أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   الخيمة السياسية (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=11)
-   -   كلام في الديمقراطية (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=57910)

ابن حوران 03-10-2006 07:05 PM

كلام في الديمقراطية
 
كلام في الديمقراطية :

يعتقد الكثير من الناس أن الديمقراطية ، تشكل أسلوبا سحريا لتقدم الشعوب ، وقد يكون هذا الاعتقاد سليما لحد ما ، لكن سيتبعه شروط تتعلق بصناعة أدوات الديمقراطية نفسها ، إضافة لفهم التعامل مع تلك الأدوات .. وستبرز أسئلة فرعية حول استكمال هذا الفهم ، ليكون هناك ملامح تكون كهدف بعيد يقترب الجميع نحوه للوصول الى هذا الحل السحري ..

وقد يقترن مفهوم الديمقراطية بالعدالة ، ويصبح اعتقادا لدى الشعوب النامية ، فتنتقي نخبها و طلائعها النماذج السائدة بالعالم ، لتبشر بها مجرد تبشير ، دون معرفة الحيثيات التي وصلت بها تلك النماذج لما وصلت إليه ، فتصبح الأصوات المنادية تنادي بالمطالبة الى الوصول لعناوين هائمة غير معروفة المعالم ، مستفيدة من حالات البؤس السائدة لتجعل منها فهارس تدعم بها وجهات نظرها المتتالية ..

وبالمقابل ، تجد دعاة الإصلاح على النظم القائمة في دول العالم الثالث ، تحاول التقليل من أهمية السعي للديمقراطية ، بحجة أن الديمقراطية هي في طور الممارسة الفعلية ، ويذكر دعاة الإصلاح النماذج السائدة في أقطارهم أنها نماذج متكاملة ، ولا ينقصها إلا الالتفاف العام حولها ، وإن كان هناك أخطاء ما فهي أخطاء محدودة ، ممكن تجاوزها بسهولة !

ويتحصن هؤلاء الدعاة بالنماذج السائدة ، من مجالس برلمانية ، تصلح أن تكون ( ديكورات) لتزيين وجه النظم الحاكمة ، ويعتبرونها أنها تحقق مطالب الجمهور من المشاركة في صناعة النظام السياسي ..

كما تهاجم أطراف النظام الانتخابي ، باعتباره لعبة ليبرالية غربية ، تكرس السلطة بيد أصحاب المال ، ولا تختلف عن النظم الفردية بشيء ، فالقدرة على التحكم بالأصوات هي في يد من يمتلك المال وليس من يحقق العدالة من الناس ، و تلتقي الأصوات المنادية بتطبيق الشريعة الإسلامية في بلادنا ، مع القوى الراديكالية العلمانية ، في النظرة الى اللعبة الانتخابية الليبرالية ، بأنها نظام فاسد يكرس السلطة بيد طبقة معينة ..

بعد هذه المقدمة سيكون أمامنا الغوص في بداية نشأة نظم الحكم عند الأمم وتلك التي لها علاقة باصطناع نظم يحتكم لها الناس في اختيار حكامهم ، وكيف ظهرت فكرة الديمقراطية عالميا ، وما آلت إليه من نتائج ، استقرت في بعض البلدان ، ولا زالت بلاد مثل بلادنا تتلمس طريقها في إيجاد صيغ لترسيخ أشكال للحكم يرضاها الجميع ..

إذا كانت الديمقراطية ، أو العدالة في أساليب اختيار الحكام ، ستوصل في النهاية الى العدالة فيما بين الناس المحكومين ، فإن البحث عن أشكال حكم قديمة تدلل للباحثين عن بدايات تأسيس النظم العادلة ، سيصطدم بادعاءات مختلفة هنا وهناك ، وسيقفز على صفحات الكتب أن اليونانيين أو الرومان هم أول من أسس لهذا النظام ، وهو ادعاء كاذب لا أساس له من الصحة ، لكن ما جعله أقرب للقبول ، هو المصطلح ( الديمقراطية) الذي أساسه أوروبي قديم ، ويعني ( حكم الشعب ) .. وهذا ما سنتناول دحضه في المقالات القادمة ..

salsabeela 03-10-2006 07:43 PM

مشكووووووووووووووووووووووووووور كثيرا الاخ ابن حورون على هذا الموضوع
وان الديمقراطية حقا ليست شرط لتحقيق العدالة فانها نظاما شكليا فقط وان فعلا القدرةعلى التحكم بالاصوات فى يد من يمتلك المال وليس من يحقق العدالة من الناس.......
وواضح اننا سنرجع الى عهد توريث الحكم ...

أحمد ياسين 04-10-2006 03:39 AM

اخي الكريم ابن حوران
بادئ ذي بدء
صيام مقبول وكل عام وانت بخير
واسمحلي ان اضيف شيئا بحكم التجربة
وبحكم انني اعيش في بلد تحكمه قوانين الديمقراطية:New2:
فاقول وبالله التوفيق
ان الديمقراطية لها عدة مفاهيم ولها عدة انماط من الحكم
ولقد بانت عوراتها في عدد من البلدان العربية والاسلامية تحديدا
فهي هراء في هراء
الديمقراطية التي نسعى اليها هي فتح المجال لحرية التعبير
واعطاء كل ذي حق حقه
والفصل بين السلطات
فيمكن ان نقول للمحسن احسنت والى المسيئ اسات
ويمكن عن طريقها نصل
الى التنافس الشريف
عبر الصناديق الشفافة
لاننا واثقون ان الشعوب العربية والاسلامية
لاتختار بديلا عن الاسلام
فاي ديمقراطية تمنع انشاء الاحزاب والحركات الاسلامية التي تدعوا الى بناء مجتمع اسلامي تسوده العدالة هي ديمقراطية مغشوشة
ولنا في العراق المثل في اوج رقي الديمقراطية
من سلخ للاجسام ووطعن وذبح بالافلام
ان الديمقراطية يااخي ابن حوران التي تفرز حماس في فلسطين
والجبهات الاسلامية في كثير من البلدان
هي ديمقراطية ترفضها الدول نفسها التي تطلب دول العالم الثالث بالديمقراطية
ولعلك شاهد من خلال وسائل الاعلام عن الانقلابات والتزوير
الامنتهي الا بانتهاء الانظمة الدكتاتورية
ولانحتاج الى دليل فانظر كيف هي الحملات على الاسلام واهله
وعندما يحتج المسلمون للدفاع عن مقدساتهم
يرمون في السجون ولعلك تدري اين موقع قوانتنامو وغيره من المحتشدات في الصحاري
ان الديمقراطية لاتطبقها حتى الدول التي تتغنى بها
وخذ اي بلد يدعي الديمقراطية واعطني مواصفاته
ليمكن لي التعرف عن هذه الديمقراطية لعلي استوردها وانفع بها امتي وشعبي
الذي اكله الفقر واكله الضياع
وهو يعيش تحت الاحتلال
في فلسطين والعراق وافغانستان والشيشان وفي كثير من البلدان
ويضرب عليه حصار اعلامي اقتصادي سياسي
ولايسمح له حتى بان يصيح ويطلب الانقاذ
انها يااخي ديمقراطية يتقاسمونها فيما بينهم ويرمون لنا الفتات
اما نحن فلا يحق لنا ان نشارك فيها
الا اذا امنا بما يؤمنوا
وكفرنا بالاسالام دينا وبالذي جاء به
محمد رسول الله
صلى الله عليه واله وسلم تسليما كثيرا
تحياتي

ابن حوران 04-10-2006 12:21 PM

أشكر لكما المرور الكريم

وأنتم بخير أخي أحمد .. شاكرا لك الإضافة

احترامي و تقديري

ابن حوران 04-10-2006 12:22 PM

نمو الحاجة الديمقراطية على ضوء النمو الحضاري :

عندما تكثر لوائح التعليمات الصادرة من الحاكم لشعبه ، فإن ذلك يعود لأحد سببين ، إما انحطاط الحاكم و إما انحطاط الشعب .. وأحيانا يكون السببان معا .

فالأساس بتحرك الكائنات الحية ، أن تتم وفق حاجات فطرية ، فلا أعتقد أن هناك لوائح تنزل على مجتمع الثعالب أو الزواحف يوميا لتحدد مسار تحركها اليومي .. كما أن تكليف الوالد لابنه بعشرات التعليمات و هو ذاهب لشراء كيلو من البطاطا ، إذ يحذره أن ينتبه من السيارات لا تصدمه ويحذره من ألا يضحك عليه البائع ، ويطلب منه عد النقود الخ من سلسلة من تعليمات لا داعي لها ، فإن ذلك ينبئ بانحطاط مستوى الوالد المتذرع بالحرص ، أو انحطاط الابن الذي امتلأ رصيده بالحماقات و البله ..


في حالة المجتمعات ، وعندما انتقل الإنسان من الحالة الحيوانية البدائية الى الحالة المستوطنة في جماعات ، انتبه لتجاوزات من يسكن معه في ذلك التجمع ووضع لوائح بالمشافهة ، أنه لا يجوز أن يعتدي أحد على بستان أو حيوانات غيره ، أو أن يتحرش بزوجة غيره .. وعندما كثرت المخالفات ، كان لا بد من وجود ضوابط تضمن الالتزام بعدم التعدي على ما للغير من خصوصيات ، فنشأت فكرة الحاكميات لتقوم بفرض نظام المجموعات ..

وقد دعمت جهود الأديان والأنبياء و الفلاسفة ، التحذير من التعدي على خصوصيات الآخرين ، وأضيفت خصوصية جديدة وهي خصوصية المجموعة نفسها ككيان اعتباري يتحرك في وسطه الأفراد .. وكان دور الأديان التنبيه بأن من يستطيع أن يفلت من عقاب قانون الجماعة فإنه لن يفلت من عقاب الله .

ولو رجعنا لشرائع حمورابي ، وقد وضعت قبل أن يظهر نبي الله ابراهيم عليه السلام بأكثر من قرن ، لعرفنا أن منطقتنا قد سبقت الإغريق والرومان بعشرات القرون بسن القوانين التي تمثل إرادة المجموع ، ومن خلال تطور تلك القوانين ، نصل الى أهمية الحاكم و نزوعه للعدل ، الهدف الخفي من فكرة ما يسمى اليوم ب ( الديمقراطية ) ..

كذلك كان الحال نفسه في ممالك اليمن القديمة ( قتبان وكمنهو ) التي اعتمدت نظاما يتفوق على أنظمة البرلمان في هذه الأيام ، رغم أن تلك التجربة مر عليها أكثر من ثلاثة آلاف عام ، أي قبل التجارب الإغريقية والرومانية بحوالي ثمانية قرون . فقد كان ينتخب من كل عشيرة ممثل عنها ومن كل مهنة ممثل عنها ومن كل معبد ممثل عنه ، ليتكون مجلس كان يطلق عليه (مزود) وكان هذا المزود ينتخب من بينه حاكما كل فترة ، ليوقع على التعليمات التي تنظم علاقات الناس فيما بينهم وعلاقات الزوار والتجار و الصناع ، وتوضع على مسلات في مداخل المدينة ليطلع عليها الناس ..

في التجربة الإغريقية والرومانية ، لم تكن الصورة مبتكرة ابتكارا بل أتت لهم من الشرق مع ما جاءها من معارف مختلفة ، ومع ذلك كانت التجربة في إعطاء الرأي والمشورة تقتصر على النبلاء والملاكين .. وقد استمرت تلك الأعراف لغاية القرن العشرين في كثير من البلاد ومنها بلادنا .. إذ كان التصويت يقتصر على من يملك سندات تسجيل عقار ..

عموما ، فإن تطور القوانين والتشريعات ، كان يواكب التطورات الحضارية والتقنية في البلاد .. فلا يعقل أن تستقدم جماعة تسكن في الصحراء منقذين للسباحة ، طالما لا يوجد عندهم ماء ، و لا يمكن أن يفتح فرع لتصليح الغسالات الكهربائية في منطقة لم تصلها الكهرباء ..

إن التوق لمعرفة ما يهمنا في موضوع الديمقراطية لا تحتمل مقدمات طويلة قد تبعدنا عن محور حديثنا الأساسي ، ولكننا آلينا على أن أنفسنا ذكر ما ذكرنا ، لإبعاد التهمة الملتصقة بنا (جورا وبهتانا) بأننا أمة غير قابلة لممارسة الديمقراطية ، وهو المصطلح الذي يدلل على التفاهم في مسألة تناقل السلطة وسن القوانين و فرض النظام على الجميع ..

يتبع

ابن حوران 15-10-2006 05:43 AM

هل الديمقراطية هي الحرية ؟

هناك كلمات مترادفات إذا ما ذكرت واحدة منها ، فإن الثانية ستقفز تلقائيا ، فعندما تذكر كلمة عنب ستقفز الى جانبها لفظة (التين ) .. وإذا ما ذكرت كلمة (قطن) ستقفز تلقائيا الى جانبها (صوف) .. ( إمبريالية ـ صهيونية ) .. و(ديمقراطية ـ حرية ) ..

ولو تفحصنا الكلمات السابقة ، فإننا لن نجد أي صلة قربى بين كل اثنتين مترادفتين ، لا من حيث النوع و لا الكثافة و لا المنشأ .. فالعنب و التين لا ينتميان لا الى عائلة واحدة ولا رتبة واحدة .. و لا الصوف والقطن ..وحتى الصهيونية وجدت نفسها قريبة من المشروع الإمبريالي في المصالح فالتصقت بها ..

أما الحرية والديمقراطية .. فالارتباط والصلة بينهما هي نفسها بين الصهيونية والإمبريالية .. لكن في الاعتقاد فقط .. وليس من ناحية عملية ..

لو ذهب رجل لشراء ملابس لزوجته دون أن تكون معه ، وخيره البائع بين عدة أصناف ، فتخيير البائع هو من باب السلوك الديمقراطي .. واختيار الرجل للملابس هو من باب الحرية .. لكن بعد وصول الرجل الى البيت ، وظهور علامات الامتعاض أو الغضب أو عدم الرضا ، فإن حرية الرجل في الاختيار سيعاد النظر فيها دون أدنى شك ..

لو منحت الحرية للأطفال الرضع أو من وصلوا عمر الخمس سنوات ، فإن أيا منهم لن يقبل أن يتم تلقيحه ضد شلل الأطفال أو الحصبة ، والقليل منهم سيرغب بالذهاب طوعا الى المدرسة ..سيقول أحدكم الآن ، إن هؤلاء الأطفال لم يكونوا على أهلية في معرفة مصلحتهم ..

لو خير سائق أرعن أن يلتزم في الوقوف على الإشارة الضوئية ، أو عدم الوقوف دون ملاحقة القانون ، لاختار حرية تقديره للأمور دون الالتزام بضوابط الإشارة .. سيبادر أي قارئ الآن الى رد ذلك ، لعدم أهلية هذا (الأرعن ) على تقدير الأمور !

في الحالتين السابقتين ، وفي حالات أخرى شبيهة ، هناك جهة تزعم أنها هي من تقدر مصالح الناس ، وهي الحريصة على حماية وصون تلك المصالح ، وفق رؤية كلها خبرة و حنكة و عدالة و الخ ..

أظن أن لا حرية لمربوط ، وإطلاقها بهذا المصطلح ، هو كمن يقول لعصفور محبوس في قفص ( أنت حر وطليق ضمن الحيز الذي أنت فيه ) .. والربط قد يكون بقفص أو بحبل كما في حالة الكلاب والبغال أو بمواثيق محمية بالقوة ، كما في حالة فهم المصالح للحكومات العميلة في العالم .. فكيف لحكومة عميلة أن تطلق الحريات العامة وهي مربوطة ؟

إن من أهداف التلقين العقائدي ، أو التكرار الإعلامي لمقولة كاذبة ، هو صرف الأنظار عن غايات القوة المؤثرة فعليا ، فأكذوبة حقوق الإنسان و أكذوبة أسلحة دمار شامل ، وأكذوبة ممارسة الديمقراطية ( دمقرطة) العالم ، هي مقولات عفا عليها الزمن ، كانت الغاية القصوى منها هي تحييد الانتباه العام عن الغايات التي باتت مفضوحة من كل النشاط الإمبريالي ..

يتبع

ابن حوران 25-10-2006 10:29 AM

القوانين والأعراف و الأثمان :

لو شاهدنا رجلا وامرأة يتعانقان في الشارع ، فإن احتمالات كثيرة ستخطر على بال كل واحد منا ، وستتكيف تلك الاحتمالات و الخواطر ، على ضوء العمر عند كل منهما ، والحالة التي وجدا فيها الخ ، فإن كانت المدينة أوروبية لن نعترض ولن نتوقف ولن نشغل بالنا ، وإن كانت مدينة عربية كبرى ، ونحن لا ننتمي لها فإن اهتمامنا سيزيد عما كان في المدينة الأوروبية ، ويقل عما لو كان المشهد في قرية ونحن ننتمي إليها ونعرف الرجل والمرأة ..

هناك أنواع من التجارة، لا تخضع لمعاملات قانونية، كتجارة المخدرات، فلن تجد بالمحكمة اثنان يتقاضيان أمام القاضي بأن فلان قد أخذ منه ثمن مخدر ولم يسلمه إياه في موعده، أو أن الصنف كان أردأ مما اتفقا عليه .. كذلك الحال في سوق العهر و الخلاعة، لكن هؤلاء بالتأكيد لهم أعرافهم وطرق تحصيل مالهم من مستحقات يضعون لها ضوابط ..

في الحروب تتوقف الطرائق المدنية التي كانت تتعامل بها الدولة مع الناس ، ويوضع بدلا منها قانون للطوارئ، كما أن الناس أنفسهم لن يستخدموا نفس المسطرة السلوكية والأخلاقية، فقد تنتهك أعراض وقد تهان شيبة وقد تشتم ثوابت الى غير ذلك من المخالفات التي لم يعهدها الناس سابقا، لكن ردات فعلهم ستتكيف، فلم يعد غسل العار في ظل الاحتلال يأخذ نفس الشكل الذي يكون قبل الاحتلال .. فالغيظ والغضب الصامت الذي يؤول في النهاية إما لضحايا وخسائر أزيد أو الى زوال الاحتلال ..

في السياسة والحريات والديمقراطية، لا تختلف الأمور كثيرا، فأنت حر إذا كنت متحررا، وأنت غير حر إذا كنت تقبل بتبعيتك لمن هم خارج ملتك ووطنك ، فلا تطالب البغايا بحقوقها في المحاكم الشرعية، لأن أفعالها لم توثق بمواثيق بل بالقبول و دفع الثمن، والثمن الذي قبلت بها الحكومات التابعة هي ضمان وجودها في موقع الحكم، فبالتالي لن تعترض على الكيفية التي تطالب بها في تنفيذ رغبات سيدها !

باختصار شديد، إن البيئة والنمط الحضاري هو ما يملي على الفرد السلوك المتماهي مع السلوك العام للجميع . فخروج أبناء مدينة كبرى سكانها بالملايين من دوامهم يحتم على كل منهم الالتزام بالإشارة الضوئية والاصطفاف بصبر وبسرعة في نفس الوقت، حتى تستوعب شوارع و جسور تلك المدينة هذا الفيض الهائل من المواطنين .. في حين لن يضطر من يسير في الصحراء لاستخدام (الغمَاز) طالما ليس وراءه أحد ..

في سن القوانين واختراع النظم في تسيير أمور الحياة اليومية، تفرض تلك القوانين من خلال الحاجات المتراكمة للمواطنين لتتم صياغتها في النهاية من قبل هيئات يحرص الجميع أن تكون ممثلة صادقة للعموم، وقد تقترب من الصدق أو تبتعد عنه معتمدة على قوة التمثيل الذي هو خارج الحكم .

من هنا نرى أن الحديث عن الديمقراطيات والحريات في بلادنا، هو عبارة عن هرطقة لا طائل منها ، فلا يهتم ابن العشر سنوات بأثاث طفله القادم ، وهو لم يبلغ الحلم ولم يتزوج ولم يضمن أنه سيخلف طفلا أم لا ..

إن الحديث الذي يجب أن يسود هو حديث التحرر والتخلص من كل تدخل أجنبي في بلادنا والتخلص ممن يسهل وجود هؤلاء الأجانب بحجج مثل الواقعية والحنكة السياسية و غيرها من الصفات الأخرى التي يراد منها أن تكون طلاء لوجوه عميلة .

فتصعيد النضال في وجوه هؤلاء، يستند بالأساس على خلق الإيمان بضرورة الوصول الى حالة الوعي الشعبي العربي في اختصار الوقت وتكثيفه، من أجل تقريب المسافات بين البؤس الذي يغطي بلادنا العربية، وبين الخلاص والتفرغ لصناعة الشكل الذي يتم تداول السلطات فيه دون تقنين مبرمج خارجيا .

ولكن بما أننا في صدد الكلام عن الديمقراطية، فلا بأس أن نكشف زيف ما تشيع عنه أبواق الدعاية الليبرالية عن الديمقراطية الغربية وبالذات تلك التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية .. وإن ما قلناه لغاية الآن ما هو إلا توطئة للدخول بهذا الموضوع ..

يتبع

ابن حوران 06-11-2006 11:33 AM

نشأة الديمقراطية الحديثة :

في العصور الوسطى، حيث كان ي الحكم في ممالك صغيرة في أغلبها، ملوك يحيط بهم رجال وفرسان يستفيدون من حالة الحكم ويتمتعون بامتيازات استثنائية، كان الأمراء أو الفرسان الأوروبيون عندما تعجبهم امرأة فإنهم يأخذونها من زوجها، أو أهلها إن لم تكن متزوجة، وإن أعجبهم بستان أو منزل فإنهم يستولون عليه، وبقي الحال هكذا حتى بدأ عصر النهضة الصناعية، وتوسعت المستعمرات، وتداخلت الطبقات الاجتماعية.

يرجع الفضل الأول في تأسيس الديمقراطيات التي تمر بها المجتمعات الغربية، الى (شارل مونتسكيو1689ـ 1755) ، وقد حاول هذا الفرنسي الذي كان والده قاضيا في (بوردو) ثم تولى هو رئاسة محكمة (بوردو) فيما بعد، وقد كان ظريفا محبا للأدب يكتب باسم مستعار، حتى يخلص من حرج انتماءه للطبقة الأرستقراطية، وينتقد النظام الأوروبي بشكل عام في عدة مقالات، من بينها الرسائل الفارسية ..

لقد كان (مونتسكيو) متواضعا في طلباته التي تضمنتها الرسائل والأعمال الكتابية فيما بعد، فلم يطمح أن يكون هناك عدل مطلق، بل كان يدعو الى التقليل من عدم المساواة في قدر الإمكان.. ثم تطورت كتاباته مع تصاعد حالات السحق الإنساني التي كان السكان يتعرضون لها من خلال انتقالهم من الصناعة والإنتاج البيتي (المنزلي والفردي) الى المصانع تحت إدارة أرباب عمل ظالمين ..

ويمكن تلخيص أهدافه التي تضمنتها كتاباته، والتي اعتمدت الكثير منها الأمم المتحدة في مواثيق حقوق الإنسان بما يلي :

1ـ مبدأ فصل السلطات: وهو المبدأ الذي نص عليه البند16من إعلان حقوق الإنسان ( إن كل مجتمع لا تكون فيه حقوق الإنسان مضمونة أو فصل السلطات فيه غير محدد هو مجتمع بلا دستور) .. لقد أراد (مونتسكيو) أن لا تتجمع الإرادة السلطوية بالمجتمع بيد فرد واحد، كما لم يطالب بفصلها نهائيا عن بعض بل أراد أن يصنع انسجاما فيما بينها .. وواضح أن الرجل لم يتخلص من ماضيه الأرستقراطي بل حاول مزاوجة أفكاره الرافضة مع ارتباطاته الوجدانية بماضيه.

2ـ الأجسام الوسيطة: كان مونتسكيو يعتقد بالفائدة الاجتماعية والأخلاقية للأجسام أو الهيئات الوسيطة، وكونه أصبح فيما بعد رئيسا لبرلمان بوردو، فقد حاول التركيز على الجانب الأخلاقي في إعطاء الملك صلاحيات أوسع للنواب، كما أنه وهو يطالب بذلك لم يكف عن تفاخره بانتمائه لطبقة النبلاء..فكان يردد إن الملك والنبلاء بعلاقة متلازمة فلا وجود لأحدهما دون الآخر ..

3ـ اللامركزية : تشكل توازنا ضد الاستبداد ..

4ـ الأخلاق: كان يكرر قول ( يجب أن لا نفعل بواسطة القوانين ما يمكن فعله بواسطة الأخلاق) .. فكانت دعوته تنصب على تغذية المثل والأخلاق وإثارة الهمم الطيبة لطرفي المجتمع ( الحاكم والمحكوم ) .. وكان ضد إصدار الكثير من القوانين .. وهو الذي قال ( لا يجوز قتل مواطن أو الاستيلاء على ممتلكاته دون قانون، ولا يجوز وضع قانون دون إشراك ممثلي الشعب في وضع القانون وهي تلخيص لفكرة الديمقراطية الحديثة .

5ـ لم تتضمن أفكار مونتسكيو كما أسلفنا شيئا ثوريا، بل عاش في عصر البرجوازية الصاعدة وتبنى أفكارها، فقد ميز بين الشعب والرعاع، وأكد أن المساواة المطلقة لا وجود لها بتاتا .. لذا فكان حق التصويت في الانتخابات مقتصرا على الملاك والنبلاء والقادرين على فهم فلسفة الحياة، وطالب بإبعاد حق التصويت عن ما دون ذلك كونهم لا يستحقون هذا الشرف..

نلاحظ في هذا الكلام أنه جاء نتيجة تفاعل متناغم مع الحركة الحضارية، ففي عصر (الأنوار) ازدهرت فلسفات وكتابات القومية والاقتصاد والسياسة، وظهر منها مدارس كثيرة، كل مدرسة تتبنى رؤى الوسط الذي كانت تعيش فيه، فظهر مفكرون بالاقتصاد والاجتماع مثل (آدم سميث) و(جون ستيوارت مل) و(روبرت أوين) و(فولتير) و (جان جاك روسو) و (فيخته) و( نيتشة) و (نجلز) و (كارل ماركس) فيما بعد ..

وكل ذلك كان يصب في تصريف شكل الحياة التي كانت تتخلق بوجود التغيير الصناعي والاستعماري، تماما كمن يصنع سيارة ويعدل على أخطاءها بعد مراقبة مسيرها في كل مرحلة .. ونقول هذا الكلام لنؤكد على أن وصول الغرب لما وصلوا إليه ـ بغض النظر عن رؤيتنا له ـ كان يتم على هامش مسألة معروفة اقتصاديا باسم ( علاقات الإنتاج) ..

وهذا ما سنتناوله في المرة القادمة ..

ابن حوران 06-11-2006 11:34 AM

الديمقراطية .. لعبة لها أصول ..

قد يمتعض البعض من وصف الديمقراطية أو إلصاق صفة اللعبة بها، لكن لم أكن الأول من ابتدع لها هذه الصفة، فقد وضع الكاتب الأمريكي (مايلز كوبلاند) كتابا بعنوان (لعبة الأمم) صدر في لندن عام 1969 وترجمه للعربية (مروان خير) عام 1970 ونشرته مكتبة الزيتونة في بيروت.

وإذا سلمنا ولو مؤقتا بتلك الصفة، وحاولنا رؤية مدى صحتها ومطابقتها لأصول اللعبة، فسنجد أن كما هناك في اللعب احتراف ومحترفين، فإن للديمقراطية لاعبيها ومحترفيها، وكما أن هناك من يتعهد تزويد الملاعب والأندية بلاعبين، وهناك من ينتقي أبطالا يمثلون بلادهم بالمسابقات الدولية، فإن الديمقراطية كونها الصيغة التي توصل هيئات الحكم في البلاد التي تنادي بذلك الأسلوب واعتماده كصيغة مطروحة لتناقل مواقع السلطة في مختلف مستوياتها ..

لكن من يهتم بالديمقراطية؟ وما علاقة ذلك بما أسلفنا بما يخص علاقات الإنتاج ؟ هل هم عموم الشعب الذين يتأثروا بما يصنع من قرارات عليا ترسم سياسات البلاد، أم أن الذين يهتموا هم من على رأس المصالح الاقتصادية من صناعات كبرى ورؤى لتوسيع مصالحهم خارج حدود البلاد؟ أم من هم على رأس الحكم، والذين لا يبتعدون كثيرا عن أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى؟

لقد مررنا على عصر بدايات النهضة الصناعية في أوروبا، وما أفرزت تلك الثورة من فكر أوصل أوروبا الى تفصيل كيانات تستطيع التعامل مع موضوع علاقات الإنتاج تعاملا دقيقا حساسا. فتشكيل النقابات وجعلها مخازن هامة للرأي العام ويمثل نسبيا عموما طبقات الشعب الدنيا، وما وصل الى صيغ تعايشية مع إدارة الحكم في البلاد، من خلال الصيغ البرلمانية ..

لقد كانت الصيغ الديمقراطية المبتكرة في أوروبا، عبارة عن حلول مواكبة للتطور شيئا فشيئا، وما جرى عليها من كتابات و تعديلات دستورية، جاء نتيجة فحص الإخفاقات التي تواجه ممثلي الشعب بكياناته (مخازن الرأي العام)، تماما كما يجري على تعديل لوائح لعبة كرة القدم أو غيرها من الألعاب ..

فقد كان العمال يعانون من طول ساعات العمل فتقلصت من أربعة عشر ساعة الى عشر الى ثمان الى أربعين ساعة في الأسبوع. وكان أصحاب المواقع السياسية العليا أو الطامحون بتحسين مواقعهم السياسية يتفاعلون مع قضايا العلاقات الإنتاجية لأسباب تتعلق بتحشيد وتجميع القوى من حولهم، فانتزاع مكسب في تحسين قواعد اللعبة كان يمر بممرات صعبة، ولا يمنح منحا بلا ثمن أو دون صراع سلمي أو حتى عنيف، وكلنا يتذكر الإضرابات العمالية التي عصفت بأوروبا والولايات المتحدة والدول الصناعية في مطلع القرن العشرين حتى آلت أوضاع العالم المتقدم الى ما آلت إليه.

لقد أفرز الصراع السلمي والعنيف، دساتير وقوانين، كانت بمثابة عقود بين من هم في أعلى موقع للحكم، وبين عموم الشعب في كل بلد من البلاد التي خاضت مثل ذلك الصراع، وكان أمام دافع الضرائب أن يطمئن على ما يدفعه من مال لتسيير أمور الدولة التي هي بمثابة (مجلس إدارة) للشعب بكل أصنافه (الجمعية العامة للشركة الكبرى) .. فكانت صياغة القوانين تضغط باتجاه مراقبة صرف الأموال وإحقاق الحق لكل أفراد الشعب .

فكانت الصيغ التي لم تأت دفعة واحدة، بل على دفعات متعاقبة أكلت في بعض دول أوروبا أربعة أجيال تواصلت جهودها وارتبطت مع بعض باتجاه الوصول لما وصلت إليه .

بالمقابل فإن الدول التي تبنت الخط الاشتراكي، ركنت لمخزون النضال اللفظي، في حين غرقت في وضع بيروقراطي، جعل أجمل ما عندها من أفكار في حوزة الدول التي حسنت أساليبها الديمقراطية، فكانت دول مثل الدول الاسكندينافية تتفوق باشتراكيتها الهادئة على الاتحاد السوفييتي و منظومته التي كانت تطبقها منقوصة بفعل نظام مركزي، كما أن أرباب العمل التي وضعت مبادئ الثورات ضدهم، قد اختفوا من الظهور الواضح وراء لعبة الأسهم والمساهمين، فكان العامل الذي يجب أن يثور شريكا في أسهم شركة يفترض أن يثور على أصحابها ولكن كيف سيثور وأصبح أحد المساهمين بها؟

أغفل المثقفون العرب، سواء كانوا في المعارضة أو في الحكم، مسألة تطور علاقات الإنتاج وحذفوها من أدبياتهم، باعتبارها مسألة ترف فكري! وهم اليوم وبالأمس ينشدون التحول الديمقراطي، وكأن التحول يأتي بالشهوة والرغبة وبالوصفة الطبية التي تشترى، مغفلين الضرورة والوظيفة التاريخية للصيغ القانونية التي تتصل و تتكئ على ما قبلها من خطوات ..

وهذا ما سنذكره في المرة القادمة ..

ابن حوران 06-11-2006 11:37 AM

علاقات الإنتاج ومخازن الرأي العام ..

لا يختلف أبناء أي منطقة إذا ما تساوت ظروفهم المعيشية والثقافية والسياسية في تقييم ما يدور حولهم وإعطائه صفة محببة أو مكروهة، وطبعا سيكون هناك من يشذ عن قاعدة المجموع العام، عندما يرتبط الوضع القائم بمصلحته إيجابا، فعندما تشترك عموم الآراء الفردية أن الوضع العام سيئ على صعيد ما أو حتى على كل الأصعدة، سيكون هناك بعض الآراء تقول عكس ذلك، وهذه الآراء تعود لفئات أو أفراد مستفيدين من الوضع القائم، وسيكون أثرها بالتأكيد أقوى من مجموع الآراء الرافضة للوضع حتى لو كانت نسبتهم تفوق التسعين بالمائة.

والأمر بسيط في معرفة سبب أثر تفوق رأي الأقلية على الأكثرية، وهو أن تلك الأقلية منظمة ومرتبطة بمركز تقاسم المصلحة فيما بينها، وبيدها وسائل الترغيب والترهيب والإعلام، فهي تستطيع أن توظف و تعلم وتشغل وترقي من تريد وتستطيع أن تمنع و تحرم وتحط من قدر من تريد ..

في حين أن الأكثرية مبعثرة تولول و تحوقل و تثرثر في أماكن ضيقة وتعتبر أن ليس هناك من يسمع رغم شكوتها المستمرة، وغالبا ما يكون كلامها بشكل شتائم، وتخشى أن يصل هذا النوع من الكلام الى الجهات الأمنية، فيتعرض من يتكلم الى مزيد من المعاناة!

وعندما يدعى الناس لحضور ندوة أو محاضرة أو مؤتمر، فإنه لن يحضر، وإن الحضور هم نفسهم الذين يحضرون اجتماعات تناقش البطالة أو الوضع في فلسطين أو الديمقراطيات أو المفاعلات النووية في لوكسمبورغ، ستجدهم هم نفسهم بالإضافة الى بعض كتبة التقارير من العناصر الأمنية التي ملت حتى وظيفتها الرتيبة تلك.

وإن سأل أحدهم سؤالا ، فإنه يسأله بهمة مهزوزة وكلمات منحوتة وحذر أو تهور من صياغته، بحيث أنه لا يترك أثرا مفيدا من حضوره لتلك الاجتماعات. إن وضعا كهذا يضيف مدماكا في الجدار الفاصل بين البؤس والتوجه نحو التحضر والعمل المدني النافع للشعب والدولة معا.

كما أن هناك ثقافة مسفهة لكل تجمع، فمن الهجوم على الأحزاب ومضايقتها ليس من الدولة فحسب بل من مجموعة وعاظ ومستقلين يبرروا عدم انتمائهم لأحزاب بتسفيه العمل فيها، وهم بذلك يساعدون أجهزة الحكم دون أن يكون تنسيق فيما بينهم، كما أن العمل النقابي يعاني من نفس الظاهرة، حيث يكون عدد المنتسبين للنقابة يصل الى عشرات الآلاف في حين أن من يتصدره وينطق باسمه لا يزيدون عن عدة عشرات وفي أحسن الأحوال بالمئات، دون أن يكون بينهم وبين عموم المنتسبين أي صلة عضوية تعطي للنقابة قوتها وأثرها.

إن سن القوانين يحتاج الى خبراء بالقانون وخبراء بالمهنة وشؤون المواطنين الأخرى، وإنه لمن المنصف أن نقول أن كوادر الحكومات العربية لا زالت تتفوق في هذا الجانب على المعارضة وبمسافة غير متقاربة، والسبب يعود الى عدم الجاهزية عند الفئات المعارضة للتعامل مع الصيغ القانونية، ومع ذلك تبقى القوانين المشرعة أو المصاغة من قبل أجهزة الحكومات العربية دون المستوى المطلوب فوقت صياغتها من قبل خبراء قانونيين يحيلوها على مجالس برلمانية غالبا ما تفتقر لقدرة على التعامل مع مثل تلك الصيغ، بل أن في الكثير من الأحيان يتغيب عن جلسات البرلمان حوالي نصف الأعضاء.

إن المعارضات العربية تتناول القانون بعد صياغته من قبل أجهزة الدولة، وتنتقده بقسوة، ويكون ذلك بعد صدوره بزمن، مما يجعل من تعديله أو تغييره صعوبة تأخذ زمنا ليس بالقليل ..

إن خير من يفهم أوضاع العمال هم العمال أنفسهم، وإن بحث قضاياهم في نقاباتهم ودعوة المختصين من نقابة المحامين أو حتى رجال الحكومة وبعض البرلمانيين، يجعل من الصيغة النهائية للقانون أقرب للرضا من قبل كل الأطراف، لكننا نعلم كم هو وضع العمال مهلهل تنظيميا ونعلم أن قضايا العمال لا يتبناها لا صحفيون ولا سياسيون ولا العمال أنفسهم، وهذا عائد لعدم وضوح تلك الطبقة بين الناس وضوحا ثابتا، فعمال البناء مثلا، لا يستديمون في مهنتهم طويلا بل يغيرونها متى ضاقت بهم الحياة، ومثلهم الكثير من المهن.

إن النقابات العمالية والمهنية و تجمعات الفلاحين والحرفيين، تعتبر من أفضل مخازن الرأي العام المتخصص بمهنة، ودفعهم والاعتناء بتلك التجمعات يحسن بل ويصعد بقضية سن القوانين الى مرحلة ترفع من الشأن الاقتصادي والشأن السياسي المرتبط به ارتباطا حثيثا ..

وإن كانت الأحزاب و المنتديات الفكرية، تهتم بالجانب الدعائي في عملها السياسي، فإن تلك التنظيمات المدنية (النقابات وغيرها) تعتبر الجانب الإداري الذي يجعل من الخطاب السياسي أقرب للحياة اليومية التي تهم المواطنين.

وفي حملات الانتخابات للبرلمانيين، الذين توكل لهم كل الدساتير مهمة سن القوانين ( كسلطة تشريعية) ، فإن ممرات النقابات والتجمعات المدنية أصبحت ضرورية لكي يمر بها المرشح للانتخابات البرلمانية، للاستماع إليه من قبل جمهور الناخبين الممتهنين لمهنة ومعرفة ما يقول في شأن مهنتهم، وعليهم التقرير إن كان يستحق أصواتهم أم لا. كذلك إن المرشح بمروره في تلك الممرات سيكون على علم كبير في قضايا ناخبيه المهنيين، فلا يغادر عندما تطرح قضاياهم ولا يكون كأن تلك القضايا تطرح عليه أول مرة ..

وسنتناول موضوع التصويت والديمقراطية في المرة القادمة ..

ابن حوران 11-11-2006 05:59 AM

فكرة التصويت ليست مؤشرا عادلا لاستحقاق من يقع الاختيار عليه :

عندما تعرض لقطة من مباراة لكرة القدم أمام محكمين في اللعبة فإنهم سيكتشفون خطأ حكم المباراة، وعندما تعرض تقارير طبية وصور بالأشعة لمريض أمام لجنة طبية مكونة من أطباء محترفين ومتخصصين في نفس المرض، فإن قرارا هاما سيؤخذ بشأن الحالة المرضية، سيكون أقرب للدقة، وعندما يتم فحص حفظة القرآن أمام لجنة متخصصة، سيكون هناك تشاور في منح المتسابق درجة تكون أقرب للدقة ..والأمثلة كثيرة.

ولكن عندما يعرض مرشحون لمقاعد في البرلمان أو مناصب حكومية أو حتى نقابية ومهنية مختلفة، فإن المحكمين لن يكونوا على دراية كاملة بالمادة المفحوصة (المرشحين) حتى يعطوهم أصواتهم، وسيكون صوت المعاق و الأهبل يساوي في قيمته صوت العارف و المخترع !

في نماذج أثينا و روما وقبلهما بقرون طويلة (كمنهو و قتبان في اليمن) كان المرشحون محصورين في مساحة ضيقة يتم التعرف عليهم من خلال سجل حياتهم التي حفظها الناخبون عن قرب من خلال سلوكهم و شخصياتهم، إضافة الى أنه في روما وأثينا لم يكن التصويت لعموم الشعب كما أسلفنا، بل للنبلاء والفرسان والملاكين، وفي التجربة اليمنية القديمة كان ممثلو العشائر ينتخبون من بين أفراد عشيرتهم وممثلو المهنة ينتخبون من أبناء المهنة، فحصر المرشح بمساحة محدودة يكون أقرب للاختيار الأسلم، كمن ينقي كيلوجرام من العدس ويستبعد الحصى والأجسام الغريبة، فمهمته أسهل بكثير من ذلك الذي ينقي أطنان من العدس أو الحبوب الأخرى.

لقد انتبهت بعض الدول لتلك الظاهرة، وقلصت مساحة الدوائر الانتخابية، بقصد ليس لإحقاق الحق و تحقيق العدل، بل لتقنين عملية الاقتراع بما يخدم مصالح تلك الدولة و يؤمن فوز المقربين منها ..

كما تذرعت بعض الدول باستبعاد ذوي الأصوات غير العالمين بشؤون الدولة، أي أولئك الذين لا تؤتمن معرفتهم لأهمية ما يفعلون .. وقد كانت الحكومات ذات الطابع المركزي و الحزبي (الواحد) أن تجعل من الانتخابات حقا محصورا على كوادرها وتنظيماتها، تصعد به من أدنى خلية للأعضاء في الحزب الى أعلى مؤتمر ينتخب القيادة المركزية التي تعين الحكومة و أركانها .. بحجة أن البقية من الشعب هم في وضعية مشكوك بارتباطاتها!

هذا الوضع في حصر الانتخاب بحزب أو فئة دون غيره، تلتقي به الفئات التي تنادي بالشورى، فأهل العدل والرأي القادرون على معرفة من هو قريب من الله وشرعه، ومن هو بعيد عن الله وشرعه، هم الوحيدون الذين يحق لهم الاشتراك في الانتخاب. إن المعضلة ليست في النتيجة التي سيؤول إليها جهد هذه العملية فحسب، بل إن هناك إشكالية في تحديد من يحق لهم ومن لا يحق لهم، ونحن نراقب جداول الناخبين قبل اعتمادها كقوائم نهائية للانتخابات فإن الذين يطعنوا بنزاهة الانتخابات أي انتخابات من الكثرة بمكان، فكيف لنا أن نعتبر أن قوائم أهل العدل والرأي هي مرضية عنها، خصوصا عندما توجد طوائف من نفس الدين مختلفة كما في باكستان أو الهند أو لبنان أو العراق، هذا قبل أن نصطدم بمعالجة الاختلاف بالدين!

في حالات الانتخاب العام كما يجري في مختلف أنحاء العالم، فإن أصحاب المال والجاه والقوة العشائرية سيصلون للمهمشين وقليلي الاهتمام باللعبة السياسية وسيعطونهم ثمن أصواتهم، ومن يسبق نحو هؤلاء و يتفنن في كسبهم وإرضائهم بدل أصواتهم سيكون أقرب للنجاح من أولئك النزيهين العارفين والوطنيين وقليلي الأموال .. خصوصا إذا عرفنا أن نسب التصويت في معظم بلدان العالم لا تصل الى 70% في أحسن الأحوال، أي أنه لا يزال هناك مساحة لاستصلاح الناخبين من أجل حصد أصواتهم ..

سيقول قائل : إنها الطريقة الوحيدة الأقل سوءا بين الطرق الديمقراطية، وسنقول إنها تشبه الحالة التي ضربناها في قبول الجامعات للطلاب المتقدمين للالتحاق بها، فهي تقبل على ضوء المعدلات(الأصوات)، فقد يكون هناك طالب يمكن أن يكون مشروعا لعالم أو مخترع أو قائد، ولكن أهله يعتمدون عليه في إطعامهم أو أنه لا غرفة خاصة به، فمن المؤكد أن طالبا يتساوى معه في القدرة العقلية ولكنه يحظى بالدراسة في مدرسة خاصة ويأتيه مدرسون متخصصون الى البيت، فإنه بالتأكيد هو من سيقبل في الجامعة بالنهاية، أو سيدرس على حساب أهله الموسرين ..

ولحين ما يتم اكتشاف طريقة أفضل من المجموع العام للدرجات في قبول الطلبة بالجامعات، قد يكتشف معها طريقة أقل سوءا في اختيار النواب والحكام.

ابن حوران 27-11-2006 04:52 AM

الديمقراطية .. آلية أم عقيدة؟

بالقدر الذي يسعفنا فيه اطلاعنا على تجارب تاريخية من العراق القديم الى اليمن الى اليونان والرومان الى التجربة الإسلامية الى عصر التنوير والحداثة في العرب وانتهاء بالعصر الراهن. فإن الكلام عن الديمقراطية أو التلميح عن أسلوب شبيه ولكنه لا يحمل نفس الاسم، فإننا نخلص الى أنها آلية في إدارة المجتمعات بصورة عامة وفي الإدارة السياسية بصورة خاصة تستصحب في صورتها المثلى مجموعة من القيم في مقدمتها: الحرية والدفاع عن كرامة الإنسان والمساواة بين الخلق ومن ثم احترام كل (آخر) وتدعو للتعددية السياسية والفكرية وتداول السلطة، وحق الناس في المشاركة في صياغة حاضرهم ومستقبلهم، وحقهم في مساءلة حكامهم.

وكونها آلية فإنها تتغير بتغير الأزمان والأمكنة والمجتمعات والمعتقدات. ولكن عندما يصبح الإيمان بهذا الأسلوب عقيدة تسقط عليه المعتقدات التي يؤمن بها من يدعو لهذا الأسلوب، فتكون دعواته لتطبيق الآلية مشوبة بطابع عقيدته التي يرفضها المخاطَب، فيعارضها.

إن ربط الديمقراطية بالعلمانية أو الدين، جعلها في بلادنا مثارا للجدل، استغلت أطراف كثيرة نقاط الربط فيه لتعيق تطور نمو الديمقراطية في بلادنا، وهذا الربط في اعتقاد الكثيرين أنه خاطئ ولا صحة فيه، فالتجارب القديمة قبل آلاف السنين لم تكن تعرف العلمانية ولم تكن فيها الأديان بالشكل التي هي عليه في أيامنا سواء بتجربة (المزود) في دول اليمن القديمة أو في دول اليونان وروما القديمة.

كما أن هناك من الجهات الدينية كجبهة الإنقاذ في الجزائر وحماس في الأراضي الفلسطينية وحتى التجربة الإيرانية، يعرف أصحابها بأنهم ليسوا علمانيين، فالربط بين العلمانية والديمقراطية ليس باستمرار دالة على أصالة الإيمان بالمبادئ التي ذكرناها في جلب العدل واحترام الآخر وصون حقوق الإنسان، فقد انتخب هتلر وشارون وغيرهما، وسجلاتهم مليئة بالإنسانية والعدل والرفق بالآخرين!

وكذلك لم يكن كل العلمانيين محبين للديمقراطية، بل كان بعضهم معاد لها بقوة فستالين و ماو وغيرهما والذين كانوا يحرمون دهماء الشعب من حق المشاركة في تقرير مصير البلاد، ولهم فلسفتهم الخاصة بذلك، فأوجدوا ما سمي بالديمقراطية المركزية التي تعني الانتخابات داخل كواليس الحزب الواحد أو الحزب القائد ..

لن نتوقف كثيرا عند هذه النقاط، ابتعادا عن أجواء الملل، لكننا سنخوض في حديث موائمة تلك الآلية لمجتمعاتنا العربية الإسلامية ومدى النجاح في إيجاد نموذج يصلح لبلادنا في هذه الأيام ويراعي عامل التراث والمزاج العام مع ما يؤمن نمو مفهوم المصلحة العامة (مصلحة الأمة .. هنا). آخذين بنظر الاعتبار العوامل التالية :

أولا: إن واقعنا يسبح في فضاء ذهني مشبع بنظرة الى الكون تنطلق من الإيمان بالله سبحانه وتعالى، خالق كل شيء في الكون، والناس فيه كما هي الكائنات الحية الأخرى تتعبد لله وتعمر الأرض وفق مشيئته سبحانه.

ثانيا: إن المرجعية الأولى لمجتمعاتنا تتمثل في القرآن والسنة، الأمر الذي يعني أن حرية حركة المجتمع ليست مطلقة بل محكومة بمجموعة قيم مفهومة منها القطعي الوارد في نصوص قرآنية غير قابلة للتأويل، ومنها ما هو قابل للاجتهاد يغلب عليه الطابع الظني، ويعني بالمعاملات بين الناس.

ثالثا: إن الناس مكلفون بعمارة الأرض والاستمتاع بما أحله الله لهم، وتكليفهم هنا يتطلب منهم البحث عن الأساليب التي تصون حقوق الناس والمخلوقات الأخرى وفق حق تلك المخلوقات في التمتع بما أعطاها إياه الله سبحانه.

رابعا: إن السياسة عند المسلمين ليست فن الممكن كما يسود في المفاهيم الليبرالية الغربية، لكنها كل طريق يؤدي للتهذيب والإصلاح. فهي عند ابن القيم " أخذ الناس الى الصلاح وإبعادهم عن الفساد" أو هي جلب المصلحة ودرء المفسدة. وعند ابن عقيل من فقهاء الشافعية ف ( لو أنك تقصد أنه لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فهذا غلط وتغليط للصحابة، السياسة هي أي فعل يكون فيه الناس أقرب الى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم يفعله الرسول صلوات الله عليه، ولو لم يرد فيه نص قرآني).

لم تكن السياسة هي الدولة كما هو شائع في الخطاب المعاصر، وإنما كانت فعلا اجتماعيا ينشد التهذيب والتربية والإصلاح، ولذلك وجد في أدبيات السلف (سياسة الموردين) للطرق الصوفية، وسياسة الصبيان عند ابن سينا، وسياسة الخيل الخ .

يتبع

ابن حوران 01-12-2006 06:58 PM

مصادر قوة الديمقراطية :

ينظر البعض منا الى الإنجازات التي حصلت عند الأمم المتقدمة علميا وصناعيا فيرى التقدم بالطائرات والأسلحة وأجهزة الحاسوب، فيطلق تنهيدة مليئة بالأسى ويقلب الأسباب، فيصل في النهاية الى أسلوب الحكم في بلادهم وأساليب الحكم في بلادنا .. فتقفز عند البعض فكرة أن الديمقراطية وراء ذلك .. ثم ينادي بتلك الفكرة بأسلوب مبتدئ لماذا لا نطبق الديمقراطية عندنا؟ .. فيجيبه آخر وهل كان السوفييت ديمقراطيين عندما طاولوا تلك الأمم بتقدمهم في علوم الفضاء والنفس والطب وغيره؟

في المقابل يجيب آخر أن أجدادنا كانوا على قدر من التقدم تفوقوا فيه على كل الأمم عندما كانوا يتمسكون بكتاب الله .. ثم يستعيد صورة الذي دخل جنته فرآها خاوية على عروشها لأنه تباهى بقدرته العلمية دون الإيمان بالله، ولا ينسى ذكر قارون، فيشعر بعد قوله أنه أدى مهمته و برأ ذمته، وسيكون محظوظا لو رأى من يخالفه الرأي ليدخل بنقاش طويل يفلح (هو) ويتراجع من عارضه .. لتتصلب عنده مسألة الاعتداد بالرأي .. ولكنه سيستفيق على تطاول الأمم على رموز ديننا والغمز بأغلى رمز وهو القرآن الكريم والرسول صلوات الله عليه .. فيعاود الشعور بالخيبة الممزوجة بإيمان ملفوف بضبابية، يكاد لا يرى حدودها بشكل دقيق، لكي تتحول الى خطاب عملي تكون الخطوات التطبيقية فيه واضحة.

لو تحقق حلم فقير بأنه حصل فجأة على مبلغ من المال، بشكل هبة وليكن هذا المبلغ بالملايين، فإن أمامه خطوات لم يحسبها، أنه كيف سينقل هذا المبلغ دون أن يتعرض للصوص في الطريق، والى أين سيذهب به، وقد يكون حاله كأحد معارفنا الفقراء الذين وجه أحدهم له سؤالا: لو حصلت على مليون دولار ماذا ستعمل بها؟ كانت إجابته الفورية: أشتري نصف كيلوغرام من الكبد!

في شمال العراق يزعم الأكراد أن لديهم نظام ديمقراطي في إقليمهم، وسيكون من الصعب على البعيد الذي يستمع لأخبارهم أن يتحقق من ذلك .. كما هي الحال عند الذين تسلموا الحكم (الصوري) في ظل الاحتلال الأمريكي، لا يفتئوا يرددون كلمات الدستور والشرعية والبرلمان وغيرها من المصطلحات التي تستخدم في النظم الديمقراطية، وعندما يرد مسامعهم أن المحتلين قد يغادرون قريبا، فإنهم يبادرون بالتصريح بخطورة انسحاب المحتل، ومن يدري سيكون حالهم شبيه بحال سكان إحدى (جزر القمر) الأربعة الذين يخرجون بمظاهرات بين فترة وأخرى لعودة الاستعمار!

في المقابلات التلفزيونية التي يجريها إعلاميون ضليعون بمهنتهم مع أي مسئول عربي حكومي، فستكون إجابات المسئول كلها ثقة و لغة مهذبة بأن نظام حكومته من أفضل النظم بالعالم فهو يراعي حقوق الإنسان وأبواب المسئولين مفتوحة أمام المواطنين .. والانتخابات تتسم بالشفافية الخ. ويبادل الإعلامي الضليع المسئول الابتسامة وتنتهي المقابلة .. أين المشكلة إذن؟

لقد نوهنا سابقا أن علاقات الإنتاج والمصلحة الفردية التي تلتحم مع المصالح الفردية الأخرى، لتتكون مصالح جماعية له أنصارها الحقيقيون وحماتها الأشاوس الذين لا يربطهم بالجماعة مجرد (طيف) فكري يتمثل بالخطاب والثرثرة الأدبية .. بل تكون الخطابات تعبيرا عن حالهم وعن مصالحهم بشكل واضح وحاسم وقاطع .. فتكون الدولة أمام كتل اقتصادية واجتماعية وفكرية لها وزنها .. وغضبها وعدم رضاها له ألف حساب عند الدولة ..

فقوة الديمقراطية تأتي من قوة من يحتاجها .. وتلك القوة تنمو بالتمارين وكثرتها، وهي لا تهدى هدية من حاكم يرتاح لوضعه الذي هو فيه، بل تبدأ من الطرف المحكوم، ابتداء بالتوعية وكسب الأنصار في الشريحة الواحدة سواء كانت مهنية (نقابات) أو فكرية أو سياسية أو غيرها، وتصعد بخطابها حتى تنتهي بالعصيان المدني (عند اللزوم) .. لانتزاع قوانين تحاصر الفساد وتطور عملية تناقل السلطة بين المواطنين بشكل سلس ودون (تقنين مفبرك) .


ولكنها لا تبدأ بالعصيان المدني أو الشتائم، فلو قامت ثلة بدعوة الناس لمسيرة سلمية لن تجد من المجيبين الكثير لها، لضعف آلية (القوة) المطالبة بالديمقراطية، في حين لو أرادت أي حكومة أن تخرج أنصارها للشارع ليتظاهروا تأييدا لها فسيكون العدد بالتأكيد أكثر، طالما أن نمو القوى المنادية بالديمقراطية لا يزال ضعيفا.

ابن حوران 23-12-2006 12:59 AM

تطور أنظمة الحكم في المنطقة العربية
وصور الديمقراطية فيها ..

لقد حقق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة التي حَمَلها الله عز وجل إياه ثورة اجتماعية هائلة، بالإضافة الى الجانب الديني ( ربانية الرسالة). فسحبت السلطة من البيوتات الثرية والتي كانت تتقاسم السيادة في أشكال مختلفة( الرفادة و السقاية والرايات و غيرها)، ووضع الناس تحت حكم مركزي قوام عناصره الرسالة السماوية. وقد أثرى الرسول صلوات الله عليه بالتوجيه والشرح ما يرشد المسلمين الى طريق الصواب.


وكانت النصوص في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تبين حدود الطريق الذي يسير عليه الناس ( مسلمون وغيرهم). فالدعوة قد حُدِدَت بنص (لا إكراه في الدين قد بين الرشد من الغي)1 و (أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن)2 و (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)3 و (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا)4 .

وراعت النصوص القرآنية إرساء القيم الاجتماعية الأساسية ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى)5 ووضعت القواعد المحاسبية وفق ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)6.

ثم شرح الرسول صلوات الله عليه الأسس تلك، فأعلن أن الإنسان متخلف في الأرض وفي المال وأن الملكية هي ملكية انتفاع وأن الناس شركاء في المرافق العامة للمجتمع ومصادر الثروة فيه كما ورد في الحديث الشريف ( الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار) ودعم ذلك بمبدأ التكافل الاجتماعي (من يكن ذا فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)7. وتجلت هذه الأسس في مؤاخاة المهاجرين والأنصار وتقسيم أموالهم فيما بينهم والأمثلة كثيرة.

وُضعت السلطة السياسية في أيدي الناس وأصبحوا هم أصحاب القرار في تصريف أمور حياتهم وبهذا المنحى يقول الرسول صلوات الله عليه ( ما كان من أمر دينكم فإلي .. وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به).. كما عُدت المشاورة وفق الآيتين ( وأمرهم شورى بينهم) و ( وشاورهم في الأمر).

فأصبح أي مسلم تتوافر فيه صفات الإيمان والحكمة والاستعداد لتحمل المسئولية وأن يحوز رضا الناس ليبايعوه حاكما عليهم أن يعتلي أعلى مواقع الحكم. وقد ابتدأ الرسول بنفسه في بيعتي العقبة الشهيرتين.

لقد وجد نص في القرآن يعترف بالعقائد الأخرى ويوفر لمعتنقيها الحرية في ممارسة شعائرهم وصيانة حقوقهم كمواطنين ضمن المجتمع شريطة احترامهم للأسس الجديدة التي أُرسيت (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلا خوف عليهم ولا يحزنون)8

حض الإسلام الناس على المشاركة الإيجابية في شؤون الحكم ومطالبتهم بالنقد البنَاء، وقصة الخليفة عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه واضع الخطوط الرئيسية لنظام الحكم الإسلامي، المعروفة حينما قال: ( من رأى منكم فيَ اعوجاجا فليقومه) فقام أحد الأعراب فقال: ( والله يا عمر لو رأينا منك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا).. كما قوله عندما صوبت قوله إعرابية : (أصابت إعرابية وأخطأ عمر). ومثال آخر أورده أبو جعفر الطوسي في كتابه (تلخيص الشافي) عن الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضوان الله عليه وهو يخطب بالناس فيقول ضمن خطابه: ( إن رسول الله كان يُعصم بالوحي وكان معه ملك، وإن لي شيطان يعتريني ألا فراعوني، فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني)9

إعطاء الشرعية للتغيير عندما يحصل انحراف أو عندما يتوقف النظام عن التعبير عن الناس، في هذا يقول رسول الله صلوات الله عليه (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)10 وحديث آخر ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان)11. والآية الكريمة من سورة الرعد ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)

هذه الأسس التي أُرسيت، نشأ على هامشها ثقة متبادلة وتلاحم خلاق بين السلطة والناس وزالت الحواجز بينهما وانتفى وجود الخلاف المتبادل بينهما بشكل لم تعد فيه حاجة لوجود أجهزة القمع التي تحرس السلطة وتحميها.. وحادث رسول كسرى الذي قدم الى المدينة فلقي عمر بن الخطاب رضوان الله عليه نائما تحت شجرة دون حرس.. فقال قوله الشهير الذي يكاد يكون قانونا تاريخيا : ( حكمت فعدلت .. فأمنت فنمت) أبلغ مثال على ذلك .. إن تلك الممارسة التي تمت قبل أربعة عشر قرنا كانت متقدمة على عصرها، وسابقة لنداءات مونتسكيو وجان جاك روسو وجون لوك وغيرهم. وليس لهذا القول مداعبة للغرور القومي أو التحسر على الماضي، بل إن لهذا علاقة بالأزمة التي نعيشها و نناقشها ..

يتبع

هوامش
ــــ
1ـ البقرة 256
2ـ النحل 125
3ـ الحجرات 13
4ـ آل عمران 103
5ـ النجم 38ـ41
6ـ الإسراء 15
7ـ حديث نبوي رواه مسلم. المقصود بالظهر وسيلة الركوب.
8ـ المائدة 69
9ـ محمد عمارة : الإسلام والسلطة الدينية ص 16
10ـ رواه أبو داوود عن عبد الله بن عمر
11ـ رواه مسلم والبخاري

ابن حوران 29-01-2007 07:34 AM

محطات مفصلية أثرت على شكل الحياة السياسية العربية الحالية

إذا كان لنا الحق أن نفخر بالتجربة العربية الإسلامية التي بدأت بدولة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتدت الى النصف الأول من الدولة العباسية، فإنه لا بد لنا من الاعتراف بأن هناك محطات مفصلية أدت بهذا الزهو والروعة بالأداء (السياسي) الذي تفجرت من خلاله إبداعات المواطنين (بصرف النظر عن دياناتهم ومذاهبهم وقومياتهم) في ظل تلك النمطية من الحكم، الى التراجع الذي قاد في النهاية الى ما سمي بعصر الانحطاط والذي امتد زهاء ألف سنة ..

الانتكاسة الأولى :

مع انتصار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مع القوى المساندة له، على آخر الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والقوى المساندة له، تحول الحكم الى نظام ملكي وراثي، لا دور فيه للإرادة الجماهيرية أو حتى الشرعية .. ومع ذلك استمرت ايجابيات الدولة العربية الإسلامية حيث تجلت في :

أ ـ لم توقف تلك الانتكاسة استمرار عملية تفاعل المجموعات البشرية التي شملها الفتح العربي، ووصلتها الدعوة الإسلامية حتى تم تبلور أمة عربية واحدة في رقعتها الحالية وضمن عالم إسلامي يشمل أمما أخرى. واستمرت المبادئ والأسس التي رُسِخَت في صدر الإسلام في الانتشار بين جماهير كل مجموعة تصلها الدعوة الجديدة.

ب ـ أتاح استقرار الحكم في العهدين الأموي والعباسي (لمنتصفه)، بالرغم من التحول في طبيعة نظام الحكم، وبفعل المبادئ الجديدة التي قدمها الإسلام وفجر بها الطاقات الخلاقة الكامنة .. أتاح قيام تفاعل عميق وشامل أنتجت الحضارة العربية الإسلامية في شتى الميادين الفكرية والتطبيقية..

ج ـ لم تتوقف قطاعات كبيرة من الناس عن الرغبة في تصويب أسلوب تداول السلطة، والعودة الى الأسلوب الذي ساد في صدر الإسلام، وقد كان أول مؤشر لتلك الحركات قد ظهر أثناء الاقتتال على السلطة بين علي و معاوية رضي الله عنهما، فكان هناك فصيلان فكريان:

1ـ الشيعة: التي ناصرت الإمام علي وغالت في مناصرتها، فحصرت حق الخلافة ثم السلطة السياسية في آل البيت، فابتعدت بذلك عن مفهوم الاختيار الشعبي..

2ـ الخوارج: وهي الحركة التي عارضت الفريقين المتصارعين، وتمسكت بمبادئ الاختيار المباشر للحاكم وخضوع السلطة السياسية للإرادة الشعبية، غير أنها وقعت بالتباس شديد إذ أنها عادت السلطة الشرعية ونفذت جزءا من مخططها الذي كان يقتضي بقتل أطراف الصراع، وهو المتعلق بقتل الإمام علي، فظهرت وكأنها تناصر طرفا ضد طرف. ومع ذلك فإنها لم تلق من النظام الجديد سوى التنكيل والتشريد.

انتكاسات متتالية مع بداية النصف الثاني من الحكم العباسي:

مع بداية النصف الثاني من العصر العباسي وتغلغل العنصر غير العربي في الشؤون الداخلية العربية، فأصبح تنصيب وعزل الخليفة يتم من خلال إرادات تبحث عن مصالحها بالدرجة الأولى، وإن كانت بعض تلك الإدارات قد نتج عنها بعض النشاطات الفكرية والعلمية الخالدة، إلا أنها مهدت لتفكك جسم الأمة وظهور الدويلات (عصر الأتابكة) في المشرق وإمارات متعددة في المغرب والأندلس، كل هذا قاد الى الغزو الصليبي والمغولي واختفاء شكل الإرادة الذاتية (الجمعية) العربية ..

بالمقابل فقد كانت تتشكل دول تشاركنا في هذا الكوكب، فبعد استكمال بناء الكيانات القومية الأوروبية وانتقالها من عصر الإقطاع والتخلص من (الثيوقراطية) التي تتدخل فيها الكنيسة في الحكم، ثم انتقلت الى الشكل البرجوازي( فكريا وعمليا) وانتقلت الى الليبرالية التي توجت جهدها في حالة إمبريالية لم تقف أطماعها عند حدود. فدخلت منطقتنا بما يشبه الذهول الطويل والركون لنصرة أقوام غير مفهوم تحركها (في وقته) تحت عباءة الدين، ليتوالى حكم أربع وثمانين حاكما مملوكيا و سبعة وثلاثون حاكما عثمانيا.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان لا بد لمن أراد أن يفكر في حال الأمة أن يتلمس موقع انفلات إرادتها منها ليرتق الشق الذي حدث، من عند طرف بدايته، وبالمقابل على من أراد التفكير في أي حل أن يضع بالحسبان تقدم الذين تقدموا في العالم من شعوب، وأن لا ينسى قدراتهم، ويعيد في نفس الوقت موضوع استثارة الهمم الطيبة لتكون سرعة الأمة في تخطيها أوضاعها لتلحق بمن سبقها من أمم ومن ثم بعد أن ينجز مهمته في التعبئة العامة أن يفكر في شكل الحكم وطريقة تداوله .. لم تكن المهمة سهلة، وهي مهمة مركبة من ثلاث ركائز: تهيئة الأمة وتسريع أدائها أولا، والتخلص من ثقل الشعور بانعدام الوزن والاتكال على قوى غير عربية ثانيا، و مقاومة أطماع القوى الإمبريالية التي كانت تتربص بالدولة العثمانية التي أنهكتها الديون والفساد ثالثا.

كانت النخب التي تولت عملية تحريك الإرادة العربية، قد تلقت علومها في أوروبا واحتكت بالحضارة الأوروبية، وأعجبها قسم مما لاحظته هناك، ولكنها لم تنس جذورها وتراثها العربي الإسلامي، فبدأت بحركة تبشيرها بشكل أدبي مموه بالفكر السياسي، وكان من هؤلاء كل من (رفاعة الطهطاوي، و عبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، و جمال الدين الأفغاني وغيرهم) . ثم حدثت مجموعة من الأحداث التي أثرت على الفضاء الذهني العربي في بداية القرن العشرين ولا زالت نتائجها ماثلة حتى اليوم لتفرز مدارس فكرية وسياسية تبحث بها الشكل العام للدولة:

أولا: عندما ظهرت جماعة الاتحاد والترقي التركية التي استلمت الحكم في الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين حاولت (تتريك) وطمس هوية العرب وتحويلهم لأتراك، تصدت النخب القومية العربية لتلك المحاولة اللعينة، فتعرضت تلك النخب الى أبشع أنواع التصفيات من خلال (الخوازيق) والتشريد والإعدام، حتى أعدم في يوم 6/5/1916 مجموعة هائلة من الرموز العربية في يوم واحد على يد جمال باشا، فاستحق هذا اليوم أن يسمى بالتاريخ الحديث يوم (الشهيد العربي)..كما استحق جمال باشا أن يحظى باسم (جمال السفاح).

ثانيا: أدى انتصار الثورة السوفييتية الى انتشار الأفكار الاشتراكية والشيوعية في العالم ومنها منطقتنا..

ثالثا: مع انكشاف سر اتفاقية (سايكس بيكو) وصدور وعد بلفور وزرع الكيان الصهيوني في نهاية المطاف في قلب الأمة العربية، أخذ النضال العربي مقترنا وممزوجا بأفكار أخذت أولوياتها تتشكل بمقاومة الصهيونية ومقاومة الإمبريالية التي غذت ومهدت وشرعنت لوجود هذا الكيان في المنطقة، والانتباه لمن يمد يد العون أو يبارك أو يتساهل مع تلك المصادر المقلقة والمعيقة لإرادة النهوض لدى الأمة، وقد طال هذا الحذر الاتحاد السوفييتي والحكومات العربية المتعاونة مع الغرب ..

هذه البيئة السياسية التي سبقت حالة النظام العربي الرسمي الراهن والتي تشكل الرافعة الأساسية لتقييم ما نحن فيه، وسيكون لها دور في اقتراح الحلول في تداول السلطة.

ابن حوران 20-04-2007 08:42 PM

المثقفون والديمقراطية

منذ أسبوع وأنا أحاول ربط ما كتبته سابقا، بما سيليه، فوضعت لا يقل عن اثني عشر مرجعا، منها ما كتب في الستينات ومنها ما كتب في الثمانينات أو أوائل التسعينات، فأجبرني هذا الوضع أن أقرأ فصولا من تلك الكتب كاملة، أو أعيد قراءتها أكثر من مرة، فأحسست لأول مرة بشعور يثبط الهمة ويشعرني بالقرف الشديد .. فبالرغم من قدرة الذين كتبوا سواء كانوا من الكتاب العرب، أو من الكتاب الأجانب الذي تطوع بعض المفكرين العرب أن يترجموا ما كتبوا، ويضيفوا بصماتهم أو تدخلاتهم العربية على تلك المساهمات الأجنبية، فإن ما حدث خلال العقدين الماضيين من تغيرات هائلة نسف كل ما كتب وجعل تلك الكتابات تصلح أن تكون مقبولة فيما لو قورنت في ذاتها، أي إذا ما قارنها كاتبها بما أسس له أصلا في محاكمة ما أراد من سوق لنظريته أو ما أراد أن يوصله للقارئ، من جداول إجرائية من سياق ما كتب ..

يستطيع أي كاتب أن يضع وصفة لحل مشاكل الأمة العربية، والإسلامية بخمس دقائق، فيبدأها بالمطالبة أن نعود لكتاب الله ولا بأس أن يزين كتابته ببعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، ثم ينتقل للإعداد للخطوة الأخرى من نقل التقانة والتدريب على السلاح وتوحيد الجيوش والالتزام بالأخلاق و نبذ الفرقة وإخماد مواضع الصراعات الجانبية المضيعة لجهد الأمة، وسد المنافذ أمام الجواسيس والمخترقين لصفوف الأمة، وتشجيع العلم ومحاربة الفساد وتقليل الفوارق بين طبقات الشعب الخ ..

لكن ما أهمية ذلك؟ ومن سيحول هذا الكلام لإجراء؟ ألم يتناوب على ذكر تلك الوصفة منذ مئات السنين خطباء الجُمَع، وأساتذة التاريخ، وتوسع بشروحاتها وأساتذة كليات السياسة والقانون والشريعة، والإعلام، والإعلاميين ؟.. وهل هناك تاريخ معين سنتوقف به عن الكلام في هذه المواضيع وقد أنجزنا ما تكلمنا به؟ وقد نُصاب حينها بإحباط عندما تحل مشاكل الأمة، إذ لن يبقى موضوع للكتابة به!

لو عدنا للعقدين السابقين، وألقينا نظرة سريعة عليهما، دون فحص عميق، لخرجنا بوصف يمكن تلخيصه بما يلي:

1ـ بعد تصاعد موجات المعارضة التي قادتها نقابة (تضامن) في (بولندا) وترنح التجربة الشيوعية، رأينا سرعة توجه شعوب البلدان التي كانت تنضوي تحت مجموعة (المنظومة الاشتراكية) نحو التحول السريع الى النموذج الليبرالي الغربي في الانتخابات وتداول السلطة، كما رأينا سرعة التكيف التي اعتمدتها الأحزاب الشيوعية، أو ما تبقى من أعضائها الملتزمين، إذ استبدلت أسماء تلك الأحزاب من (الحزب الشيوعي الفلاني) الى (الحزب الديمقراطي الفلاني) .. وقبلت بالنموذج الليبرالي الغربي، واحتكمت الى الصناديق، وكأنها زاولت العمل بهذا النموذج منذ عشرات السنين ..

2ـ سارعت الكثير من دول أمريكا اللاتينية وآسيا وحتى إفريقيا (عدا الدول العربية طبعا) لاعتماد هذا النموذج، باستثناء (تجربة موريتانيا) ..

3ـ تراجعت الصيغ الديمقراطية (الصورية) في بعض الأقطار العربية، عما كانت عليه في الفترة التي سبقت (تجربة الجزائر) ..

4ـ دخلت مجموعة من الدول العربية مرحلة التزويق الديمقراطي، في اختيار أشكال من الصيغ التي تذر الرماد في العيون، واعتبار خطواتها تلك، طريقا لتطوير الأسلوب الديمقراطي

5ـ تدخلت دول خارجية لتوليد ديمقراطيات مسخة في منطقتنا، وبالطريقة (القيصرية) لتستبق النمو الطبيعي لولادة ديمقراطيات حقيقية في المنطقة، وتقطع الطريق على تحقيق صيغ شعبية راقية، تجسد الرؤى التي حلم بها مواطننا طيلة العقود السابقة.

6ـ عادت جولات اللغو اللفظي في تحديد وتعريف المفاهيم حول الديمقراطية، وقد استعرت تلك المناوشات من قبل نخب تحيط بالحكومات العربية والمعارضة العربية، بعدما نجحت منظمة حماس في الأراضي المحتلة في انتخاباتها ..

استشعر الكثير من المثقفين العرب، أن تحريك الأحداث في المنطقة لا يخضع، لا لمفاهيم عربية ولا إسلامية ولا حتى عالمية بأشكالها المتناقضة، فمفهوم حقوق الإنسان يخترق في كل لحظة من قبل المتشدقين به عالميا، ومن يحرك عجلة الأحداث في المنطقة هم أعداء شرسون لا تهمهم لا قواعد خلقية ولا سلوكية ولا يبحثوا عن عدالة. ويعاونهم نخب تحكم وتخشى على ديمومة حكمها .. فاختلت كل المعايير التي تشجع المثقفين لأن يسهموا بجدية بتطوير العلاقات مع الحكومات العربية القائمة، فباتوا لا يعلقون آمالا على أي تحرك بهذا الاتجاه ..

بالمقابل، كان الانهيار الذي حدث في الاتحاد السوفييتي والمجموعة التي كانت تدور بفلكه قد شكل قناعات عند الكثير من المثقفين الذين كانوا في حالة تعاطف مع الفكر اليساري، حيث عبر الانهيار عن هشاشة الضمانات الخلقية عند من كان يتبنى الفكر اليساري، فالسرعة في التخلي عن الصمود حول تلك المبادئ، هو ما جعل المتعاطفين يتناسوا تلك التجربة، ولا يرجحوا عودتها نهائيا ..

استشعرت القوى التي تبشر بعودة تطبيق الشريعة، بزيادة نصيب شعبيتها في الساحة الثقافية، خصوصا بعد تراجع القوى القومية، إضافة لاختلال التوازن الدولي بغياب الاتحاد السوفييتي .. وحيث أن تلك القوى لم تمتحن في استلام الحكم (في العصور الحديثة) فإن سجلها خالي من الإخفاقات التي تلازم التيارين اليساري والقومي .. فهي عمليا تكتسح الساحة الثقافية وتسجل نجاحات في الانتخابات البرلمانية والبلدية، وقد يتمنى بعض القائمين على إدارة تلك الجهات (الإسلامية) أن لا تنفرد في الحكم بالوقت الحاضر .. بل تبقى أقليات برلمانية، تستخدم المنابر البرلمانية لنشر خطابها .. في حين لو استلمت الحكم في الوقت الحاضر، فقد تخسر بعض شعبيتها، إن انكشف عجزها في إدارة شؤون الدولة، وقد تكون تجربة السودان نموذجا يمكن القياس عليه في بعض جوانبه ..

هناك صنف من القوى الإسلامية، يدرك أهمية التعاضد والتعاون مع غيره من القوى السياسية الأخرى، وقد يكون التعبير عن تطوير اللغة حول مفهوم الديمقراطية هو ما يميز نشاط هؤلاء بالوقت الحاضر ..

ابن حوران 29-05-2007 07:28 AM

بين الشورى والديمقراطية :

يستغرب من يطلع على أدبيات العرب، منذ أكثر من قرن من الزمان، وهم يذكرون الشورى مرة والديمقراطية مرة أخرى في كل صفحات كتبهم ومقالاتهم، وهم في الحقيقة لم يصلوا الى مسافة قريبة من أي منهما، وقد سبقتهم كل شعوب الأرض في الوصول الى صيغ من تداول الحكم في أقطارهم، في حين بقي العرب يراوحون في مكانهم، هذا إن لم يتراجعوا عما كانوا عليه.. ولعل أحد الأسباب الهامة في تأخرهم، هو ذلك الكم من الجدل البيزنطي فيما يجب أن نطبق في بلادنا: الشورى أم الديمقراطية؟

إن أنصار التبشير بالشورى، يتسلحون بفكرة مفادها أن الشورى تعني دوام الحضور للمشاورين، في حين أن الديمقراطية، وبمحورها الأقوى (الانتخابات) تتم للحظات إعطاء الصوت لأصحابه أو صاحبه، ثم اختفاء دور من اشترك بالتصويت الى تاريخ قد يصل الى سنوات، وأرى نفسي متشجعا للقبول بتلك النظرة، لكن مع توفر شروطها الموضوعية والذاتية ..

لكن قد تنطلق أصوات المبشرين بالشورى، من أجواء ضبابية، غير واضحة في تحديد شكل النموذج التاريخي (في الحكم) الذين يحلمون بالاقتداء به، فمنهم من يعتقد أنه امتد لزوال الحكم العثماني أي بقي لبدايات القرن العشرين، وهؤلاء ينقصهم الدراية في تفحص التاريخ الإسلامي، وتأتي شجاعتهم في إعلاء صوتهم، من خلال الظلامية التي تمر بها الأمتين العربية والإسلامية، بحيث يكون أي نموذج سابق أفضل من نموذجها الحالي، أو بأدنى تقدير أقل سوءا مما نحن فيه.. وهم محقون في ذلك من باب الدفع نحو التعبئة العامة، ولكن قولهم ينقصه الدقة والرؤية الواضحة، حتى في وصف ما حدث، وعليه سيكون قولهم تنقصه الدقة في التبشير بإجراءات عملية للخروج مما نحن فيه ..

لقد وردت لفظة (شورى) مرتين في القرآن الكريم، مرة في سياق قوله تعالى مخاطبا النبي صلوات الله عليه ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)*1 ومرة في سياق المدح والثناء على المسلمين (وأمرهم شورى بينهم)*2 .. وورودها في القولين (النصين) ليس فيه ما يقضي بأن كلمة (شورى) جزءا من الأصول المقررة في العقيدة الإسلامية الواجب إتباعها، إنما يجعل منها مبدأ استحسانيا يوصي المشرع بإتباعه حين تقتضي المصلحة العامة ذلك، أي أن مصلحة المجتمع المؤمن هي المرجح الوحيد في اختيار نمط الحكم اللازم..

إن الله عز وجل وهو يخاطب نبيه صلوات الله عليه ( وهو المعصوم) .. أراد أن يوصل للمؤمنين ذلك القول ليسيروا عليه في فترة ما بعد عهد النبوة .. ولو أردنا العودة الى ما بدأنا به الحديث، من أن الشورى أكثر حضورا من الديمقراطية، فإننا نستعيد تلك الصورة التي كانت سائدة في ذلك الوقت من الأطهار المؤمنين والذين يخشون ربهم ويلتزموا بتعليمات رسوله، وهم (كمؤسسة) أي الصحابة الحاضرون ومتابعون لمبعث الرسالة وقائمون على نشرها، في زمن دولة الدين، لن تتكرر تلك الصورة الاستثنائية، لا من حيث اللحظة التاريخية، ولا من حيث الشخوص، ولا من حيث تطابق الوضع الحضاري والجغرافي والثقافي و غيره ..

لا نجد خيرا من تمييز الإمام ابن تيمية بين مفهومي الخلافة والملك، فالخلافة لديه خلافة للنبوة مستوفية للشروط ومدتها ثلاثون عاما بعد وفاة الرسول الأكرم صلوات الله عليه، فتكون بذلك مقتصرة على حقبة الخلفاء الراشدين فحسب. أما من جاء بعد ذلك ممن تولى أمر الأمة فمفتقر في رأيه الى شروط الخلافة التي لم يعد لها من وجود إلا بالاسم فقط، أما واقع الأمر فمُلك أساسه الغلبة يعض عليه أهله بالنواجذ وهذا في رأي الإمام ابن تيمية حال الأمويين والعباسيين*3

لقد ذهب المنتقدون للشورى من المفكرين بأنه لا القرآن ولا السنة النبوية المشرفة ـ وفقا لآراء هؤلاء المفكرين ـ تناولا بالتحديد والتنظيم موضوعة السلطة وشكل الممارسة السياسية وأسلوبها في المجتمع الإسلامي. فليس هناك آية واحدة ولا حديث يمكن الجزم بأنه يرتب ترتيبا واضحا و حاسما ومحددا لنظام الحكم الإسلامي أو يحدد طبيعة وصفات الحكام وواجباتهم وحقوقهم من منظور وزاوية رؤية إسلاميين*4

بالمقابل ذهب مفكرون آخرون الى أن الإسلام (دين ودولة)، لأن الدين والدولة والدنيا فيه لا تنفصل عن بعضها، فالصلة المحكمة بين الدين والسياسة، هي من أبرز خصائص التاريخ الإسلامي ومميزاته الأساسية*5

إن منظري الخطاب السياسي العربي الإسلامي المعاصر تحديدا، ومعهم في هذا دون تلمس فارق يذكر، الغالبية من منظري الخطاب السياسي العربي يخضعون في استجاباتهم للتحديات لمنطق يستند الى قاعدتين مركبتين ومتلازمتين هما: (المرجعية القدسية التاريخية) و (الأنموذجية التاريخية المثالية)*6

وواضح تماما ذلك الحضور المفرط للتاريخ في هاتين القاعدتين. وهو حضور قابل للفعل إيجابا، تماما كما هو قابل للفعل سلبا، ويعتمد ذلك على الأسلوب والأدوات ونتائج التفاعل والانفعال به. فالتجربة التاريخية للحضارة العربية الإسلامية في حقبتيها النبوية والراشدية هي المرجع القِيَمِي المثالي للخطاب السياسي العربي عموما، والإسلامي تحديدا، وتأخذ تلك التجربة قدسيتها بارتباطها بالحضور الشخصي للرسول صلوات الله عليه، وحضور الصحابة الذين أحبهم الرسول ولازموه بأخذ ما أعطاهم من تفسير مباشر لنصوص القرآن ومن سلوك نبوي في إدارة الدولة الإسلامية في بداية تكوينها ..

لقد اعتمد الفكر السياسي الإسلامي، والعربي في كثير من الأحيان على الهدي بالنصين القرآنيين السابقين، وعلى السلوك النبوي الشريف الذي وصل عبر التاريخ للأجيال، والذي تجلت أمثلته في استشارة الرسول صلوات الله عليه، أصحابه. فقد شاور الرسول، أبا بكر و عمر بشأن أسرى بدر، وسأل الناس المشورة في غزوة بدر بشأن موضع نزول جيش المسلمين، وقبل مشورة سعد بن معاذ وسعد بن عُبادة بشأن فسخ الاتفاق مع قادة (غطفان) في غزوة (الخندق)، وقبل مشورة (سلمان الفارسي) بشأن حفر الخندق.. فقد كانت إدارته صلوات الله عليه تعتمد على المشورة مع احتفاظه بأحقية الأخذ بها أو رفضها.

ومن يتمعن في السلوك النبوي ومن بعده الخلفاء الراشدين، سيجد أن مصلحة عموم المسلمين، في الحرب والسلم، هي المحور الأساسي للاستشارة وأخذ الرأي، وهذا النهج هو ما اتبعه أبو بكر الصديق في حروب الردة، رغم ظهور آراء بالمشورة تخالف رأيه رضوان الله عليه. وكذلك سار عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه عندما كان يحض الناس على تقديم النصح والمشورة له وتقويم اعوجاجه إذا حدث..

بين الحاكم والمحكوم إسلاميا

يؤكد الفقيه السياسي (الماوردي) أن وحدة الأمة واستقرارها من أهم واجبات الحاكم، حتى لو وصفت قوته بالقوة القهرية من أجل ثبات تلك الوحدة، ولكنه يؤكد أيضا أن من واجبات الدولة حماية حقوق الفئات الأضعف، وكذلك نشر العدالة على أسس الشريعة الإسلامية*7 ومن الناحية النظرية، إذاً، لا بد من أن تؤسس الدولة السياسية على نظام (شوري) صحيح، أو بلغة حديثة، حكومة من الشعب تقوم على شكل ديمقراطي (شوري). فالمنظومة السياسية القائمة على الشورى تنص على المساواة، وحقوق الأفراد، وتقيد وظيفة الدولة بخدمتها لمصالح الجماعة. كما تنص هذه المنظومة على مسؤولية الحكم أمام الله، والجماعة، وأحكام الشريعة.*8

إن النموذج السياسي الذي قدمه معظم الفقهاء من أجل التنظير لدور مؤسسة الخلافة، هو نموذج دولة الرسول صلوات الله عليه، التي وحدت إطار الأسس النظرية السياسية، من شورى، وإجماع و عقد وبيعة، وحرية المعتقد والأفراد، والذي حدده ب(الصحيفة) التي أصبحت بمثابة دستور الدولة الإسلامية الأولى والتي أكدت على: 1ـ تنوع المجتمع وتعدد فئاته. 2ـ توحده كدولة سياسية بقيادة الرسول صلوات الله عليه، الذي يرسم سياسات الحرب والسلام والذي يعقد المعاهدات والاتفاقيات. 3ـ اعترافه بحرية المعتقد والممارسة للمجتمعات الدينية المختلفة. 4ـ القبول بالواقع القبلي والعشائري، القاعدة الاجتماعية والاقتصادية لتلك الدولة. 5ـ اعتبار المجتمع اليهودي جزءا من المجتمع السياسي ومشاركته في الحرب والسلم مع المجتمع المسلم. إذ أن ذمة الله ملزمة لكل الأفراد والمجتمعات. 6ـ اُعتبر النبي صلوات الله عليه الحَكَم بين الفئات المشكلة للمجتمع عند التنازع*9

نقطة تقييم أولية

إذا كان تعريف الديمقراطية المتردد بين الناس قد جرى عليه انتقادات واسعة، إذ كان : (حكم الشعب وبالشعب، أو سلطة الشعب، حسب التعريف اليوناني القديم، والأداء الروماني) فمن ينتقد هذا التعريف، يتذرع بأن مدينة روما سنة 24 ق م كان تعداد سكانها 214 ألف نسمة وأن سكان المدينة (الدولة) يعرفون بعضهم*10، والانتخاب يقتصر على الأحرار من الذكور، وقد سبق أهل اليمن القديم (دولة كمنهو وقتبان) اليونانيين والرومان في سلوك ديمقراطي مشابه بل ومتقدم عليه، عندما كانوا يختارون (مزودهم) من ممثلي العشائر والمهن ودور العبادة*11 وهذا الأمر قد تغير في العصر الراهن، بحيث يستوجب تغيير التعريف ليصبح : ( إن الديمقراطية، أسلوب لتمكين الشعب من المشاركة في صياغة القرارات المتعلقة بشؤونه ومراقبة تنفيذ هذه القرارات عبر هيئات ممثلة له ومنتخبة منه .. وهنا يأتي دور الأحزاب والنقابات والهيئات السياسية والمدنية المختصة في حفظ الأخلاق والتراث والبيئة والاقتصاد في مختلف مناطق الدولة) ..

وأظن أنه ليس للمطالبين بالشورى انتقادات وجيهة في رفض ذلك التعريف، حيث أن الشورى نفسها، والتي يعتبر مجتمع المدينة المنورة في صدر الإسلام هو النموذج التاريخي المرجعي لحججها، قد تغير هو الآخر فنحن نتكلم الآن عن مجتمعات أوسع وبقاع مختلفة في طبيعة سكانها ونشاطهم ..




هوامش
ــــ
*1ـ آل عمران ـ الآية 159
*2ـ الشورى ـ الآية 38
*3ـ منهج السنة النبوية/ابن تيمية/ المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية/ 1331هـ/ج2
*4ـ نظرية الإمامة/ د احمد محمود صبحي/ القاهرة/دار المعارف1969 ص 55
*5ـ منهج الإسلام في الحكم/ محمد أسد/بيروت/دار العلم للملايين/ط2/1964
*6ـ د. علي عباس مراد /مجلة دراسات عربية/نوفمبر/ديسمبر1993/ص 22
*7ـ الأحكام السلطانية والولايات الدينية/أبو الحسن علي بن محمد الماوردي / القاهرة/ مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1973 ص 5
*8ـ مجلة المستقبل العربي/عدد265/آذار/مارس 2001/ د أحمد الموصللي ـ أستاذ العلوم السياسية والدراسات الإسلامية في الجامعة الأمريكية ـ بيروت، وهي بالأصل ورقة قدمت لمؤتمر القدس في الدوحة في 26ـ31/10/2000
*9ـ المصدر السابق ص 19
*10ـ منير شفيق/ مجلة دراسات عربية/بيروت/ دار الطليعة/ عددي 5و6/1996/ ص4

ابن حوران 05-07-2007 06:45 AM

ملخص إجمالي لأنماط تناقل السلطة في الدولة الإسلامية :

يحُثُ الإنسان الخطى نحو هدفه عندما يكون ذلك الهدف واضحا بيناً، وتكون دوافع الوصول إليه ملحة وحاسمة. ففي حالات الطوارئ، يتم حمل المريض أو (الجريح المصاب) في سيارة إسعاف وتُشَغَل أجهزة التنبيه الصوتية والضوئية، لإبعاد من يعيق سير تلك السيارة، وفق أعراف تم احترامها من الجميع .. لكن في حالات القناعات المهزوزة وعدم وضوح الهدف، فإن الخطى تتثاقل، ويتردد أصحابها في إكمال مشوارهم، وإن أكملوه الى نهايته، فقد يتم تبديل ما تم تكليفهم به وهم على خط النهاية .. فإذا كانت قناعة الفرد غير مكتملة في شيء فإنه لن يستطيع إقناع غيره بما لا يقتنع به (هو) .. وقد يكون غيره أقدر على إقناعه (هو) بما أراد أن يغير في الجهة التي أراد أن يستصرخها لمؤازرته ..

هذا الكلام ينسحب على مسألة الديمقراطية في بلادنا العربية، فيتم رص الخطابات الأيديولوجية على صفحات الكتب والنشرات اليومية والأسبوعية، والإذاعية والتلفزيونية، وتمتلئ قاعات الندوات والمحاضرات بترديد ذلك المصطلح. والحقيقة المرة التي لا بد الاعتراف بها، أن معظم من يكتب أو يتكلم، لا يؤمن إيمانا كافيا بموضوع الديمقراطية، فيكون كلامه (خداجا) لا تكتب له الحياة إلا في المختبرات، أو صفحات الجرائد والكتب. وأسباب ذلك في نظري آتية من زاويتين: الأولى: أن مطلب الديمقراطية ولفظها وأسلوبها آتية من الغرب، الذي لا يعجبنا موقفه من قضايانا، ولا تلتقي عاداته وتقاليده مع عاداتنا وتقاليدنا، وأن النشأة التي وصل الغرب بها لصيغ تداوله للسلطة مختلفة عن بيئتنا ومحيطنا. والزاوية الثانية: أن الكثير من أبناء أمتنا ينظرون الى الماضي نظرة انتقائية، فيأخذون ملامح القوة من الماضي ويتوقون للرجوع إليها، يدفعهم في ذلك حاضرهم البائس وما يتصل من مسببات بؤسه من عوامل، مصدرها الغرب نفسه .. فتصبح المعاندة ممزوجة بكراهية من يضع الوصفة، مع الحنين لماض لا نريد أن نراه كما كان، بل نريد أن نراه كما نتمنى أن يكون الحال عليه عندما كان، لأسباب معروفة تتعلق في الصراع من أجل توكيد الذات العقائدية، والمراهنة على تلك الذات ..

من هنا كان لزاما علينا في سياق الحديث عن الديمقراطية أن نمر سريعا، على أشكال وأنماط تداول السلطة عند أجدادنا الذين لا تفارق أطيافهم خيالنا في هذه الأيام، لا لنسف الصورة، ولا لتلميعها وتبرير ما كانت عليه، بل للتعرف عليها كما هي، ولتكون مفردات الحديث تطابق مع ما نبحث عنه متلمسين طريقنا للخلاص ..

أولا : عشية ظهور الإسلام

كانت الوحدة السياسية والاجتماعية في البداوة العربية، هي العشيرة والقبيلة، وهي حالة غير ثابتة ومتنقلة من مكان لمكان، يتفرع منها الفخذ والبطن والعائلة، ولكل وحدة من تلك المكونات رئيس ومن هؤلاء الرؤساء يتم تكوين مجلس القبيلة أو العشيرة، وعلى رأس المجلس يكون هناك شيخ مشايخ، له النصيب الأوفر من الغنائم في الحروب، وله الكلمة العليا على من دونه ..

بالمقابل كان في المجتمعات الحضرية، كاليمن والعراق، أنظمة أكثر تطورا، يتم مراعاة مواطن القوة في القبيلة و يتم فيه تنظيم الرقيق والتجارة والعبادة وفق تعايش (تراتبي) تفرضه قوة سلطة الحاكم ..

كما كان هناك الملأ (المكي) الذي كان يتكون من أشراف عشائر مكة، يقتسم فيه إدارات شبه الدولة، فهؤلاء موكلون بالسقاية وهؤلاء موكلون بالرفادة وأولئك موكلون بالرايات (الحرب) وأولئك يكون منهم (سدنة) الكعبة الخ ..

وعرفت المنطقة ملكيات مطلقة، الروم والفرس، لدولتيهما تقاليدهما ونظاميهما المختلفين عما كان يسود عند العرب ..*1

ثانيا: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم

رفض الرسول صلوات الله عليه، فكرة أن يكون (ملكا) كما رفض فكرة الحكم المستبد، ووضع (صحيفة) في المدينة المنورة أعلنت قيام الأمة، التي دستورها القرآن الكريم وسنة رسوله .. وأهدافها : العدل والجهاد وحفظ كيان الأمة وتوسيعه، وهنا كانت الأسس الأولى*2 وقد أقبل الناس على الدخول بالدين الجديد والالتفاف حول الرسول لقوة العقيدة الإسلامية أولا، ولاستشعارهم بخطورة الأوضاع حولهم ثانيا *3.. ولكن بعد وفاة الرسول صلوات الله عليه، لن تتكرر حالته وهو النبي المعصوم المدعوم بملك من الله عز وجل ..

ثالثا: سقيفة بني ساعدة وأثرها فيما بعدها من تاريخ

ملخص ما حدث في سقيفة بني ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري

بعد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكليفه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في إمامة المسلمين في الصلاة، حدثت نفس بعض المسلمين في الاستيضاح من الرسول، حول من سيخلفه، ولكن إرادة الله و خوف من حدثتهم أنفسهم، لم تكن لتضع مسألة تسمية الرسول لمن سيخلفه موضع التنفيذ ..

اجتمع الأنصار في السقيفة، ومعهم رجل ( مزمل) إثر اعتلال في صحته، يدعى (سعد بن عُبادة)، كان يخطب فيهم بصوت خافت، وابنه أو أحد أبناء عمومته، يعيد ما يقول في صوت واضح، وكان في خطابه يُمجد الأنصار والكيفية التي أظهروا بها دين الله وناصروا رسوله وأصحابه المهاجرين المستضعفين المطرودين من مكة والمستجيرين بأهل المدينة .. وزاد في حديثه ليمهد لأهلية الأنصار في خلافة رسول الله وتولي أمر المسلمين، فوافقه الأنصار على ما يقول، وأيدوه في تولي شؤون المسلمين .. فبلغ خبر ذلك الاجتماع الى أبي بكر وعمر ابن الخطاب و أبي عبيدة عامر ابن الجراح، فذهبوا الى السقيفة، وحاول البعض أن يثنيهم عن ذهابهم لعدم الفائدة، ولكنهم أصروا .. فوقف أبو بكر وقال: هذا عمر وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا، فقالا : لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين وثاني إثنين إذ هما في الغار وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى الأمر عليك! أبسط يدك نبايعك .. فلما ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد (وكان من الأنصار) فبايعه، فناداه (الحُباب بن المنذر): يا بشير بن سعد: عقتك عقاق، ما أحوجك الى ما صنعت، أنفست على ابن عمك الإمارة! فقال: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم*4

أكثر ما يلفت الانتباه في مداولات السقيفة

1ـ لقد فاضل المهاجرين أنفسهم على الأنصار بأنهم من قريش، وهي حي كريم من أحياء العرب المتوسطة .. وهي قضية اعتمدها الكثيرون في أحقية أهل قريش والعرب، في الخلافة وحاجج بها من حاجج .. وبالذات الخوارج الذين تخلوا عنها في وقت متأخر ..

2ـ لقد تأخر آل هاشم في مبايعة أبي بكر ستة أشهر*5، وهي قضية لازمت بعض السياسيين الإسلاميين كثيرا، حتى بعد عصر أبي جعفر المنصور ..

3ـ إنه إذا استثنينا عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كونه معصوما، فإننا نؤكد أن الخلاف الذي كان يحدث، ليس خلافا عقائديا، بل خلاف سياسي، يجب الانتباه من التوغل فيه، كي لا نعمق الفوارق بين الصحابة، والذين يشكلون في عهدهم الراشدي، أفضل مرجعية للمسلمين، وعليه فالانتباه من بناء الأفكار والمواقف على ما حصل، من التساهل في تمجيد حكومات إسلامية (غير عربية) من البويهيين الى العثمانيين وقبولها بخيرها وشرها، وكأنها نظام مقدس غير قابل للخطأ والصواب ..

رابعا: دولة الخلفاء الراشدين

1ـ كانت أول تجربة صعبة مر بها المسلمون، هي التي حدثت في مبايعة أبي بكر الصديق، رضوان الله عليه، ولكن تلك التجربة التي غطت عليها حروب الردة واكتمال ما بدأه الرسول صلى الله عليه وسلم من بعث الجيوش لفتح الشام ببعثه لأسامة بن زيد الذي كان الرسول صلوات الله عليه قد عقد له لواء تلك المهمة قبل وفاته. كما حارب بقسوة كل المرتدين الذين كانت بوادر ردتهم قد ظهرت قبل وفاة الرسول كمسيلمة الكذاب و (عبهلة) والحركات التي تحللت من التزاماتها الاقتصادية مع بقاءها على الإسلام*6، وكان بأعماله تلك يرسخ قواعد الدولة الإسلامية، ويبعث من خلال ذلك برسائل داخلية للمسلمين لرفع هممهم ورسائل لأعداء الإسلام كالروم والفرس، بأن الدولة الإسلامية قادمة ومتابعة لما بدأ فيه الرسول صلوات الله عليه.

وفيما يخص تناقل السلطة، فإن فترة الحكم الراشدي، والتي تعتبر أساسا مرجعيا، للقياس عليه عند المفكرين السياسيين الإسلاميين والعرب، لم تكن فكرة تناقل السلطة فيها ذات نمط واحد، بل كان هناك عدة أشكال .. فالأول وقد مررنا عليه، في طريقة خلافة أبي بكر، حيث تم الاستدلال على أحقيته بالخلافة من خلال الفهم الآتي من تكليف الرسول له في إمامته بالصلاة، وما له من مكانة إيمانية عند الصحابة، إضافة الى تأييد عمر بن الخطاب وأبي عبيدة عامر بن الجراح. والطريقة الثانية هي ما أوصى به أبو بكر في تولية عمر بن الخطاب لأمر المسلمين، أما الطريقة الثالثة فهي التي ابتكرها عمر بن الخطاب في اختيار مجلس شورى يختار الخليفة من بينه ..

خلاصة أنماط الاختيار في العهد الراشدي:

1ـ رفض الحكم الملكي الوراثي ..
2ـ اختيار الخليفة من قبل من يزكيه ممن لهم أهلية من الصحابة، ثم مبايعة الصحابة لمن يقع عليه الاختيار ..
3ـ تفضيل المهاجرين والقريشيين على الأنصار في موضوع الاختيار ..وهي بادرة أسس عليها فيما بعد، ما أسماه (ابن خلدون) بالعصبية الضرورية في وقتها في حفظ الحكم.
4ـ ترجيح مصلحة الدين ووحدة المسلمين على ما دونها، ودرء الفتن ..

يتبع







المراجع
ـــ
*1ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/دار العلم للملايين 1976/ج9
*2ـ مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة/ محمد حميد الله/ القاهرة/1941/ ص 2 وما بعدها ..
*3ـ الأمة والدولة في سياسة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين/ نزار عبد اللطيف الحديثي /مطابع دار الحرية/بغداد 1987/ صفحة 96 وما قبلها للاستنتاج.
*4ـ تاريخ الطبري/المجلد الثاني ص 243/دار الكتب العلمية/ بيروت/ط2/1988
ويمكن الرجوع الى مروج الذهب للمسعودي/ المجلد الثاني/ص 304/دار الفكر1989
كما يمكن الى ابن الأثير/ الكامل في التاريخ/الجزء الثاني /تحت عنوان حديث السقيفة/ص10/ مؤسسة التاريخ العربي/طبعة جديدة ومنقحة 1989. كما يمكن العودة الى موقع الوراق في كتاب الذهبي/تاريخ الإسلام ص 364على هذا الرابط
http://www.alwaraq.net/index2.htm?i=141&page=1
*5ـ المراجع السابقة .. بالإضافة الى هذا الرابط
http://sirah.al-islam.com/Display.asp?f=rwd4276
*6ـ نزار الحديثي/ المصدر السابق ص 188

ابن حوران 14-08-2007 07:28 AM

تناقل السلطة في العهدين الأموي والعباسي

مع توسع الهجرة، وانتقال قوى القبائل للأمصار، وتنافر المفاهيم القبلية مع فكرة السلطة المركزية، وشعور القبائل بدورها في الفتوح والتحولات الاجتماعية التي رافقتها، انتقل الثقل من النخبة في المدينة المنورة الى القوى القبلية في الأمصار*1. وكانت الأزمة التي انفجرت في الفتن تمثل صراعا بين الاتجاهات القبلية والإسلامية، انتهى بخطين: الأول نقل السلطة الى الأمويين في الشام، والثاني بدايات ظهور الأحزاب وخاصة الخوارج والشيعة. انتهت الفتنة وبقيت وحدة الأمة، واستمرت الخلافة في قريش، ثم استؤنفت حركة الجهاد والتوسع. ولكن كما في الفترة الراشدية، لم تحسم مسألة وحدة النمط في تناقل السلطة، ولم يتم اختيار أسلوب لتناقل السلطة يصلح أن يُحتذى به ..

أصبحت الخلافة محور الصراع السياسي والفكري، كان صراعا بين المدينة المركز الأول للإسلام ـ باسم الشورى وبين الشام، وصراع بين القبائل الكوفية ـ على أسس قبلية وبين الشام، وصراع بين الأحزاب الإسلامية وبين الأمويين، لينتهي كل ذلك بثورة عباسية وتنتقل السلطة من أسرة قرشية الى أسرة قرشية أخرى، ومن عاصمة الى أخرى.

استفاد الأمويون من فكرة مواصلة الفتوحات التي كملت ما تم في عهد الراشدين، لفرض سلطانهم، لكنهم ومع التوسع الحاصل، ومع سعة خصوم عصبيتهم كعنصر عربي، لم يحشد كل العرب خلفه، ومع ظهور خلافات فقهية كالتي حاول ابن الزبير طرحها من خلال انتخاب الخليفة من قِبل أبناء الصحابة، وتبنى تلك النظرة الخوارج، والذين نادوا بجواز انتخاب أي عربي ليصبح خليفة، ثم تحولوا الى جواز انتخاب أي مسلم (فاضل) من دون شرط أن يكون عربيا*2. مع بقاء هذا الخليفة قابلا للعزل والتنحية إذا انحرف .

سلك الأمويون سلوكا، جعل من التشاور في العاصمة هو الأساس لاختيار الخليفة، وكان الرأي المساعد في اختياره، يتمثل برأي رؤساء القبائل المتحالفة والمحيطة بالأمويين، والتي تحولت فيما بعد الى قوة مستفيدة تجاريا ومصلحيا من الجهد والواقع السياسي للدولة مع حالة توسعها. وتكونت طبقة أرستقراطية محاطة بالوكلاء والموالي، أعلى مراكزهم تركزت بالمروانيين (نسبة الى مروان ابن الحكم) ..

حاول الأمويون التأكيد على فكرة الجبر وإن السلطة تأتي بقدر من الله وأن الخليفة هو خليفة الله (ابتداء من عبد الملك)، وأن على الناس الطاعة. فتكون إزاء تلك النقطة اتجاهان: الأول يرى أن عدم الطاعة والثورة على الحكم، هو خروج على طاعة الحاكم ومخالف للنصوص الشرعية، والثاني: يرى أن الثورة أمر مشروع، وهي تتمشى مع لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر الخ.

لم يستطع الأمويون تأسيس نظاما يتم فيه تناقل السلطة بما يرضي جموع المسلمين، بل اتجه حكامهم في نهايات عهدهم الى التشبه بأباطرة الروم والفرس من حيث الفخامة ومركزية السلطة الخ.

أما في العهد العباسي، فقد قامت الثورة العباسية باسم العودة الى الكتاب والسنة، وإحياء العدل والمساواة وإعطاء الفيء لأهله، ولعلها وجدت استجابة من بعض قوى المعارضة، ولكنها لم تفلح في إقامة مؤسسات تحقق المفاهيم الإسلامية.

ويلاحظ أن العباسيين أسندوا سلطانهم الى مبدأ القرابة من الرسول صلوات الله عليه، ونادوا بفكرة العائلة المطهرة بالرجس، ورفض مبدأ الانتخاب. وهذا النمط من الادعاء بالحق قد شابههم فيه أو سبقهم إليه المنادون بضرورة حصر الخلافة بأبناء علي بن أبي طالب، ومن يطلع على المراسلات التي كانت بين (أبي جعفر المنصور) وأحد أحفاد علي بن أبي طالب، حيث افتقده المنصور في مبايعته له، فكان جوابه للمنصور أن العباسيين قد اغتصبوا الخلافة من أبناء علي بن أبي طالب وهم أولى بها، وكانت المفاخرة تدور على أن حفيد ابن أبي طالب قال(أنا ابن الفاطمتين وأنت ابن أم ولد) ويقصد فاطمة الزهراء وفاطمة زوجة أبي طالب نفسه.. في حين رمى المنصور بأنه ابن جارية .. فرد عليه المنصور: بأن الرسول كان أربعة أعمام اثنان منهما كفار وكان أحدهما جدكم (ويقصد أبا طالب) واثنان مؤمنان وأحدهما جدنا (ويقصد حمزة والعباس) .. أما أنك تعيرني بأني ابن جارية، فجدنا كان ابن جارية وهو نبي الله إسماعيل (ويقصد هاجر)*3

أنهى العباسيون فكرة أن الأمة هي الجيش، وأحدثوا جيشا نظاميا من العرب والفرس مع شيء من التوازن، اختل حين فتحت بغداد من قبل جيش (خراساني) غريب أثناء الفتنة بين الأمين والمأمون.. وبقيت بعض القبائل العربية في الديوان ولكنها أسقطت نهائيا أيام المعتصم، ورافق هذه الضربة للعرب في الحياة العامة اتخاذ المماليك الأتراك أساس الجيش وبذلك بدت الخلافة دون قاعدة وفرضت سلطتها على الأمة بقوة غريبة ما لبثت أن هددت أسسها..

بالغ العباسيون في رفع منزلة الخليفة، واستحدثوا منصب (قاضي القضاة) ليستندوا إليه في نحت شرعيتهم، وتدخلوا في العقائد منذ فرضوا (الاعتزال) وأوجدوا فجوة بينهم وبين العلماء المسلمين وجمهور الفقهاء.. ومن جهة برزت فئات من التجار الذين كانوا ينشدون الربح والاستقرار فاصطفوا الى جانب الحكم فأصبحوا يملكون الضيع والمصالح. هذا لم يمنع من قيام ثورات عدة على الحكم العباسي (الزنج والزط وبابك الخرمي وغيرها)..

تناقل السلطة عند العباسيين

كانت الوراثة أساسا للحكم العباسي في عهده الأول، ولكن كان يشوبها تسمية أكثر من ولي للعهد في آن واحد كما حدث مع (الأمين والمأمون) وعاملا خطيرا في التآمر على (المتوكل) وقتله.

وفي حالة وفاة الخليفة دون عهد تحكمت القوى القائمة من جند وكُتَاب في اختيار خليفة وفي تدهور المؤسسة.. فلما توفي (الواثق) 232هـ/847م دون عهد، عقد مجلس من الوزير وقاضي القضاة واثنين من الكتاب واثنين من قادة الأتراك لاختيار خليفة، وكان الرأي المؤثر للعسكريين ، واختير (المتوكل).



وبعد مقتل المتوكل تحكم القادة الأتراك في تنصيب الخلفاء وعزلهم والتنكيل بهم. وحين انتعشت الخلافة في الثلث الأخير من القرن الثالث الهجري وتوفي (المكتفي) 295/908م دون عهد واضح، تشاور الوزير ورؤساء الكتاب واختاروا (المقتدر).

ولما عاد الجند للتدخل في أمور الخلافة نتيجة الأزمة المالية والإدارية، زمن المقتدر، اصطدموا بالخليفة وقتلوه، ونصبوا أخاه(القاهر)، ثم خلعوه واختاروا(الراضي)، الذي عجز عن تسيير الأمور. فاستحدث منصب (أمير الأمراء) لقائد الجيش وسلمت السلطة إليه في سنة 324هـ/936م *4

في سنة 334هـ/946م جاء الغزو البويهي وصارت أمور الخلافة بيد أمير الأمراء البويهي، والذي أعطى للخليفة حقا شرعيا لكن هذا الحق بيده هو! وأصبح الأمراء في الولايات يشترون حق ولايتهم (حكمهم المنفصل) من الخليفة ليكتسبوا شرعيته ..

وهكذا نرى أن العباسيين لم يفلحوا في تطوير مؤسسة دولة تضمن ثبات الحكم وممارسة العدل فيه بصورة جيدة ..

المراجع
ـــ
*1ـ عبد العزيز الدوري/ النظم الإسلامية: الخلافة، الضرائب، الدواوين والوزارة/ بغداد / مطبعة نجيب/1950/ص 25ـ26
*2ـ عبد العزيز الدوري/الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي/مركز دراسات الوحدة العربية/بيروت /ط2/1986/ص 194
*3ـ العقد الفريد/ ابن عبد ربه الأندلسي/دار الفكر/بيروت/ومكتبة الرياض الحديثة/الجزء الخامس/ص 309
*4ـ عبد العزيز الدوري / المصدر السابق صفحة 197


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.