي أقمته لاثبات شرط الواقع المحسوس وشرط المعلومات السابقة. وتجاهلهما معناه أنك قد عجزت بالفعل عن التفكير فيهما، فهذا دليل قاطع على أن الواقع المحسوس والمعلومات السابقة شرطان للتفكير. وأما الهروب من هذين المثلين من خلال ضرب أمثلة أخرى تحاول من خلالها اثبات امكانية التفكير من دون وجود الواقع المحسوس أو من دون وجود المعلومات السابقة لا قيمة له في تفنيد الحجة، لأن الدليل هو مثل تعجز عن التفكير فيه لا مثل تستطيع التفكير فيه، وأيضا جميع الأمثلة التي تأتي بها كأمثلة على امكانية التفكير بدون توفر جميع شروط عملية التفكير هي مجرد شبهة في خلوها من شرط صحة التفكير، بدليل أنني قد رددت على جميع أمثلتك التي ظننت أنها تخلو من شرط أو أكثر من شروط عملية التفكير، والشك أو الظن او الشبهة لا ترد الدليل القاطع بأي حال من الأحوال. على أن اثبات صحة تعريف العملية التفكيرية لا يتطلب وضع جميع عمليات التفكير الانساني محل بحث لأثبت منها جميعها أن الواقع المحسوس شرط أو ان المعلومات السابقة شرط أو أن نظل ننقاش هذه المسألة ما دام ذهنك أو مخيلتك تتفتق عن أمثلة جديدة، ولو قبلنا بهذه الطريقة المغلوطة في الاثبات فإننا لن نصل الى نتيجة أبدا. فالاستدلال الصحيح هو أن آتيك بمثل واحد فقط تعجز عن التفكير فيه بسبب خلوه من عنصر من العناصر الأربعة التي نص عليها التعريف فيكون عجزك عن التفكير دليلا على ان هذا العنصر هو شرط من شروط عملية التفكير لأن الشرط هو ما يلزم من عدمه العدم. ومع ذلك فسوف أناقش بإذن الله تعالى جميع أمثلتك الجديدة لأبين لك أنها جميعها لا تصلح لنقض التعريف ، ونقاشي لها حتى يحصل لديك الاطمئنان فقط وليس لاقامة الحجة، لأن الحجة قامت بثبوت العجز عن التفكير في حل لم تتوفر جميع شروط عملية التفكير.

وهاك سؤال آخر حول شروط عملية التفكير ، والسؤال هو : ما هي الروح ؟ ما هو شكلها ؟ لونها ؟ وزنها ؟ أي شيء يتعلق بماهيتها ؟


ثالثا- في نفس ردي عليك بتاريخ 15\8\2001 ورد ما نصه :

(( رابعا- على الرغم من غموض تعريفاتك وعلى الرغم من الخطأ الذي وقعت فيه إلا أن التعريفات التي أوردتها في تعقيبك تشترط أيضا توفر العناصر الأربعة حتى توجد العملية التفكيرية، فقولك ( فالعقل هو الملكة التي حبانا الله إياها لنكون قادرين على إدراك الأمور المنطقية ) اقرار بشرط وجود الحواس والواقع لأن المنطق يشترط انتهاء كل قضية من قضاياه الى الحس. وأما قولك ( فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير ) ففيه اقرار صريح بشرط وجود الدماغ ، وفيه اقرار ضمني بشرط وجود الواقع والحواس وكذلك المعلومات السابقة . أما الواقع فإنه إذا لم يكن هذا الذي يتم نقله إلى الدماغ هو الواقع فماذا يكون ؟ وإذا لم يكن الواقع هو ما نريد التفكير فيه واصدار الحكم عليه فبماذا سنفكر ، وعلى ماذا سنصدر الحكم ؟ وإذا لم تكن الحواس هي واسطة نقل الواقع إلى الدماغ فما هي هذه الواسطة ؟ وأيضا إذا لم تكن وحدة القياس أو وحدة التوزين هي المعلومات السابقة التي تفسر الواقع فماذا تكون ؟ فالواقع هو الذي يتم نقله الى الدماغ بواسطة الحواس ويجري التفكير فيه بربطه بالمعلومات السابقة التي تفسره فيصدر الدماغ حكمه عليه )).

فأنت من خلال تعريفك للعقل ، ومن خلال تعريفك للتفكير تثبت أن العناصر الأربعة الواردة في تعريفي هي شروط العملية التفكيرية، وهذا معناه أنك قد أسقط بنفسك حجتك العقلية على ايجاب التعيين على الله تعالى، ومعناه أيضا أنك كنت تتناقض مع نفسك في نفيك الدائم لشرط الواقع المحسوس ومع نفيك اللاحق لشرط المعلومات السابقة ولشرط الدماغ.


ثالثا- في تعقيبك الأخير تخلصت من النقطة الواردة في تعريفك للعقل والتي تدل على شرط الواقع المحسوس كشرط من شروط العقل، فقد قلت :
(وإذا كان هناك من مؤاخذة على هذا التعريف فهي المؤاخذة التي تفضلت بها وهي أنني حصرت عمل العقل في الأمور المنطقية وسوف أحاول الاطلاع على هذه النقطة وفهمها).

فأنت هنا تتخلى فقط عن جعل المنطق جزءا من تعريفك للعقل، وهي النقطة التي تشترط الحس بالواقع. واللافت للنظر أنك تراجعت عنها حتى قبل أن تطلع عليها وقبل ان تفهمها (وسوف أحاول الاطلاع على هذه النقطة وفهمها) فإذا لم تطلع عليها، بل إذا لم تفهمها فلماذا تتراجع عنها وتقر بأنها مؤاخذة على تعريفك ؟!
ولأهمية حذف هذا المقطع الذي تقر فيه بشرط الواقع المحسوس أكدت عليه مرة أخرى في نفس تعقيبك الأخير، فقد قلت :
( وأما ما جاء في ثالثا حيث أخذت علي أنني حصرت العقل أو التفكير بإدراك الأمور المنطقية فقط مع أن المنطق هو أسلوب من أساليب العقل فإن قولك هذا جميل وقد استفدت منه الكثير وجزاك الله خيرا على هذا التنبيه ) !!!

هذا بالنسبة للتراجع عما يدل في تعريفك للعقل على شرط الحس بالواقع ، أما بالنسبة لدلالة تعريفك للتفكير على شروط التفكير الواردة في تعريفي، فإنك في تعقيبيك الأخيرين قد تجاهلت الحجة التي أقمتها عليك من خلاله تجاهلا تاما . بل لم تأت على ذكر التعريف الذي وضعته للتفكير مطلقا، والتعريف هو : ( فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير )، ومع أنك لم تذكره إلا أنك لم تضع له بديلا. وها أنا أعيد وضعه هنا حتى يظل الاحتجاج عليك به قائما :
(( وأما قولك ( فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير ) ففيه اقرار صريح بشرط وجود الدماغ ، وفيه اقرار ضمني بشرط وجود الواقع والحواس وكذلك المعلومات السابقة . أما الواقع فإنه إذا لم يكن هذا الذي يتم نقله إلى الدماغ هو الواقع فماذا يكون ؟ وإذا لم يكن الواقع هو ما نريد التفكير فيه واصدار الحكم عليه فبماذا سنفكر ، وعلى ماذا سنصدر الحكم ؟ وإذا لم تكن الحواس هي واسطة نقل الواقع إلى الدماغ فما هي هذه الواسطة ؟ وأيضا إذا لم تكن وحدة القياس أو وحدة التوزين هي المعلومات السابقة التي تفسر الواقع فماذا تكون ؟ فالواقع هو الذي يتم نقله الى الدماغ بواسطة الحواس ويجري التفكير فيه بربطه بالمعلومات السابقة التي تفسره فيصدر الدماغ حكمه عليه )).
لاحظ أنك في تعريفك للتفكير تنص على أن شيئا ما يتم نقله للدماغ لاصدار الحكم عليه، فالتفكير يجري في شيء ما، والحكم يصدر على هذا الشيء الذي تم نقله الى الدماغ وجرى التفكير فيه، وأيضا التعريف ينص على عملية نقل، فمن أين تم نقل هذا الشيء الى الدماغ ؟ وما هي واسطة النقل ؟ ثم وحدة التوزين ما هي ؟


رابعا- في آخر فقرة من تعقيبك الآخر قلت :
(( وبناء عليه فقد تبين أن تعريف العقل بأنه ( نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة تفسره ) غير صحيح على الإطلاق كما تبين أن القول بأن العقل والتفكير والفكر شيء واحد غير صحيح أيضا كما تبين أن القول باشتراط الواقع المحسوس في عملية التفكير غير صحيح ، وبذلك ينتفي الاحتجاج بتعريف العقل على عدم صحة الإيجاب العقلي على الله تعالى في موضوع الاستخلاف )).

فأنت هنا تقول أن التعريف غير صحيح على الاطلاق ، مع أن هذا التعريف كما هو واضح من جميع ردودي عليك هو تعريف عملية التفكير، مما يعني أنك تقول هنا أن العناصر الأربعة الواردة في التعريف ليست شروطا لعملية التفكير ، أي يمكن للانسان أن يفكر بدون دماغ ، أو بدون واقع يفكر فيه، أو بدون حواس يستعملها في نقل الواقع الى دماغه، أو بدون أية معلومات عن الواقع الذي يريد التفكير فيه . وهذا يعني أنك تتناقض مع تعريفك للتفكير المذكور أعلاه ، والذي هو: ( فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير ) .


خامسا- في تعقيبيك الأخيرين أوليت أهمية كبرى للتفريق بين العقل والتفكير، مع أن التفريق بينهما ليس له أية أهمية في الموضوع الذي نناقشه والذي هو الاستدلال العقلي على وجوب التعيين، وذلك لثلاثة أسباب : أولها أن مصطلح العقل أستخدمه بنفس معنى عملية التفكير وليس له أي استعمال آخر عندي ، فتعريف العقل بأنه ( نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة تفسره ) هو نفس تعريف عملية التفكير. فمعنى العقل هو نفس عملية التفكير وهو الأمر الذي بينته بالنص. فكأني أستعمل لفظين للتعبير عن واقع عملية التفكير. فلا ضير عندي أن اقتصر في الاستعمال على لفظ واحد فقط هو عملية التفكير أو التفكير، لأن حجتي عليك هي مدلول عملية التفكير أي تعريف عملية التفكير وليس الكلمة سواء كلمة العقل أو كلمة التفكير. وثانيها أننا متفقان على وجود عملية التفكير، وأنها هي العملية التي تؤدي الى الفكر أو الادراك ، وحجتي عليك هي فيما نحن متفقان عليه أي بعملية التفكير وليست هي في أي شيء آخر. وثالثها أننا سواء اعتبرنا العقل أداة للتفكير أو اعتبرناه نفس عملية التفكير لا يؤثر مطلقا في الحجة عليك وهي أننا لا نستطيع التفكير فيما لا يقع عليه الحس كذات الله سبحانه وتعالى. فحتى لو اعتبرت أن العقل هو أداة التفكير أو هو المقدرة على التفكير ، وكان الواقع المحسوس أو المعلومات السابقة شرطا في عملية التفكير التي سيقوم بها العقل، فإن عدم وجود الواقع المحسوس أو عدم وجود المعلومات السابقة سيجعل العقل عاجزا عن القيام بعملية التفكير. فأساس البحث ، وموضوع النقاش، والحجة عليك هي عملية التفكير، وليست هي في تعريف العقل ولا حتى في تعريف الفكر.

صالح عبد الرحمن 25-08-2001 12:02 PM

وبناء عليه ألخص النقاط المذكورة أعلاه على النحو الآتي :

1- الحجة التي تنقض قولك بالايجاب العقلي لتعيين الامام هي أن التفكير لا يمكن أن يحصل بدون الواقع المحسوس أو بدون المعلومات السابقة عن الواقع الذي يراد التفكير فيه، فلا أهمية لكون العقل هو أداة التفكير أو أن العقل هو نفس التفكير .


2- ثبوت كون الواقع المحسوس أو كون المعلومات السابقة شرطا في التفكير يكون من خلال مثل واحد لا يتوفر فيه الواقع المحسوس ، ومثل واحد لا تتوفر فيه المعلومات السابقة، فإذا استحال التفكير فإن ذلك يكون دليلا قاطعا على أن التفكير يستحيل في غير الواقع المحسوس، ويستحيل بدون المعلومات السابقة. وهو ما يعني أن أية محاولة للتفكير في ذات الله تعالى او في علمه تعالى او في أفعاله التي يجب أن يفعلها أو التي لا يجب أن يفعلها تكون مجرد خيالات وأوهام . وأما الأمثلة التي تأتي بها للاشتباه في أنها تخلو من شرط أو أكثر من شروط عملية التفكير فلا تصلح لرد الدليل القاطع ، لأن الدليل يقوم باثبات العجز عن التفكير في حال لم تتوفر جميع شروط عملية التفكير لا باثبات امكانية التفكير ، ولأن المثل الذي تات به لاثبات امكانية التفكير هو مظنة دليل وليس دليلا ، لأن الشبهة تظل قائمة بتوفر جميع شروط عملية التفكير، وقد اتضح ذلك من خلال مناقشة أمثلتك السابقة، والظن لا يغني من الحق شيئا.


3- أوردت لك مثالين لاثبات شرط الواقع المحسوس وشرط المعلومات السابقة، وعدم قدرتك على الاجابة على الأسئلة التي طرحتها عليك من خلال المثالين يعتبر حجة عليك في أن التفكير يستحيل في غير الواقع المحسوس أو بدون المعلومات السابقة عن الواقع الذي يراد التفكير فيه. وقد اوردت لك في هذه المداخلة مثالا ثالثا عن الروح، فإذا عجزت عن الاجابة وسوف تعجز فيكون ذلك دليلا أضافيا على ما أقول.


4- تعريفك للعقل بأنه : ( الملكة التي حبانا الله إياها لنكون قادرين على إدراك الأمور المنطقية ) يقر بشرط الواقع المحسوس ، وأما تعريفك للتفكير الوارد في هذا النص : ( فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير ) فيقر ضمنا بجميع الشروط الأربعة الواردة في تعريفي، فبناء على ما ورد في تعريفيك فإن الأحكام التي أصدرتها على الله تعالى كقولك أنه سبحانه وتعالى يجب أن يعين الامام أو أنه يكون مقصرا ان لم يعينه هي أحكام غير صحيحة.


5- تراجعت عن التنصيص على المنطق في تعريفك للعقل. والراجح أنه تراجع غير مبني على قناعة، فكيف يكون تراجعك عن قناعة وأنت تقول أنك من الآن فصاعدا ستحاول الاطلاع على وجهة نظري وستحاول أن تفهمها. والحكم الشرعي في حقك هو ما يغلب على ظنك أنت لا ما يغلب على ظني أنا، فإذا كنت ترى أن المنطق جزء من التعريف فهذا يعني أنك تتبنى عدم صحة التفكير في غير المحسوس، وحجتي عليك هي في عدم صحة التفكير في غير المحسوس. على أن تعريفك للتفكير الوارد في هذا النص: ( فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير ) يتضمن الشروط الأربعة الواجب توفرها في عملية التفكير. فهذا التعريف أنت كتبته ولم تتراجع عنه بعد. وحتى لو تراجعت عن التعريفين معا فإن دليل الاثبات هو الأمثلة التي طرحتها عليك .


6- جميع أمثلتك السابقة التي طرحتها كدليل لاثبات امكانية التفكير في غير الواقع المحسوس أو الامثلة التي طرحتها على ما اسميته بالضرورات العقلية المتعلقة بذات الله تعالى رددت عليها وبينت عدم صلاحيتها لاثبات ما أردت اثباته، وسوف أقوم بإذن الله تعالى بالرد على التساؤلات أو الشبهات التي ظلت قائمة في ذهنك بخصوصها ، كما سأرد على الأمثلة الجديدة بل على كل ما أوردته في تعقيبيك الأخيرين ولم أعقب عليها هنا، هذا الى جانب توضيح بعض النقاط التي أرى أن لا بد من توضيحها فيما يتعلق بشروط عملية التفكير. وذلك حتى تصل الى قناعة تامة الى انك لن تستطيع اثبات امكانية التفكير فيما لا يقع عليه الحس أو التفكير بدون وجود المعلومات السابقة عن الواقع الذي تريد التفكير فيه. وأهمية وجود القناعة بصحة التعريف تكمن في أن نقاشنا هذا هو نقاش فكري فمن الضروري الاتفاق على شروط صحة التفكير.

أخي العزيز
إذا أردت أن ترد على الأخت التي وجهت اليك بعض الأسئلة فأرجو أن يكون ردك في غير هذا المكان.

صالح عبد الرحمن 26-08-2001 01:54 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ الفاضل أسعد الأسعد

هذا تعقيب على بعض ما ورد في تعقيبيك الأخيرين :

أولا- نحن متفقان على وجود عملية تفكير وعلى وجود نتيجة لها، ومختلفان على كلمة " العقل "، في جميع تعقيباتي العقل وعملية التفكير شيء واحد ، فليس هو شيء غير عملية التفكير، ولا هو عنصر زائد عن العناصر الداخلة في عملية التفكير. وأما أنت فتقول أن العقل شيء آخر غير عملية التفكير إذ هو حسب رأيك أداة التفكير أي الأداة التي تتم بواسطتها عملية التفكير. فليس مطلوبا مني سوى إثبات صحة تعريف عملية التفكير ، والذي هو : ( نقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة تفسر الواقع )، وقد بينت في مداخلتي السابقة الكيفية الصحيحة التي يجب اتباعها سواء في اثبات صحة التعريف أو في اثبات بطلانه.

وأما أخي أسعد فمطلوب منه أن يثبت وجود أداة في جسم الانسان تقوم بوظيفة التفكير، والاثبات لا يكون من خلال التشبيهات ، لأن أي انسان يمكن أن يتخيل وجود شيء في داخل جسمه ، ثم يقوم بتشبيهه بأي شيء مما هو موجود في الواقع الخارجي، فالتشبيه ليس دليلا على وجود الشيء. وأنا أزعم أن أخي أسعد يتخيل وجود أداة تقوم بوظيفة التفكير كما تقوم العين بوظيفة الابصار، وسيظل ادعاء وجود أداة تقوم بالتفكير كما تقوم العين بالابصار مجرد فرض نظري حتى تقيم الدليل على وجوده. وقد طالبتك ببيان حقيقة هذه الأداة او بيان ماهيتها او مكان وجودها إلا أنك أقررت بعجزك عن فعل ذلك، ففي تعقيبك قبل الأخير قلت: ( وفي الحقيقة فأنني لم أكن أرى أن الكلمة كانت تحتاج لتوضيح أكثر من بيان أنها نوع من أنواع القدرات وبذلك لن أستطيع أن أبين حقيقتها وكنهها وماهيتها بأكثر من ذلك فكما يملك الإنسان القدرة على الحركة والقدرة على السمع والقدرة على النطق والقدرة على الإبصار يملك أيضا القدرة على التفكير .. وكما أن أداة السمع هي الأذن وأداة الإبصار هي العين وأداة النطق هي اللسان فإن أداة التفكير هي العقل ). وفي تعقيبك الأخير قلت : ( وأما ما يخص مطالبتك إياي ببيان حقيقة العقل لنضع الإصبع عليه فإنني في الحقيقة لا أجد نفسي قادرا على بيانه بأكثر من كونه إحدى القدرات التي يتمتع بها الإنسان وهذه القدرة هي التي تجعله قادرا على التفكير والإدراك .. ولكن لا بأس في أن تساعدني على تحقيق هذا الشيء وذلك بأن تبين لي حقيقة القدرة التي تجعلنا قادرين على السمع وحقيقة القدرة التي تجعلنا قادرين على النطق وعلى ضوء ذلك ربما أكون قادرا على ببيان حقيقة العقل بشكل تستطيع معه أن تضع إصبعك عليه). فعجزك عن بيان حقيقة هذه الأداة أو عن الاتيان بأي شيء يدلنا على ماهيتها أو عجزك عن بيان كيف تقوم هذه الأداة بعملية التفكير أو أن تبين مكان وجودها كل ذلك يعتبر سببا كافيا لعدم وضع هذه الأداة المفترضة موضع نقاش وسببا كافيا لتجاهلها تجاهلا تاما. فأنت لا تعرف حقيقة الشيء الذي تتحدث عنه، ولا ما هو دور هذا الشيء في الوظيفة التي ألصقتها به وأقصد بالوظيفة عملية التفكير، فأنت لم تبين كيف يقوم العقل- بوصفه أداة التفكير - بعملية التفكير، بل لا تعرف مكان وجود هذه الأداة.

ما أريد أن أقوله هنا هو أن من يزعم وجود شيء عليه أن يقيم البرهان على وجوده، وليس من مهمة من لا يؤمن بوجوده التدليل على عدم وجود هذا الشيء، لا سيما إذا لم يكن لهذا الشيء وجود إلا في مخيلة من يقول بوجوده. وأما حقيقة العين والأذن واللسان أو ماهيتها وكيفية أدائها لوظائفها أي الابصار والسمع والنطق، وكذلك مكان وجود كل عضو من هذه الأعضاء فكل ذلك معروف، وإذا أردت التعمق في المعرفة فعليك بكتاب في الطب متخصص في بحث هذه الأعضاء.


ثانيا- المشكلة أو الخطأ الذي غالبا ما تقع فيه هو المنطق، فقد توصلت إلى القول بوجود أداة تقوم بعملية التفكير وصولا منطقيا : ( وكما أن أداة السمع هي الأذن وأداة الإبصار هي العين وأداة النطق هي اللسان فإن أداة التفكير هي العقل )، والنتجة خطأ لأن قياس التفكير على الحواس خطأ، التفكير غير السمع وغير البصر وغير اللمس وغير باقي الحواس، فهو ليس حاسة ولا هو من جنس الحواس حتى يجري قياسه عليها، وأيضا واقع التفكير غامض في ذهنك، فأنت لا تعرف حقيقته بل لا تعرف أي شيء عنه سوى أنك قمت بتشبيهه بعملية التوزين، فكيف تقيس مجهول على معلوم ؟
والدليل على خطأ قياس التفكير سواء على وظائف الحواس او على عملية التوزين هو أن ليس كل عملية تحصل توجد لها أداة أو عضو يختص بالقيام بها، فبعض العمليات تحصل من اشتراك مجموعة من الأدوات في أدائها، فمثلا عملية تغذية الانسان ليس لها أداة واحدة تقوم بها أو عضو مخصص للقيام بهذه المهمة، بل هي عملية تشترك في أدائها مجموعة من الوسائل أو الأدوات، كالفكين والأسنان واللسان والغدد اللعابية واللعاب الذي تفرزه هذه الغدد والبلعوم والمريء والمعدة والحامض الذي تفرزه المعدة ...إلخ ثم لا ننسى الطعام نفسه الذي هو المادة الغذائية. وعملية التنفس هي من هذا القبيل. ونفس الشيء يمكن أن يقال بالنسبة لعملية التفكير، إذ هي عملية يشترك في إيجادها أربعة أدوات أو أربعة عناصر، وهذه الأدوات هي : الدماغ، الحواس، الواقع، المعلومات السابقة، فليست هي نتاج عضو من أعضاء جسم الانسان، ولا هي وظيفة أداة معينة من الأدوات الموجودة في داخل جسم الانسان وإنما هي مجموع عمل هذه العناصر الأربعة . لذلك كله كان من الخطأ أن تقيس عملية التفكير قياسا شموليا على عملية الابصار أو على عملية التوزين، وخطأ القياس هو الذي أوصلك إلى النتيجة الخاطئة التي خرجت بها، والتي هي أن للتفكير أداة كما ان للبصر اداة.


ثالثا- حتى الأمثلة التي ضربتها لتوضيح وجود فرق بين العقل والتفكير أو بين التفكير وأداة التفكير لا تخدم التفريق بل تؤكد على وجوب الخلط ، فمثلا لو سألتك : ما هو الميزان ؟ وما هي عملية التوزين ؟
فهل يمكن أن تبين أو أن تشرح ما هو الميزان من دون بيان عملية التوزين ؟ وهل يمكن أن تبين واقع عملية التوزين من دون أن تربط عملية التوزين بالميزان ؟ يعني هل يمكن أن تشرح عملية التوزين من دون أن تقول أن للميزان كفتان نضع في احداها وحدة الوزن وفي الكفة الأخرى المادة التي نريد أن نزنها. أليست كفتا الميزان ووحدة الوزن التي هي تابعة للميزان جزءا لا يتجزء من عملية التوزين ؟
وأيضا عملية المشي ، هل يمكن أن نعرف عملية المشي من دون أن ننص في التعريف على قدمي الانسان باعتبارهما أداتي المشي ؟ تعريف المشي هو : السير على القدمين . هل يصح التعريف من دون النص على القدمين كأن نقول هو : السير أو عملية السير ؟ وهل يمكن أن نعطي تعريفا للقدمين من دون أن ننص على دور القدمين في عملية المشي ؟
حتى في مثال العين أو الأذن او النطق لا يمكن في التعريف أن نفصل بين الأداة ووظيفتها لا حين نريد أن نعرف الأداة ولا حين نريد أن نعرف وظيفتها، فهل يصح أن نعرف البصر من دون أن نعرف العين ومن دون أن نبين كيف تتم الرؤيا من خلال العين أو أن نبين دور العين في عملية الرؤيا ؟ أي هل يمكن أن نشرح كيفية الابصار من دون أن نبين واقع العين من الناحية التشريحية ومن الناحية الفيزيولوجية ؟ بل هل يمكن أن تشرح أو ان تفهم من دون أن نربط بين العين وبين الدماغ ؟ وفي المقابل هل يمكن ان نعطي تعريفا صحيحا عن العين من دون أن يشتمل التعريف على وظيفة العين ، وعلى كيفية قيامها بها ؟ على أن مثال العين والأذن واللسان هو أوضح ما يكون على استحالة الفصل بين الأداة ووسيلتها وذلك لأن وظائف هذه الأعضاء الثلاثة هي خواص لها فلا يمكن احداث الفصل بين العضو وخاصيته.

وعليه فإن محاولة الفصل بين العملية والوسائل التي توجد بها خطأ محض، فوق أن من شأن الفصل أن يضلل عن حقيقة واقع العملية ، كما يضلل عن حقيقة واقع الوسائل التي تتم بها.

وحتى تتأكد من استحالة الفصل انظر الى جميع تعريفاتك سواء للعقل أو لعملية التفكير، تجد أنك لم تستطع الفصل بين العقل والتفكير ، فعندما عرفت العقل نصصت في التعريف على التفكير، وعندما عرفت التفكير نصصت على العقل، : فمثلا هذا النص : ( بعد هذا العرض نستطيع أن ندرك الفرق بين العقل والتفكير والفكر فأقول أن العقل هو تلك القدرة التي تجعلنا قادرين على التفكير والفهم .. وأما التفكير فهو العملية التي يجريها العقل للوصول لفهم معين .. وأما الفهم فهو النتيجة التي ندركها من خلال التفكير ) فمع أنك في معرض التفريق بين العقل والتفكير إلا أنك قد جعلت احدهما جزءا من تعريف الآخر . وهذا النص أيضا : ( العقل هو اداة التفكير الأولى ) جعلت التفكير جزءا من تعريف العقل أي داخلا فيه . وما يجب أن تلاحظه أن لفظة العقل تختلف عن لفظة التفكير من حيث الحروف التي تتكون منها ، فعندما تنص في التعريف على اللفظتين يظهر وجود فرق بينهما، فهذا الاختلاف هو مجرد اختلاف لفظي وليس اختلافا واقعيا، فلو وضعت مكان لفظة العقل الواقع الذي يدل عليه العقل، ووضعت مكان لفظة التفكير واقع عملية التفكير لاختفى الفرق نهائيا لأنك ستضطر الى الحديث عن شيء واحد أو عن أجزاء لا يمكن الفصل بينها. فالفصل بينهما هو ناحية لفظية فقط لا واقعية أي بالكلام تقول عقل وتفكير أما في الواقع فهما شيء واحد.

وحتى تتأكد أن الفصل ظاهري وليس حقيقي أستطيع أن أقول الآتي :
العقل هو أداة التفكير لكنه لا يتكون من أداة واحدة فقط وإنما يتكون من أربع أدوات هي : الدماغ والواقع والحواس والمعلومات السابقة ، وأما عملية التفكير التي يقوم بها العقل فهي : يتم نقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس، وفي الدماغ يوجد معلومات سابقة عن الواقع الذي تم نقله الى الدماغ، ومن عملية الربط بين الواقع والمعلومات السابقة بفعل خاصية الربط التي في الدماغ ندرك حقيقة الواقع أو نصدر الحكم عليه. فهنا يوجد أدوات وليس اداة واحدة ويوجد عملية تشترك في إيجاده جميع هذه الأدوات الأربعة، ولذلك تجد أن نص التعريف هو : ( نقل الواقع الى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع )، فالتعريف قد نص على الأدوات الأربعة وعلى عملها في نفس الوقت إذ لا يوجد فصل بين الأداة الداخلة في عملية التفكير وبين دورها في العملية. وهنا أنت أمام ثلاثة خيارات إما ان تقول بأن العقل ليس هو أية أداة من الأدوات الأربعة المذكورة فيجب أن تذكر لنا ما هي هذه الأداة، وإما أن تقر بأن هذه الأداة التي تتحدث عنها مذكورة في نص التعريف لكنك تختلف في اعتبار غيرها من الأدوات، فنحصر النقاش في هذه الحالة بالأداة التي ترى استثناؤها، وإما أن تقر بصحة التعريف كما هو.

أما قولك : ( كما أنك أيها الأخ العزيز تستطيع أن تلاحظ الفرق بين العقل والتفكير من خلال أنك لا تستطيع أن تستخدم كلمة العقل محل كلمة التفكير في عباراتك التي تنشئها فلو كان العقل والتفكير شيئا واحدا لأمكنك أن تستخدم كل كلمة منهما محل الأخرى فيؤديان نفس المعنى. من ذلك يتضح أن العقل والتفكير شيئان مختلفان ).
فإن كلمات : العقل، التفكير، العملية العقلية، العملية التفكيرية ، مصطلحات لها نفس المعنى ، وفي الجملة الواحدة يمكن ان تحل أية كلمة من هذه الكلمات الأربعة محل الأخرى ، وهي جميها تستعمل بمعنى : ( نقل الواقع الى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع ). فيمكن أن نقول العقل هو ( نقل الواقع ... ) كما يمكن أن نقول التفكير هو : ( نقال الواقع .. ) وهكذا، وأيضا كلمة " يعقل " تستعمل بنفس معنى كلمة " يتفكر ".
قال تعالى : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون } { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون }.
وقال تعالى : { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون }.
ألم تؤد كلمتي يعقلون ويتفكرون نفس المعنى ؟


رابعا- التعريف أي تعريف يجب أن يكون واضحا ومفهما لحقيقة الشيء المعرف ، ومن مقتضيات التوضيح عدم استعمال الألفاظ العامة أي اللفاظ التي تنطبق على أكثر من شيء، فالقدرة أو المقدرة لفظ عام يندرج تحته كل قدرة ، فتعريف العقل بالقدرة لا يمكن الذهن من تصور مدلول العقل تصورا يعطي الصورة الصحيحة عن العقل، ولا يمكنه من ادراك واقعه، بل أن اللفظ لا يعطي أي معنى محدد للعقل، لأن القدرة على المشي قدرة ، والقدرة على السمع قدرة، والقدرة على الرؤيا قدرة، فكل واحدة تسمى قدرة مع اختلاف ماهية كل قدرة من هذه القدرات الثلاث . وأيضا كلمة أداة لفظ عام يندرج تحته كل أداة على الرغم من اختلاف ماهية الأدوات. ونفس الشيء ينطبق على كلمة ملكة لأنها تنطبق على كل ملكة. فالقول بأن العقل هو المقدرة على التفكير أو هو أداة التفكير أو هو الملكة التي حبانا اياها الله لنكون قادرين على ادراك الأمور ليس تعريفا أي ليس توضيحا لمعنى العقل فكأنك لم تضع أي تعريف للعقل. وهذا هو محل الانتقاد الذي وجهته لهذه التعبيرات الثلاثة لا أنك استعملت ثلاثة تعبيرات. ومن مقتضيات التوضيح أيضا عدم تكرار نفس اللفظة التي تحتاج الى تعريف أو بيان، وكذلك عدم اللجوء الى استعمال كلمات رديفة أو غامضة لا تصلح لتفسير ما سبقها. ونظرة بسيطة الى تعريفاتك تري مدى الغموض والابهام الذي يكتنفها، ففي تعقيبك قبل الأخير ورد هذا النص : ( بعد هذا العرض نستطيع أن ندرك الفرق بين العقل والتفكير والفكر فأقول أن العقل هو تلك القدرة التي تجعلنا قادرين على التفكير والفهم .. وأما التفكير فهو العملية التي يجريها العقل للوصول لفهم معين .. وأما الفهم فهو النتيجة التي ندركها من خلال التفكير ). هل يفهم أحد مما ورد في هذا النص ما هو العقل او ما هو التفكير او ما هو الفكر ؟ أليست هذه التعريفات عبارة عن دائرة مغلقة ؟!
الأسئلة المطروحة في الأساس هي : ما هو العقل ؟ ما هي عملية التفكير ؟ ما هو الفكر ؟ يعني يوجد ثلاثة مصطلحات مجهولة نريد أن نضع تعريفا لكل واحد منها ، فهل يصح أن نعرف أحدها بالنص على المصطلحين الآخرين مع أنهما مجهولين أيضا ؟
وفي تعقيبك الأخير ورد هذا النص : ( ولزيادة توضيح خطأ هذا الفهم وتوضيح ما أقصده أنا من تعريفي للعقل سأقوم بتشبيه العقل بأنه القدرة على المشي وتشبيه التفكير بأنه عملية المشي وتشبيه الإدراك أو الفهم بأنه الوصول إلى المكان الذي نريده. فنحن عندما تكون لدينا القدرة على المشي نقوم بعملية المشي وبواسطة هذا المشي نصل إلى المكان الذي نريده ونطبق ذلك على العقل فنقول عندما تكون لدينا القدرة على التفكير نقوم بالتفكير وبواسطة التفكير نصل للفهم وندرك الأمور ).
فأنت تقول: ( ونطبق ذلك على العقل فنقول عندما تكون لدينا القدرة على التفكير نقوم بالتفكير وبواسطة التفكير نصل للفهم وندرك الأمور ) فإلى جانب أنك استعملت لفظة القدرة وهي لفظ عام أي لا تدل على شيء محدد كما أسلفنا، يلاحظ أنك كررت كلمة التفكير ثلاثة مرات من دون أن توضح ما هو التفكير، فظل تعريف العقل غامضا، وظل تعريف التفكير غامضا، وظل تعريف الفكر غامضا، حتى كلمة فهم وادراك التي استعملتها بدل كلمة فكر هي نفسها تحتاج الى شرح وبيان .

حتى المثل الذي شبهت العقل والتفكير والفكر به سرت به على نفس المنوال: ( فنحن عندما تكون لدينا القدرة على المشي نقوم بعملية المشي وبواسطة هذا المشي نصل إلى المكان الذي نريده ). فهل يفهم أحد من هذا التعريف ما هو المشي، وما هي القدرة على المشي، وكيف نصل بواسطة هذا المشي الى المكان الذي نريد ؟

يتبع بإذن الله تعالى

صالح عبد الرحمن 28-08-2001 12:41 PM

تتمة التعقيب على ما ورد في رديك الأخيرين

مقدمة التعقيب :

طريقة التفكير أو كيف ينشأ الفكر عند الانسان ؟

" ينشأ الفكر عند الانسان من اقتران الواقع عنده بمعلومات عنه، ولا يمكن أن ينشأ من الواقع وحده مطلقا، ولا من المعلومات وحدها ولا بوجه من الوجوه .

ضع أمام طفل صغير أشياء لم يسبق أن عرف عنها شيئا، وانظر هل يحصل عنده فكر فإنك تجد أنه يحصل عنده من تكرار احساسه بالواقع وحده احساس بوجود الواقع، ويحصل عنده تمييز الأشياء بعضها عن بعض ، وتمييز ما يؤلم أو يلذ، أو يسر أو يزعج، أو يشبع أو غير ذلك، مما يتصل بالغرائز والحاجات العضوية، ولا يحصل عنده شيء أكثر من ذلك مهما اختلف الاحساس وتكرر وتنوع ، أي يحصل عنده احساس ويحصل من جراء هذا الاحساس وتكرره تمييز غريزي فقط. ولكنك إذا وضعت أمامه شيئا ثم قرنته بمعلومات عنه أدرك ما هو الشيء. فإن سألته عنه شرحه لك وبين لك ما هو. فيصبح عنده إدراك الشيء، أي يصبح عنده فكر. أما لو أعطيته معلومات فقط عن الشيء وكررت له هذه المعلومات فإنه يعاود سردها لك كما هي ، ولا يحصل عنده فكر ما لم يربطها بالواقع . والدليل الحسي على ذلك هو : ضع أمام طفل ميزانا وتفاحة ونارا ثم حفظه معلومات عن كل واحدة منها كأن تقول له : ميزان يزن ، تفاحة تؤكل، نار تحرق وكررها عليه عدة مرات ثم اسأله أين الميزان فيضع اصبعه على التفاحة أو النار، وقد يضع اصبعه على الميزان ولكنه إذا رآك لم ترض ذلك غير في الحال ، ووضع اصبعه على غيره، فهو قد تلقى معلومات وأعادها . ولكنه لم يحصل عنده فكر . أما إذا أريته الميزان وقلت له هذا ميزان يزن ، وبينت له عملية الوزن وكررت ذلك ، ثم أريته التفاحة أو النار وكررت ذلك فإنه يحصل عنده فكر. فإذا قلت له أين الميزان وضع اصبعه ودلك عليه. فلو رفضت ذلك وغالطته لا يرد عليك ويصر على الميزان الذي شرح له لانه أدركه ، فيصبح يعرفه لمجرد رؤيته أو لمجرد ذكر اسمه، لأنه صار له فكر عن هذه الأشياء باقتران الواقع مع المعلومات .
وعليه فالتفكير ينشأ عند الانسان من احساسه بالواقع مع تلقيه من غيره معلومات مع الاحساس. فيصبح عنده من ذلك فكر. هذا إن لم تكن عنده معلومات. أما إن كانت عنده معلومات فيكون قد سبق أن نشأ عنده فكر، فإذا أراد أن ينشأ فكرا جديدا عن شيء فإنه يحس بالواقع ثم يربطه احساسه بالواقع بمعلوماته السابقة فيصدر فكرا. فإن لم تكن عنده أي معلومات تتصل بهذا الشيء افتقر الى أن يتلقى معلومات عنه فيحصل من تلقيه للمعلومات مع احساسه بالواقع فكر جديد عنده. وعلى هذه الطريقة ينشأ الفكر.

وهذه النشأة هي طريقة التفكير الطبيعية عند الانسان وهي طريقة التفكير الأساسية . وهي التي توجد الفكر.
وعلى ذلك فطريقة التفكير من حيث هي تحتم اقتران الاحساس بالواقع مع المعلومات السابقة عنه، أو اقتران المعلومات السابقة مع الاحساس بالواقع فحينئذ يحصل الفكر، وفي غير ذلك لا يحصل فكر مطلقا. فلا بد من إعطاء المعلومات مع الاحساس بالواقع حين نريد أن ننشأ فكرا، ولا بد من إيجاد الاحساس بالواقع مع المعلومات حين اعطائها إذا أردنا أن يدرك الفكر الذي نعطيه. فلا بد من وجود واقع محسوس، ومن وجود معلومات حتى يوجد فكر . وهذه وحدها هي طريقة التفكير. ولذلك كان اعطاء المعلومات وحدها وربطها مع بعضها دون اقترانها بواقع محسوس لا يشكل فكرا عند الشخص ، بل يوجد عنده معلومات ولا يوجد أي فكر مهما شرحت له ما لم يدرك واقعها ويكون هذا الواقع محسوسا.

هذا من حيث ايجاد فكر عند المفكر الذي أوجد الفكر أو أنشأه ، وكذلك هو عند من يعطي الفكر لغيره، فإذا أريد اعطاء هذا الفكر للناس فانه يمكن أن ينقل إليهم بأي وسيلة من وسائل التعبير كاللغة مثلا. فإن اقترن عندهم بواقع سبق أن أحسوا به أو أحسوا بمثله أو قريب منه فإنه يكون قد انتقل إليهم فكرا، فصار مفهوما من مفاهيمهم كأنهم قد توصلوا إليه. وإن لم يقترن عندهم بواقع محسوس لديهم بأن فهموا معنى الجمل وشرحت لهم ولم يتصوروا أي واقع لها ، فإنه لا يكون قد انتقل إليهم فكرا ، وإنما نقل إليهم مجرد معلومات. فيصبحون بهذه المعلومات متعليمين ولا يصبحون مفكرين. لأنه لم ينقل إليهم فكرا ، بل نقلت جمل تتضمن معلومات. ومن هنا كان لا بد لمن ينقلون للناس أفكارا أن يقربوا ما فيها من معاني لأذهان الناس بمحاولة اقترانها بواقعها المحسوس لديهم ، أو بواقع قريب مما يحسونه، حتى يأخذوها منهم أفكارا. وان لم يفعلوا ذلك لا يكونون قد نقلوا للناس أفكارهم ، وانما نقلوا إليهم معلومات علموهم إياها .

ولهذا كان لا بد من الحرص على طريقة التفكير ، وذلك باقتران المعلومات بالواقع عند انشاء الفكر، أو بتقريب الأفكار من الواقع المحسوس عند من يأخذها حتى تقترن المعلومات بالواقع فتوجد فكرا" .

صالح عبد الرحمن 28-08-2001 12:50 PM

التعقيب على ردك قبل الأخير بتاريخ 19\8\2001 :


في تعقيبي بتاريخ 15\8\2001 ورد ما نصه :

(ولتوضيح واقع عملية التفكير وواقع الفكر بمعنى نتيجة عملية التفكير أضع المثال التالي :
لو سألتني ما هذا الشيء - ولنفترض أن هذا الشيء هو كتاب – فإن جوابي يكون : هذا كتاب. هنا يوجد أمران اولهما العملية التفكيرية او العقلية أو الادراكية التي حصلت وثانيهما هي نتيجة عملية التفكير أي الفكر.أما الأمر الأول والذي هو العملية التفكيرية التي حصلت فهي الآتي : انتقل واقع الكتاب الى دماغي بواسطة حاسة البصر على سبيل المثال، وفي دماغي يوجد قدر معين من المعلومات التي تفسر ما هو هذا الشيء الذي سألتني عنه، وبفعل خاصية الربط التي في الدماغ ترتبط صورة الواقع المطبوعة في الدماغ بالمعلومات السابقة التي تفسر الواقع فيحصل من عملية الربط بين الوقع والمعلومات التي تفسره ادراك ما هو هذا الشيء، أي ادراك أنه كتاب، وهذا الادراك لواقع الكتاب هو الحكم الذي يصدره الدماغ على الواقع ، فهذا الحكم هو نتيجة العملية التفكيرية. وكنتيجة لادراك الانسان لواقع الأشياء فإنه يتصرف تجاهها بحسب ادراكه لها ، فليس اطلاق لفظة كتاب هو المقصود بالفكر وإنما المقصود ادراك واقع الكتاب أي معرفة كنه هذا الشيء أو ماهيته. لذلك قد تتعدد اللغة التي يعبر بها عن الكتاب لكن يظل الادراك واحدا ، فسواء استعملت لفظة " كتاب " أو استعملت لفظة " a book " فإني أكون قد قد عبرت عن نفس الواقع المدرك في ذهني. فالفكر بمعنى نتيجة عملية التفكير هو الحكم على الواقع )


وفي ردك على ما ورد في هذا النص جاء ما يلي :


1- قلت : ( ولو تأملنا قولك هذا لوجدنا أن معظم فقراته تعاني من خلل معين أو أنها تحتاج إلى بيان أوضح وأدق .. ) وقلت : (( فأما قولك ( انتقل واقع الكتاب إلى دماغي ) فإني أتصور أنك لو قلت بدلا من ذلك ( انتقلت صورة الكتاب إلى دماغي ) لكان ذلك أدق وأسلم إذ أن واقع الشيء لا ينتقل إلى الدماغ بل تنعكس صورة منه فقط )).

والجواب على ذلك هو :
يقال نقل الواقع لا نقل صورة الواقع لأن الذي ينقل هو الاحساس بالواقع لا صورة الواقع كالصورة الفوتوغرافية. فهي صورة للواقع وهي الواقع احساسا . ولذا كان القول بأنها نقل الواقع ، أدق من القول بأنها نقل صورة الواقع، لأن الصورة المنقولة هي احساس بالواقع لا صورة عنه فقط. ألفت النظر الى اننا نتحدث هنا عن الدقة في التعبير لا عن الصواب أو الخطأ. فلو قلت تنتقل ( صورة الواقع ) فلا يكون التعبير خطأ، بل أني في مثال الكتاب الوارد في النص أعلاه استعملت هذا التعبير ، فقد ورد ما نصه: ( وبفعل خاصية الربط التي في الدماغ ترتبط صورة الواقع المطبوعة في الدماغ بالمعلومات السابقة التي تفسر الواقع فيحصل من عملية الربط بين الوقع والمعلومات التي تفسره ادراك ما هو هذا الشيء)، وأيضا ورد النص التالي في الكتاب الذي أخذت منه التعريف : ( والذي يحصل هو أن الواقع المحسوس تنتقل صورة عنه الى الدماغ بواسطة الحواس، وتكون هذه الصورة بحسب الحاسة التي نقلت الواقع. فإن كانت البصر، نقلت صورة الجسم، وان كانت السمع نقلت صورة صوته، وان كانت الشم نقلت صورة رائحته، وهكذا . فيرتسم الواقع كما نقل في الدماغ، أي حسب الصورة التي نقلت ). فالذي ينتقل هو " صورة الواقع " و " الواقع احساسا " فلو قلت نقل الواقع بالحس أو قلت صورة الواقع أو قلت صورة الواقع احساسا فإن التعبير لا مشكلة فيه. على أي حال ليس المقصود نقل ذات الواقع، بل يستحيل ان ينتقل ذات الواقع الى الدماغ.

وأما تعبير ( الانعكاس ) فخطأ وذلك لأن " الدماغ عضو كسائر الأعضاء لا يحصل منه أي انعكاس ، ولا يحصل عليه أي انعكاس. لأن الانعكاس هو تسليط الضوء على الشيء وارتداده عنه ، وتسليط الشيء على جسم فيه قابلية الانعكاس وارتداده عنه مع وجود الضوء. وذلك كتسليط مصباح كهربائي على جسم ثم ارتداد الضوء عن هذا الجسم فيرى الجسم ويرى الضوء. أو تسليط الشمس او القمر أو أي ضوء من أي جهة . وكتسليط جسم على مرآة مع وجود الضوء ، يرتد الضوء، وترتد صورة الجسم عن المرآة ، فيرى كما هو. إذ ترتد صورة الجسم كأنها ارتسمت خلف المرآة فرؤيت، وهي في حقيقتها لم ترتسم، وانما انعكست كما ينعكس الضوء على أي جسم. فهذا هو الانعكاس . وفي عملية الفكر لا يحصل أي انعكاس ، فلا يحصل فيها ولا أي انعكاس من الواقع على الدماغ . فالانعكاس من حيث هو لم يحصل. وأما العين التي يتوهم أنه يحصل بواسطتها انعكاس ، فلا يحصل فيها، ولا منها انعكاس، وانما الذي يحصل هو انكسار، فالشيء المرئي لا ترتد صورته للخارج، وإنما يحصل بتسلطه على العين انكسار، إذ تنكسر صورة الشيء المرئي وتستقر في الداخل فيرى الشيء، ولا يمكن أن ترتد إلى الخلف ، ولا يمكن أن يحصل انعكاسا منها ولا بها مطلقا ".

2- قلت : (( واما قولك : ( وفي دماغي يوجد قدر معين من المعلومات التي تفسر ما هو هذا الشيء الذي سألتني عنه ) فيفهم منه أن المعلومات السابقة هي التي تفسر الواقع وهذا ما لا يمكن قبوله فليس لأي معلومة أي قدرة على فعل أي شيء بل ينحصر دورها في أنها تكون أحد المرتكزات التي يعتمد عليها العقل في فهم الواقع فعندما يكون لدينا معلومتان على الشكل الآتي : المعلومة الأولى وهي أن ( أ ) أكبر من ( ب ) والمعلومة الثانية هي أن ( ب ) أكبر من ( ج ) ثم نسأل أيهما أكبر ( أ ) أو ( ج ) فإن العقل باستخدامه هاتين المعلومتين كمعطيات أولية أو كمقدمات أو كمعلومات سابقة يستطيع أن يدرك أيهما أكبر وبذلك تتكون لدينا معلومة ثالثة وهي أن ( أ ) أكبر من ( ج ) .. وهنا نلاحظ أننا بالعقل استطعنا أن نصل إلى المعلومة الثالثة وأدركنا العلاقة بين ( أ ) و ( ب ) وذلك بالاعتماد على المعلومتين السابقتين لا أن المعلومتين السابقتين هما اللتان توصلتا للمعلومة الثالثة أي أن المعلومتين السابقتين هما من العناصر التي اعتمد عليها العقل للوصول للمعلومة الثالثة لا أنهما بنفسهما قد توصلتا إلى المعلومة الثالثة. لذلك فإن قولك في هذه الفقرة بأن المعلومات السابقة هي التي تفسر الواقع قول خاطئ )).

وقلت أيضا : (( وأما قولك : ( وبفعل خاصية الربط التي في الدماغ ترتبط صورة الواقع المطبوعة في الدماغ بالمعلومات السابقة التي تفسر الواقع ) فإنك قد كررت قولك بأن المعلومة هي التي تقوم بالتفسير ولا أدري هل للمعلومات أي عقل أو إحساس أو أي قدرة تمكنها من تقديم أي نوع من التفاسير ؟ )).

وأما التوضيح فهو الآتي:
المعلومات السابقة تستخدم في تفسير الواقع أي ان الواقع يفسر بواسطتها، فلا بد من وجود معلومات سابقة عن الواقع حتى نتمكن بواسطتها من ادراكه، ونص التعريف كما هو عند منتجه هو الآتي: ( نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع معلومات سابقة يفسر بواسطتها هذا الواقع ) ، فالواقع يفسر بواسطة المعلومات السابقة بمعنى أن المعلومات المتعلقة بالواقع تستخدم في تفسيره، فلا بد من أن توجد معلومات سابقة عن الواقع في الدماغ ، فحين تقترن المعلومات السابقة بالواقع يدرك الانسان حقيقة الواقع، وبدون هذه المعلومات لا يمكن ادراك الواقع، هذا هو المقصود وليس المقصود أن المعلومات السابقة هي التي تقوم بتفسير الواقع أو أن المعلومات عقل يدرك ويفسر. فحتى يوجد الفكر وحتى يحصل التفكير لا بد من وجود معلومات سابقة ولو أولية عن الواقع الذي يراد التفكير فيه. أما بدون أية معلومات فلا يمكن التفكير، فلا يوجد الفكر.
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى، صحيح ان الانسان يستطيع ان يتوصل من معلومة مع معلومة الى معلومة ثانية أو حتى من معلومة واحدة الى معلومة ثانية أو أكثر، لكن بشرط ان يكون واقع هذه المعلومات السابقة مدركا في ذهن الشخص، أي بشرط ان تكون المعلومة فكرا لا مجرد ألفاظ يكررها. فإذا كانت مجرد ألفاظ يكررها فإنه لا يستطيع ان يتوصل منها إلى أية معلومة اخرى أي لا يستطيع ان ينشأ منها فكرا. وهذا ما تم شرحه تفصيليا في مقدمة هذا التعقيب.


3- قلت : ( كما أننا من خلال هذه العبارة نفهم أنك تعتبر وجود معلومات سابقة شرطا لابد منه كي تتم عملية الفهم وهنا أتساءل ما هي المعلومات التي ينبغي أن تتوفر في الدماغ لكي ندرك أن النقيضان لا يجتمعان ؟ بل لو كان وجود المعلومات السابقة شرطا لما أمكننا معرفة أي شيء لأننا قد خرجنا من أمهاتنا وليس لدينا أي معلومة فكيف أمكننا أن ندرك تلك الأمور التي أدركناها في بداية طفولتنا ولم يكن لدينا أي معلومات سابقة ؟ كما أن اشتراط وجود معلومات سابقة كي نستطيع أن نفهم يعني أننا لا نستطيع أن ندرك أي شيء جديد لا يرتبط بالمعلومات التي في حوزتنا. والحال أننا قادرين على تعلم ونفهم أموراً كثيرة غير متعلقة بأي معلومة سابقة. فمثلا نستطيع أن نتعلم لغة جديدة حتى لو لم يكن لدينا أي معرفة سابقة بها ) .

نعم المعلومات السابقة شرط في التفكير، حتى لو كانت معلومات أولية تساعد في فهم الواقع او تفسيره، فمثلا لو سألت أحدهم : هل يجتمع النقيضان ؟ فلا يمكن له أن يدرك الجواب إذا لم تكن عنده معلومات سابقة عن النقيض ، أي عن الشيء ونقيضه، ومعلومات عن الاجتماع، وعن عدم الاجتماع ، وعن الامتناع. فهذه معلومات سابقة لا بد من توفرها حتى يدرك الجواب بأن النقيضين لا يجتمعان. وأما أننا خرجنا من بطون امهاتنا لا نعلم شيئا فهذا صحيح لكن ما ليس بصحيح هو قولك: ( كيف أمكننا أن ندرك تلك الأمور التي أدركناها في بداية طفولتنا ولم يكن لدينا أي معلومات سابقة) إذ أننا لو لم نحصل على المعلومات عن الأشياء التي حولنا لما تمكنا من التفكير فيها، وبالتالي لعجزنا عن ادراكها، والمثال الموجود في بداية هذا التعقيب يوضح ذلك اتم توضيح، فلو لم يحصل الطفل من ذويه على معلومات مقترنة بالأشياء التي يقع عليها حسه لما أمكن له أن يدرك حقيقة هذه الأشياء أي لما أمكن له أن ينشأ فكرا. وسيدنا آدم عليه السلام لم يكن له ليفكر أو يدرك ماهية الأشياء التي في الكون لولا أن الله سبحانه وتعالى أعطاه معلومات عن كل شيء، قال تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها }. فلا بد من توفر معلومات ولو أولية عن الواقع الذي يراد التفكير فيه، ومن ربط هذه المعلومات بالواقع بواسطة قوة الربط الموجودة في الدماغ يدرك الواقع أي ينتج الفكر، وهذا الفكر الجديد هو نفسه يصبح معلومة جديدة تستخدم في تفسير وقائع جديدة وهكذا .

وأما قولك : ( والحال أننا قادرين على تعلم ونفهم أموراً كثيرة غير متعلقة بأي معلومة سابقة. فمثلا نستطيع أن نتعلم لغة جديدة حتى لو لم يكن لدينا أي معرفة سابقة بها ) ، فإن عملية تعلم اللغة هي عملية أخذ المعلومات عن اللغة التي يراد تعلمها مقترنة بواقع اللغة، سواء اكان هذا بالنسبة لتعليم الطفل لغته الأم أم بالنسبة لمن يريد أن يتعلم لغات أخرى. فتعلم اللغة يبدأ بتعلم الأحرف وكيفية لفظها من خلال اطلاق الكلمات على الأشياء، فكلمة بابا أو ماما مثلا وهي الكلمات الأولى التي يبدا الطفل بتعلمها عن طريق أبويه، فمن خلال ترديده لهاتين الكلمتين يتعلم نطق الأحرف، ونطق الكلمة، ومعناها الذي تدل عليه. فالطفل يأخذ الكلمة مقترنة بالمعلومة عنها. وفي المدرسة تتم عملية تعليم اللغة بحسب أصولها وقواعدها. وهي عملية تتكون من اعطاء المعلومات مقرونة بواقعها. فيعطى معلومات عن الأحرف ، وعن كيفية لفظها وكيفية كتابتها، وكيف تكوين الكلمة منها، وعن الكلمة وأقسامها، وعن الجملة وأقسامها، وعن قواعد اللغة من نحو وصرف... إلخ، فهذه كلها معلومات تعطى للطالب مقترنة بالواقع، فمثلا حرف الألف، يعطى له لفظا وكتابة ومكان خروجه ، وهكذا . ونفس الشيء بالنسبة للشخص الذي يريد أن يتعلم لغة غير لغته ، فإنه يأخذ المعلومات عن اللغة الجديدة مقترنة بواقعها، إلى جانب أنه يستخدم معلوماته السابقة عن اللغة بوصفها لغة، كالمعلومات المتعلقة بالحروف والكلمات والهجاء وتركيب الجمل والقواعد.


4- قلت : ( وهنا لابد أن نفرق بين إدراكنا القانون أو القاعدة وبين تطبيقاتنا لتلك القاعدة فمثلا إدراكنا لاستحالة أن يطالبنا الله بالصوم والإفطار في يوم واحد يعتبر تطبيقا للقانون العقلي الذي يقرر استحالة اجتماع النقيضين فلو قلنا لأي إنسان عاقل عليك أن تصوم غدا نهارا وعليك أيضا أن تفطر غدا نهارا فإنه سيدرك أن ذلك مستحيل وسيظل مدركا لهذه الاستحالة حتى لو فشل في التعبير عنها .. كذلك لو قلنا لطفل يدرس في الصف الأول الابتدائي عليك أن تذهب غداً إلى المدرسة ولكن عليك أن لا تذهب غداً إلى المدرسة فإنه سوف يدرك أن الجمع بين الذهاب وعدم الذهاب في آن واحد مستحيل لأنه يدرك بعقله أن الجمع بين النقيضين مستحيل حتى لو لم تسعفه قدراته على التعبير بأن يوضح لماذا الذهاب وعدم الذهاب لا يجتمعان وحتى لو لم يسمع بكلمة ( النقيض ) أو بعبارة ( النقيضان لا يجتمعان ). إذن فالقوانين العقلية الأولية نستطيع إدراكها تلقائيا ودون الاستعانة بأي معلومات سابقة ).

والجواب على ذلك هو أن هذا الطفل يوجد عنده معلومات أولية وهي المعلومات التي يتمكن بواسطتها من ادراك معنى الذهاب الى المدرسة، ومعنى عدم الذهاب الى المدرسة، فالطفل يوجد عنده معلومات أولية عن المدرسة بأنها مكان غير بيته الذي يقيم فيه ، وعن الذهاب بأنه انتقال جسمه من مكان الى مكان ، وعن جسمه أو عن شخصه بأن جسمه واحد، فإذا انتقل الى المدرسة فإنه لا يكون في البيت بل يكون في المدرسة، وإذا لم ينتقل فإنه يبقى في بيته ولا يكون في المدرسة، فيدرك من ذلك كله أن القيام بتنفيذ الأمرين معا وفي وقت واحد مستحيل .

وأيضا ادراك أن الصوم والافطار في نفس الوقت مستحيل يحتاج الى معلومات سابقة، والمعلومات السابقة هي المعلومات التي نفسر بواسطتها معنى الأمر بالصوم، ومعنى الأمر بالافطار، فالصوم معناه أن نمتنع عن الأكل والشرب ، فإذا أكلت او شربت أكون قد ارتكبت اثما بمعصية الله تعالى، وأما الافطار فمعناه أن نأكل ونشرب ، فإذا أكلت أو شربت لا شيء في ذلك، فليس هو معصية فلا اثم يترتب على فعله، بل هو تنفيذ لأمر الله تعالى لأن المطلوب هو أن آكل وأن أشرب. فالأكل يتعارض مع الامتناع عن الأكل ، والاثم يتعارض مع عدم الاثم، فإذا نفذت الأمر بالصوم وجب الامتناع عن الطعام والشراب، وإذا نفذت الأمر الثاني وجب القيام بفعل الأكل أو الشرب، فإذا نفذت الأمر الأول أكون قد خالفت الأمر الثاني، وإذا نفذت الأمر الثاني أكون قد خالفت الأمر الأول، فو لم يوجد معلومات عن الصوم وعن الافطار لما أمكن ان ندرك أن تنفيذ الأمرين معا وفي نفس الوقت مستحيل، والله سبحانه وتعالى لا يكلفنا بالمستحيل ، قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وهذه الآية أيضا معلومة نستعملها في ادراك أن الله سبحانه وتعالى لا يطلب منا الصيام وفي نفس الوقت يطلب منا الافطار.


5- قلت : ( ولزيادة توضيح ذلك نتساءل ماذا لو أنك قد نسيت تلك الكلمة والتي هي ( كتاب ) ولم تستطع الإجابة على ذلك السؤال فهل ذلك يعني أنك لم تعرف هذا الشيء الذي أمامك ؟ بالتأكيد أننا نستطيع أن نحتمل أنك استطعت التعرف على هذا الذي أمامك ولكنك نسيت تلك الكلمة التي تدل عليه وتعبر بها عن معرفتك ؟ والعكس أيضا صحيح فقد تجيب على السؤال وتقول أنه كتاب ولكنك لا تفهم معنى الكتاب مطلقا. وهذا يحصل في كثير من الأحيان فهناك من الأجهزة الطبية مثلا لا نعرف عنها أي شيء سوى أننا نعرف أسماءها فقط فهل ذلك يعتبر فهما ؟
من ذلك يتضح أن التعرف على الأشياء لا يعتبر فهما لذلك نقول أن هذا المثال غير صالح لتوضيح عملية الفهم .. أما الفهم الذي هو إدراك معنى الشيء ( لا التعرف عليه فقط ) فإن مثالك لم يأت به مطلقا وخير مثال للتفريق بين الاسترجاع والفهم هو أن نقارن بين من يحفظ القرآن وبين من يفهمه وأرى أن الفرق هنا واضح ).


كل ما ورد في تعقيبك في هذا النص واستخدمته مادة لنقض مثال الكتاب تجده موضحا في نفس النص الذي طرحت " بضم التاء " فيه مثال التفكير في الكتاب، ففي مداخلتي تلك بتاريخ 15\8\2001 والمذكورة في بداية هذا التعقيب ورد ما نصه :

( فيحصل من عملية الربط بين الوقع والمعلومات التي تفسره ادراك ما هو هذا الشيء، أي ادراك أنه كتاب، وهذا الادراك لواقع الكتاب هو الحكم الذي يصدره الدماغ على الواقع ، فهذا الحكم هو نتيجة العملية التفكيرية. وكنتيجة لادراك الانسان لواقع الأشياء فإنه يتصرف تجاهها بحسب ادراكه لها ، فليس اطلاق لفظة كتاب هو المقصود بالفكر وإنما المقصود ادراك واقع الكتاب أي معرفة كنه هذا الشيء أو ماهيته. لذلك قد تتعدد اللغة التي يعبر بها عن الكتاب لكن يظل الادراك واحدا ، فسواء استعملت لفظة " كتاب " أو استعملت لفظة " a book " فإني أكون قد قد عبرت عن نفس الواقع المدرك في ذهني. فالفكر بمعنى نتيجة عملية التفكير هو الحكم على الواقع ).
فالفكر ليس هو اللغة أو اللفظة التي نعبر بواسطتها عن الشيء وإنما هو الادراك أي ادراك ماهية الشيء : ( فليس اطلاق لفظة كتاب هو المقصود بالفكر وإنما المقصود ادراك واقع الكتاب أي معرفة كنه هذا الشيء أو ماهيته ). وأن اللغة هي فقط وسيلة للتعبير عن هذا الادراك : ( لذلك قد تتعدد اللغة التي يعبر بها عن الكتاب لكن يظل الادراك واحدا ، فسواء استعملت لفظة " كتاب " أو استعملت لفظة " a book " فإني أكون قد قد عبرت عن نفس الواقع المدرك في ذهني ).
وفي النقطة الخامسة من نفس المداخلة فرقت " بضم التاء " بين اللغة والفكر وتوسعت في ذلك.

وأما التفريق بين الحفظ والفهم، فقد سبق بيانه في المقدمة ( طريقة التفكير )، وهو أن المعلومة إذا أخذت مقترنة بواقعها فإنه يحصل منها فكر أي ادراك، وأما إذا لم تقترن بالواقع فتبقى معلومات ولا يحصل منها إدراك للواقع ولا تصور لمدلوله، فلا يفهم الواقع. فأن تحفظ آيات القرآن قطعا غير فهمها وفهم مدلولاتها في الواقع. لأن الحفظ لا يتطلب إدراك الواقع الذي تدل عليه الآية وأما الفهم والادراك فيتطلب تمكين الدارس لآيات القرآن من وضع اصبعه على الواقع الذي تدل عليه الآية. فالذي يحفظ يردد ألفاظا وجملا بغض النظر عن واقعها الذي تدل عليه ، وأما الفاهم فيدرك واقع الآية ويتصور مدلولها.

هذا بالنسبة لما ورد في ردك قبل الأخير ، فيبقى أن أعقب إن شاء الله تعالى على ما ورد في ردك الأخير ولم أعقب عليه.

صالح عبد الرحمن 30-08-2001 10:36 AM

التعقيب على ردك الأخير بتاريخ 22\8\2001 :

1- قلت : ( أما ما جاء في رابعا فإني أحتاج لمعرفة مرادك من كلمة ( واقع ) فهل تقصد منها ذات الشيء فإذا قلت واقع الكتاب فهل تقصد ذات الكتاب الموجود في الخارج أم أنك تقصد من هذه الكلمة معنى الشيء وليس ذاته ؟ فلو فرضنا أنك تقصد المعنى الأول فإن ذلك ممتنع فالكتاب ذاته لا ينتقل إلى الدماغ ولو فرضنا أنك تقصد المعنى الثاني فإن ذلك يتعارض مع قولك بأن العقل يتعامل مع الأمور الحسية لأن الذي انتقل إلى الدماغ لم يكن شيء حسي فالشيء الحسي بقي مكانه في الخارج وأما الذي انتقل إلى الدماغ فهو معنى ذلك الشيء الحسي وهذا معناه أن العقل لا يتعامل مع الشيء الحسي بل أنه يتعامل مع معناه .. لذلك فإننا حينما نسمع كلمة كتاب فإننا ندرك معناها مباشرة ومن ثم فإن التعامل يتم مع المعنى لا مع الكلمة ذاتها وما يؤكد هذا المعنى أننا لا نستطيع أن نتعامل مع تلك الكلمة لو أننا لم ندرك معناها فالتعامل إذن يتم مع المعنى وليس مع الكلمة .. ).

الواقع هو كل ما يقع عليه الحس، أي كل ما يحس، فكل ما يلمس بالبشرة وكل ما يشم بالأنف وكل ما يذاق طعمه باللسان وكل ما يرى بالعين وكل ما يسمع بالأذن يعتبر واقعا. فالكلام المسموع واقع، والنصوص المكتوبة واقع، وذوات الأشياء كالانسان والحيوان والشجر والحجر والقلم والورق واقع ، وافعال الانسان واقع، والحوادث التي تقع واقع، وصوت كل شيء كصوت الطائرة والحصان والشلال واقع، والروائح المختلفة كرائحة الورد والياسمين والشواء واقع، وكل ما يتذوقه الانسان كالحلو والمر والمالح واقع. فالمقصود بالواقع هو كل ما يقع عليه الحس، ولذلك يقال الواقع المحسوس، وشرط التفكير هو أن يكون التفكير تفكيرا في واقع محسوس.

وأما تعبير ( نقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس ) فليس الذي ينقل هو ذات الواقع، وانما هو الاحساس بالواقع. وتم التعبير ب " نقل الواقع " وليس بنقل صورة الواقع لأن الذي ينقل هو الاحساس بالواقع لا صورة كالصورة الفوتوغرافية. فهي صورة للواقع وهو الواقع احساسا. ولذا كان القول بأنها نقل الواقع ، أدق من القول بأنها نقل صورة الواقع، لأن الصورة المنقولة هي احساس بالواقع لا صورة عنه فقط. فالذي يحصل هو أن الواقع المحسوس تنتقل صورة عنه الى الدماغ بواسطة الحواس، وتكون هذه الصورة بحسب الحاسة التي نقلت الواقع. فإن كانت البصر، نقلت صورة الجسم، وان كانت السمع نقلت صورة صوته، وان كانت الشم نقلت صورة رائحته، وهكذا . فيرتسم الواقع كما نقل في الدماغ، أي حسب الصورة التي نقلت. فهذا الذي ينقل ليس هو ذات الشيء، وإنما الذي ينتقل هو صورة الواقع وهو الواقع احساسا.

وفي مثال ( الكتاب ) الوارد في تعقيبي بتاريخ 15\8\2001 استعملت " بضم التاء " تعبير ( صورة الواقع المطبوعة في الدماغ )، فقد ورد ما نصه : ( وبفعل خاصية الربط التي في الدماغ ترتبط صورة الواقع المطبوعة في الدماغ بالمعلومات السابقة التي تفسر الواقع فيحصل من عملية الربط بين الوقع والمعلومات التي تفسره ادراك ما هو هذا الشيء، أي ادراك أنه كتاب)، فهذا النص لا يدع مجالا للشك بأن ليس المقصود نقل ذات الواقع إلى الدماغ .

وأيضا ليس المقصود نقل معنى الواقع، لأن الحس بالواقع غير معناه، بل لا يرد موضوع المعنى هنا مطلقا، فأنت عندما تحس بالبرد مثلا فإن الذي ينتقل إلى دماغك هو احساسك بالبرد وليس معنى البرد، والمسألة هنا ليس السؤال عن معنى البرد وإنما هو احساسك بالبرد، وكذلك عندما يقع بصرك على كتاب معين فإن الذي ينتقل الى دماغك هو صورة الكتاب احساسا لا معنى الكتاب ، والسؤال المطروح في المثال هو ما هو هذا الشيء ؟ أي ما هي حقيقته أو ما هي ماهيته أو كنهه، وليس السؤال ما هو معنى كلمة الكتاب . فقد ورد في التعقيب المذكور ما نصه : ( ولتوضيح واقع عملية التفكير وواقع الفكر بمعنى نتيجة عملية التفكير أضع المثال التالي : لو سألتني ما هذا الشيء - ولنفترض أن هذا الشيء هو كتاب – فإن جوابي يكون : هذا كتاب). وفي ردك قبل الأخير قلت ( فأما قولك ( انتقل واقع الكتاب إلى دماغي ) فإني أتصور أنك لو قلت بدلا من ذلك ( انتقلت صورة الكتاب إلى دماغي ) لكان ذلك أدق وأسلم إذ أن واقع الشيء لا ينتقل إلى الدماغ بل تنعكس صورة منه فقط )، فأنت هنا تقول أن الذي ينتقل هو صورة الكتاب، وصورة الكتاب ليست هي ذات الكتاب ولا هي معنى الكتاب.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المفترض أن كل ما ورد في تعقيبك المذكور أعلاه انما هو رد على ما ورد في النقطة الرابعة في تعقيبي بتاريخ 15\8\2001 ، وحتى يدرك أنك لم ترد على ما ورد فيها، لا بد من عرض ما جاء فيها بالنص :
( رابعا- على الرغم من غموض تعريفاتك وعلى الرغم من الخطأ الذي وقعت فيه إلا أن التعريفات التي أوردتها في تعقيبك تشترط أيضا توفر العناصر الأربعة حتى توجد العملية التفكيرية، فقولك ( فالعقل هو الملكة التي حبانا الله إياها لنكون قادرين على إدراك الأمور المنطقية ) اقرار بشرط وجود الحواس والواقع لأن المنطق يشترط انتهاء كل قضية من قضاياه الى الحس. وأما قولك ( فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير ) ففيه اقرار صريح بشرط وجود الدماغ ، وفيه اقرار ضمني بشرط وجود الواقع والحواس وكذلك المعلومات السابقة . أما الواقع فإنه إذا لم يكن هذا الذي يتم نقله إلى الدماغ هو الواقع فماذا يكون ؟ وإذا لم يكن الواقع هو ما نريد التفكير فيه واصدار الحكم عليه فبماذا سنفكر ، وعلى ماذا سنصدر الحكم ؟ وإذا لم تكن الحواس هي واسطة نقل الواقع إلى الدماغ فما هي هذه الواسطة ؟ وأيضا إذا لم تكن وحدة القياس أو وحدة التوزين هي المعلومات السابقة التي تفسر الواقع فماذا تكون ؟ فالواقع هو الذي يتم نقله الى الدماغ بواسطة الحواس ويجري التفكير فيه بربطه بالمعلومات السابقة التي تفسره فيصدر الدماغ حكمه عليه ).
فتعقيبي الوارد في النقطة الرابعة يناقش تعريفك أنت للعقل وللتفكير، فكان المفروض أن توضح دلالة كل كلمة من الكلمات الواردة في تعريفك أنت لا أن تناقش أو أن تقتصر على مناقشة دلالة الكلمات الواردة في تعريفي، فالمفروض أن توضح تعريفك، فتعريفك للتفكير نص على وجود شيء يتم نقله الى الدماغ وهذا الشيء هو الذي يتم وزنه ويصدر الحكم عليه ، فما هو هذا الشيء ؟ أي ماذا تقصد بقولك (ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه) ؟ وأيضا تعريفك ينص على وجود عملية نقل أي جعلت عملية النقل جزءا من التعريف ، لكنك أبقيتها مجهولة فما هي ؟ ومن أين يتم نقل هذا الشيء الى الدماغ ؟ وأيضا ما هي وحدة الوزن ؟ فكان المفروض أن تجيب على هذه الأسئلة المتعلقة بتعريفك لا أن تنقل النقاش الى مثال الكتاب.


2- قلت : ( ثم لابد وأن تلاحظ أن العقل يتعامل مع المعنى لا مع الشيء حتى لو كانت الوسيلة التي نقلت معنى الشيء إلى العقل هي وسيلة حسية فإن ذلك لا يغير في الأمر شيء ) ، قولك هذا حجة عليك ، لأن المعنى الذي يقع عليه الحس هو واقع محسوس، وأنت تقول أن المعنى قد تم نقله بحاسة من الحواس، فالحس قد وقع عليه بالفعل وتم نقله الى الدماغ بواسطة الحواس، فالشرط الذي يجب أن يتوفر للتفكير وهو الواقع المحسوس قد تحقق وجوده، فلا يصلح كل ما قلته هنا لنقض شرط الواقع المحسوس كشرط لعملية التفكير .


3- وأما قولك : ( كما وأننا كثيرا ما ندرك الأمور غير الحسية بواسطة إدراكنا لأمور حسية ومن المفروض أن هذا لا يجعلنا نعتقد بأن إدراكنا قد وقع على شيء حسي فالشيء الحسي في هذه الحالة لا يعدو عن كونه وسيلة لأن ندرك شيئا غير حسي ومثال على ذلك لو أن أحدا أخبرنا بشيء معين وبواسطة بعض القرائن الحسية أدركنا أنه كان كاذبا كما لو أننا رأيناه في مكان آخر في نفس الوقت الذي ذكره لنا في كلامه فإن إدراكنا لكذبه جاء بعد تفكير منطقي أجريناه على الدلالات التي أدركناها واستخلصناها من تلك القرائن الحسية... ).
فكل ما قلته هنا يؤكد صحة تعريف العملية التفكيرية ، لأنك تؤكد هنا على شرط الواقع المحسوس كشرط للتفكير، فأنت تقول ( ندرك الأمور غير الحسية بواسطة إدراكنا لأمور حسية ) فالشرط المطلوب حتى يتم التفكير هو التفكير في واقع محسوس، وادراك الكذب أتى من التفكير في أمور حسية أو من قرائن حسية، فكيف يدل هذا المثال على أن التفكير يمكن ان يحصل بدون وجود الواقع المحسوس ؟
هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن كل ادراك حسي له بالضرورة واقع محسوس، والكذب في مثالك له واقع محسوس، وواقع الكذب في مثالك هو مخالفة ما قاله هذا الشخص للواقع المشاهد، فالشخص قال أنه كان موجودا في مكان كذا، ولكنه شوهد في مكان آخر غير الذي قال، وهذا هو واقع الكذب الذي أدركناه، لأن الكذب هو عدم قول الحقيقة، وقد أدرك هذا الواقع من التناقض بين قوله ومكان وجوده الفعلي . فالكذب هو الحكم الذي أصدرناه على قوله، أو هو إدراك لواقع قوله من أنه مخالف للحقيقة. فأين انعدام شرط الواقع المحسوس في هذا المثال ؟!

وأما مثال المقالة ، فلا يصلح أيضا كمثال لنقض شرط الواقع المحسوس ، وذلك لأن المقالة نفسها التي قرأتها هي واقع محسوس، والتفكير جرى في هذا الواقع المحسوس، وادراكك لمعانيها هو ادراك ناتج عن التفكير في واقع محسوس. ونفس الأمر ينطبق على الرسالة الشفوية. فلا يوجد في هذين المثالين أية دلالة على امكانية التفكير في غير الواقع المحسوس.

وأما قوله تعالى : { ولا تقل لهما أف ..} فإن تحريم ضرب الوالدين مفهوم من ألفاظ الآية وتراكيبها، وهو ما يسمى بمفهوم الموافقة، ودلالة المفهوم هي : " ما فهم من اللفظ في محل السكوت ، فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقا لمدلوله في محل النطق هو مفهوم الموافقة، فهي مفهومه من اللفظ ولكن في محل السكوت لا في محل النطق، أي هي المعنى المسكوت عنه اللازم للمعنى المنطوق به، فهي فهم من اللفظ " فالمفهوم الذي هو تحريم ضرب الوالدين فهم من اللفظ لكن ليس في محل النطق بل في محل السكوت. فإدراك تحريم ضرب الوالدين توصلنا اليه من التفكير في واقع محسوس هو ألفاظ الآية وتراكيبها، وانت نفسك قلت ( فمثلا الآية الكريمة ( ولا تقل لهما أف … ) نفهم منها أن الصراخ على الوالدين وضربهما شيء محرم )، فأنت تقول ( نفهم منها ) أي من الآية، وهذا يعني أن الفهم ناتج عن التفكير في واقع محسوس هو الآية، فلا يصلح هذا المثل لنقض شرط الواقع المحسوس.


4- قلت: ( والحال أن المعنى هو الأصل وهو سابق على الكلمة ولم توجد الكلمة إلا للتعبير عن المعنى فهي لا تعدو عن كونها وسيلة للتعبير عن المعنى وإيصاله للآخرين) .
هذا الكلام صحيح لكن هذا من حيث أصل وضع اللغة، فاللفظ وضع للتعبير عن المعنى الموجود في الذهن، وهذا ينطبق أيضا في حال أردت التكلم، ففي حال تريد أن تتكلم فإن المعنى يسبق اللفظ، لكن في حال سمعت كلاما، فإن الكلمة هنا تسبق المعنى أي تسمع الكلمة أولا ثم تفهم معناها أو تفكر في معناها . على أن مثال الكتاب لا يرد في مسألة المعنى لأن موضوعه هو واقع الكتاب لا معنى كلمة كتاب، فالمطلوب التفكير في واقع الكتاب لا في كلمة كتاب ولا في معنى هذه الكلمة، فليس السؤال عن معنى كلمة كتاب، أنت وحدك من أقحم موضوع المعاني في المثال. ولم أقل في أي تعقيب أن التفكير محصور في التفكير بالكلمات، لأن التفكير في الكلمات هو نوع من أنواع التفكير وليس هو كل التفكير ، فالتفكير يجري في كل ما يقع عليه الحس، فشرط التفكير أن يكون في واقع محسوس بغض النظر عن ماهية هذا الواقع. وما ورد في النقطة الخامسة هو بيان لهذا النوع من التفكير والذي هو التفكير في الكلمات وليس هو حصر للتفكير في واقع الكلمات. وقد تعرضت له لأنك أتيت بالمعاني كمثل على امكانية التفكير في غير الواقع المحسوس وضربت " بفتح التاء " العدم مثلا على هذه المعاني، فحتى أزيل هذه الشبهة فرقت " بضم التاء " بين الكلمة من حيث هي كلمة وبين معناها، ثم فرقت بين المعاني التي لها واقع يقع عليه الحس وبين المعاني التي لا يقع عليها الحس، وفرقت أيضا بين اللغة والفكر، من حيث أن اللغة تعبر عن المعاني الموجودة في الذهن بغض النظر عن ان كان لها واقع في الخارج أم لا، وأن الفكر هو حكم على الواقع، فلا يوجد فكر إذا لم يوجد له واقع. فإذا وجد لكلمة العدم معنى في اللغة وتصوره الذهن فإن ذلك لا يعني ان العدم يمكن التفكير فيه.
على أي حال إذا رجعت للنقطة الخامسة تجد بوضوح تام النص على أن اللغة قد وضعت للتعبير عن المعاني الموجودة في الذهن ، فالمعنى سابق للكلمة في أصل وضع اللغة. لكن المعنى لا يسبق الكلمة في حال سمعت كلاما من الآخرين، فإن الكلمة تأتي أولا ثم ينتقل الذهن الى معناها.

صالح عبد الرحمن 30-08-2001 10:39 AM

5- الاحساس والمشاعر :
المشاعر هي احساسات الغرائز، والمشاعر يطلق " بضم الياء " عليها أيضا الأحاسيس والعواطف ، لكن للتفريق بين المشاعر والحواس الخمسة نقتصر هنا على استعمال تعبير الاحساس للتعبير عن الحواس .
وأما تعقيبي على ما جاء في ردك فهو أن الأفكار ليست هي فقط التي تثير المشاعر، بل يثيرها الواقع المحسوس أيضا. أما الواقع المحسوس المثير للمشاعر، فكمثل عليه أن رؤية المرأة الجميلة تثير الشعور الجنسي في الرجل بدون تدخل العقل أو التفكير ، أي أن الاثارة تحدث بمجرد مشاهدة الواقع المثير. وأما الفكر فإن الفكر هو تعبير عن واقع ، فكل فكر له واقع محسوس، فالفكر المثير للمشاعر هو الفكر المعبر عن واقع مثير للمشاعر، فمثلا التفكير في مخلوقات الله تعالى يثير في الانسان الشعور بالعجز والاحتياج الى الخالق المدبر، والتفكير في مواجهة أسد يثير الشعور بالخوف وهكذا . وعليه فالمشاعر لا تتحرك داخليا بل لا بد من وجود مثير خارجي حتى تتحرك، وهو اما يكون واقعا محسوسا أو فكرا من الأفكار المتعلقة بالواقع المحسوس. وجميع الأمثلة التي ضربتها لك على المعاني المحسوسة لها واقع محسوس هو الذي يثير في الانسان تلك المشاعر، سواء أكانت الاثارة ناتجة عن تأثير الواقع المحسوس مباشرة أم كانت ناتجة عن ادراك صلة الواقع بما يثير المشاعر. فمشاهدة أعمال القتل والابادة التي يقوم بها الكفار بحق المسلمين في مختلف أرجاء المعمورة يثير فينا الشعور بالحزن الممزوج بشعورنا بالظلم والقهر، وأيضا إدراكنا لسيطرة الكفار على بلادنا وثرواتنا ومقدساتنا وتحكمهم بطريقة عيشنا وأنظمة حياتنا يثير فينا الشعور بالمذلة والاهانة، بل يثير فينا أيضا الشعور بالخزي والعار من أنفسنا. فالواقع المحسوس لا بد من وجوده سواء تحركت المشاعر بتأثير مباشر من الوقائع والأحداث المؤلمة أم تحركت نتيجة لادراكنا لمدلولات هذه الوقائع والأحداث. ولهذا نجد أننا لم نحس بمشاعر العزة والكرامة لأننا لم نر ولم نسمع ما يحرك فينا هذه المشاعر منذ أمد بعيد . فلأن العزة والكرامة لا واقع لها في حياتنا لم نحس بها وبالتالي لم تتحرك فينا هذه المشاعر مطلقا. حتى في داخل بلادنا الاسلامية نحن محرومون من هذه المشاعر ، وعوضا عنها نشعر كل يوم بالظلم والقهر والذل لأن الوقائع التي نحسها في بلادنا مثيرة لمثل هذه المشاعر. فسواء أكان المثير لهذه المشاعر واقعا محسوسا أم كان فكرا من الأفكار المتعلقة بالواقع المحسوس، فإن ذلك لا ينفي وجود الواقع المحسوس.
ومثال الأسد الذي ضربته أنت يعتبر دليلا على ذلك، فقد قلت : ( فليست العين مسؤولة عن الشعور بالخوف لو رأينا أسدا يحاول الاقتراب منا وإنما هي مسؤولة فقط عن الرؤية أما الخوف فيأتي نتيجة إدراكنا للخطر الذي يمثله هذا المشهد ). فحتى لو كان المثير لمشاعر الخوف هو الادراك، فإن هذا النوع من الادراك يسمى الادراك الحسي أي الادراك الناتج عن الحس مباشرة، وهذا ما عبرت عنه بقولك : ( أما الخوف فيأتي نتيجة إدراكنا للخطر الذي يمثله هذا المشهد ). فهذا المثل لا يصلح لنقض شرط الواقع المحسوس كشرط لعملية التفكير، والواقع المحسوس في مثالك هو الأسد .
بقي أن اذكر أن المجنون يخاف ، وأن الحيوان يخاف ، مع أن كلا من المجنون والحيوان لا عقل له، فالشعور بالخوف عند المجنون أو عند الحيوان لم ينتج عن عملية تفكير أو عن ادراك عقلي لما يخيف، بل هو تمييز غريزي ناتج عن وجود مثير خارجي للشعور الغريزي بالخوف. فالواقع المثير ينتقل بواسطة الحواس الى الدماغ، وبدون عملية تفكير يتحرك الشعور بالخوف. والذي يؤكد على أن الادراك العقلي ليس هو فقط المثير للمشاعر ، تجد أن شعورك بالخوف يتحرك بمجرد سماعك المفاجىء لصوت عال. فحتى قبل ان تدرك حقيقته تشعر بالخوف.
وما يجب ادراكه أيضا أنه لا يوجد حاسة خاصة بما يثير الغرائز ، فكما يمكن أن تشعر بالخوف من مشاهدة شيء مخيف، يمكن ان تشعر بالخوف من سماع صوت مخيف، فالمهم هو نقل الواقع المخيف الى الدماغ بغض النظر عن الحاسة التي قامت بنقله. فالواقع المثير للشعور بالاهانة على سبيل المثال قد ينقل بواسطة حاسة البصر، كما يمكن أن ينقل بواسطة حاسة السمع ، بل قد ينقل بحاسة اللمس .


5- قلت :
( وأما عبارتك ( كما لم تبين واسطة النقل ما هي ، فالشيء المنقول لم تأت على ذكره، وواسطة النقل لم تأت على ذكرها ، مع أن الشيء المنقول إلى الدماغ وكذلك واسطة نقله جزء لا يتجزأ من عملية التفكير " التوزين " ) فأنا أستغربها أيضا فما دخل واسطة النقل بعملية التفكير ولماذا هي جزء من منها .. فما دخل الواسطة التي نقلت الأشياء المراد وزنها بعملية الوزن ؟ وما الفرق بين أن تسألني شفويا فتكون الأذن هي الواسطة وبين أن تسألني كتابة فتكون العين هي الواسطة ؟ ما دخل هذا في التفكير؟ ).
تعريف العملية التفكيرية بأنه : ( نقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع ) لم ينص على حاسة بعينها بل ورد " بواسطة الحواس " فلم أقصد بانكاري عدم قيامك ببيان واسطة النقل أن تحدد حاسة معينة، بل المطلوب أن تحدد كونها الحواس، أي أن تنص بشكل واضح في التعريف على أن واسطة النقل هي الحواس. وأما ضرورة النص في التعريف على واسطة النقل فذلك لأن عملية التفكير لا يمكن أن تحصل بدون أن ينقل الواقع المحسوس إلى الدماغ، فكانت واسطة النقل شرط في حصول عملية التفكير، والتعريف هو وصف واقع عملية التفكير أي بيان لشروطها أو بيان للعناصر التي تدخل في إيجادها، فلكون واسطة النقل شرط لحصول التفكير فإن التعريف لا يكون كاملا بدون النص عليها. حتى أنت لم تجعل التعريف خاليا من النص على عملية نقل الشيء الذي تريد التفكير فيه واصدار الحكم عليه إلى الدماغ، لكن ما لم تفعله هو أنك لم تذكر بالنص ما هي واسطة النقل، ومطالبتي لك ببيانها حتى أثبت لك أن الحواس شرط لحصول عملية التفكير لأنه لا يوجد واسطة نقل بين الدماغ وبين الواقع غير الحواس. وعلى أي حال تعريفك تضمن النص على جميع شروط عملية التفكير سوى أنك استعملت ألفاظا غامضة، ولو قمت بتوضيحها لخرجت بنفس تعريف التفكير المذكور . ولذلك أطلب منك مرة أخرى ان توضح أو بعبارة أدق أن تجيب على أسألتي المتعلقة بتعريفك .


6- الأعداد :
في أحد ردودك قلت أن العقل يدرك أن الأعداد لا نهاية لها، وذلك حتى تنقض شرط الواقع المحسوس كشرط في عملية التفكير.
وقد رددت عليك بما يلي : ( وأما قولك ان العقل يدرك أن الأعداد لا نهاية لها ، فمن المعلوم بداهة أن كل ما سوى الله تعالى محدود، الأعداد وغير الأعداد، والقول بأن الأعداد لانهائية مصطلح رياضي وليس هو وصفا حقيقيا، فمثلا العدد بين رقمين هو عدد لا نهائي مع أنه محدود لأنه يقع بين رقمين . فعدم قدرتنا على عد الأعداد لا يعني أن لا نهاية لها. ومن المسلمات العقلية أن ما له بداية له نهاية. ومن المسلمات العقلية أيضا أن مجموع المحدودات محدود. وأيضا الأعداد ليست شيئا قائما بذاته ، بمعنى أن العدد يقترن بأمور وأشياء فتقول مثلا عدد السكان كذا أو عدد الطلاب كذا أو عدد أكياس الطحين كذا، وكل ما يقترن به العدد محدود فلا يوجد شيء عدده غير محدود لأن كل شيء ما سوى الله تعالى محدود.
وهنا أود لفت النظر بأن الحكم على الأعداد بأنها لانهائية - بغض النظر عن انه خطأ - هو حكم على واقع محسوس هو الأعداد ، أي حكمنا على الأعداد التي يقع عليها حسنا بأن لا نهاية لها ، فالتفكير الذي حصل هو تفكير في واقع محسوس، والحكم الذي صدر هو حكم على واقع محسوس ، فليس هو تفكيرا في الأعداد التي لم يصل اليها الحس ولا الحكم صدر على ما لم يحس منها ).

وفي رد الأخير ورد ما نصه : ( وأما قولك أن الأعداد ليست شيئا قائما بذاته فهذا خلاف الواقع نعم لو قلت أن الأعداد ليست شيئا ماديا فإن كلامك يكون صحيحا أما أن تنفي وجودها فهذا نفي لشيء موجود ونتعامل معه بشكل مستمر والأعداد عندما لا تكون مقترنة بأي شيء تسمى بـ ( الأعداد المجردة ) وينبغي أن نخلط بين العدد والمعدود.
وأما قولك ( فمن المعلوم بداهة أن كل ما سوى الله تعالى محدود، الأعداد وغير الأعداد ) فهو قول لم أستطع رده وفي نفس الوقت أجد نفسي لا أستطيع أن أتصور وجود نهاية للأعداد إذ أنني أفترض أن باستطاعتنا زيادة أي عدد بغض النظر عن معرفتنا له أو عدمها لذلك فأنا محتاج للبحث في هذا التعارض والسؤال عنه. ولكن في نفس الوقت أجدك قد أقررت بوجود الأعداد اللانهائية وذلك في عبارتك ( العدد بين رقمين هو عدد لانهائي مع أنه محدود لأنه يقع بين رقمين ) وأنت هنا جمعت بين اللانهائي وبين المحدود في نفس الوقت. فإن كان اللفظان بنفس المعنى فهذا تناقض وإن كانا مختلفين بحيث من الممكن أن يكون الشيء محدودا وفي نفس الوقت لانهائيا فإن اعتراضك على قولي بأن الأعداد لانهاية لها في غير محله وخصوصا وأن اعتراضك على قولي جاء معتمدا على عبارتك ( أن ما سوى الله فهو محدود ) أي أنك عارضت كلمة ( لانهائي ) بكلمة ( غير محدود ) وهذا معناه أنك اعتبرت كلمة ( لانهائي ) مرادفة لكلمة ( لامحدود ) وهذا ما جعلك تقع في تناقض صريح حينما تقول ( العدد بين رقمين هو عدد لانهائي مع أنه محدود لأنه يقع بين رقمين ) لأن من خلال اعتبارك أن كلمة ( لانهائي ) مرادفة لكلمة ( لامحدود ) فإننا نستطيع أن نقرأ عبارتك كالآتي : ( العدد بين رقمين هو عدد لانهائي مع أنه نهائي لأنه يقع بين رقمين ) وهذا هو عين التناقض ) .

وبناء على ما ورد في ردك أعيد ما ورد في تعقيبي المذكور على النحو الآتي :

أولا- الحكم على الأعداد بأنها لانهائية - بغض النظر عن انه خطأ - هو حكم على واقع محسوس هو الأعداد ، أي حكمنا على الأعداد التي يقع عليها حسنا بأن لا نهاية لها ، فالتفكير الذي حصل هو تفكير في واقع محسوس، والحكم الذي صدر هو حكم على واقع محسوس ، فليس هو تفكيرا في الأعداد التي لم يصل اليها الحس ولا الحكم صدر على ما لم يحس منها. فمن هذه الناحية لا يصلح مثالك على أن التفكير ممكن ان يحصل في غير الواقع المحسوس. لأن التفكير جرى في واقع محسوس وهو الأعداد التي وقع الحس عليها. وأنت لم ترد على ما ورد في هذه النقطة.

ثانيا – كل ما سوى الله تعالى محدود، فالأعداد محدودة سواء أكانت مجردة أم كانت مقترنة بغيرها، فإذا كان تعبير ( الأعداد لا نهاية لها ) يقصد به أن الأعداد غير محدودة ، فهذا القول مردود ولا يؤخذ به بغض النظر عن مصدره، ولست " بفتح التاء " بحاجة لأن تستفتي احدا بذلك. والدليل على ان الأعداد محدودة هو أن مجموع المحدودات محدود ، فكل رقم من هذه الأعداد محدود، والرقم الذي يأتي بعد الرقم الذي وصلنا اليه هو أيضا رقم محدود وهكذا ، فأنت تضيف محدود الى محدود، ومجموع المحدودات محدود بداهة. وأيضا الأعداد لها بداية ، ولنقل الرقم صفر هو بدايتها ، وما له بداية له نهاية قطعا، فالأعداد محدودة من هذه الجهة أيضا. على أن إدراكنا أن الأعداد مخلوقة يحتم أن ندرك أنها محدودة.

ثالثا- ورد في تعقيبي السابق ( والقول بأن الأعداد لانهائية مصطلح رياضي وليس هو وصفا حقيقيا، فمثلا العدد بين رقمين هو عدد لا نهائي مع أنه محدود لأنه يقع بين رقمين )، قلت هذا القول لافتراضي انك قد تظن بأن معنى ( لا نهاية لها ) أنها غير محدودة، فوضحت لك أن هذا مصطلح رياضي وليس وصفا حقيقيا أي لا يقصدون به عدم محدودية الأعداد، وقد بينت لك الدليل على أنهم لا يقصدون بالمصطلح عدم محدودية الأعداد ، والدليل هو أنهم يقولون ان العدد بين رقمين لا نهائي مع أنه محدود لأنه يقع بين رقمين. فلا يوجد فيما قلت أي تعارض، وكوني وصفت الأعداد بأنها لا نهائية مع وصفها بأنها محدودة هي القرينة على أن وصفها بأنها لا نهائية ليس معناه أنها غير محدودة. وقد كان ظني في محله لأنك في ردك الأخير عليّ قلت : (( وأما قولك ( فمن المعلوم بداهة أن كل ما سوى الله تعالى محدود، الأعداد وغير الأعداد ) فهو قول لم أستطع رده وفي نفس الوقت أجد نفسي لا أستطيع أن أتصور وجود نهاية للأعداد إذ أنني أفترض أن باستطاعتنا زيادة أي عدد بغض النظر عن معرفتنا له أو عدمها لذلك فأنا محتاج للبحث في هذا التعارض والسؤال عنه )). فلولا أنك تعتبر أن الأعداد غير محدودة وأن تعبير ( الأعداد لا نهاية لها ) معناه أنها غير محدودة لما قلت أنك محتاج للبحث في هذا التعارض والسؤال عنه.

رابعا- قولك ( وفي نفس الوقت أجد نفسي لا أستطيع أن أتصور وجود نهاية للأعداد ) حجة عليك لأنه إذا لم يكن باستطاعتك تصور أمرا متعلقا بشيء محدود ، فكيف يمكن لعقلك أن يتصور أمرا متعلقا بغير المحدود وهو الله سبحانه وتعالى ؟!
خامسا- قولي : ( الأعداد ليست شيئا قائما بذاته... ) أتراجع عن الاستدلال به، ويظل الاستدلال بما سواه أي بما هو مبين أعلاه.


7- قلت :
(( وأما قولك ( أثر الخالق جزء من وجوده ) فأرى أن الجملة غير صحيحة بسبب بسيط وهو أن الوجود لا يتجزأ. ولو أنك قلت (أثر الخالق دليل على وجوده ) لكان ذلك أقرب إلى الصواب لأن هذه الموجودات وهذا الكون هي آثار تدل على وجود خالق لها مع ملاحظة أن الأثر لا يدل دائما على وجود صاحب الأثر فقد يزول صاحب الأثر ويبقى أثره قائما بمعنى أن الأثر يدل بالضرورة على وجود صاحب له في لحظة حدوثه ولكن لا يدل على وجوده حاليا وإلى الأبد )).

ما ورد في هذا النص هو رد على ما ورد في ردي عليك الموجود في هذا النص :
(( وأما قولك أن العقل ( يدرك ضرورة أن يكون هناك خالق لكل مخلوق )، فإن تركيب الجملة غير دقيق لأن مفهومها لا يمنع من تعدد الخالق، والصواب أن يقال " خالق لكل المخلوقات " فالمخلوقات تدل على وجود الخالق، أو وجود الخالق مدرك من وجود المخلوقات. على أي حال المثال لا يدل على حصول التفكير في غير الواقع المحسوس، لأن التفكير في وجود الخالق إنما يكون من خلال التفكير في مخلوقاته، فالتفكير في الكون والانسان والحياة يوصل الى ادراك وجود الخالق. والكون والانسان والحياة واقع يقع عليه الحس. ومن جهة أخرى فإن المخلوق هو أثر للخالق، وأثر الخالق جزء من وجوده، فالتفكير في المخلوق هو تفكير في وجود الله تعالى لا في ذاته ، فوجوده تعالى مدرك بالحس من ادراك مخلوقاته. فالواقع الذي انتقل الى الدماغ بواسطة الحواس هو المخلوق أي اثر الخالق عز وجل وليس ذاته جل شأنه، والتفكير جرى بهذا المخلوق أي بأثر الخالق لا بذاته، أي في وجوده سبحانه وتعالى لا في ذاته، ونتيجة التفكير هي صدور الحكم على المخلوق بانه مخلوق، فكان هذا هو الدليل على وجود الخالق ) ).
لا أريد أن أقف عند مناقشة صحة أو عدم صحة عبارة ( أثر الخالق جزء من وجوده ) لأن وجود هذه العبارة من عدمها لا يؤثر في وجه الاستدلال عليك، ولأن معناها هو نفس المعنى الذي اقترحته، وبإمكانك أن تشطبها بالكامل وأن تضع التعبير الذي اقترحته، فيكون النص سواء بشطب العبارة بالكامل أو بوضع التعبير الذي اقترحته بدلا عنها هو الحجة على خطأ استدلالك بأن كون العقل ( يدرك ضرورة أن يكون هناك خالق لكل مخلوق ) يعتبر دليلا على امكانية التفكير في غير الواقع المحسوس.
وهذا هو النص بعد التعديل : ( المثال لا يدل على حصول التفكير في غير الواقع المحسوس، لأن التفكير في وجود الخالق إنما يكون من خلال التفكير في مخلوقاته، فالتفكير في الكون والانسان والحياة يوصل الى ادراك وجود الخالق. والكون والانسان والحياة واقع يقع عليه الحس. ومن جهة أخرى فإن المخلوق هو أثر للخالق، وأثر الخالق دليل على وجوده ، فالتفكير في المخلوق هو تفكير في وجود الله تعالى لا في ذاته ، فوجوده تعالى مدرك بالحس من ادراك مخلوقاته. فالواقع الذي انتقل الى الدماغ بواسطة الحواس هو المخلوق أي اثر الخالق عز وجل وليس ذاته جل شأنه، والتفكير جرى بهذا المخلوق أي بأثر الخالق لا بذاته، أي في وجوده سبحانه وتعالى لا في ذاته، ونتيجة التفكير هي صدور الحكم على المخلوق بانه مخلوق، فكان هذا هو الدليل على وجود الخالق ).

وأما قولك : (مع ملاحظة أن الأثر لا يدل دائما على وجود صاحب الأثر فقد يزول صاحب الأثر ويبقى أثره قائما بمعنى أن الأثر يدل بالضرورة على وجود صاحب له في لحظة حدوثه ولكن لا يدل على وجوده حاليا وإلى الأبد ) فنحن متفقان على أن ما ورد في هذا النص لا ينطبق على الخالق عز وجل. لأن الدليل العقلي أثبت وجود الأزلي واجب الوجود، والأزلي لا بداية ولا نهاية له، وإلا لم يكن خالقا.


8- قلت :
(( جاء في تعقيبك أن الجملة الأولى في تعريفي للعقل يفهم منها أن ( التفكير هو عملية ادراك الأمور المنطقية ) وأنا في الحقيقة أستغرب منك هذا الفهم فلو رجعنا للجملة الأولى من تعريفي للعقل نجدها كالآتي : ( فالعقل هو الملكة التي حبانا الله إياها لنكون قادرين على إدراك الأمور المنطقية ) ولا أعرف كيف فهمت من هذه الجملة ذلك الفهم فالجملة واضحة وصريحة وكل من يقرأها يفهم منها أنني قد حاولت توضيح معنى العقل على أنه قدرة معينة قد زودنا الله بها لنكون قادرين على فهم الأمور وإذا كان هناك من مؤاخذة على هذا التعريف فهي المؤاخذة التي تفضلت بها وهي أنني حصرت عمل العقل في الأمور المنطقية وسوف أحاول الاطلاع على هذه النقطة وفهمها أما فهمك الذي ذكرته فهو أجنبي تماما عن تلك الجملة ولا يمت لها بأي صلة )) .
أنت تقول : ( فالعقل هو الملكة التي حبانا الله إياها لنكون قادرين على إدراك الأمور المنطقية ) وفي نفس الفقرة قلت : ( فالعقل إذن هو أداة التفكير الأولى ) ، من هذين النصين فهمت أن التفكير كما تراه أنت هو إدراك الأمور المنطقية، ذلك أنك لم تقل لنكون قادرين على التفكير بل قلت لنكون قادرين على ادراك الأمور المنطقية، مما يعني أنك ساويت بين التفكير وادراك الأمور المنطقية ، فلو قلت : ( لنكون قادرين على التفكير لأجل إدراك الأمور المنطقية ) لما وقعت " بضم التاء " في خطأ الفهم. وفي تعقيبك قبل الأخير قلت : ( أن العقل هو تلك القدرة التي تجعلنا قادرين على التفكير والفهم )، فأنت هنا تقول لنكون قادرين على التفكير ، وهناك قلت لنكون قادرين على ادراك الأمور المنطقية.
على أي حال خطأ الفهم سواء مني أو بسبب غموض التعريف ليس مشكلة. كما أني لم أقتصر على مناقشة تعريفك للتفكير على هذا التعريف بل ناقشت أيضا التعريف الآخر الوارد في هذا النص : ( فالعقل إذن ميزان يوزن به ما يتم نقله للدماغ لإصدار الحكم عليه وهذه العملية هي ما يعرف بالتفكير ) وهذا التعريف موجود في نفس الفقرة الوارد فيه أن العقل هو الملكة....

صالح عبد الرحمن 30-08-2001 10:41 AM

9- الاستغناء عن المنطق :

قلت : ( وأما ما جاء في ثالثا حيث أخذت علي أنني حصرت العقل أو التفكير بإدراك الأمور المنطقية فقط مع أن المنطق هو أسلوب من أساليب العقل فإن قولك هذا جميل وقد استفدت منه الكثير وجزاك الله خيرا على هذا التنبيه غير أنني لم أفهم عبارتك أن الإنسان يمكنه الاستغناء عن المنطق وأرجو لو توضح ذلك ولا بأس بالاستعانة ببعض الأمثلة ).

يمكن الاستغناء عن المنطق لأنه أسلوب في التفكير وليس طريقة، لأن الأسلوب هو كيفية غير دائمة، وأما الطريقة فهي كيفية دائمة . والفرق بين الأسلوب المنطقي وبين طريقة التفكير العقلية هو أن المنطق عبارة عن بناء فكر على فكر بحيث ينتهي الى الحس والوصول عن طريق هذا البناء الى نتيجة معينة، وأما طريقة التفكير العقلية فليس فيها أية عملية بناء ، وانما يجري التفكير مباشرة في الواقع الذي نريد أن نصدر الحكم عليه، وذلك بنقل الواقع الى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة نستطيع بواسطتها تفسير الواقع . فبدل اللجوء إلى عملية البناء لأجل الوصول الى إدراك الواقع ، نفكر بالواقع مباشرة ونصدر الحكم عليه بما عندنا من معلومات سابقة عنه. والتفكير المباشر أقرب الى الصواب من التفكير غير المباشر. لأن بناء النتيجة على المقدمات المنطقية يجعل صحة النتيجة متوقفا على صحة هذه المقدمات، وصحتها لا يمكن دائما التأكد منها لقابلية احتوائها على مغالطات. ولأجل توضيح خطورة المنطق وفساده وكيف أننا يمكن أن نستغني عنه أنقل إليك هذا النص :


" ان المنطق وكل ما يتعلق به فيه قابلية الخداع وقابلية التضليل ، وهو اكثر ما يضر في التشريع والسياسة. ذلك أن المنطق تبنى نتائجه على مقدمات ، وكذب هذه المقدمات أو صدقها ليس من السهل إدراكه في جميع الأحوال ، لذلك قد يكون الكذب خفيا ، أو يكون صدقها مبنيا على معلومات خاطئة، فيؤدي ذلك الى نتائج خاطئة . على ان المنطق يمكن الوصول به الى نتائج متناقضة مثل : القرآن كلام الله ، وكلام الله قديم ، فالقرآن قديم. وعكسها القرآن كلام الله في اللغة العربية ، واللغة العربية مخلوقة ، فالقرآن مخلوق. وقد يؤدي الى نتائج مضللة مثل : المسلمون متأخرون ، وكل متأخر منحط، فالمسلمون منحطون . وهكذا تجد أن أخطار المنطق أخطار فظيعة، فقد تؤدي الى الخطأ ، وقد تؤدي الى الضلال ، بل قد تؤدي الى الدمار. والشعوب والأمم التي تعلقت بالمنطق حال المنطق بينها وبين رفعة الحياة. لذلك فإن المنطق وان كان أسلوبا من أسليب الطريقة العقلية ، ولكنه أسلوب عقيم ، بل أسلوب مضر ، وخطره خطر مدمر . ولذلك لا بد من نبذه، بل لا بد من الحذر منه، والحيلولة بينه وبين الناس.

والأسلوب المنطقي وان كان أسلوبا من أساليب الطريقة العقلية ولكنه أسلوب معقد ، وأسلوب فيه قابلية الخداع والتضليل وقد يوصل الى عكس النتائج التي يراد ادراكها . وفوق ذلك فانه – سواء احتاج إلى تعلم علم المنطق أو كان منطقيا فطرة – لا يصل الى النتائج من الاحساس بالوقائع رأسا ، وانما ينتهي بالاحساس بالواقع، ولذلك يكاد يكون طريقة ثالثة في التفكير ، وبما ان التفكير ليس له الا طريقتان اثنتان ليس غير، فإن الأولى تجنب هذا الأسلوب والأسلم للوثوق بصحة النتائج أن نستعمل الطريقة العقلية المباشرة ، لأنها هي التي يضمن فيها صحة النتيجة .

ومهما يكن من أمر فإن الطريقة الطبيعية في التفكير، والطريقة التي يجب أن تكون هي الطريقة الأساسية، إنما هي الطريقة العقلية. وهي طريقة القرآن ، وبالتالي هي طريقة الاسلام . ونظرة عاجلة للقرآن تري أنه سلك الطريقة العقلية ، سواء في إقامة البرهان ، أو في بيان الأحكام. انظر الى القرآن تجده يقول في البرهان { فلينظر الانسان مم خلق } { أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت } { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون } { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ، إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب } { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } إلى غير ذلك من الآيات ، وكلها تأمر باستعمال الحس لنقل الواقع حتى يصل إلى النتيجة الصحيحة . وتجده يقول في الأحكام { حرمت عليكم أمهاتكم } { حرمت عليكم الميتة } { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } { وشاورهم في الأمر } { أوفوا بالعقود } { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } { أحل الله البيع وحرم الربا } { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } { حرض المؤمنين على القتال } { انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } إلى غير ذلك من الآيات ، وكلها تعطي أحكاما محسوسة لوقائع محسوسة ، وفهمها ، سواء للحكم أو للواقعة التي جاء بها الحكم ، إنما يأتي بالطريقة العقلية ، أي أن التفكير بها وبتطبيقها إنما يكون بالطريقة العقلية. وبالأسلوب المباشر لا بالأسلوب المنطقي . وما يتوهم فيه بأنه جاء على الأسلوب المنطقي ، من مثل قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فإنه جاء كذلك بالأسلوب المباشر ، فلم يأت بمقدمات ، بل جاء بطلب التفكير بنقل الاحساس مباشرة إلى الدماغ ، وليس عن طريق مقدمات مربوط بعضها ببعض .

وعلى ذلك فإن الطريقة العقلية وحدها هي التي يجب أن يسير عليها الناس ، وأن الأسلوب المباشر هو الأسلم للسير عليه . وذلك حتى يكون التفكير صحيحا ، وتكون نتيجة التفكير أقرب إلى الصواب فيما هو ظني ، وقاطعة بشكل جازم فيما هو قطعي . لأن المسألة كلها متعلقة بالتفكير . وهو أغلى ما لدى الانسان ، وأغلى شيء في الحياة ، وتتوقف عليه كيفية السير في الحياة . ولذلك لا بد من الحرص عليه بالحرص على طريقة التفكير . "

أسعد الأسعد 05-09-2001 03:28 PM

الأخ الكريم صالح عبد الرحمن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعلم أنني قد تأخرت فأرجو المعذرة فلقد انشغلت ببعض الأمور الملحة وسوف أواصل معك الحوار إنشاء الله تعالى ولك مني جزيل الشكر

أسعد الأسعد 09-09-2001 07:36 PM

الأخ الكريم صالح عبد الرحمن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد اطلعت على تعقيبك الأخير وقد لاحظت عليه بعض الملاحظات سوف أعرضها عليك مضافا إليها بعض الملاحظات على تعقيباتك السابقة وذلك على النحو الآتي :
أولا : فيما يخص تراجعي عن نقطة حصر التفكير في الأمور المنطقية عند تعريفي للعقل فإنني أود التأكيد هنا على أنني أعتبر أن التراجع عن أي فكرة أو رأي أو معتقد في حالة ثبوت خطأ أي من ذلك شيء عادي بالنسبة لي بل وضروري ولا أجد أي حرج في ذلك لأنني أطلب الحقيقة ولأنني أعتبر الإصرار على الخطأ خطأ أكبر منه وصفة مذمومة وتعصبا ليس وراءه إلا التخلف الفكري والانحراف الديني بل أنني لا أتردد في شكر من نبهني وأرشدني إلى الصواب.

ثانيا : بالرغم من ذلك كله لم يصدر مني ما يفيد أنني قد تخليت عن تلك النقطة وكل ما قلته أنني اعتبرت ملاحظتك جديرة بالاهتمام والبحث أي أنها محل تأمل لا أكثر. وقد شكرتك على هذه الملاحظة فأنا لا أعتبرك خصما بل أخا عزيزا ومحاورا تستحق الشكر كلما قدمت لي ملاحظة تستحق البحث حتى لو تبين لي بعد البحث خطأ ملاحظتك فإنك أيضا تستحق الشكر.

ثالثا : لو فرضنا أنني تخليت تماما عن تلك النقطة فليس لذلك علاقة بموضوع المشكلة والتي هي ( اختلافنا في اعتبار وجود الأمر المحسوس من شروط التفكير ) فالمنطق غير محصور في الأمور الحسية بل جميع القوانين المنطقية غير محسوسة وأرجو أن لا تخلط بين القانون وبين تطبيقاته فأنا أقصد القانون نفسه أي الفكرة التي يحملها القانون وليس الأمور التي ينطبق عليها فمثلا نستطيع القول أن كل من يستطيع أن يحمل خمسة كيلوجرامات يستطيع أن يحمل كيلوجرام واحد فهذا القول قول منطقي وهو ناتج عن إدراكنا لقانون منطقي ليس له وجود في الخارج وإنما الوجود لأمور ينطبق عليها هذا القانون إذن فلابد وأن نفرق بين القانون وبين تطبيقاته.وهنا لابد أن نشير إلى نقطة مهمة وهي أسبقية القانون بل وأسبقية إدراكنا لهذا القانون على التطبيقات الخارجية له أي أن رؤيتي للشخص حاملا خمسة كيلوجرامات واستنتاجي من ذلك قدرته على حمل كيلو واحد ناتج عن إدراكي المسبق لفكرة أن من يحمل وزنا معينا لابد وأنه يستطيع حمل وزن أخف منه ولو لا هذه الأسبقية لما استطعت أن أصل إلى تلك النتيجة .. إذن فالقوانين المنطقية تسبق تطبيقاها بعكس القوانين الطبيعية.

رابعا : عدم تعرضي للأمثلة التي تفضلت بها ليس هروبا كما ظننت بل بسبب اهتمامي بنقض أساس فكرتك فأنت تقول أن وجود الواقع المحسوس من شروط عملية التفكير ويستحيل أن تتم أي عملية تفكير دون هذا الواقع فكان علي أن أنقض هذه الاستحالة التي تقولها بمثال واحد على الأقل فمثال واحد كفيل بأن ينقض هذه الاستحالة وهذا مالا يختلف عليه أحد فلو أنك أتيت لي بمليون مثال كلهم يتطلبون الشروط التي ذكرتها ثم أتيت لك بمثال واحد لا يتطلب هذه الشروط فإنني أكون بذلك قد اخترقت تلك الاستحالة وأبطلتها وكل ما سيبقى لك هو القول بأن هناك أمورا لا نستطيع التفكير فيها إلا بوجود تلك الشروط ولكنك لن تستطيع تعميم ذلك على جميع عمليات التفكير . وبناء على ذلك فإنك تكون مطالبا بنقض كل مثال آتيك به وليس علي أن أنقض أي مثال تأتيني به لأنك أنت الذي يقول بالاستحالة ويجب عليك نقض أي مثال يخترق هذه الاستحالة وينقضها.

خامسا : لقد أخذت علي أنني أوليت اهتماما كبيرا في مسألة التفريق بين العقل والتفكير والفكر وفي الحقيقة فإني أرى أن التفريق بينهم ضروري وذلك لأن أساس حوارنا حاليا يدور حول هذه الأمور فإذا أصبحنا نخلط بينها أو أن معانيها غير واضحة فلن يكون الحوار مجديا.

سادسا : قد تفضلت بالقول بأن العقل ( أو التفكير ) ليس عضوا من أعضاء الجسم إذن فهو ليس شيء مادي نستطيع رؤيته وبالطبع لن نستطيع لمسه ولن نستطيع شمه ولن نستطيع تذوقه ولن نستطيع أن نسمعه أي أننا لن نستطيع أن نحس به بأي حاسة من حواسنا الخمس فهو إذن غير محسوس فإذا كان كذلك فكيف استطعت أن تضع له تعريفا مفصلا وتبين مكوناته وتضع إصبعك عليه ؟ ألا يتعارض ذلك مع قولك بأن الأمور غير المحسوسة لا يمكن التفكير فيها ولا يمكن معرفة كنهها ؟ وأنت هنا أمام أمرين : إما أن تقول بإمكانية التفكير في الأمور غير المحسوسة وإما أن تتراجع عن تعريفك وتقول بأنك لا تستطيع أن تضع له تعريفا ولا تستطيع أن تعرف محتواه وعناصره لأنه غير محسوس وكلا الأمرين ينتهيان بخطأ التعريف الذي أتيت به.

سابعا : قد تفضلت بالقول بأن العقل والذي هو التفكير فطري فإذا أضفنا هذا القول إلى قولك بأن العقل عملية تتكون من أربعة أشياء فمعنى ذلك أن كل واحد من هذه الأشياء الأربعة جزء من العقل أي جزء من التفكير وهذا يعني أن جميع هذه الأشياء الأربعة موجودة في الإنسان بشكل فطري فتكون النتيجة أن المعلومات السابقة موجودة في الإنسان بالفطرة وكذلك الواقع الذي يراد التفكير فيه يجب أن يكون موجودا في الإنسان بالفطرة لأنه جزء من العقل الموجود في الإنسان بالفطرة. وحيث لا يمكن قبول هذه النتائج فمعنى ذلك أن تعريفك للعقل والتفكير لا يمكن قبوله.

ثامنا : إذا اعتبرنا أن تلك الأمور الأربعة هي مكونات العقل الذي هو التفكير من وجهة نظرك فمعنى ذلك أن الدماغ جزء من العقل أي جزء من التفكير بينما نحن متفقان على أن العقل ليس من الأعضاء كما وينتج عن ذلك أيضا أن الواقع المحسوس جزء من العقل أي جزء من التفكير وينتج عن ذلك كله أن العقل ( التفكير ) يتكون من أجزاء موزعة هنا وهناك فبعضها لدى الإنسان والبعض الآخر موجود في الخارج وبعضها مادي وبعضها غير مادي . ومعنى ذلك أيضا أن كل الموجودات التي يمكن أن نحس بها ونفكر فيها هي جزء من عقلنا .. فهل من الممكن قبول هذه النتائج ؟ أليس في ذلك ما يقنعك بخطأ تعريفك للعقل والتفكير ؟

تاسعا : الاستعانة بذكر صفات الشيء أو وظائفه عند تعريفه لا يعني أنهم شيء واحد وإنما يتم ذكر الصفات أو الوظائف في التعريف بغرض بيان وشرح ذلك الشيء المراد تعريفه فنحن عندما نعرف العين ونذكر في التعريف الرؤية لا يعني أن العين والرؤية شيء واحد وكذلك فعندما نعرف العقل ونذكر في التعريف التفكير فهذا لا يعني أنهما شيء واحد .


عاشرا : سبق وأن قلت وأنت تتحدث عن ضرورة توافر الأشياء الأربعة : ( فلو نقص عنصر واحد من هذه العناصر الأربعة فإن العملية التفكيرية لا يمكن أن تتم ) وبما أنك تعتبر أن العقل هو نفسه العملية التفكيرية فمعنى ذلك ( من وجهة نظرك ) أن العقل لا يمكن أن يكون متواجداً لدينا في حالة نقص عنصر واحد من هذه العناصر ومعنى ذلك أننا في هذه الحالة نكون بلا عقل. وكذلك لو مر علينا وقت معين دون أن نقوم بأي عملية تفكيرية فإننا في ذلك الوقت نكون بلا عقل ( مجانين ) !

حادي عشر : نحن نعلم أن العقل شرط من شروط التكليف وهذا يدل على أن العقل هو القدرة على التفكير والفهم والتمييز فالشخص العاقل في نظر الشرع هو من يمتلك القدرة على التمييز فهو إذن قدرة وليس عملية إجرائية بدليل أننا نبقى مكلفين حتى دون أن نقوم بأي عملية تفكيرية.

ثاني عشر : في عبارتك : ( فهذا النص يتحدث عن العقل بمعنى عملية التفكير أي يتحدث عن شروط عملية التفكير ) قد جعلت شروط عملية التفكير هي نفسها عملية التفكير وهذا معناه أنك تساوي بين الشيء والشروط اللازمة لحصوله وتجعلهما شيئا واحدا. وأرى أن الفرق بين الشيء وشروط حصوله واضح.


ثالث عشر : لو سلمنا باستحالة الفصل بين الأداة وبين صفاتها أو بين الأداة وبين وظائفها فهذا لا يعني أن جميع تلك الأمور شيء واحد فاستحالة الفصل هنا ليست متعلقة بفصل معاني تلك الأمور عن بعضها وإنما هي متعلقة بفصل ذات الشيء عن صفاته أو عن الشروط التي ينبغي تواجدها لكي يتواجد ذلك الشيء . فمثلا لا يمكن فصل النار عن الحرارة ولا يمكن أن توجد النار إلا بتواجد شروط أو عناصر معينة ( أظن من جملتها الأكسجين ومادة قابلة للاشتعال ) ولكن هذا لا يعني أن النار هي الحرارة أو أن النار هي الأكسجين أو أن النار هي ذلك الشيء القابل للاشتعال بل يبقى لكل شيء معناه الخاص به وكذلك لا يمكن أن تتم عملية البيع دون أن تكون هناك بضاعة مباعة ودون أن يكون هناك بائع ومشتري فهل كل ذلك شيء واحد ؟ وكذلك فإننا لو سلمنا باستحالة الفصل بين العقل والتفكير والفكر فهذا لا يعني أنهم شيء واحد بل يبقى لكل منهم معناه الخاص. هذا وقد سبق وأن ذكرت لك أنك حينما تجعل العقل والتفكير شيئا واحدا تكون كمن يجعل الميزان وعملية الوزن شيئا واحدا مع أن الميزان شيء وعملية الوزن شيء آخر وهذا من الوضوح بحيث لا يمكن الاختلاف فيه ولو كانت الأداة والعملية التي تؤديها شيئا واحدا لكانت الأقدام والمشي شيئا واحدا ولكان اللسان والكلام شيئا واحدا وهكذا .. وهذا ما لا يقبل به أحد وليس هناك فرق في كون الأداة من الحواس أو من الجوامد أو أنها حسية أو غير حسية فالتفريق بين الأداة وبين العملية التي تؤديها ليس له علاقة بجنس الأداة .. فالأداة تبقى هي الأداة ويبقى معناها مختلفا عن معنى وظيفتها مهما كان جنس تلك الأداة.


رابع عشر : حينما أعرف العقل بأنه قدرة أو ملكة أو أداة فلا يعني أنني استخدمت ألفاظا عامة مبهمة حيث أنني أقوم بتخصيص تلك الكلمات بعد ذكرها مباشرة فأقول مثلا أن العقل ( هو القدرة ) ثم أقول بعد ذلك مباشرة : ( التي تجعلنا قادرين على التفكير ) وبذلك يكون الانتقال من العام إلى الخاص ومثال ذلك فنحن عندما نريد أن نعرف الحب أو الكره أو الغيرة أو الحقد فإننا عادة ما نستخدم في تعريفنا لأي منها كلمة ( شعور ) مع أن كلمة شعور كلمة عامة.ثم أن العقل بما أنه موجود لدى الإنسان بشكل غير مادي فلا نستطيع أن نضع له تعريفا كما لو نعرف شيئا ماديا فنصف مكوناته المادية فهو غير مادي وغير محسوس ولا يخرج عن كونه إحدى القدرات التي يمتلكها الإنسان وقد أدركنا وجودها في الإنسان من خلال دلائل معينة دلت على وجودها حيث نرى شخصا قادرا على التفكير الصحيح فنقول أن لديه عقل ونصفه بأنه عاقل ونرى آخر غير قادر فنقول لا عقل له.

خامس عشر : عندما قلت أن العقل أداة التفكير لم يكن ذلك قياسا على أداة السمع وأداة الإبصار وإنما ذكرت ذلك كأمثلة لتوضيح علاقة العقل بالتفكير حيث أن علاقة الأذن بالسمع واضحة وكذلك علاقة العين بالإبصار فأحببت أن أستغل ذلك الوضوح لبيان العلاقة بين العقل والتفكير.

من ذلك كله أرى أن تعريفك العقل بدا واضحا أنه خطأ كما بدا واضحا خطأ اعتبارك العقل والتفكير شيئا واحدا.
وللحديث بقية إنشاء الله تعالى.

[ 09-09-2001: المشاركة عدلت بواسطة: أسعد الأسعد ]

صالح عبد الرحمن 10-09-2001 06:59 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ الفاضل أسعد الأسعد
بانتظار أن تستكمل تعقيبك بإذن الله تعالى .
والله أسأل أن يهدينا إلى ما يحب ويرضى.


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.