أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   الخيمة الإسلامية (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=8)
-   -   الأربعون النووية ( بالفلاش ) مع الشرح .. (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=37866)

الوافـــــي 03-02-2004 05:42 PM

الأربعين النووية ( بالفلاش ) ..
 
هـــذا هو الفــــلاش ..



وهــذا هو الرابـــــط ..

تحياتي

:)

غــيــث 03-02-2004 06:48 PM

أخي الفاضل الوافي

تحية عطرة كعطر عطائك وطيب معدنك

وعيدك مبارك وكل عام وأنتم بخير

هدية قيّمة وليس لها رد سوى :

جزاك الله خيرآ وجعلها في موازين عملك

تحياتي

الوافـــــي 04-02-2004 05:09 PM

أخي الفاضل / غيث

جزاك الله خيراً على ما كتبت
وسأكمل الموضوع بإذن الله بإيراد شرح هذه الأحاديث تباعاً
نسأل الله التوفيق والعون من عنده

تحياتي

:)

muslima04 06-02-2004 01:07 PM

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده.


السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته،


أخي الفاضل،الكريم،الوافي،جزاك الله ألف خير وجعله في ميزان حسناتك يا رب،نحن معك بإذن الله ننتظر بفارغ الصبر التتمة.ربنا يبارك فيك يا رب.

والسلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.

الوافـــــي 06-02-2004 02:17 PM

الأخت الفاضلة/ muslima04

جزاك الله خيرا أختنا الكريمة
على جهودك الكبيرة التي تبذلينها في هذه الخيمة
وأسأله تعالى أن يجعلها في موازين حسناتك يوم تعرض الأعمال
وسأبدأ بإذن الله تعالى في إدراج شرح هذه الأحاديث مباشرة بعد هذا الرد
نسأل الله التوفيق والسداد والعون من عنده
إنه ولي ذلك والقادر عليه

تحياتي

:)



الوافـــــي 06-02-2004 02:23 PM

شرح الأربعين النووية

لمعالي الشيخ/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
وزير الشؤون الإسلامية و الأوقاف و الدعوة و الإرشاد
بالمملكة العربية السعوديةوذلك ضمن أحد الدورات العلمية
التي تقام بجامع شيخ للإسلام ابن تيميّة - رحمه الله -



مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لمجده، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يجعلني وإياكم ممن يتحرك لله، ويعمل لله، ويطلب العلم لله، ويتكلم ويعمل لله -جل جلاله- فـ ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) وما من شك أن ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) كما ثبت ذلك عن المصطفى- صلى الله عليه وسلم-.
وطلب العلم له أصوله، وله رتبه، فمن فاته طلب العلم على رتبه وأصوله، فإنه يحرم الوصول، وهذه مسألة كثيرًا ما نكررها رغبة في أن تقر في قلوب طلبة العلم ومحبي العلم، ألا وهي أن يطلب العلم شيئًا فشيئًا على مر الأيام والليالي، كما قال ذلك ابن شهاب الزهري -الإمام المعروف- إذ قال: "من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وإنما يطلب العلم على مر الأيام والليالي".
وهذا كما تدرس صغيرًا أصول الكتابة، أو أصول نطق الكلمات، فإنه لا بد أن يأخذه شيئًا فشيئًا، ثم إذا استمر على ذلك أحكم الكتابة، وأحكم النطق حتى تمكن من ذلك، والعلم كذلك، فالعلم منه صغار، ومنه كبار باعتبار الفهم كبار العمل.
وباعتبار كون العلم من الله -جل جلاله- وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس في العلم شيء سهل، كما قال مالك -رحمه الله تعالى- إذ قيل له: هذا من العلم السهل، قال: ليس في علم القرآن والسنة شيء سهل، وإنما كما قال الله -جل وعلا-: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} سورة المزمل .
فالعلم من أخذه على أنه ثقيل صعب أدركه، وأما من أخذ المسائل على أنها سهلة، وهذه سهلة، وهذه متصورة، وهذه مفهومة، ويمر عليها مرور السريع، فإن هذا يفوته شيء كثير.
فإذًا لا بد لنا في طلب العلم من تدرج فيه على أصوله، وعلى منهجية واضحة ،ولا بد لنا أن نأخذ العلم على أنه ليس فيه شيء سهل؛ بل كله ثقيل من حيث فهمه، ومن حيث تثبيته، ومن حيث استمراره مع طالب العلم، فهو ثقيل لا بد له من مواصلة ومتابعة، فالعلم ينسى إذا ترك، وإذا تواصل معه طالب العلم فإنه يبقى، وهذا يعظم التبعة على طالب العلم في ألا يتساهل في طلبه للعلم.
فلا يقولن قائل مثلا: هذا الكتاب سهل، وهذا المتن لم يشرح؛ لأنه سهل واضح، أحاديث معروفة، فإن هذا يؤتى من هذه الجهة، حيث استسهل الأصول وعقد العلم، وقد قال طائفة من أهل العلم: "العلم عقد وملح، فمن أحكم العقد سهل عليه العلم، ومن فاته حل العقد فاته العلم" وهذا إنما يكون بإحكام أصول العلوم.
وإذا ضبط طالب العلم المتون المعروفة في الحديث، وفي العلوم المختلفة، فإنه يكون مهيئًا للانتقال إلى درجات أعلى بفهم وتأسيس لما سبق؛ فلهذا أحض جميع الإخوة، وجميع طلاب العلم ممن يسمعون كلامي هذا أحضهم على أن يأخذوا العلم بحزم، وألا يأخذوه على أن هذه المسألة مفهومة، وهذه سهلة، وهذه واضحة؛ بل إنه يكرر الواضح ليزداد وضوحًا، ويكرر المعلوم ليزداد به علما وهكذا.
ونسأل الله -جل وعلا- أن يجعل هذا الشرح الذي نبتدئه هذه الليلة، أسأله -جل وعلا- أن يجعله شرحًا تامًّا مكملًا، وأن ينفع به الملقي والسامع، وأن يجعلنا فيه من المبتصرين، والذين يقولون بعلم لا برأي أو هوى.
ثم إن هذا الكتاب الذي سنعاني شرحه هو الأحاديث المختارة المعروفة بـالأربعين النووية جمعها العلامة يحيى بن شرف النووي، ويقال: النواوي أيضًا، وهو من علماء الشافعية البارزين، وممن شرح كتبًا في الحديث، وكتبًا في الفقه، وأيضًا في لغة الفقهاء، وغير ذلك من العلوم.
وأصل كتابه "الأربعون النووية" أن ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- جمع في مجلس من مجالس تدريسه للحديث، جمع الأحاديث الكلية التي يدور عليها علم الشريعة، فجعلها ستة وعشرين حديثًا، فنظر فيها العلامة النووي -رحمه الله- فزادها ستة عشر حديثًا، فصارت الأحاديث التي اختارها النووي ثنتين أو اثنين وأربعين حديثًا، فسميت بالأربعين النووية تجوزًا.
ثم زاد عليها الحافظ الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ثمانية أحاديث كلية أيضًا، وعليها مدار فهم بعض الشريعة، فصارت خمسين حديثًا، وهي التي شرحها في كتابه المسمى "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم".
وأصل هذه الأحاديث في اختيارها على أنها جوامع كلم تدور عليها أمور الدين، فمنها ما يتصل بالإخلاص، ومنها ما هو في بيان الإسلام وأركانه، والإيمان وأركانه، ومنها ما هو في بيان الحلال والحرام، ومنها ما هو في بيان الآداب العامة، ومنها ما هو في بيان بعض صفات الله -جل وعلا- وهكذا في موضوعات الشريعة جميعًا.
فهذه الأحاديث الأربعون، وما يزيد عليها أيضًا، فيها علم الدين كله، فما من مسألة من مسائل الدين إلا وهي موجودة في هذه الأحاديث من العقيدة، أو من الفقه، وهذا يتبين لمن طالع "الشرح العجاب" شرح ابن رجب -رحمه الله- على الأربعين النووية، وعلى الأحاديث التي زادها ثم شرحها.
فالعناية بها مهمة؛ لأن في فهمها فهم أصول الشريعة بعامة، وقواعد الدين، فإن منها الأحاديث التي تدور عليها الأحكام كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- مفصلاً.

.. يتبع ..

الوافـــــي 06-02-2004 02:25 PM

الحديث الأول

إنما الأعمال بالنيات

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردذبه البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما الذين هما أصح الكتب المصنفة.
هذا هو الحديث الأول؛ حديث عمر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) وهذا الحديث حديث عظيم حتى قال طائفة من السلف، ومن علماء الملة: ينبغي أن يكون هذا الحديث في أول كل كتاب من كتب العلم؛ ولهذا بدأ به البخاري -رحمه الله- صحيحه، فجعله أول حديث فيه حديث ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) بحسب اللفظ الذي أورده في أوله.
وهذا الحديث أصل من أصول الدين، وقد قال الإمام أحمد: ثلاثة أحاديث يدور عليها الإسلام:
حديث عمر: ( إنما الأعمال بالنيات ) .
وحديث عائشة: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
وحديث النعمان بن بشير: ( الحلال بين والحرام بين ) .
وهذا الكلام من إمام أهل السنة متين للغاية؛ ولذلك أن عمل المكلف دائر على امتثال الأمر، واجتناب النهي، وامتثال الأمر، واجتناب النهي هذا هو الحلال والحرام، وهناك بين الحلال والحرام مشبهات، وهو القسم الثالث.
وهذه الثلاث هي التي وردت في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ) وفي رواية: "مشبهات" والعمل لمن أراد أن يعمل، أو فعل الأمر واجتناب النهي لا بد أن يكون بنية حتى يكون صالحًا.
فرجع تصحيح ذلك العمل، وهو الإتيان بما فرض الله، أو الانتهاء عما حرم الله إلى وجود النية التي تجعل هذا العمل صالحًا مقبولًا، ثم إن ما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات، أو من المستحبات، وما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات، أو ما شرع من المستحبات، لا بد فيه من ميزان ظاهر حتى يصلح العمل، وهذا يحكمه حديث ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) كما في رواية مسلم للحديث.
فإذًا هذا الحديث؛ حديث الأعمال ( إنما الأعمال بالنيات ) يحتاج إليه في كل شيء؛ يحتاج إليه في امتثال الأوامر، وفي اجتناب النواهي، وفي ترك المشتبهات، وبهذا يعظم وقع هذا الحديث؛ لأن المرء المكلف في أي حالة يكون عليها ما بين أمر يأتيه؛ إما أمر إيجاب، أو استحباب، وما بين نهي ينتهي عنه؛ نهي تحريم، أو نهي كراهة، أو يكون الأمر مشتبهًا، فيتركه، وكل ذلك لا يكون صالحًا إلا بإرادة وجه الله -جل وعلا- به وهي النية.
قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إنما الأعمال بالنيات ) روي أيضًا، في الصحيح ( إنما العمل بالنية ) وروي ( إنما الأعمال بالنية ) بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، فإنه إذا أفرد العمل أو النية أريد بها الجنس، فتتفق رواية الإفراد مع رواية الجمع.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) هذا فيه حصر؛ لأن لفظ "إنما" من ألفاظ الحصر عند علماء المعاني، والحصر يقتضي أن تكون الأعمال محصورة في النيات، ولهذا نظر العلماء ما المقصود بقوله: ( إنما الأعمال بالنيات ) ؟ لأنه حصر الأعمال بالنيات، فقال طائفة من أهل العلم وهو القول الأول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إنما الأعمال بالنيات ) يعني: إنما الأعمال، وقوعها مقبولة، أو صحيحة بالنية.
و ( إنما لامرئ ما نوى ) يعني: وإنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه، فتكون الجملة الأولى متعلقة بصحة العمل، والجملة الثانية يراد بها الثواب على العمل ( إنما الأعمال بالنيات ) الباء هنا للسببية، يعني: إنما الأعمال تقبل، أو تقع صحيحة بسبب النية، فيكون تأصيلًا لقاعدة عامة.
قال: ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) اللام هذه لام الملكية، يعني: مثل التي جاءت في قوله -تعالى-: وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {39} سورة النجم وإنما لكل امرئ ما نوى ) يعني: من ثواب عمله ما نواه، هذا قول طائفة من أهل العلم.

.. يتبع ..

الوافـــــي 06-02-2004 02:26 PM

والقول الثاني
أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إنما الأعمال بالنيات ) هذا راجع إلى أن الباء سببية أيضًا، والمقصود بها سبب العمل لا سبب قبوله، قالوا: لأننا لا نحتاج مع هذا إلى تقدير، فقوله: ( إنما الأعمال بالنيات ) يعني: إنما الأعمال بسبب النيات، فما من عمل يعمله أحد إلا وله إرادة وقصد فيه وهي النية.
فمنشأ الأعمال؛ سواء كانت صالحة أو فاسدة، طاعة أو غير طاعة، إنما منشؤها إرادة القلب لهذا العمل، وإذا أراد القلب عملًا، وكانت القدرة على إنفاذه تامة، فإن العمل يقع فيكون قوله -عليه الصلاة والسلام- على هذا: ( إنما الأعمال بالنيات ) يعني: إنما الأعمال صدورها وحصولها بسبب نية من أصدرها، بسبب إرادة قلبه وقصده لهذا العمل.
( وإنما لكل امرئ ما نوى ) هذا فيه أن ما يحصل للمرء من عمله ما نواه نية صحيحة، يعني: إذا كانت النية صالحة صار ذلك العمل صالحًا، فصار له ذلك العمل.
والقول الأول أصح؛ وذلك لأن تقريب مبعث الأعمال، وأنها راجعة لعمل القلب، هذا ليس هو المراد بالحديث، كما هو ظاهر من سياقه، وإنما المراد اشتراط النية للعمل، وأن النية هي المصححة للعمل، وهذا فيه وضوح؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام- ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) بيان لما تطلبه الشريعة، لا لما هو موجود في الواقع.
فلهذا نقول: الراجح من التفسيرين أن قوله -عليه الصلاة والسلام- ( إنما الأعمال بالنيات ) يعني: إنما الأعمال صحة وقبولًا أو فسادًا بسبب النيات، وإنما لامرئ من عمله ثوابًا وأجرًا ما نواه.
إذا تقرر هذا فالأعمال ما هي؟
الأعمال جمع عمل، والمقصود به هنا ما يصدر عن المكلف، ويدخل فيه الأقوال فليس المقصود بالعمل قسيم القول، القول والعمل والاعتقاد قسيم القول والاعتقاد، وإنما الأعمال هنا كل ما يصدر عن المكلف من أقوال وأعمال، قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
فيدخل في قوله: ( إنما الأعمال بالنيات ) كل ما يتعلق بالإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول اللسان، وقول القلب وعمل القلب وعمل الجوارح، فقوله: ( إنما الأعمال بالنيات ) يدخل فيها جميع أنواع ما يصدر من المكلف.
طبعًا هذا العموم عموم مراد به إلى الخصوص؛ لأن العموم عند الأصوليين على ثلاثة أقسام: عام باق على عمومه، وعام دخله التخصيص، وعام مراد به إلى الخصوص، يعني: أن يكون اللفظ عامًا، ويراد به بعض الأفراد.
وهنا لا يدخل في الأعمال في قوله: ( إنما الأعمال بالنيات ) لا يدخل فيها الأعمال التي لا تشترط لها النية مثل أنواع التروك، وإرجاع المظالم، وأشباه ذلك، تطهير النجاسة، وأمثال ذلك، يعني: مما لا يشترط له النية؛ لأنه ترك ونحوه، والنية التي عليها مدار هذا الحديث، النية: قصد القلب وإرادته.
وإذا قلنا: النية قصد القلب وإرادته علقناها بالقلب، فالنية إذًا ليس محلها اللسان ولا الجوارح، وإنما محلها القلب نوى يعني: قصد بقلبه وأراد بقلبه هذا الشيء.
فالأعمال مشروطة بإرادة القلب وقصده، فأي إرادة وقصد هذه المقصود بها إرادة وجه الله -جل وعلا- بذلك؛ ولهذا في القرآن يأتي معنى النية بلفظ الإرادة والابتغاء وأشباه ذلك، كما في قوله: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {38} سورة الروم  ، وكما في قوله: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ {52}‏سورة الأنعام ، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً {28} سورة الكهف، مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ {20}سورة الشورى ، يريد يعني: ينوي يطلب ويقصد، هذه هي النية وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً {19} سورة الإسراء هذه النية.
أو لفظ الابتغاء كقوله -جل وعلا-: وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى {19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى {20}سورة الليل ، وكما في قوله -جل وعلا-: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً {114} سورة النساء .

.. يتبع ..

الوافـــــي 06-02-2004 02:28 PM

فإذًا في النصوص يكثر ورود النية بلفظ أولًا: الإرادة إرادة القلب، ثانيًا: بلفظ الابتغاء، أو بلفظ الإسلام؛ إسلام القلب والوجه لله -جل وعلا- والنية في كلام الله -جل وعلا- أو في الشريعة بعامة يراد بها أحد معنيين: المعنى الأول: نية متجهة للعبادة، والمعنى الثانى: نية متجهة للمعبود.
فالنية قسمان:
نية متعلقة بالعبادة، ونية متعلقة بالمعبود، فأما المتعلقة بالعبادة فهي التي يستعملها الفقهاء في الأحكام حين يأتون إلى الشروط، الشرط الأول: النية، يقصدون بذلك النية المتوجه للعبادة، وهي تمييز العبادات بعضها عن بعض.
تمييز الصلاة عن الصيام، تمييز الصلاة المفروضة عن النفل، يعني: أن يميز القلب فيما يأتي ما بين عبادة وعبادة، أتى المسجد وأراد أن يركع ركعتين، ميز قلبه هاتين الركعتين هل هي ركعتا تحية المسجد، أو هي ركعتا راتبة؟ أو هل هي ركعتا استخارة؟ إلى آخره... فتمييز القلب ما بين عبادة وعبادة هذه هي النية التي يتكلم عنها الفقهاء في الكتب الفقهية وهي النية المتوجه للعبادة.
القسم الثانى: النية المتوجه للمعبود، وهذه هي التي يتحدث عنها باسم الإخلاص: إخلاص القلب، إخلاص النية، إخلاص العمل لله -جل وعلا- وهي التي تستعمل كثيرًا بلفظ النية والإخلاص والقصد.
فإذًا هذا الحديث شمل نوعي النية: النية التي توجهت للمعبود، والنية التي توجهت للعبادة، فـ ( إنما الأعمال بالنيات ) يعني: إنما العبادات تقع صحيحة، أو مقبولة بسبب النية، يعني: النية التي تميز العبادة بعضها عن بعض أولا.
والنية التي هي إخلاص العبادة للمعبود، وهو الله -جل جلاله- فلهذا لا يصلح أن نقول: النية هنا هي النية التي بمعنى الإخلاص، ونقول: إن كلام الفقهاء في النيات لم يدخل فيه الإخلاص، ولا القسم الثاني، فإن تحقيق المقام انقسام النية إلى هذين النوعين -كما أوضحت لكم-.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) يعني: هذا حصر أيضًا، وإنما لكل امرئ من عمله ثوابًا وأجرًا لما نواه بعمله، فإن كان نوى بعمله الله والدار الآخرة، يعني: أخلص لله -جل وعلا- مريدا وجه الله -جل وعلا- فعمله صالح، وإن كان عمله للدنيا فعمله فاسد؛ لأنه للدنيا.
وهذا كما جاء في آيات كثيرة إخلاص الدين لله -جل علا-: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ {5} سورة البينة ، يعني: الدين يقع على نية الإخلاص، كما في قوله -جل وعلا-: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ {3} سورة الزمر .
وقد جاء في أحاديث كثيرة بيان إخلاص العمل لله -جل وعلا- كقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) وفي لفظ آخر قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث القدسي: ( فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء ) .
وهذا يدل على أن العمل لا بد أن يكون خالصًا لله -جل وعلا- حتى يكون مقبولًا، ويؤجر عليه العبد، إذا وصلنا إلى هذا فمعناه أن من عمل عملًا، ودخل في ذلك العمل نية غير الله -جل وعلا- بذلك العمل، فإن العمل باطل لقوله: ( من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) ( فهو للذي أشرك ) ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
وهذه يحتمل أن يكون المراد بذلك العملِ العملَ الذي يكون في أصل العبادة، أو في أثناء العبادة، أو غيَّر نيته بعد العبادة، يحتمل هذا، أو تكون العبادة أيضا في بعضها لله، وفي بعضها لغير الله، فما المراد؟
قال العلماء: تحقيق هذا المقام أن العمل إذا خالتطه نية فاسدة، يعني: رياء نوى للخلق، أو سمعة، فإنه إن أنشأ العبادة للخلق فهي باطلة، يعني: صلى دخل في الصلاة، لا لإرادة الصلاة؛ ولكن يريد أن يراه فلان، فهذه الصلاة باطلة.
وهو مشرك كما جاء في الحديث: ( من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ) يعني: حين أنشأ الصلاة الواحدة أنشأها يرائي، وإلا فإن إنشاء المسلم عباداته جميعًا على الرياء هذا غير متصور، وإنما يقع الرياء ربما في بعض عبادات المسلم؛ إما في أولها، وإما في أثنائها.

.. يتبع ..

الوافـــــي 06-02-2004 02:28 PM

وأما الرياء التام في جميع الأعمال فإن هذا لا يتصور من مسلم، وإنما يكون من الكفار والمنافقين، كما قال -جل وعلا- في وصفهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً {142} سورة النساء ، وقوله في وصف الكفار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {264}سورة البقرة ، يعني: بهذا أن القسم الأول نية ابتدأ بها العبادة لغير الله، فهذه العبادة تكون باطلة: صلاته باطلة، صيامه باطل، وصدقته باطلة، نوى بالعمل غير وجه الله -جل وعلا-.
القسم الثاني: أن يحدث تغيير النية في أثناء العبادة، وهذا له حالان : الحال الأولى: أن يبطل نيته الأصلية، ويجعل العبادة لهذا المخلوق، فهذا حكمه كالأول من أن العبادة فسدت؛ لأنه أبطل نيتها، وجعلها للمخلوق، فنوى في أثناء الصلاة أن الصلاة هذه لفلان، فتبطل الصلاة.
الحال الثانية: من هذا القسم أن يزيد في الصلاة من لأجل رؤية أحد الناس، يعني: يراه أحد طلبة العلم، أو يراه والده، أو يراه كبير القوم، أو يراه إمام المسجد، فبدل أن يسبح ثلاث تسبيحات أطال في الركوع، والركوع عبادة لله -جل وعلا- فأطال على خلاف عادته لأجل رؤية هذا الرائي.
فهذا العمل الزائد الذي نوى به المخلوق يبطل؛ لأن نيته فيه لغير الله، و ( إنما الأعمال بالنيات ) لكن أصل العمل صالح؛ لأن هذه النية ما عرضت لأصل العمل، وإنما عرضت لزيادة في بعضه أطال الصلاة، أو إمام أطال القراءة؛ لأن حسن صوته لرؤية إلى الخلق، أو لأن وراءه فلان، أو نحو ذلك من الأعمال، فلا يبطل أصل العمل، وإنما ما زاد فيه لأجل الخلق يكون فيه مشركًا الشرك الأصغر، وهو الرياء -والعياذ بالله-، هذه الحالة الثانية من القسم الثاني.
والحالة الثالثة: أن يعرض له حب الثناء، وحب الذكر بعد تمام العبادة، عمل العبادة لله، صلى لله، حفظ القرآن لله، وصام لله، صام النوافل لله -جل وعلا- مخلصًا، وبعد ذلك رأى من يثني عليه، فسره ذلك، ورغب في المزيد في داخله، فهذا لا يخرم أصل العمل؛ لأنه نواه لله، ولم يكن في أثنائه فيكون شركا، إنما وقع بعد تمامه، فهذا كما جاء في الحديث ( تلك عاجل بشرى المؤمن أن يسمع ثناء الناس عليه لعبادته وهو لم يقصد في العمل الذي عمله أن يثني عليه الناس ) هذه ثلاثة أحوال.
وإذا تقرر هذا فالأعمال التي يتعلق بها نية مع نيتها لله -جل وعلا- على قسمين أيضا، الأول: أعمال يجب ألا يريد بها، وألا يعرض لقلبه فيها ثواب الدنيا أصلا، وهذه أكثر العبادات، وأكثر الأعمال الشرعية.
والقسم الثاني: عبادات حض عليها الشارع بذكر ثوابها في الدنيا، مثل صلة الرحم حض عليها الشارع بذكر ثواب الدنيا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه ) فحض على صلة الرحم بذكر ثواب الدنيا: النسأ في الأثر، والبسط في الرزق.
أو كقوله في الجهاد: ( من قتل قتيلا فله سلبه ) يعني: ما عليه من السلاح، وما معه من المال أو كذا، يسلبه ويكون لهذا القاتل، فهذا حض على القتل بذكر ثواب دنيوي، فمن أراد الثواب الدنيوي هنا -في هذا القسم- مستحضرا ما حض الشارع من العمل، يعني: من هذه العبادة، وذكر فيه الثواب الدنيوي فإنه جائز له ذلك؛ لأن الشارع ما حض بذكر الدنيا إلا إذن منه بأن يكون ذلك مطلوبا.
فإذًا من وصل الرحم يريد وجه الله -جل وعلا- ولكن يريد أيضا أن يثاب في الدنيا بكثرة الأرزاق، وبالنسأ في الأثر، يعني: طول العمر، فهذا له ذلك، ولأجل أن الشارع حض على ذلك.
جاهد في سبيل الله يريد أيضا مغنما، ونيته خالصة لله -جل وعلا- لتكون كلمة الله هي العليا؛ ولكن يريد شيئا حض عليه، أو ذكره الشارع في ذلك، هذا قصده ليس من الشرك في النية؛ لأن الشارع هو الذي ذكر الثواب الدنيوي في ذلك.

.. يتبع ..

الوافـــــي 06-02-2004 02:30 PM

فإذًا تنقسم الأعمال إلى عبادات ذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وإلى عبادات لم يذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وهذا كما جاء في قول الله -جل وعلا-: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ {15}سورة هود .
فهذه المسألة مهمة، فإذا تقرر أنه لا يكون مشركًا بذلك، فهل من نوى الدنيا بصلة الرحم مثلا مع نيته لله مساوٍ لمن لم ينو الدنيا، وإنما جعلها خالصة لله لا يختلف الأجر؛ لكن لا يكون مرائيًا، ولا مشركًا بذلك.
فمن كانت نيته خالصة لله -جل وعلا- فأجره أعظم، لهذا لما سئل عدد من الأئمة من السلف والإمام أحمد وجماعة عمن جاهد للمغنم ونيته خالصة لله؟ قال: أجره على قدر نيته، لم يبطل عمله أصلًا، لم يبطل السلف العمل أصلًا، وإنما جعلوا التفاوت بقدر النيات.
فكلما عظمت النية لله في الأعمال التي فيها ذكر الدنيا، وذكر الشارع عليه ثواب الدنيا فإنه كلما عظمت النية الخالصة كلماعظم أجره، وكلما نوى الدنيا مع صحة أصل نيته قل أجره يعني: عن غيره.
هنا قال -عليه الصلاة والسلام-: ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ) طبعًا الحديث تفاصيل الكلام في النية، ودخول النية في أبواب كثيرة من العبادات، هذا يطول عليه الكلام جدًّا، وصنفت مصنفات في هذا، وشروح كتب الأحاديث أطالت في شرح هذا الحديث، وإنما نذكر في شرحنا لهذه الأربعين النووية قواعد وتأصيلات متعلقة بشرح الحديث، كما هي العادة في مثل هذه الشروح المختصرة لهذه الكتب المهمة.
قال: ( فمن كانت هجرته ) الفاء هذه تفصيلية، تفصيل لمثال من الأعمال التي تكون لله وتكون لغير الله، ذكر مثالا للهجرة قال: ( من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
الهجرة معناها: الترك، هجر يعني: ترك، وأصل الهجرة هجرة إلى الله -جل وعلا- وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم هجرة إلى الله -جل وعلا- بالإخلاص، وابتغاء ما عنده، والهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه -عليه الصلاة والسلام- والرغبة فيما جاء به -عليه الصلاة والسلام-.
ومن آثار ذلك، الهجرة إلى الخاصة التي هي ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( فمن كانت هجرته ) يعني: من كان تركه لبلد الشرك إلى بلد الإسلام لله ورسوله إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، هذا فيه تكرير للجملة. من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته لله ورسوله.
والمتقرر في علوم العربية أن الجمل إذا تكررت في ترتب الفعل والجزاء فإن شرط الفعل يختلف عن شرط الجزاء؛ فلهذا نقول: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا، فما تعلق بالفعل النية والقصد، وما تعلق بالجواب الأجر والثواب.
وهذا فيه نوع من أنواع البلاغة، وهو أن عمله جليل عظيم بحيث يستغنى لبيان جلالته وعظمه يستغنى عن ذكره؛ لأنه من الوضوح والبيان بحيث لا يحتاج إلى ذكره، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) هذا تعظيم، ورفع لهذا العمل، وهو أن تكون الهجرة إلى الله ورسوله، يعني: نية وقصدًا وتعظيما للثواب والأجر بقوله: ( فهجرته إلى الله ورسوله ) ثوابًا وأجرًا، يعني: حدث عن ثوابه وعظم ذلك.
ثم بين الصنف الثاني فقال: ( ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها ) ( لدنيا يصيبها ) هذا حال التاجر الذي هاجر لكي يكسب مالًا، أو هاجر ليكسب زوجة أو امرأة، فهذا هجرته إلى ما هاجر إليه.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( فمن كانت هجرته لدنيا ) هذه النية يعني: هاجر العمل الظاهر يشارك فيه، من هاجر إلى الله ورسوله؛ لكن نيته أنه في هجرته يريد التجارة، أو يريد أن يتزوج امرأة فنيته فاسدة، قال: ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) يعني: من حيث أنه لا ثواب له فيها ولا أجر، وقد يكون عليه فيها وزر.
والهجرة هي ترك -كما ذكرت لك ترك- بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو ترك بلد تظهر فيه البدعة إلى بلد لا تظهر فيه البدعة، وإنما تظهر فيه السنة، أو القسم الثالث: ترك بلد تظهر فيه الفواحش والمنكرات إلى بلد تقل فيه الفواحش والمنكرات ظهورًا، وهذه كل واحدة منها لها أحكام مذكورة في كتب الفقه بالتفصيل.

إنتهى شرح الحديث الأول

تحياتي

:)

الوافـــــي 09-02-2004 03:38 PM

الحديث الثاني

مجيء جبريل ليعلم المسلمين أمر دينهم

وعن عمر رضي الله عنه أيضا قال: ( بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه.
فقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه!
فقال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان.
ثم انطلق فلبثت مليًّا، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه مسلم.
هذا الحديث حديث عظيم أيضًا، سماه بعض أهل العلم أم السنة، سمى هذا الحديث أم السنة، يعني: كما في القرآن أم القرآن، فهذا الحديث أم السنة؛ لأن جميع السنة تعود إلى هذا الحديث.
فإن الحديث فيه بيان العقيدة، والعقيدة مبنية على أركان الإيمان الستة، وفيه بيان الشريعة، وذلك بذكر أركان الإسلام الخمسة، وفيه ذكر الغيبيات والأمارات؛ بل قبل ذلك فيه ذكر آداب السلوك، والعبادة، وصلاح توجيه القلب، والوجه إلى الله -جل وعلا- بذكر الإحسان، وفيه ذكر الساعة وأمارتها، وهذا نوع من ذكر الأمور الغيبية ودلالات ذلك.
فهذا الحديث يعود إليه جل السنة، كما أن قول الله -جل وعلا- في آية النحل: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {90}سورة النحل.
قال طائفة من مفسري السلف: دخل في هذه الآية جميع أحكام الدين، جميع الدين في هذه الآية، وجميع أصول الأحاديث النبوية في هذا الحديث، وهذا الحديث معروف بحديث جبريل، وروايته على هذا الطول عن عمر رضي الله عنه وروي أيضًا، مقطعًا ببعض الاختصار في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وهذا الحديث فيه ذكر الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه أن هذه الثلاثة هي الدين؛ لأنه في آخرها قال -عليه الصلاة والسلام-: ( أتاكم يعلمكم دينكم ) فإذًا الدين الذي هو الإسلام منقسم إلى ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان.
وهذا نخلص منه إلى قاعدة مهمة وهي أن الاسم العام قد يندرج عنه، قد يندرج فيه أنواع منها الاسم العام؛ لأن الإسلام هو الدين فجمع هذه الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان؛ فالإسلام منه الإسلام، وهذا مهم في فهم الشريعة بعامة؛ لأن من الألفاظ ما يكون القسم هو اللفظ ذاته، يعني: أحد الأقسام هو اللفظ ذاته، وله نظائر إذا وجد هذا، فالاسم العام غير الاسم الخاص.
ولهذا نقول: الاسم العام للإسلام يشمل الإسلام والإيمان والإحسان، وليس هو الاسم الخاص إذا جاء مع الإيمان ومع الإحسان؛ لهذا لم يلحظ هذا الأمر طائفة من أهل العلم، فجعلوا الإسلام والإيمان واحدا، ولم يفرقوا بين الإسلام والإيمان حتى عزا بعضهم هذا القول لجمهور السلف، وهذا ليس بصحيح، فإن السلف فرقوا ما بين الإسلام والإيمان إذا كان هذا في مورد وهذا في مورد، إذا كان الإسلام والإيمان في مورد واحد.
وأما إذا كان الإسلام في مورد والإيمان في مورد، يعني: هذا في سياق وهذا في سياق، هذا في حديث وهذا في حديث، فالإسلام يشمل الدين جميعًا، والإيمان يشمل الدين جميعًا، فإذًا هذا الحديث فيه بيان الإسلام بمراتبه الثلاث.
( إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ) في هذا مدح لهذه الصفة وإحداهما مكتسبة والأخرى جبلية، أما شدة سواد الشعر، فهذه جبلية لا تكتسب، ولا يجوز أن يصبغ بالسواد لمن ليس بذي سواد، وأما شدة بياض الثياب، فسياق هذا الحديث يقتضي مدح من كان على هذه الصفة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الثياب البيض، وكان يلبسها، وأمر بتكفين الموتى فيها -عليه الصلاة والسلام-.


.. يتبع ..

الوافـــــي 09-02-2004 03:40 PM

قال: ( ولا يرى عليه أثر السفر ) يعني: أنه لا يعرفونه في المدينة، وأتى بهذه الصفة الجميلة شدة سواد الشعر "ليس عليه" يعني: فيه أثر غبار أو تراب، وعادة المسافر أن يكون كذلك، وأيضا ( شديد بياض الثياب ) كأنه خرج من بيته في نظافة أهله الساعة، فكيف يكون ذلك؟
فإذًا في قوله: ( ولا يرى عليه أثر السفر ) إشعار بأنه مستغرب أن يكون على هذه الصفة؛ لهذا قال بعدها: ( ولا يعرفه منا أحد ) وقد جاء في بعض الروايات أن جبريل -عليه السلام- كان ربما أتاهم على صورة دحية الكلبي أحد الصحابة، فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيجيب، وهذا غير مراد هنا؛ لأنه لا يتوافق مع قوله: ( ولا يعرفه منا أحد ) خلافًا لمن قال غير ذلك.
وهذا فيه التعليم، فإن جبريل -عليه السلام- أتى متعلمًا ومعلمًا، متعلمًا من جهة الهيئة والسؤال والأدب، ومعلمًا حيث سأل لأجل أن يستفيد الصحابة -رضوان الله عليهم- وتستفيد الأمة من بعدهم.
قال: ( فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ) ( أسند ركبتيه إلى ركبتيه ) الضمير الأول يرجع إلى جبريل، والثاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا فيه القرب من العالم، القرب من المسئول حتى يكون أبلغ في أداء السؤال بدون رعونة صوت ولا إيذاء، وأفهم للجواب.
( ووضع كفيه على فخذيه ) هذه قيل: فيها تفسيران: ( ووضع كفيه ) يعني: جبريل على فخذيه، يعني: على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا ذلك لأجل أن تكون الضمائر راجعة على نحو ما رجعت عليه الجملة الأولى ؛ لأن توافق الرجوع أولى من تعارضه بلا قرينة.
وقال آخرون: لا، وضع كفيه على فخذيه هذه على فخذي جبريل أيضًا، يعني: وضع كفي نفسه على فخذي نفسه، وهذا أدب منه أمام مقام النبي صلى الله عليه وسلم .
في هذا أن طالب العلم ينبغي له أن يكون مهيئا نفسه، ومهيئا المسئول للإجابة على سؤاله في حسن الجلسة، وفي حسن وضع الجوارح، وفي القرب منه، وهذا نوع من الأدب المهم، فإن سؤال طالب العلم للعالم، أو سؤال المتعلم لطالب العلم له أثر في قبول العالم للسؤال، وفي انفتاحه للجواب.
قد ذكر في آداب طلب العلم، وفي الكلام عليه أن بعض العلماء من علماء السلف كانوا ينشطون لبعض تلاميذهم فيعطونه، وبعضهم لا ينشطون له فيعطونه بعض الكلام الذي يكون عامًّا، أو لا يكون مكتملًا من كل جهاته، وذلك راجع إلى حسن أدب طالب العلم أو المتعلم.
فإنه كلما كان المتعلم أكثر أدبًا في جلسته، وأكثر أدبًا في لفظه، وفي سؤاله كان أوقع في نفس المسئول؛ فيحرص ويتهيأ نفسيًّا لجوابه؛ لأنه مَن احْتَرَم احْتُرِم، ومن أقبل أقبل عليه فهذا فيه أن نتأدب جميعًا بهذا الأدب.
فمثلًا: ألحظ على بعض طلاب العلم، أو بعض المتعلمين أنه إذا أتى يسأل العالم يسأله بِنِدِّية لا يسأله على أنه يستفيد، فيجلس جلسة العالم نفسه، أو يجلس جلسة المستغني، ويداه في وضع ليس في وضع أدب، واحدة هنا، والأخرى هناك، وجسمه أيضًا يعني: في استرخاء تام، ليس فيه الاستجماع ونحو ذلك، مما يدل على أنه غير متأدب مع العالم، أو طالب العلم الذي سيستفيد منه.
وهذه الآداب لها أثر على نفسية العالم أو المجيب، فإنك تريد أن تأخذ منه العلم، وكلما كنت أذل على الوجه الشرعي في أخذ العلم كلما كان العالم أكثر إقبالًا عليك؛ ولهذا تجد أن من... بل أكثر أهل العلم لهم خواص، هذا من خاصته، هذه الخصوصية راجعة إلى إيه؟ راجعة إلى أن هذا المتعلم كان متأدبًا في لفظه، وفي تعامله، وفي كلامه، وفي حركته مع شيخه مما جعل شيخه يثق فيه، ويقبل عليه في العلم، ويعطيه من العلم ما لا يعطيه غيره، ويعطيه من تجاربه في الحياة، وتجاربه مع العلم ومع العلماء، وفي الأمور، وفي الواقع بما لا يفيده غير المتأدب معه.
فهذه نأخذها من حديث جبريل -عليه السلام- هذا، ونأخذها أيضًا، من قصة إلى الخضر مع موسى في سورة الكهف، وهي حرية بالتأمل في آداب طلب العلم.

.. يتبع ..

الوافـــــي 09-02-2004 03:43 PM

قال: ( يا محمد، أخبرني عن الإسلام ) ( أخبرني عن الإسلام ) هذا سؤال عن نوع من أنواع الدين ألا وهو الإسلام المتعلق بالأعمال الظاهرة، فسأل عن الإسلام، ثم سأل عن الإيمان، ثم سأل عن الإحسان... إلى آخره.
فقال: ( يا محمد، أخبرني عن الإسلام ) وفي قوله: "أخبرني" فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم مخبر، يعني: أنه ينقل أيضًا الخبر عن الإسلام، وهذا موافق لما هو متواتر في الشريعة أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ للدين عن الله -جل وعلا-.
( قال: أخبرني ) يعني: اجعل كلامك لي خبرا، فأخبرني بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم أيضًا مخبر عن ربه -جل وعلا- في ذلك، كما جاء في بعض الأحاديث القدسية، قد قال -عليه الصلاة والسلام- فيما يخبر به عن ربه -جل وعلا-.
( قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) إلى آخره، هذا التفسير للإسلام تفسير للأركان الخمسة المعروفة التي سيأتي -إن شاء الله- بعض بيانها في حديث ابن عمر الثالث الذي نشرحه غدا -إن شاء الله- فـ ( قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) وهذا ركن واحد ( وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. فقال: صدقت ) .
الإسلام هنا فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالأعمال الظاهرة، ولم يجعل فيه الأعمال الباطنة، أو بعض الأعمال الباطنة، ومعنى هذا أن الإسلام استسلام ظاهر، وهذا الاستسلام الظاهر يخبر عنه بالشهادتين، وبإقامة الأركان العملية الأربعة، والشهادة في نفسها لفظ فيه الاعتقاد، والتحدث، والإخبار الذي هو الإعلام.
وعلى هذا فسر السلف كلمة شهد، فقوله -جل وعلا-: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18}سورة آل عمران ، شهد الله ما معناه هل الله يشهد بمعنى أي شيء؟ يشهد بمعنى يعلم ويخبر.
فإذًا شهادة المسلم بأن لا إله إلا الله لا تستقيم مع كتمانه هذه الشهادة، فمن شهد ذلك بقلبه ولم يظهر هذه الشهادة دون عذر شرعي فإنه لا شهادة له؛ بل لا بد في الشهادة من حيث اللفظ الذي دلت عليه اللغة، وأيضًا من حيث الدليل الشرعي لا بد فيها من الإظهار، وهو الموافق لمعنى الإسلام الذي هو الأعمال الظاهرة.
فإذًا دخول الشهادتين في الإسلام الذي هو الأعمال الظاهرة راجع لمعنى الشهادة، وهو أن معنى الشهادة الإظهار، يعني: بعد الاعتقاد الإظهار والإعلام والإخبار، وهنا يأتي الاعتقاد؛ اعتقاد الشهادتين يرجع إليه؛ لأنه في معنى شهد، يرجع إليه أركان الإيمان جميعًا.
ولهذا نقول: الإسلام هو الأعمال الظاهرة، ولا يصح إلا بقدر مصحح له من الإيمان، وهو الإيمان الواجب بالأركان الستة؛ فالإيمان الواجب يعني: أقل قدر من الإيمان به يصبح المرء مسلمًا، هذا مشمول في قوله: ( أن تشهد أن لا إله إلا الله ) لأن الشهادة معناها الاعتقاد والنطق والإخبار والإعلام، فتشمل هذه الأمور الثلاثة، فالاعتقاد يرجع إليه أركان الإيمان الستة.
فنخلص من هذا إلى أن الإسلام، وإن قال أهل العلم فيه: إن المراد به هنا الأعمال الظاهرة، فإنه لا يصح الإسلام إلا بقدر من الإيمان مصحح له، وهذا القدر من الإيمان دلنا على اشتراطه لفظ أن تشهد؛ لأن لفظ الشهادة في اللغة والشرع متعلق بالباطن والظاهر.
والاعتقاد في الشهادتين بأن لا إله إلا الله، هذا هو الإيمان بالله، وبأن محمدًا رسول الله، يرجع إليه الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما أخبر به -عليه الصلاة والسلام- من الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، والإيمان باليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
الإيمان فسره النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل بالاعتقادات الباطنة، وهذا الفرق بين المقامين لأجل وردوهما في حديث واحد، فالإسلام إذا اقترن مع الإيمان رجع الإسلام إلى الأعمال الظاهرة ومنها الشهادتان، ورجع الإيمان إلى الأعمال الباطنة، وإذا أفرد الإسلام فإنه يراد به الدين كله، وهو الذي منه قسم الإسلام هذا، وإذا أفرد الإيمان فإنه يراد به الدين كله بما فيه الأعمال.
ولهذا أجمع السلف والأئمة على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وعلى أن الإيمان قول وعمل يعني: قول وعمل واعتقاد، يعني: إذا أفرد، وهذا هو الذي عليه عامة أهل العلم من أهل السنة والجماعة في أن الإسلام غير الإيمان، وأن الإيمان إذا جاء مستقلًا عن الإسلام فإنه يعنى به الدين كله؛ يعنى به الإسلام والإيمان والإحسان، وإذا أتى الإسلام في سياق مستقل عن الإيمان يعنى به الدين كله، وأن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا من حيث الدلالة، فجعل الإسلام للأعمال الظاهرة، وجعل الإيمان للاعتقادات الباطنة.
من أهل العلم من السلف أيضًا، من رأى أن الإسلام والإيمان واحد، وهذا -كما ذكرت لك- غير صحيح، ومنهم أيضًا رأى أن الإسلام والإيمان يختلفان، ولو تفرقا أيضًا، ولكن الصحيح أن الإسلام إذا اجتمع مع الإيمان صار الإسلام -كما ذكرت لكم- للأعمال الظاهرة والإيمان للاعتقادات الباطنة، كما دل عليه حديث جبريل هذا.

.. يتبع ..

الوافـــــي 09-02-2004 03:47 PM

نقول: الإيمان عند جمهور العلماء يزيد وينقص مع أنه متعلق بالاعتقادات، والإسلام عندهم لا يطلقون العبارة أنه يزيد وينقص مع أنه متعلق بالعمل الظاهر، فكيف يكون هذا؟ وضح الإشكال؟
الإيمان يعلقونه بالاعتقادات الباطنة، ويقولون: يزيد وينقص، والإسلام في الأعمال الظاهرة ولا يقولون فيه: إنه يزيد وينقص.
والجواب عند هذا الإشكال أن الإيمان إذا أريد به عامة أمور الدين، كما جاء في حديث -مثلا- وفد عبد القيس حيث قال لهم -عليه الصلاة والسلام-: ( آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ ) ثم ذكر أمور الإيمان، وقال: ( أن تؤدوا الخُمُس من المغنم ) وهذا نوع من الأعمال.
فإذًا الأعمال باتفاق السلف داخلة في مسمى الإيمان، وإذا كان كذلك، فإذا قالوا: الإيمان يزيد وينقص، فإنه يرجع في هذه الزيادة إلى الاعتقاد، ويرجع إلى الأعمال الظاهرة، وهذا يعني: أن الإسلام يزيد وينقص؛ لأن الإيمان الذي يزيد وينقص إيمان القلب وإيمان الجوارح.
وإيمان القلب اعتقاده بقوة إيمانك بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا الناس ليسوا فيه سواء بل يختلفون: منهم من إيمانه كأمثال الجبال، ومنهم من هو أقل من ذلك، وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأعمال الظاهرة التي هي من الإيمان تزيد أيضًا وتنقص، فكلما زادت زاد إيمان العبد، وكلما نقصت نقص إيمان العبد، وينقص الإيمان بالمعصية أيضًا، ويزيد بترك المعصية.
بعض أهل العلم أيضا يقول: الإسلام أيضًا يزيد وينقص، على اعتبار أن الإسلام هو الإيمان في دلالته على الاعتقاد والعمل، أو في دلالته على الأعمال الظاهرة، فإن الأعمال الظاهرة أيضًا، يزيد معها الإسلام ويزيد معها الإيمان، كيف يزيد معها الإسلام؟ لأن الإسلام استسلام.
ما الإسلام؟ الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فالإسلام فيه استسلام لله بالتوحيد، وهذا داخل في الشهادتين، أو تدخل فيه الشهادتان، فهذا إذًا يزيد الناس فيه وينقص استسلامهم لله بالتوحيد مختلف يتفاوتون فيه، والانقياد بالطاعة أيضًا يتفاوتون فيه.
( قال: صدقت ) يعني: في جوابه عن مسألة الإسلام، وهذا فيه عجب أن يسأل ويصدق، وهذا فيه لفت الانتباه؛ انتباه الصحابة إلى هذه المسائل، كيف يسأل ويصدق؟ فالمتعلم إذا أتى بأسلوب في السؤال يلفت النظر ليستفيد البقية مع علم المسئول فإن هذا حسن ليستفيد منه الآخرون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أن هذا جبريل، وتصديقه له دال على هذا بوضوح.
ففي هذا أن المتعلم يأتي للعالم بمعرفته بما يسأل لإفادة غيره، وأن هذا أسلوب حسن من أساليب التعليم الشرعية، قال: ( فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره ) ذكر أركان الإيمان الستة.
وهذه الأركان جاءت في القرآن أيضًا، منها خمسة متتابعة جاءت في قول الله -جل وعلا- آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285}سورة البقرة هذه أربعة.
وقوله: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177}سورة البقرة ، وكما في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً {136}سورة النساء ، وفي القدر جاء قوله -جل وعلا-: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49}‏ سورة القدر يعني: أن أصول هذه الأركان هذه جاءت أيضًا في القرآن.
وهذه الأركان الستة هي التي عبر عنها بأركان الإيمان، والخمسة التي قبلها بأركان الإسلام، أركان الإيمان ما معنى كونها أركانا؟.

.. يتبع ..

الوافـــــي 09-02-2004 03:50 PM

نلحظ مسألة مهمة ينبغي لكم أن تنتبهوا لها أن لفظ أركان الإسلام، ولفظ أركان الإيمان لم يرد في شيء من النصوص، لم يرد أن للإيمان أركانا، ولا أن للإسلام أركانا، وإنما عبر العلماء بلفظ الركن اجتهادًا من عندهم، وإذا كان كذلك فينبغي أن تفهم النصوص على ضوء هذا الأصل، وهو أن التعبير عن هذه بالأركان إنما هو فهم لأهل العلم في أن هذه هي الأركان، وفهمهم صحيح بلا شك؛ لأن الركن هو ما تقوم عليه ماهية الشيء.
فالشيء لا يتصور قيامه إلا بوجود أركانه، فمعنى ذلك أنه إذا تخلف ركن من الأركان ما قام البناء، فإذا اختلف الإيمان بالقدر ما قام بناء الإيمان أصلًا، إذا تخلف ركن الإيمان باليوم الآخر ما قام البناء؛ لأن الركن في التعريف الاصطلاحي هو ما تقوم عليه ماهية الشيء، فإذا تخلف ركن لم يقم الشيء أصلًا، يعني: لم يقم الشيء وجودا شرعيًّا؛ لأن قيامه مبني على تكامل أركانه.
وهذا يورد علينا إشكالا وهو أنه في الإسلام قيل: هذه هي أركان الإسلام الخمسة، والعلماء لم يتفقوا على أن من ترك الحج والصيام جميعًا من أركان الإسلام أنه ليس بمسلم، واتفقوا على أنه من ترك ركنًا من أركان الإيمان فإنه ليس بمؤمن أصلًا، وهذا يرجع إلى أن اصطلاح الركن اصطلاح حاجز.
فينبغي أن تفهم -خاصة في مسائل الإيمان والإسلام والتكفير وما يتعلق به، وما يتعلق بها- أن العلماء أتوا بألفاظ للإفهام، فهذه الألفاظ التي للإفهام لا تحكم على النصوص، وإنما النصوص التي تحكم على ما أتى العلماء به من اصطلاحات، يعني: أن نفهم الاصطلاحات على ضوء النصوص، وأن نفهم النصوص على ضوء الاصطلاحات.
فإذا صار الاصطلاح صحيحًا من جهة الدليل الشرعي رجعنا في فهم الدليل الشرعي للاصطلاح ففهمنا ذلك، وهذا يتضح ببيان أركان الإسلام، فإنه لو تخلف ركنان من أركان الإسلام، تخلف الحج -مثلا- والصيام، فإن أهل السنة والجماعة ما اتفقوا على أن من لم يأت بالحج والصيام فإنه ليس بمسلم؛ بل قالوا: هو مسلم؛ لأنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ ولأنه أقام الصلاة -مثلا- واختلفوا فيما عدا ذلك من الأركان فيما إذا تركها، يعني: ولم يأت بها دون جهد لها مع أنه تخلف عنه ركن أو أكثر.
وهذا يعني: أنه في فهم أركان الإسلام، نجعل هذه الأركان تختلف في تعريف الركن عن فهم أركان الإيمان، فنقول في أركان الإسلام: يكتفى في الإسلام بوجود الشهادتين والصلاة، وفي غيرهما خلاف، وأما في أركان الإيمان فمن تخلف منه ركن من هذه الأركان فإنه ليس بمؤمن هذا من حيث التأصيل.
فإذًا نقول: يمكن أن يسمى مسلمًا ولو تخلف عنه بعض أركان الإسلام، ولا يصح أن يسمى مؤمنًا إن تخلف عنه ركن من أركان الإيمان، إذا تقرر هذا فأركان الإيمان الستة هذه فيها قدر واجب لا يصح إسلام بدونه، قدر واجب على كل مكلف، من لم يأت به فليس بمؤمن، وهناك قدر زائد على هذا تبعا للعلم، أو تبعا لما يصله من الدليل.
فما هو القدر المجزئ وهو الذي من لم يأت به صار كافرًا؟ فهذا هناك قدر مجزئ في الإيمان بالله، قدر مجزئ في الإيمان بالرسل، قدر مجزئ في الإيمان بالكتب، وقدر مجزئ في الإيمان باليوم الآخر والقدر... إلى آخره.
أما الإيمان بالله فهو ثلاثة أقسام: إيمان بالله بأنه واحد في ربوبيته، وإيمان بالله بأنه واحد في ألوهيته، يعني: في استحقاقه العبادة، وإيمان بالله يعني: بأنه واحد في أسمائه وصفاته لا مثيل له -سبحانه وتعالى- فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11}سورة الشورى .
القدر المجزئ من الأول أن يعتقد أن الله -جل جلاله- هو رب هذا الوجود، يعني: أنه هو إلى الخالق له، المدبر له، المتصرف فيه، خالق له، مدبر له، ومتصرف فيه كيف يشاء، هذه الربوبية، بالإلهية بأنه لا أحد يستحق العبادة، أو شيئا من أنواع العبادة، لا أحد يستحق شيئا من أنواع العبادة من الخلق؛ بل الذي يستحق هو الله -جل جلاله- وحده.
والثالث: أن يؤمن بأن الله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى والصفات العلا هذا هو القدر المجزئ من الإيمان بالله.
الإيمان بالملائكة القدر المجزئ أن يؤمن بأن الله -جل وعلا- له خلق من خلقه اسمهم الملائكة، عباد يأتمرون بأمر الله -جل وعلا- مربوبون لا يستحقون شيئًا، وأن منهم من يأت بالوحي للأنبياء، هذا القدر هو الواجب.

.. يتبع ..

الوافـــــي 09-02-2004 03:53 PM

فإذا قال: لا أنا أنكر وجود ملائكة -ما شفت أحد- فهذا انتفى عنه أصل، انتفى عنه هذا الركن وهو الإيمان بالملائكة؛ لكن لو قال: أنا ما أعلم ميكال هذا، فإنه لا يقدح في إيمانه بالملائكة؛ لأنه يقول: أنا مؤمن بوجود هذا الخلق من خلق الله -جل وعلا- ملائكة؛ لكن ميكال ما أعرف هذا ميكال، فيبلغ بالحجة فيه في آية البقرة ) مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ) الآية التي فيها ذكر ميكال، ويبلغ بما جاء فيه، فإن علم أنها آية ثم لم يؤمن كان جاحدًا لهذا الركن من الأركان.
( فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ {98}… الآية من سورة البقرة ، التي فيها ذكر "مِيكَالَ" ويُبَلِّغُ بما جاء فيه، فإن علم أنها آية ثم لم يؤمن، كان جاحداً لهذا الركن من الأركان.
فإذًا فيه قدر مجزئ: وهو الذي يجب على كل أحد، وقدر يتفاضل فيه الناس واجب -أيضاً- مع العلم.
فكلما علم شيئاً من ذلك وجب عليه الإيمان به ... إلخ، وهذا واسع وكلما علم شيئاً واجب من ذلك زاد أجره وثوابه وإيمانه ويقينه .
الإيمان بالكتب: القدر المجزئ منها أن يعلم … أن يعتقد الاعتقاد الجازم الذي لا شك فيه بأن الله -جل وعلا- أنزل على من شاء من رسله كتباً هي كلامه -جل وعلا- وأن منها القرآن الذي هو كلامه -جل وعلا- وهذا هو القدر المجزئ من ذلك.
وما بعد ذلك أن يؤمن بالتوراة، قد يقول: أنا لا أعرف التوراة، فإذا عُرِّف وجب عليه، وهكذا في تفاصيل ذلك.
فمن علِم شيئا بدليله، بنصه وجب عليه أن يؤمن به، لكن أول ما يدخل في الدين يجب عليه أن يؤمن بهذا القدر المجزئ، وهو الذي يصح معه إيمان المسلم.
وكتبه ورسله الإيمان : وهو الاعتقاد الجازم الذي لا ريب فيه، ولا تردد بأن الله -جل وعلا- أرسل رسلاً لخلقه، وأن هؤلاء الرسل موحى إليهم من الله -جل وعلا-، وأن خاتمهم محمد -عليه الصلاة والسلام- فيؤمن به -عليه الصلاة والسلام- ويتبعه، فهذا هو القدر المجزئ، وما بعد ذلك -أيضا- يكون واجبا بقدر ما يصله من العلم، وفيها أشياء -أيضاً- مستحبة في تفاصيله .
طبعاً هذا الحديث قد نُدخل فيه العقيدة كلها، ويطول الكلام، لكن ننبهك على أصول في فهم هذه الأحاديث .
واليوم الآخر : القدر المجزئ منه، الذي يتحقق به قيام الركن -أن يؤمن بأن الله -جل وعلا- جعل يوماً يحاسب فيه الناس، يعودون إليه ويبعثهم من قبورهم ويلقون ربهم ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وأن المحسن يدخل الجنة وأن المسيء- يعني: الكفار- يدخل النار، وأن المسلم يدخل الجنة، هذا القدر واجب، ركن، وما بعد ذلك يكون بحسب العلم .
والقَدَر: يؤمن بالقدر: خيره وشره من الله -تعالى- بأن يؤمن … هذا هو القدْر المجزئ، بأنه ما من شيء يكون إلا وقد قدَّره الله -جل وعلا.
بمعنى: أنه -سبحانه- علِم هذا الشيء قبل وقوعه، وعِلْمُه بذلك أوَّل، وأنه كتب ذلك عنده -سبحانه وتعالى-.
ويغني عن اعتقاده الكتابة قبل العلم بدليلها أن يؤمن بالقدَر السابق، يعني: أن القدَر سابق، فيشمل ذلك … يشمل اعتقاده أن القدر سابق العلم: علم الله -جل وعلا-، والكتابة؛ لأن الأقسام الآتية مقارَنة أو لاحقة، وليست سابقة .
ويؤمن -أيضاً- بأن ما شاء الله -جل وعلا- كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما من شيء إلا والله -جل وعلا- هو الذي يخلقه -سبحانه- فيخلق -جل وعلا- جميع الأشياء كما قال: قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {16}سورة الرعد .
فإذًا الإيمان بالقدر … إيمانٌ بالقدَر السابق وبمشيئة الله وقدرته وخلقه؛ لإنفاذ القدَر السابق.
هذا قدر واجب لا يصح الإيمان بدونه، وهو الركن فيه أن يؤمن بسبق القدر.
وفيما يتعلق بالمقدور الواقع، يعني: بالقضاء الواقع، يعتقد أنه بمشيئة الله وخلقه لهذا الفعل يعلم مراتب القدر الأربعة، وتفاصيل ذلك، هذا بحسب ما يصل إليه من العلم فمنه واجب، ومنه مستحب.
إذا تقرر هذا فالإيمان الشرعي المراد به في هذا الموطن: الذي يكون قريناً للإسلام -كما فسرت لك-، يراد به: الاعتقاد الباطن.
فإذا قرن بين الإسلام والإيمان انصرف الإسلام إلى عمل اللسان وعمل الجوارح، والإيمان إلى الاعتقادات الباطنة؛ فلهذا نقول إذًا: لا يُتصور أن يوجد إسلام بلا إيمان، ولا أن يوجد إيمان بلا إسلام.
فكل مسلم لا بد أن يكون معه من الإيمان قدرٌ هو الذي ذكرنا صحَّح به إسلامه، ولو لم يكن عنده ذلك القدر ما سُمي مسلماً أصلاً، فلا يُتصور مسلم بلا إيمان، فكل مسلم عنده قدر من الإيمان، وهذا القدر هو القدر المجزئ الذي ذكرت لك.
وكل مؤمن عنده قدر من الإسلام مصحِّح لإيمانه، فإنه لا يُقبل من أحد إيمان بلا إسلام، كما أنه لا يقبل من أحد إسلام بلا إيمان.
فإذا قلنا: هذا مسلم، فمعناه: أنه وجد إسلامه الظاهر مع أصل الإيمان الباطن، وهو القدر المجزئ.

.. يتبع ..

الوافـــــي 09-02-2004 03:56 PM

إذا تقرر هذا فنقول: الإيمان يتفاوت أهله فيه، ولتفاوت أهله فيه صار الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، وصار المؤمن أعلى مرتبة من المسلم؛ لأن الإيمان في المرتبة التي هي أعلى من مرتبة الإسلام قد حقق فيها الإسلام، وما معه من القدر المجزئ من الإيمان، وزاد على ذلك فيكون إذًا إيمانه أرفع رتبة من إسلامه؛ لأنه اشتمل على الإسلام وزيادة.
ولهذا قال العلماء: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أحد الصحابة: ( أعطِ فلانا فإنه -يا رسول الله- مؤمن، فقال -عليه الصلاة والسلام-: أو مسلم، فأعادها عليه الصحابي، فقال -علية الصلاة والسلام-: أو مسلم ) .
فهذا قوله: "أو مسلم" فيها دليل على تفريق ما بين المسلم والمؤمن، فإن مرتبة المؤمن أعلى من مرتبة المسلم، كما دلت عليها آية الحجرات: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {14} سورة الحجرات ، فدل على أنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان الذي هي أعلى من مرتبة الإسلام .
فإذًا نخلص من هذا إلى أن الإيمان الذي هو تحقيق هذه الأركان الستة بالقدر المجزئ منه، ليس هو المراد بذكر هذه المراتب؛ لأنه داخل في قوله: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فتحقيق مرتبة الإيمان يكون بالقدر المجزئ، وما هو أعلى من ذلك؛ لأن الإيمان أعلى رتبة من الإسلام، والمؤمن أعلى رتبة من المسلم .
السَّلفُ تنوعت عباراتهم في الإيمان وأنواعه، فقالت طائفة منهم: الإيمان قول وعمل، وقالت طائفة: الإيمان قول وعمل واعتقاد، وقال آخرون: الإيمان قول وعمل ونِيّة .
وهذا مَصِير منهم إلى شيء واحد وهو أن الإيمان إذا أُطلق، أو جاء على صفة المدح لأهله في النصوص أو في الاستعمال فإنه يراد به الإيمان الذي يشمل الإسلام .
الْحَظْ هذا! إذا أُطلق … قلنا: الإيمان ولم نذكر الإسلام، أو جاء في مورد فيه المدح له، ولو كان مع الإسلام؛ فإنه يشمل الإسلام -أيضاً- لدخول العمل فيه، فنقول: هنا تنوعت عباراتهم، فقال بعضهم: الإيمان قول وعمل، من قال هذا فإنه يعني بالقول: قول القلب وقول اللسان، والعمل عمل القلب وعمل الجوارح.
وقول القلب: هو اعتقاده، وعمل القلب وعمل الجوارح: هذا هو العمل، وقول اللسان: هو القول رجع إلى أنه قول وعمل واعتقاد؛ لأن الاعتقاد داخل في قول من قال: قول وعمل، فالاعتقاد داخل في القول؛ لأن المراد به قول القلب، وقول اللسان، وقول القلب: هو اعتقاده .
من قال -وهم كثير- من السلف: قول وعمل ونية، يريد بالنية: ما يصح به الإيمان، فزاد هذا القيد تنبيها على أهميته، لقول الله -جل وعلا-: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {97}سورة النحل ، مَنْ عمِل وهو مؤمن صار القول والعمل مع النية، يعني: النية في القول والعمل، وهذا راجع أيضاً إلى الاعتقاد؛ لأن النية هي توجه القلب وإرادة القلب وقصد القلب.
فإذًا إذا اختلفت العبارات فالمعنى واحد، والإيمان عندهم -كما ذكرت لك- يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بشيئين؛ بنقص الطاعات الواجبة أو ارتكاب المحرمات .

قوله هنا: "بالقدَرِ خيره وشرِّه"، الشر هنا من باب إضافة القدر إلى العامل، أما فعل الله -جل وعلا- فليس فيه شر كما جاء في الحديث: ( والشر ليس إليك ) .
( قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) .
قال العلماء: الإحسان هنا ركن واحد، والإحسان جاء في القرآن مقرونًا بأشياء أيضًا، مقرونًا بالتقوى: إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ {128} سورة النحل ، ومقرونا -أيضاً- بالعمل الصالح، ومقرونا بأشياء .
وأيضاً أتى الإحسان مستقلاً كقوله -جل وعلا-: ‏ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {26} سورة يونس ، ويراد بالإحسان: إحسان العمل.
وقوله هنا في بيان ركنه: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) هذا ركن به يحصل الإحسان؛ لأن الإحسان مِن أحسن العمل إذا جعله حسنًا.
وإحسان العمل يتفاوت فيه الناس، ومنه قدر مجزئ يصح معه أن يكون العمل حسنًا، وأن يكون فاعله حسنًا، فكل مسلم عنده قدر -أيضاً- من الإحسان لا يصح عمله بدونه، ثم هناك القدر الواجب أو المستحب الآخر ليتفاوت الناس فيه بحسب الحال الذي يتحقق به هذه المرتبة.
فأما القدر المجزئ فأن يكون العمل حسنًا، بمعنى: أن يكون خالصاً ثوابه، يعني: أن تكون النية فيه صحيحة، وأن يكون على وفق السنة، وأما القدر المستحب فأن يكون قائماً في عمله على مقام المراقبة، أو مقام المشاهدة.
فمقام المراقبة هذا أقل، ومقام المشاهدة هذا أعظم المراتب التي يصير إليها العبد المؤمن، وهو أن يكون عنده الأشياء حق اليقين .
فأما المرتبة الأولى مرتبة المراقبة: فهي في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ذكر مقام المراقبة في قوله: ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وهي مقام أكثر الناس، فإنهم إذا وصلوا لهذه المرتبة فإنهم يعبدونه -جل وعلا- على مقام المراقبة.
فإذا راقب الله دخل في الصلاة بمراقبته لله، يعلم أن الله -جل وعلا- مطَّلع عليه، وأنه بين يدي الله -جل وعلا- كما قال -سبحانه- في سورة يونس: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ {61}.
فهذا مقام الإحسان بمراقبة الله -جل وعلا- للعبد، صلِّ صلاة مُوَدِّع لتعلم أن الله -جل وعلا- مراقبك، وأنه -جل وعلا- مطلع عليك، وما تفيض في شيء إلا وهو يعلمه -سبحانه- يعلم ذلك ويراه ويبصره منك -سبحانه وتعالى-.
فهذا مقام المراقبة، وكلما عظمت هذه رجعت إلى إحسان العمل. فإذا -مثلاً- المرء تحرك في صلاته فاستحضر مقام مراقبة الله -جل وعلا- له واطلاعه عليه فإنه مباشرة سيخشع لاستحضاره هذا المقام.

.. يتبع ..

الوافـــــي 09-02-2004 04:02 PM

مقام المراقبة أعلى منه لأهل العلم مقام المشاهدة، وهو الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( أن تعبد الله كأنك تراه ) فإن العبد المؤمن كلما عظم عِلمه وعظم يقينه بصفات الله -جل وعلا- وبأسمائه أرجعَ كل شيء يحصل في ملكوت الله إلى اسم من أسماء الله -جل وعلا- أو إلى صفة من صفاته.
والمشاهدة -كما ذكرت لك- في وصفها، وكل هذا راجع إلى الإحسان، إحسان العمل: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ {7} سورة هود ، وكلما عظم مقام المشاهدة أو المراقبة زاد إحسان العمل .
قال: ( فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) ؛ لأن علم الساعة عند الله -جل وعلا-: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {187} سورة الأعراف.
قال: ( فأخبرني عن أماراتها ) الساعة لها أمارات، وهي الدلائل والعلامات، والأمارات يعني: الأشراط كما جاء في آية سورة محمد قال -جل وعلا-: فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ {18} شورة محمد ، يعني: أشراط الساعة، وهي علاماتها، جمع شرط وهو العلامة البيِّنة الواضحة التي تدل على الشيء
قال: ( فأخبرني عن أماراتها ) .
أمارات الساعة قسمها العلماء إلى قسمين: أشراط وأمارات صغرى، وأشراط وأمارات كبرى، وهذا المذكور هنا هي الأمارات الصغرى، ذكر منها: ( أن تلد الأمَةُ ربَّتها ) .
والمقصود بالأشراط الصغرى أو الأمارات الصغرى: هي التي تحصل قبل خروج المسيح الدجال، فما كان قبل خروج المسيح الدجال مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من علامات الساعة، فإن هذا من الأشراط الصغرى.
ثم ما بعد ذلك من الأشراط الكبرى، وهي عشر تحصل تباعا في ذلك فمثلا قوله: ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوما كذا ) هذا من الأشراط الصغرى، ( لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من المدينة تضيء لها أعناق الإبل بالبصرة ) هذا من الأمارات الصغرى، ( لا تقوم الساعة حتى يفتح بيت المقدس ) أو اعْدُدْ سِتًّا كما في حديث عون بن مالك المعروف: ( اعْدُدْ سِتًّا بين يدي الساعة: موتي، وفتحُ بيت المقدس، ثم مُوتَانٌ يخرج فيكم كقُعَاصِ الغنم، ثم استفاضة المال ) … إلخ، هذه جميعاً أشراط صغرى.
وهذه الأشراط الصغرى ذِكْرُها لا يدل على مدح أو على ذم، فقد يذكر الشيء على أنه علامة من علامات الساعة وليس هذا دليلاً على أنه محمود أو مذموم، أو على أنه منهي عنه في الشريعة.
فقد يكون الشيء من الأشراط وهو من الأمور المحمودة في الشريعة، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي ذكرتُ لك حديث عوف بن مالك قال: ( اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس ) وهو من الأمور المحمودة، وقد يكون من الأمور المذمومة.
فإذًا وصف الشيء بأنه من أشراط الساعة الصغرى أو الكبرى لا يدل بنفسه، يعني: بكونه شرطاً لا يدل على مدحه أو ذمه بل هذا له اعتبار آخر.
قال هنا: ( فأخبرني عن أماراتها ) يعني: الأمارات الصغرى، قال: ( أن تلد الأمة ربتها ) ربتها يعني: سيدتها، فالأمة إذا ولَدت فإن مولودها الذكر أو الأنثى هو سيد كمالك الأمَة.
فإذًا الأمة هذه التي وَلدت هذا الولد أصبحت مَسُودَة له فهو سيِّد على أمِّه، والبنت سيدة على الأَمَة باعتبار أن الأب سيد؛ لهذا تعتق أم الولد بعد موت السيد؛ ولا تعتق بمجرد ولادتها منه بل بعد موته لأجل الولادة؛ فلذلك قال هنا: ( أن تلد الأمة ربتها ) .
الربة هنا بمعنى: السيدة تلد سيدتها؛ لأن البنت المولودة حرة وسيدة، وقال أهل العلم في هذا: هذا كناية أو إخبار عن كثرة الرقيق حيث يكثر هذا، وإلا فإنه موجود في العصور الأولى، في عهد الإسلام الأول، موجود فيما قبله وُلود الأمة لسيدها أو لسيدتها، وهذا غير المقصود به هذا الخبر بأنه من أمارات الساعة.
لكن المقصود به: أن يكثر ذلك بحيث يكون ظاهراً فيكون علامة، وقد حصل هذا، فقد حصل لما كثرت الفتوح صار الرجل يأخذ إماء كثيرة ويصير له عشر أو عشرون من الإماء، فيطأ هذه ويطأ هذه، فكل واحدة تنجب فيصبح الأولاد أسيادا على الأمهات لكثرة الرقيق .
قال: ( وأن ترى الحُفَاة العُراة العالة رِعَاءَ الشاة يتطاولون في البنيان ) يعني: أن ترى الفقراء الذين ليسوا بأهل للغنى، وليسوا بأهل للتطاول لِما جعلهم الله -جل وعلا- عليه مِن رعي للشاة أو تتبع للجِمال أو نحو ذلك، جعلهم الله -جل وعلا- على هذا، فمن العلامات أنهم يتركون هذا الذي هو لهم، ويتجهون للتطاول في البنيان.
والتطاول في البنيان جاء في ذمِّه أحاديث كثيرة معروفة، فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يتطاولون في البنيان، بل كانت منازلهم قصيرة -رضوان الله عليهم- ففي هذا ذمٌّ للذين يتطاولون في البنيان، وهم ليسوا أصلاً بأهل لذلك.
وهذا فيه تغير الناس وكثرة المال، وأن يكون المال في أيدي مَن ليس له بأهل .
قال: ( ثم انطلق، فلبثت مليًّا ) انطلق يعني: جبريل، "فلبثتُ": ذلك عمر رضي الله عنه مليًّا: جاءت في بعض الروايات أنها ثلاثة أيام، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ( يا عمرُ أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) .
أخبره -عليه الصلاة والسلام- بذلك مع علمه -عليه الصلاة والسلام- به، أخبره حتى يعظم وقع هذه الأسئلة، وجواب هذه الأسئلة .
ونسأل الله -جل وعلا- أن ييسره لي ولكم
وأستغفر الله العظيم
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .

إنتهى شرح الحديث الثاني

.. يتبع ..

أميرة الثقافة 12-02-2004 05:39 AM

رائع اخي الوافي


من اجمل ما رأيت من فلاشات


جزاك الله خيرا وكتبها في ميزان حسناتك

الوافـــــي 12-02-2004 08:07 PM

الأخت / أميرة الثقافة


شكرا لمرورك الكريم أختي الفاضلة وتعليقك
وجزاك الله خيرا على طيب ما كتبتِ

تحياتي

:)

الوافـــــي 15-02-2004 04:40 AM

الحديث الثالث

بني الإسلام على خمس

قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ) رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث فيه ذكر دعائم الإسلام ومبانيه العظام
وهي الخمس المعروفة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه واحدة باعتبار أن كلا من شقيها شهادة
والثاني: إقام الصلاة
والثالث: إيتاء الزكاة
والرابع: الحج
والخامس: صوم رمضان .
وهذا الحديث من الأحاديث التي استدل بها على أن أركان الإسلام خمسة، وهذا الاستدلال صحيح؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( بني الإسلام على خمس ) يدل على أن البناء يقوم على هذه الخمس، وغير هذه الخمس مكملات للبناء، ومعلوم أن البناء يحسن السكنى فيه، ويكون جيدا، وفيه العبد سعيداً إذا كان تاماً .
وكلما كان أتم كان العبد فيه أسعد، والإسلام إذا أتى العبد بمبانيه الخمس هذه فقد حقق الإسلام، وكان له عهد عند الله -جل وعلا- أن يدخله الجنة .
قال في أوله -عليه الصلاة والسلام-: ( بني الإسلام على خمس ) ولفظ "بُني" يقتضي أن هناك من بناه على هذه الخمس، فلم يذكر الباني على هذه الخمس، والمقصود بالباني: الشرع أو المُشَرِّع .
فالذي بنى الإسلام على هذه الخمس هو الله -جل جلاله- وهو الشارع -جل وعلا- والنبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه -جل وعلا- وليس هو شارعاً على جهة الاستقلال، وإنما هو -عليه الصلاة والسلام- مبلغ أو مشرِّع على جهة التبليغ .
على الصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا هنا أن الإسلام بني على هذه الخمس
والمقصود بالإسلام هنا: الدين؛ لأن الدين هو الإسلام كما قال -جل وعلا-: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ {19} سورة آل عمران ، والإسلام في قوله: ( بني الإسلام على خمس ) المقصود منه: الإسلام الخاص الذي بعث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام .

.. يتبع ..

الوافـــــي 15-02-2004 04:44 AM

والإسلام في القرآن وفي السنة له إطلاقان:
الإطلاق الأول: الإسلام العام الذي لا يخرج عنه شيء من مخلوقات الله -جل وعلا- إما اختيارا، وإما اضطرارا ، قال -جل وعلا-: أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {83}سورة آل عمران ، وقال -جل وعلا-: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {85}سورة آل عمران ، وقال -جل وعلا- عن إبراهيم -عليه السلام-: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {67} سورة آل عمران
وقال -جل وعلا-: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ {78}‏سورة الحج .
فالمقصود: أن لفظ الإسلام هذا هو الذي يقبله الله -جل وعلا- من العباد المكلفين ديناً، فآدم عليه السلام مسلم وكل الأنبياء وأتباع الأنبياء والرسل جميعاً على دين الإسلام الذي هو الإسلام العام، وهذا الإسلام العام هو الذي يفسر بأنه: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فهذا هو ملة إبراهيم وهو الذي دانَ به جميع الأنبياء والمرسلين ومَن تبعهم .
أما الإسلام الخاص فيراد به: الإسلام الذي بعث به محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي إذا أطلق الإسلام لم يعن به إلا هذا على وجه الخصوص؛ لأن الخاص مقدم على العام في الدلالة؛ ولأن هذا الاسم خصت به هذه الأمة، وخص به النبي -عليه الصلاة والسلام- فجعل دين المصطفى صلى الله عليه وسلم الإسلام.
فإذًا المقصود هنا بقوله: ( بني الإسلام ) يعني: الإسلام الذي جاء به نبينا محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- .
أما الإسلام الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون فهو من حيث التوحيد والعقيدة كالإسلام الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم محمد في أصوله وأكثر فروع الاعتقاد والتوحيد.
وأما من حيث الشريعة فإنه يختلف؛ فإن شريعة الإسلام غير شريعة اليهود غير شريعة عيسى -عليه السلام- غير شريعة موسى … إلى آخر الشرائع .
وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأنبياء أخوة لعلات الدين واحد والشرائع شتى ) فقوله هنا -عليه الصلاة والسلام-: ( بني الإسلام ) يعني: الذي جاء به محمد -عليه الصلاة والسلام- فلا يتصور من هذا أنه يعم ما كان عليه الأنبياء من قبل- فالأنبياء ليس عندهم هذه الشريعة من جهة إقامة الصلاة على هذا النحو، أو إيتاء الزكاة على هذا النحو أو صيام رمضان ... إلخ، فهذا بقيوده مما اختصت به هذه الأمة .
قال: ( على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله ) ويجوز في شهادةِ ونظائرها أن تكون مجرورةً على أنها بدل بعض من كل
يعني: تقول: على خمسٍ شهادةِ، فخمس شُمول، وشهادة بعض هذا الشمول، فتكون بدل بعض من كل.
ويجوز أن تستأنفها، فتقول: على خمسٍ: شهادةُ أن لا إله إلا الله على القطع كما قال -جل وعلا - : وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {76} سورة النحل ، رجلين أحدُهما، وهذا شائع كثير، وإذا ذكرت نظائرها فيجوز فيها الوجهان: الجرّ على البدلية، والرفع على القطع والاستئناف.

.. يتبع ..

الوافـــــي 15-02-2004 04:48 AM

( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله )
الشهادة مأخوذة من شهد يشهد شهودًا وشهادة إذا علم ذلك بقلبه فأخبر به بلسانه وأعلم به غيره، ولا تكون شهادة حتى يجتمع فيها هذه الثلاث: أن يعتقد، ويعلم بقلبه، وأن يتلفظ … يقول بلسانه معلما بها الغير، طبعاً إذا لم يكن ثمة عذر شرعي عن الإعلام -إعلام الغير- كالإكراه أو اختفاء أو ما أشبه ذلك مما تجوز فيه التَّقِيَّة .
فإذًا قوله: ( شهادة أن لا إله إلا الله ) يعني: العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والنطق بذلك والإعلام به.
وكل شهادة هي بهذا المعنى، والشاهد عند القاضي لا يُسمى شاهداً حتى يكون علِم ثم نطق … تكلم بذلك فأعلَمَ به القاضي؛ سمي شاهداً لأجل ذلك . وقد يتوسع فيقال في المعاني: إنها شواهد لأجل تنزيلها في النهاية منزلة الشهادة الأصلية .
( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ) أنْ لا إله إلا الله "أنْ" هذه هي التفسيرية، وضابطها أنها تأتي بعد كلمة فيها معنى القول دون حروف القول . وقد يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة أيضا، يعني: شهادة أنه لا إله إلا الله .
"لا إله إلا الله": هي كلمة التوحيد، و"لا إله": نفي ، و"إلا الله": إثبات، والمنفي استحقاق أحد العبادة؛ لأن الإله هو المألوه … هو المعبود، وإلا الله: هذا إثبات، يعني: إثبات استحقاق العبادة لله -جل وعلا- دونما سواه، ونفي هذا الاستحقاق عما سواه.
فإذا قلنا: كلمة التوحيد نفي وإثبات، فهذا معناه أنها تنفي استحقاق العبادة عما سوى الله، وتثبت استحقاق العبادة لله -جل وعلا- وحده
فمن شهد أن لا إله إلا الله يكون اعتقد وأخبر بأنه لا أحد يستحق شيئا من أنواع العبادة إلا الله وحده لا شريك له.
وفى ضمن ذلك أن مَن توجه بالعبادة إلى غيره فهو ظالم متعدٍّ باغٍ على حق الله -جل جلاله.
( وأن محمداً رسول الله ) يعني: أن يعتقد ويخبر ويعلن بأن محمداً هو محمد بن عبد الله القرشي المكي أنه رسول من عند الله حقا، وأنه نزَل عليه الوحي؛ فأخبره بما تكلم الله تعالى به، وأنه إنما يبلغ عن الله -جل وعلا- وهذا واضح من كلمة رسول فإن الرسول مبلغ .
والرسل البشريون مبلغون … من لفظ الرسالة، كما أن الملائكة رسل من لفظ الملائكة، فالرسول يأخذ من الله -جل وعلا- ويبلغ الناس ما أخذه عن الله -جل وعلا.
معلوم أن الرسل من البشر لم يجعل الله لهم -عليهم الصلاة والسلام- لم يجعل الله لهم خاصية أن يأخذوا الوحي منه مباشرة ، وأن يسمعوا الكلام منه، يعني: في عامة الوحي، وقد يسمعون بما أذِنَ الله -جل وعلا- لهم في بعض الرسل .
فالمَلَك رسول فيلقي الخبر على هذا الرسول، فاعتقاداً أن محمدا رسول الله اعتقاد أنه مُبَلَّغٌ ومُبَلِّغٌ، هو رسول من الله -جل وعلا- لم يلكمه الله -جل وعلا- بكل الوحي مباشرة، وإنما أوحى إليه عن طريق جبريل -عليه السلام- واعتقاد -أيضاً- أنه خاتم المرسلين، وأن محمدا رسول الله أنه خاتم الرسل -عليه الصلاة والسلام .
وهذا معنى الشهادة من اعتقاد أنه موحَى إليه من الله، وأنه رسول حق وأنه خاتم الرسل، تمت له هذه الشهادة.
وهذه الشهادة بأن محمد رسول الله لها مقتضى
وهذا المقتضى: هو طاعته -عليه الصلاة والسلام- فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرعه رسوله -صلى الله عليه وسلم .

.. يتبع ..

الوافـــــي 15-02-2004 04:51 AM

قال: ( وإقام الصلاة )
التعبير عن الصلاة بلفظ "إقام الصلاة" هذا لأجل مجيئها في القرآن هكذا:
( أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً {78}سورة الإسراء ، وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ {43}سورة البقرة ، إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55}سورة المائدة ،… ونحو ذلك من الآيات.
ففي القرآن أن الصلاة تُقام، ومعنى كونها تقام يعني: أن تكون على صفة … تكون قائمة بإيمان العبد، وهذا هو معنى قول الله -جل وعلا- : اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {45}‏ سورة العنكبوت ، فمن لم يقم الصلاة لم تَنْهَهُ الصلاة عن الفحشاء والمُنكر .
( وإيتاء الزكاة )
أيضاً لفظ الإيتاء المقصود به … أو قيل فيه: إيتاء؛ لأجل مجيئه في القرآن.
( وحج البيت ) كذلك "وصوم رمضان" كذلك
يعني: اختيرت هذه الألفاظ بلَّغها النبي صلى الله عليه وسلم هكذا لموافقتها لما جاء في القرآن فيها، فلو قيل في الزكاة: إعطاء الزكاة لجاز، ولو قيل في الصلاة: تأْدِيَة الصلاة لجاز ذلك ولكن إتباع ما جاء في القرآن أولى في هذا الأمر. هذا من جهة ألفاظ الحديث.
هذا الحديث دل على أن هذه الخمسَ أركانٌ، وقد ذكرت لك البارحة أن التعبير عن هذه الخمس بالأركان إنما هو مصطلح حادث عند الفقهاء؛ لأنهم عرَّفوا الركن بأنه: ما تقوم عليه ماهية الشيء، وأن الشيء لا يُتصور أن يقوم بلا ركنه.
فمثلاً يقولون: البيع أركانه … ما تقوم عليه ماهية البيع … لا يمكن أن تتصور بيعاً موجوداً إلا أن يكون هناك: بائع، ومشتري، وهناك سلعة تُباع وتُشترى، يعني: سلعة يقوم عليها ذلك، وهناك صيغة … يعني: واحد يقول: خذ وهات، أو بِعْتُ، والثاني يقول: اشتريتُ، أو ما أشبه ذلك.
فإذًا الأركان كيف نستنتجها؟ ما تقوم عليها حقيقة الشيء … تتصور شيئا … كيف يوجد؟ دعائمُ وجوده هي الأركان .
النكاح -مثلاً- أركان النكاح ما هي؟ ما يقوم عليها النكاح، ما يُتصور أن يوجد نكاح إلا بزوجين، أليس كذلك؟ وبصيغة. زوج يعني: رجل وامرأة، وصيغة. هذا حقيقته -يعني من حيث هو.
يأتي هناك أشياء شرعية لتصحيح هذه الأركان، يقال: يشترط في الزوج المواصفات كذا وكذا، يشترط في المرأة أن يعقد لها وليها، يشترط في الصيغة أن تكون كذا وكذا … إلى آخره، فغيرُها تكون شروطاً .
فإذًا الركن عندهم: ما تقوم عليه ماهية الشيء أو حقيقة الشيء، فهذه الخمس سميت أركانا، أو قيل عنها: أركان الإسلام.
وهذه التسمية يشكل عليها … أو هذا الإطلاق أنها أركان الإسلام يشكل عليها أن أهل السُّنة قالوا: إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأدى الصلاة المفروضة وترك بقية الأركان تهاوناً وكسلاً فإنه يطلق عليه لفظ المسلم، ولا يسلب عنه اسم الإسلام بتركه ثلاثة أركان تهاوناً وكسلاً.
وهذا متّفق مع قولهم في الإيمان : الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويعنون بالعمل جنس العمل، ويمثله في أركان الإسلام الصلاة .

.. يتبع ..

الوافـــــي 15-02-2004 04:53 AM

فإذًا نقول: مرادهم بهذا ما دلت عليه الأدلة الشرعية، ودلت عليه قواعد أهل السنة من أن هذه الأركان ليس معنى كونها أركاناً أنه إن فقد منها ركن لم تقم حقيقة الإسلام، كما أنه إذا فقد من البيع ركن لم تقم حقيقة البيع، لا يتصور أن هناك بيع بلا بائع، أليس كذلك؟ ولا نكاح بلا زوج؟
أما الإسلام فيتصور أن يوجد الإسلام شرعاً بلا أداء للحج، يعني: لو تُرك الحج تهاوناً؛ فإنه يقال عنه: مسلم، أو ترك تأدية الزكاة تهاوناً لا جحدًا؛ فإنه يقال عنه: مسلم ، وهكذا في صيام رمضان.
الصلاة اختلفوا فيها. اختلف فيها أهل السنة: هل ترْكُ الصلاة تهاوناً وكسلاً يسلب عنه اسم الإسلام أو لا؟ فقالت طائفة من أهل السنة: إنَّ تَرْكَ الصلاة تهاوناً وكسلاً لا يسلب عن المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله … لا يسلب عنه اسم الإسلام، وإنما يكون على كبيرة، وهو في كفر أصغر، وهذا قول طائفة قليلة من علماء أهل السنة.
وقال جمهور أهل السنة: إنَّ تَرْكَ الصلاة تهاوناً وكسلاً كُفْرٌ، وأنه مَن ترَكَ الصلاة فليس له إسلام، يعني: ولو أتى بتأدية الزكاة وصيام رمضان والحج، وهذا هو الصحيح لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك.
والصحابة أجمعوا على أن الأعمال جميعاً المأمور بها تركُها ليس بكفر إلا الصلاة، كما قال شقيق بن عبد الله فيما رواه الترمذي وغيره: ( كانوا -أي الصحابة- لا يرون من الأعمال شيئا تركُه كُفر ) .
والصلاة يُجمع على أن تركَها كفر،
وهو الذي دل عليه قول الله -جل وعلا-: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42} قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ {43}سورة المدثر ، إلخ الآيات
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: ( بين الرجل وبين الشرك -أو قال: الكفر- ترك الصلاة )
وفى السنن الأربعة وفى المُسنَد وفي غيرها بإسناد صحيح من حديث بريده رضي الله عنه مرفوعا: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( بين الرجل وبين الشرك -أو قال: الكفر- ترك الصلاة ) دلنا على أن ترك الصلاة كفرٌ أكبر.

.. يتبع ..

الوافـــــي 15-02-2004 04:55 AM

وذلك أن القاعدة أن لفظ الكفر إذا جاء في النصوص فإنه يأتي على وجهين:
الوجه الأول : يأتي مُعرَّفًا، والوجه الثاني يأتي منكراً بلا تعريف، فإذا أتى منكراً فإنه يكون معناه الكفر الأصغر، وإذا أتى معرفا فتكون (ال) فيه إما للعهد: عهد الكفر الأكبر … العهد الشرعي في ذلك ، وإما أن تكون للاستغراق، يعني: استغراق أنواع الكفر .
مثلاً- في الكفر المنكَّر قال -عليه الصلاة والسلام-: ( ثنتان في الناس هما بهم كُفْرٌ: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت ) ( ثنتان في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن ) هذا حديث آخر .
قال أيضاً -عليه الصلاة والسلام-: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض ) وأشباه ذلك مِن ذكر كلمة الكفر مُنَكَّرَة (كفر) .
فإذا قيل في الكفر: كفر، فهذا الأصل فيه أنه كفر أصغر؛ لأن الشارع جعله منكراً في الإثبات، وإذا كان منكرا في الإثبات فإنه لا يعم، كما هو معلوم في قواعد الأصول، أما إذا أتى معرَّفاً فإن المقصود به الكفر الأكبر.
فإذًا نقول: الصحيح أن ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً كفر أكبر، لكن كفره باطن وليس كفره ظاهرا، وليس بباطن وظاهر جميعاً حتى يثبت عند القاضي؛ لأنه قد يكون له شبهة من خلاف أو فهم أو نحو ذلك.
ولهذا لا يحكم بردة من ترك الصلاة بمجرد تركه، وإنما يطلق على الجنس أن مَن ترك الصلاة فهو كافر الكفر الأكبر، وأما المعيَّن فإن الحكم عليه بالكفر وتنزيل أحكام الكفر كلها عليه هذا لا بد فيه من حكم قاضٍ يدرأ عنه الشبهة ويستتيبه حتى يؤدي ذلك.
وهذا هو المعتمد عند جمهور أهل السنة -كما ذكرت لك-، وغير الصلاة الأمر على عكس ما ذكرت .
جمهور أهل السنة على أن مَن ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً أو من ترك الصيام أو من ترك الحج فإنه لا يكفر بتركها تهاوناً وكسلاً؛ لأنه ما دل الدليل على ذلك
وقالت طائفة من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم: إن من ترك بعض هذه أنه كافر على خلاف بينهم في ذلك.
فعمر رضي الله عنه ظاهر قوله: أن ترك الحج مع القدرة عليه ووجود الاستطاعة المالية والبدنية أنه كفر، حيث قال لعماله في الأمصار: أن يكتبوا له مَن وجد سعة من المسلمين ثم لم يحجوا أن تضرب عليهم الجزية، قال: ما هم بمسلمين … ما هم بمسلمين.
وكَفَّر -أيضاً- بعض الصحابة كابن مسعود مَن ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً، وهذا خلاف ما عليه الجمهور -جمهور الصحابة- ومن بعدهم في أن من تركها بلا امتناع وإنما ترك الزكاة أو ترك الصيام أو ترك الحج تهاوناً منه أنه لا يكفر، ومنهم من قال بكفره يعني: على عكس مسألة الصلاة .
فنقول: إذًا مسألة الصلاة الجمهور -جمهور أهل السنة- على تكفير من تركها تهاوناً وكسلاً .
وهناك من أهل السنة من لم يكفِّر من تركها تهاوناً وكسلاً ، وبقية الثلاثة الأركان العملية جمهور أهل السنة على أنه لا يكفر وهناك من كفَّره.
هذه الأركان منقسمة إلى ثلاثة أقسام، وخصت بالذكر لعظم مقامها في هذه الشريعة وعظم أثرها على العبد.
فالشهادتان نصيب القلب والإيمان، فبهما يتحقق الإيمان الذي هو أصل الاعتقاد والعمل، والصلاة عبادة بدنية محضة، والزكاة عبادة مالية محضة، والحج مركب من العبادة المالية والعبادة البدنية، وصوم رمضان عبادة بدنية محضة.
لهذا قال طائفة من المحققين من أهل العلم: إنه جاء في هذه الرواية تقديم الحج على الصوم فقال: ( وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان ) وصوم رمضان في بقية الروايات قدم على الحج فقال: ( وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) .
وسبب تقديم الحج على الصيام: أن الأمر على ما ذكرت لك من أن الصوم من حيث جنس دلالته مُمَثَّلٌ في الصلاة، فالصلاة حق البدن المحض يعني: عبادة وجبت وتعلقت بالبدن محضة، والزكاة عبادة تعلقت بالمال محضة، والحج عبادة تركبت من المال والبدن فصارت قسماً ثالثاً مستقلاً، وأما الصوم فهو من حيث هذا الاعتبار مكرر للصلاة، وعلى هذا الفهم بنى البخاري -رحمه الله تعالى- صحيحه فجعل كتاب الحج مقدما على كتاب الصوم؛ لأجل أن الحج عبادة مركبة من المال والبدن؛ فهي جنس من حيث هذا الاعتبار جديد، والصيام جنس سبق مثله وهو إقام الصلاة .

إنتهى شرح الديث الثالث

تحياتي

:)

الوافـــــي 27-02-2004 12:51 PM

الحديث الرابع

إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة

وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتْبِ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله إلا غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) رواه البخاري ومسلم
هذا الحديث هو الرابع من هذه الأحاديث المباركة، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه فيه ذكر القدر وذكر جمع الخلق في رحم الأم.
وهذا الحديث أصل في باب القدر والعناية بذلك، والخوف من السوابق والخوف من الخواتيم، وكما قيل: قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: ماذا يختم لنا، وقلوب السابقين أو المقربين معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا.
وهذا وهو الإيمان بالقدر والخوف من الكتاب السابق والخوف من الخاتمة، هذا من آثار الإيمان بالقدر خيره وشره، فإن هذا الحديث دل على أن هناك تقديرًا عمريًا لكل إنسان، وهذا التقدير العمري يكتبه المَلك بأمر الله -جل وعلا- كما جاء في هذا الحديث .
إذًا هذا الحديث مَسُوقٌ لبيان التقدير العمري لكل إنسان؛ وليخاف المرء السوابق والخواتيم؛ وليؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، والسوابق في عمل العبد والخواتيم متصلة كما قيل: الخواتيم ميراث السوابق.
فالخاتمة ترثها لأجل السوابق، فما من خاتمة إلا وسببها بلطف الله -جل وعلا- ورحمته أو بعدله وحكمته. سوابق المرء في عمله وهي جميعاً متعلقة بسوابق القدر.
هذا الحديث قال فيه ابن مسعود رضي الله عنه "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق": قوله: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم هذا فيه استعمال لفظ التحديث من ابن مسعود رضي الله عنه وهو أحد ألفاظ التَّحَمُّل المعروفة عند المحدثين؛ ولهذا استعملها العلماء كثيراً في صيغ التحديث، واستعملوا -أيضاً- لفظ أخبرنا، وقد رواه الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فالمحدثون اختاروا من ألفاظ التحمل "حدثنا" وهي أعلاها؛ لأجل قول الصحابة حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث مثال لذلك، واختاروا "أخبرنا" -أيضاً- لقول الصحابة أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وزادوا عليها ألفاظاً من ألفاظ التحمل .

.. يتبع ..

الوافـــــي 27-02-2004 12:53 PM

قوله: "وهو الصادق المصدوق":
هو الصادق: يعني الذي يأتي بالصدق والصدق، حقيقته الإخبار بما هو موافق للواقع، والكذب ضده وهو الإخبار بما يخالف الواقع، والمصدوق: هو المصدَّق يعني الذي لا يقول شيئاً إلا صُدِّقَه.
وقول ابن مسعود هنا "وهو الصادق المصدوق" هذه تهيئة … هذه فيها أدب للمعلم أن يهيئ العلم لمن يعلمه ومن يخبره بالعلم؛ لأن هذا الحديث فيه شيء غيبي لا يدرك لا بالحس ولا بالتجربة، وإنما يُدرك بالتسليم والعلم بالخبر لصدق المخبِر به -عليه الصلاة والسلام- ففيه ذكر تنوع الحَمْل.
ومعلوم أن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يعلمون ذلك الزمان لم يكونوا يعلمون تطور هذه المراحل بعلم تجريبي أو برؤية أو بنحو ذلك، وإنما هو الخبر الذي يصدقونه، فكانوا علماء لا بالتجريب وإنما بخبر الوحي على النبي -صلوات الله عليه وسلامه .
قال: "وهو الصادق المصدوق" يعني: الذي لا يخبر بشيء على خلاف الواقع، وهو الذي إذا أخبر بشيء صُدِّقه مهما كان، وهذا من جراء التسليم له -عليه الصلاة والسلام- بالرسالة.
قال: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ) لفظ "يُجمع" كأنه كان قبل ذلك متفرقاً فجُمع نطفة، والنطفة معروفة، وهي: ماء الرجل وماء المرأة، أو ما شابه ذلك قبل أن يتحول إلى دم، والعلقة قطعة الدم التي تعلق بالشيء وهي تعلق بالرحم، والمضغة هي قطعة اللحم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ) يعني: أنه يكون ماء لمدة أربعين يوماً لا يتحول إلى دم هذا المدة -يعني- من حيث من بداية وضع النطفة في الرحم تستمر أربعين يوماً على هذا النحو.
وهل يعني استمرارها هذه المدة أنها في هذه المدة لا يكون فيها أي نوع من التصوير أو الخلق أو نحو ذلك؟ لا يدل هذا الحديث على ذلك وإنما يدل على أن هذه المدة تكون نطفة، أما مسألة التصوير، ومتى تكون فهذه لم يعرض لها في هذا الحديث، وإنما في أحاديث أخرى.
قال: ( ثم يكون علقة مثل ذلك ) يعني: يكون دماً متجمداً في رحم الأم أربعين يوماً أخرى.
قال: ( ثم يكون مضغة مثل ذلك ) يعني: يتحول إلى مضغة، وهي قطعة اللحم -أيضاً- أربعين يوماً أخرى، وهذه -تحوُّل من الدم إلى اللحم … إلى آخره- قال فيها -عليه الصلاة والسلام-: "ثم يكون" وكلمة "ثم" هذه تفيد التراخي والتراخي -كما هو معلوم -في كل شيء بحسبه، والتصوير يكون في أثناء هذه المدة.

.. يتبع ..

الوافـــــي 27-02-2004 12:54 PM

وقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا بلغت النطفة ثِنتين وأربعين ليلة أرسل إليها الملك فيأمره الله -جل وعلا- بتصويرها، ثم يقول: أي ربي، أذكر أم أنثى؟ فيأمر الله ما شاء ويكتب الملَك، ثم يقول: أي ربي، شقي أم سعيد؟ فيقول الله أو يأمر الله بما شاء ثم يكتب المَلَك ، ثم يقول: أي ربي، رزقه؟ فيقول الله ما شاء ثم يكتب الملك ) .
فهذا يدل على أن التصوير سابق لتمام هذه المدة، وأن التصوير يكون بعد ثنتين وأربعين ليلة، وقد قال -جل وعلا- : ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ {8}سورة الإنفطار وهذا التصوير معناه التخطيط، فإن هناك ثلاثة ألفاظ ، ألفاظ التكوين: تكوين المخلوق وهي التصوير، والخلق، والبَرْء: ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {24}‏سورة الحشر .
فالمصور معناه: الذي يجعل الشيء على هيئة صورة مخططة، الخالق أو خلق الشيء … خلق الجنين: أن يجعل لها مقاديرها من الأطراف والأعضاء ونحو ذلك، والبرء: أن تتم وتكون تامة، يعني: أن يبرأ ما سبق وهذا في الجنين واضح، فإن الجنين يصور -أولاً- قبل أن تخلق له الأعضاء.
فلو رُئي الجنين … بعض الأجنة إذا سقط في تسعين يوماً أو في أكثر من ثمانين يوماً ونُظر إليه إذا أسقطته الأم ونظر إليه وُجد أنه كلوحة عليها خطوط، يعني: العين مرسومة رسمًا ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {14}سورة المؤمنون.
وتجد أنه كالتخطيط في شيء شفاف، وهذا لم تتكون الأعضاء، وإنما هذا التصوير، وهذا كما جاء في حديث حذيفة يفعله الملك بأمر الله -جل جلاله.
والملائكة موكلون بما يريد الله -جل وعلا- منهم كما قال -سبحانه-: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ {11}‏ سورة السجدة ، فالملائكة موكلون بما شاء الله -جل وعلا- أن يفعلوه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6}سورة التحريم .
نستفيد -أيضاً- من هذا أن في هذه المدة يكتب: هل هو ذكر أم أنثى؟ كما جاء في حديث حذيفة الذي ذكرت لك في مسلم أنه بعد الثنتين والأربعين ليلة يسأل الملَك فيقول: ( أي ربي، ذكر أم أنثى؟ فيقول الله -جل وعلا- أو يأمر الله -جل وعلا- بما شاء فيكتب الملك ) .
قال طائفة من المحققين من أهل العلم: إنه بذلك يعني بعد الثنتين والأربعين يخرج علم نوع الجنين من كونه ذكرا أو أنثى عن اختصاص الله -جل وعلا- به؛ لأن الله -جل وعلا- اختص بخمسة من علم الغيب اختص بخمسة لا يعلمها إلا الله، ومنها: أنه -جل وعلا- ( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {34}‏سورة لقمان .
وما في الأرحام كثيرة … ما في الأرحام يشمل: مَن في الرحم، ويشمل ما في الرحم ( اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ {8} سورة الرعد ، وهذا العلم الشمولي بتطور الجنين في بطن أمه لحظة بلحظة لا أحد يعلمها إلا الله -جل جلاله-.
أما العلم بكون الجنين ذكرا أو أنثى فهذا من اختصاص علم الله -جل وعلا- قبل الثنتين والأربعين ليلة، فإذا أعْلَم الملَك بذلك دل الحديث على خروجه عن العلم الذي لا يعلمه إلا الله -جل وعلا.
ولهذا في بعض الأعصر المتقدمة كان بعض أهل التجريب كما ذكر ذلك ابن العربي في تفسيره "أحكام القرآن" بعض أهل التجريب كان ينظر إلى رحم المرأة … ينظر إلى المرأة الحامل، ويقول: في بطنها ذكر أم أنثى، يعني: إذا عظم بطنها.
وذكر العلماء: أن هذا ليس فيه ادعاء علم الغيب؛ لأن الاختصاص فيما قبل ذلك، منهم من يقيِّد الاختصاص بما قبل نفخ الروح، فيهم وهو الصحيح أن يقيد الاختصاص بما قبل الثنتين وأربعين ليلة كما دل عليه الحديث الصحيح الذي ذكرت لك .
وفى الزمن هذا يعرف -أيضاً- هل هو ذكر أم أنثى بالوسائل الحديثة وليس في هذا ادعاء علم الغيب؛ لأنهم لا يعلمون قطعاً ولا يستطيعون أن يعلموه إلا بعد هذه المدة التي ذكرنا، وأما قبلها فإنها من اختصاص علم الله -جل وعلا- مع أنهم لا يعلمونها إلا بعد أن تنفصل أو تتميز آلة الذكر من الأنثى، يعني: فرج الذكر من فرج الأنثى وهذا يكون بعد مدة .

.. يتبع ..

الوافـــــي 27-02-2004 12:56 PM

قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: ( يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ) وهذه مائة وعشرون يوماً، يعني: أربعة أشهر.
قال: ( ثم يرسل إليه الملك ) هذا ملك آخر ملَك موكَّل بنفخ الروح أو هو الملك الأول ولكن هذا إرسال آخر، قال: ( فينفخ فيه الروح ويأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد ) .
هنا نظر العلماء في ذلك فقالوا: هذا الحديث يدل على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، وعلى هذا بنى الإمام أحمد وجماعة من أهل العلم قولهم: إن الجنين إذا سقط لأربعة أشهر غُسِّل وصلي عليه؛ لأنه قد نفخ فيه الروح بدلالة هذا الحديث وأحاديث أُخَر دلت على أنه يكتب رزقه وأجله كما ذكرنا وشقي أو سعيد قبل ذلك .
فكيف نوفق بين الأحاديث التي فيها ذكر الكتابة قبل هذه المدة، وذكر الكتابة بعد تمام المائة وعشرين يوماً أي بعد تمام الأربعة أشهر .
للعلماء أقول في ذلك وأفضلها: أن هذا الذي جاء في هذا الحديث على وجه التقديم والتأخير، وذلك أن إدخال الكتابة في أثناء ذكر تدرج الحمل هذا من حيث اللغة غير مناسب، بل المراد أولاً أن يذكر التدرج ثم بعد ذلك ذكر نفخ الروح؛ لتعلقه بما قبله، وأما الكتابة فإنها وإن كانت في أثناء تلك المائة وعشرين يوماً فأخرت لأجل أنه لا يناسب إدخالها لترتيب تلك الأطوار بعضها على بعض .
يعني: أن اللغة يقتضي حسنها أن لا تدخل الكتابة بين هذه الأطوار فالمقصود هنا ذكر هذه الأطوار الثلاثة: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، فذِكر الكتابة في أثنائها يقطع الوصل، وهذا له نظائر في اللغة، ومنه قول الله -جل وعلا- في سورة السجدة: ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ {7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ {8} ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ {9}… إلخ الآية .
فهنا كان الترتيب: ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ {7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ {8} سورة السجدة ، مع أن النسل هذا ليس بأول هنا، يعني: نفخ الروح سبق وجود النسل، بدأ خلق الإنسان من طين ثم نفخت الروح ثم جُعل النسل من ماء مهين.
فهنا أخَّر نفخ الروح مع أنه بينهما؛ لأجل أن يتناسب الطين مع الماء، قال: ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ {7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ {8}سورة السجدة .
وبهذا تتفق الأحاديث ولا يحسن في مثل هذه المجالس المختصرة أن نعرض اختلاف الرواية في هذا وكثرة الاعتراضات أو الإشكالات فيها لكن هذا هو أولى الأقوال في هذه المسألة وأقربها من حيث اللغة ومن حيث جمع الأحاديث.
إذا تقرر هذا فنفخ الروح هل هو متعلق بالكتابة أو هو بعد المائة والعشرين يوماً ؟ اختلف العلماء -أيضاً -في ذلك فقالت طائفة من أهل العلم: لا يكون نفخ الروح إلا بعد الأربعة أشهر؛ لأنه قال هنا: "ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" و"ثم" تقتضي التراخي الزمني؛ ولهذا قال طائفة من الصحابة واختاره الإمام أحمد وجماعة: أنه ينفخ فيه الروح في العشرة أيام التي تلي الأربعة أشهر.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه ينفخ فيه الروح بعد تمام أربعة أشهر وعشرة الروايات رويت عن الصحابة في ذلك .
وقال آخرون: أن نفخ الروح هنا عُلِّق أو جعل مقترنا به الكتابة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ( ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات ) فجعل الأمر بأربع كلمات تابعا مع نفخ الروح، ونعلم بالأحاديث الأُخَر أن الكتابة -كتابة هذه الكلمات- كانت قبل ذلك، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لا تتعارض بل تتفق؛ لأن الحق لا يعارض الحق وكلها يصدق بعضها بعضاً؛ فلهذا قالوا: هذا بناء على الأغلب.
وقد تنفخ الروح وتوجد الحركة قبل ذلك؛ لأنه هنا قرن نفخ الروح بالكتابة، والكتابة دلت أحاديث على سبقها، فمعنى ذلك: أنه يمكن أن يكون نفخ الروح في أثناء المائة وعشرين يوماً . هل تكون الكتابة بعد نفخ الروح ؟ .

.. يتبع ..

الوافـــــي 27-02-2004 12:57 PM

هذا الحديث ليس فيه دلالة وإنما فيه ترتب الكتابة على الروح بالواو فقال: ( ثم يرسل إليه الملك … ويؤمر بأربع كلمات ) والواو لا تقتضي ترتيباً، وإنما تقتضي اشتراكاً، فمعنى ذلك أنه قد تتقدم الكتابة، وقد يتقدم نفخ الروح والأظهر تقدم الكتابة على نفخ الروح كما دلت عليه أحاديث كثيرة.
فإذًا نخلص من هذا … فيه خلاف طويل لأهل العلم، لكن ذكرت لكم لبه، وخلاصته أن الغالب أن يكون نفخ الروح كما جاء في هذا الحديث بعد مائة وعشرين يوماً، وقد يتحرك الجنين وينفخ قبل ذلك، وهذا مشاهد؛ فإنه كثير ما تحصل الحركة والإحساس بالجنين من قِبَل الأم وتنقله في رحمها قبل تمام الأربعة أشهر.
والنبي صلى الله عليه وسلم ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} سورة النجم ، وكلماته وأحاديثه يصدِّق بعضها بعضا .
قال هنا: ( ويؤمر بأربع كلمات ) قال: ( فينفخ فيه الروح ) قبل ذلك فينفخ فيه الروح: الروح مخلوق من مخلوقات الله -جل وعلا- لا نعلم كيفية هذا النفخ، ولا كيف تتلبس الروح بالبدن، والروح أضيفت إلى الله -جل وعلا- تشريفاً لها وتعظيماً .
والروح أُضِيفَتْ إلى الله -جل وعلا- تشريفا لها وتعظيما لشأنها.
قال -جل وعلا- : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ {29}سورة الحجر ، الإضافة هنا إضافة خلق، وإضافة تشريف، ليست هي صفة لله -جل وعلا-.
والروح هي سر الحياة -كما هو معلوم-، وتعلُّق الروح ببدن الجنين في رحم الأم تعلق ضعيف؛ لأن الروح لم تكتسب شيئا، ولم تقوَ، فتبدأ الروح بالقوة في تعلقها بالبدن كلما تقدم بالجنين الزمن في رحم الأم، حتى إذا خرج صار التعلق تعلقا آخر.
يقول العلماء: إن تعلق الروح بالبدن أربعة أنواع : -
تعلق في رحم الأم : هذا النوع الأول، وهو تعلق ضعيف، الحياة فيه للبدن، والروح تعلقها بالبدن ضعيف.
والثاني: في الحياة الدنيا، والحياة فيها للبدن، والروح تبع، وتعلقها بالبدن تعلُّقٌ مناسب لبقاء البدن في الدنيا .
النوع الثالث من التعلق: بعد الموت، والحياة فيه للروح، والبدن تبع.
والنوع الرابع: تعلق الروح بالبدن بعد قيام الناس لرب العالمين يوم القيامة، وهذا التعلق أكمل التعلقات، فتكون الحياة للبدن وللروح جميعا هي أعظم أنواع التعلق.

.. يتبع ..

الوافـــــي 27-02-2004 12:58 PM

قال : ( ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد ) .
هذه الكتابة تُسمَّى القدر العمري أو التقدير العمري، والتقديرات أنواع: منها القدر اليومي، ومنها القدر السنوي، أرفع منه، ومنها القدر والتقدير العمري، ومنها التقدير أو القدر السابق الذي في اللوح المحفوظ.
والقدر السابق الذي في اللوح المحفوظ، هذا الذي يعم الخلائق جميعا، كما جاء ذلك في قول الله -جل وعلا-: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {70}سورة الحج .
( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49}سورة القمر ‏.
قال -عليه الصلاة والسلام- : ( قَدَّرَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء ) .
( قدَّر مقادير الخلائق ) يعني: كتبها، أما العلم فإنه أول ليس مقصورا بقبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فتحصَّل من هذا أن هذا التقدير اسمه التقدير العمري، وهو بعض القدر السابق، يعني: أنك إذا تصورت التقدير العمري للناس جميعا، فإن هذا يوافق التقدير الذي في اللوح المحفوظ، كل أحد بحسبه.
فالتقدير الذي في اللوح المحفوظ عام وخاص أيضا، وأما هذا التقدير فهو تقدير عمري يخص كل إنسان.
وهذا القدر ليس معناه أنه إجبار؛ يعني: يؤمر الملك بكتب أربع كلمات، يؤمر بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.
هذه الأربع كلمات ليست إجبارا، يعني: لا يكون العبد بها مجبرا؛ وإنما هي إخبار للملك بأنْ يكتب ما كتبه الله -جل وعلا- ليظهر موافقة علم الله -جل وعلا- في العباد ، ليظهر علم الله فيهم -جل وعلا-، وهذا التقدير لا يمكن لأحد أن يخالفه.
من كُتِبَ عليه أنه شقي فإنه سيكون شقيا؛ لأن علم الله -جل وعلا- نافذ، بمعنى أن الله -جل وعلا- يعلم ما سيكون عليه العباد، وسيكون عليه ما خلق إلى قيام الساعة، وما بعد ذلك أيضا.
فهذا التقدير العمري كتابة، فتكون بيد الملك، وهو يختلف عن التقدير الذي في اللوح المحفوظ بشيء، وهو أنه يقبل التغيير، وأما الذي في اللوح المحفوظ فإنه لا يقبل التغيير، بمعنى: أن ما كتبه الله -جل وعلا- في أم الكتب لا يقبل المَحْو ولا التغيير، وغيره من أنواع التقديرات -يعني: السنوية أو العمرية- فإنها تقبل التغيير.
قال -جل وعلا- : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ {39}سورة الرعد .
قال ابن عباس: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ {39}سورة الرعد ، عنده اللوح المحفوظ، لا يتغير ولا يتبدل.
ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم إن كنت كتبتني شقيا فاكتبني سعيدا".
وهذا يعني به الكتابة في صحف الملائكة، لا الذي في اللوح المحفوظ؛ فإن الذي في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل، وهذا له حكمة بالغة، وهو أن ينشط العبد فيما فيه صلاحه، وأن يعظم الرغب إلى الله -جل وعلا- ، وأن الله -سبحانه- يعلم ما العباد عاملون، ومما يعلم دعاؤهم ورجاؤهم بالله -جل وعلا- ووسائلهم إليه -سبحانه- في تحقيق ما به صلاحهم في الآخرة.

.. يتبع ..

الوافـــــي 27-02-2004 01:01 PM

( بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد )
كما ذكرت لك هذه ليس فيها إجبار، والعبد مُخَيَّر، وفي اختياره لا يخرج عن قدر الله -جل وعلا- السابق، وليس بمجبر على ما يفعل، وليس -أيضا- خالقا لفعل نفسه؛ بل الله -جل وعلا- هو الذي يخلق فعل العبد .
هنا قال : ( فوالله الذي لا إله غيره ) هذه الكلمة مُدْرَجَة من كلمات ابن مسعود رضي الله عنه كتعليق على ما سبق من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ) ؛
لأن الكتاب فيما ذكر الخاتمة، شقي أو سعيد، وهذا باعتبار الخاتمة، سار طول عمره في طاعة، ثم بعد ذك اختار الشقاء، فوافق ما كتبه الملك أنه شقي، وليس معنى ذلك أنه مجبر، ولكن وافق ذلك.
وكما قلت لك: قال جماعة من السلف : "الخواتيم ميراث السوابق". فلهذا يبعث هذا الحديث -وكلام ابن مسعود هذا- يبعث على الخوف الشديد من الخاتمة؛ لأن العبد لا يدري بما يُخْتَم له، والسوابق هي التي تكون وسائل للخواتيم، والعبد بين خوف عظيم في أمر خاتمته، وما بين رجاء عظيم، وإذا جاهد في الله حق الجهاد، واستقام على الطاعة، فإنه يُرْجَى له أن يُخْتَم له بخاتمة السعادة .

قال : ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ) .
يعني: عن القرب، أن الأجل قريب، لكن يسبق عليه الكتاب، فيكون أمره في آخر أمره على الردة -والعياذ بالله-.
وعمله بعمل أهل الجنة، هذا فيما يظهر للناس، وفي قلبه الله أعلم به، ما ندري ماذا كان في قلوب الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، لكن نعلم -على اليقين- أن الله -جل وعلا- حَكَمٌ عَدْل، لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

قال : ( وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) رواه البخاري ومسلم .
وهذا من فضل الله العظيم على بعض عباده أن يختم له بخاتمة السعادة، هذا الحديث -كما ذكرت لك، وكلام ابن مسعود في آخره- يبعث على الخوف الشديد من الخواتيم، ويبدأ المرء يفكر فيما سبق له، وإن المرء -أحيانا- لينظر إلى السوابق، فلا يدري ماذا كتب له فيبكي.
كما قال بعض السلف من الأئمة، قال : "ما أبكَى العيون ما أبكاها الكتاب السابق".
فالمرء ينظر ويتأمل، ويود أنه لو اطلع على ما كتبه الملك، هل الملك كتبه شقيا أم كتبه سعيدا ؟ فإن كان كتبه سعيدا فهي سعادة له وطمأنينة، وإن كان كتبه شقيا فيعمل بعمل أهل الجنة حتى يُكْتَب من الأتقياء، ولكن الله -جل وعلا- بحكمته غَيَّبَ هذا عن العباد ليبقى الجد في العمل، ولتبقى حكمة التكليف، وأن يكون الناس متفاضلين في البر والتقوى، فليسا سواء حازم ومضيع، ليسا سواء من هو مجاهد يجاهد نفسه ويجاهد عدوه إبليس، ومن هو مضيع ويتبع نفسه هواها.

قال: "ما أبكَى العيون ما أبكَاها الكتاب السابق".
وقال بعضهم: قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون : بماذا يُختم لنا، وقلوب السابقين -أو قال المقربين- معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا".
وهذا مثال للخوف الشديد الذي يكون في قلوب أهل الإيمان، وإذا كان هذا الخوف فإنه لا يعني أن يكون مترددا ليس على طاعة، ولكنه يبعثه هذا الخوف على الأخذ بالحزم، وأن يعد العدة للقاء الله -جل وعلا-، فالإيمان بالقدر له ثمراته العظيمة في العمل واليقين، وصلاح قلوب العباد.
فالأتقياء هم الذين آمنوا بالقدر، والمضيعون هم الذين اعترضوا على القدر، ولكلٍّ درجات عند الله -جل وعلا- من الفضل والنعمة، يعني: من المقربين والسابقين، وأصحاب اليمين إلى آخره ، ولأهل الشقاء دركات في النار، نعوذ بالله من الخذلان .
نكتفي بهذا القدر، وأول الأحاديث، -يعني- إلى ثماني أو عشرة أحاديث، هذه جوامع تحتاج إلى طول، ثم بعد ذلك نمشي -إن شاء الله- لأن ما بعدها يكون قد سبق فيما قبل أو يكون الكلام عليه قليلا .
بارك الله فيكم ، ونفعني -وإياكم-، وثبتنا -وإياكم- على الحق والعلم والهدى ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

إنتتهى الحديث الرابع

تحياتي

:)

muslima04 27-02-2004 01:49 PM

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،

جزاك الله عنا ألف خير يا أخي الوافي،بارك الله فيك على عملك هذا وجعله في ميزان حسناتك يا رب.

بانتظار إن شاء الله الحديث الخامس،وفقك الله.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
:)

الوافـــــي 29-02-2004 01:39 PM

الأخت الفاضلة / muslima04

جزاك الله خيرا على مرورك الطيب بهذا الموضوع
وسأكمل إدراج الشرح تباعا بإذن الله

تحياتي

:)

الوافـــــي 05-03-2004 03:00 PM


الحديث الخامس

من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وعن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )
هذا الحديث حديث عظيم جدا، وعَظَّمَه العلماء، وقالوا: إنه أصل في رد كل المحدثات والبدع والأوضاع المخالفة للشريعة.
فهو أصل في رد البدع في العبادات، وفي رد العقود المحرمة، وفي رد الأوصاع المحدثة على خلاف الشريعة في المعاملات، وفي عقود النكاح، وما أشبه ذلك.
ولهذا جعل كثير من أهل العلم هذا الحديث مستمسكا في رد كل محدثة، كل بدعة من البدع التي أحدثت في الدين، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يحرص على هذا الحديث حرصا عظيما، وأن يحتج به في كل مورد يحتاج إليه فيه في رد البدع والمحدثات، في الأقوال والأعمال والاعتقادات؛ فإنه أصل في هذا كله.
قال -رحمه الله تعالى- : "عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
وفي رواية لمسلم -وقد علقها البخاري في الصحيح أيضا-: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) .
قال -عليه الصلاة والسلام-: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
قال: ( من أحدث ) ولفظ "من" هذا للاشتراك، وجوابه ( فهو رد ) والحدث في قوله: ( أحدث ) هو كل ما لم يكن على وصف الشريعة، على وصف ما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذا قال فيه: ( من أحدث في أمرنا ) .
والأمر هنا هو الدين، كقوله -جل وعلا- : لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {63}سورة النور.
فمن أحدث في الدين ما ليس منه فهو مردود عليه، وقوله هنا: ( ما ليس منه ) لأنه قد يُحْدِث شيئا باعتبار الناس، ولكنه سنة مهجورة، هجرها الناس، فهو قد سَنَّ سنة من الدين، وذَكَّر بها الناس، كما جاء في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( ومن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) .

.. يتبع ..

الوافـــــي 05-03-2004 03:02 PM

فإذن قوله أولا : ( من أحدث ) هذا فيه المحدثات في الدين، ودل عليها قوله: ( في أمرنا هذا ) يعني: في ديننا هذا، وما عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو شريعته.
قال: ( ما ليس منه ) وهذه هي الرواية المشتهرة في الصحيحين وفي غيرهما، وروي في بعض كتب الحديث: ( ما ليس فيه فهو رد ) يعني: ما ليس في أمرنا، فهذا يدل يعني هذه الرواية تدل على اشتراط العمل بذلك الشيء، ولا يُكْتَفَى فيه بالكليات في الدلالة .
قال : ( فهو رد ) يعني: فهو مردود عليه كما قال علماء اللغة: رد هنا بمعنى مردود، كسد بمعنى مسدود، ففعل تأتي بمعنى مفعول، يعني: من أتى بشيء محدث في الدين لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو مردود عليه كائنا من كان، وهذا فسرته الرواية الأخرى : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) .
فأرجعه إلى الأعمال، والعمل هنا المراد به الدين أيضا، يعني: من عملا عملا يتدين به من الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات ليس عليه أمرنا فهو رد، يعني: مردودا عليه.
وهذا فيه إبطال كل المحدثات، وإبطال كل البدع، وذم ذلك، وأنها مردودة على أصحابها، وهذا الحديث -كما ذكرت لك- أصلٌ في رد البدع في الدين، والأعمال التي في الدين -يعني أمور الدين- منقسمة إلى عبادات وإلى معاملات، والمحدثات تكون في العبادات وتكون في المعاملات.
فهذا الحديث دَلَّ على إبطال المحدثات وإبطال البدع؛ لأن كل محدثة بدعة، يعني: كل محدثة في الدين بدعة، والعلماء والعلماء تكلموا كثيرًا عن البدع والمحدثات، وجعلوا هذا الحديث دليلا على رد المحدثات والبدع.
فالبدع مذمومة في الدين، وهي شر من كبائر الذنوب العملية؛ لأن صاحبها يستحسنها، ويستقيم عليها تقربا إلى الله -جل وعلا.
إذا تبين هذا الشرح العام للحديث، فما المراد بالبدع والمحدثات ؟
هذه مما اختلف العلماء في تفسيرها، والمحدثات والبدع منقسمة إلى: محدثات وبدع لغوية، وإلى محدثات وبدع في الشرع.
أما المحدث في اللغة: فهو كل ما كان أُحْدِثَ، سواء أكان في الدين، أو لم يكن في الدين، وإذا لم يكن في الدين فإن هذا معناه أنه لا يدخل في هذا الحديث، وكذلك البدع.
ولهذا قسم بعض أهل العلم المحدثات إلى قسمين: محدثات ليست في الدين، وهذه لا تُذَم، ومحدثات في الدين، وهذه تذم.
مثل المحدثات التي ليست من الدين: مثل ما حصل من تغير في طرقات المدينة، وتوسعة عمر الطرقات، أو تجصيص البيوت، أو استخدام أنواع من البسط فيها، واتخاذ القصور في المزارع، وما أشبه ذلك مما كان في زمن الصحابة وما بعده، أو اتخاذ الدواوين، أو ما أشبه ذلك، فهذه أحدثت في حياة الناس فهي محدثة، ولكنها ليست بمذمومة؛ لأنها لم تتعلق بالدين.

.. يتبع ..

الوافـــــي 05-03-2004 03:04 PM

كذلك البدع، منها بدع في اللغة يصح أن تسمى بدعة، باعتبار أنها ليس لها مثال سابق عليها في حال من وصفها بالبدعة، وبدع في الدين، وهذه البدع التي في الدين كان الحال على خلافها، ثم أُحْدِثَتْ.
مثاله: قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على إمام واحد، وكانوا يصلون أشتاتا في رمضان، جمعهم في التراويح على إمام واحد قال: ( نعمت البدعة هذه ) .
فسماها بدعة باعتبار اللغة؛ لأنها في عهده بدعة، يعني: لم يكن لها مثال سابق في عهد عمر، فتعلقت باللغة أولا، ثم بالمتكلم ثانيا .
إذا تبين هذا فالمقصود بهذا الحديث المحدثات والبدع في الدين، والبدعة في الدين دَلَّ الحديث على ردها، ودل على ذلك آيات كثيرة وأحاديث كثيرة، كما قال -جل وعلا- : أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {21}سورة الشورى.
فسماهم شركاء؛ لأنهم شرعوا من الدين شيئا لم يأتِ به محمد -عليه الصلاة والسلام-، لم يأذن الله به شرعا.
وقد قال - جل وعلا- : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {3}سورة المائدة.
وقال -جل وعلا- : قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {31}سورة آل عمران.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ويصلح أن يكون منها قوله -جل وعلا- : مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7}سورة الحشر.
وقد جاء -أيضا- في الأحاديث ذم البدع والمحدثات، كما كان -عليه الصلاة والسلام- يقول في الجمعة وفي غيرها : ( ألا إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ) .
وقد جاء -أيضا- في السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال : ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم موعظة بليغة، وَجِلَتْ منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع ... ) الحديث.
وفيه قال -عليه الصلاة والسلام- : ( إنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ ؛ فإن كل محدثة بدعة ) .

.. يتبع ..

الوافـــــي 05-03-2004 03:08 PM

والعلماء -علماء السلف- أجمعوا على إبطال البدع، فكل بدعة في الدين أُجْمِعَ على إبطالها إذا صارت بدعة في الدين، دخل العلماء في تعريف البدعة، ما هي التي يحكم عليها بأنها رَدّ ؟ لأن هذا الحديث دل على أن كل محدثة رد ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ) .
فالبدعة في الدين عُرِّفَتْ بعدة تعريفات، يهمنا منها تعريفان لضيق المقام :
أولها : التعريف المشهور الذي ذكره الشاطبي في الاعتصام، وهذا التعريف جيد؛ لأنه جعل البدعة طريقة ملتزمة، وأن المقصود من السلوك عليها مضاهاة الطريقة الشرعية، وشرح التعريف والكلام عليه يطول، فتراجعونه في مكانه.

لكن يهمنا من التعريف هذا شيئين:
الأول : أن البدعة ملتزم بها؛ لأنه قال طريق في الدين، والطريقة هي الملتزم بها، يعني: أصبحت طريقة يطرقها الأول والثاني والثالث، أو تتكرر، فهذه الطريقة يعني ما التُزِم به من هذا الأمر .
والثاني: أنها مُخْتَرَعة، يعني: أنها لم تكن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أن هذه الطريقة تُضَاهَى الطريقة الشرعية من حيث إن الطريقة الشرعية لها وصف ولها أثر، أما الوصف فمن جهة الزمان والمكان والعدد، وأما الأثر فهو طلب الأجر من الله -جل وعلا.
فتحصل لنا أن خلاصة ما يتصل بتعريف الشاطبي للبدعة يتعلق بثلاثة أشياء:
أن البدعة يُلْتَزَم بها ،
الثاني: أنها مخترعة، لم يكن عليها عمل سابق، وهذه توافق الرواية الثانية : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )
والثالث : أنه تُضَاهَى بها الطريقة الشرعية، من حيث الزمان والمكان والوصف والأثر، يعني: العدد الذي هو الوصف مع الزمان والمكان، والأثر وهو طلب الأجر من الله -جل وعلا- بذلك العمل .
وعرَّفَه غيره بتعريف أوضح، وهو تعريف السمني، حيث قال: إن البدعة ما أُحْدِثَ على خلاف الحق المُتَلَقَّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو اعتقاد، وجُعِلَ ذلك دينا قويما وصراطا مستقيما.
وهذا التعريف -أيضا- صحيح، ويتضح لنا منه أن البدعة أحدثت على خلاف الحق، فهي باطل، وأنها تكون في الأقوال، وفي الأعمال، وفي الاعتقادات، وأنها مُلْتَزَمٌ بها؛ لأنه قال في آخره: جعل ذلك دينا قويما وصراطا مستقيما.
إذا تقرر ذلك فمن المهمات في معرفة البدعة أن البدعة تكون في الأقول والأعمال والاعتقادات، إذا كان القول على غير وصف الشريعة، يعني: جُعِلَ للقول طريقة من حيث الزمان والمكان، أو من حيث العدد، تُعُبِّدَ بقول ليس وصف الشريعة، وجُعِلَ له وصف من حيث الزمان أو المكان أو العدد، وطُلِبَ به الأجر من الله -جل وعلا.
أو الأعمال، يُحْدِثُ أعمالا يتقرب بها إلى الله -جل وعلا- ويجعل لها صفة تُضَاهَى بها الصفة الشرعية على نحو ما ذكرنا، أو يعتقد اعتقادات على خلاف الحق المُتَلَقَّى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فهذه كلها من أحدثها -بمعنى: من أنشأها- فهي مردودة عليه، ومن تبعه على ذلك فهو -أيضا- عمله مردود عليه، ولو كان تابعا؛ لأن التابع -أيضا- محدث بالنسبة لأهل زمانه، وذاك محدث بالنسبة لأهل زمانه، فكل من عمل ببدعة فهو محدث لها.
لهذا يتقرر من هذا التأصيل أن البدعة مُلْتَزَمٌ بها، في الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات، فلا يقال إنه من أخطأ مرة في اعتقاد ولم يلتزم به أنه مبتدع، ولا يدخل فيمن فعل فعلا على خلاف السنة إنه مبتدع، إذا فعله مرة، أو مرتين أو نحو ذلك، ولم يلتزمه.
فوصف الالتزام ضابط مهم كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كلامه أن ضابط الالتزام مهم في الفرق بين البدعة ومخالفة السنة، فنقول: خالف السنة في عمله، ولا نقول إنه مبتدع، إلا إذا إلتزم مخالفة السنة، وجعل ذلك دينا يلتزمه.
فإذن من أخطأ في عمل من الأعمال في العبادات، وخالف السنة فيه، فإنه -إن كان يتقرب به إلى الله- فنقول له: هذا الفعل منك مخالف للسنة.
فإن التزمه بعد البيان، أو كان ملتزما له، دائما يفعل هذا الشيء، فهذا يدخل في حيز البدع، وهذا ضابط مهم في الفرق بين البدعة ومخالفة السنة .

.. يتبع ..


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.