الإسلام والسيف ... د. مصطفى الشكعة !!!
(1)
د. مصطفى الشكعة يخطئ كثير من المستشرقين وغير المستشرقين حينما يذهبون في كتاباتهم إلى أن الإسلام قد انتشر بالسيف، وهم يحاولون إلباسَ دعواهم ثيابَ صدقٍ وحَيدةٍ حين يربطون بين الفتوحات الإسلامية ونشر الإسلام، والحق أن الذين يركبون المركب الخشِن في محاولة الربط بين نشر الدعوة الإسلامية وامتشاق الحسام ليسوا إلا واحدًا من رجلين: - رجل حسن الطوية ولكنه قاصر في اطلاعه، لم يأخذ من الدراسة حول الإسلام إلا قشورًا دون أن ينفذ إلى اللباب، فيطلع على جمهور القراء بأفكار فجَّة ومعلومات خاطئة، واستنتاجات ظالمة. - ورجل قرأ وفهم ووعى ما قرأه، ولكنه سيئ النية، شرِّير الطوية، يغالط نفسه ويظلم الإسلام بنسبة أمور إليه هو منها براءٌ. فالمعروف أن المسلمين لم يشهروا السيف لأول مرة إلا في غزوة بدر، وهم حين فعلوا ذلك لم يكونوا عادين ولا ظالمين، وإنما كانوا يدافعون عن الدعوة التي أنزلها الله على رسوله، فآمنوا بها وهاجروا في سبيلها وحاربوا حفاظًا عليها، وإن المتتبع بعد ذلك للوقائع التي عُرفت بالغزوات لا يجد كثير عناء في أن يستنتج أن السيف الإسلامي قد شهر فيها دفاعًا عن الدين الجديد، وذَودًا عن حياض المسلمين، وحفاظًا لأرواحهم وعقيدتهم، فكانت الغزوات إمَّا حربًا دفاعيةً وإما حربًا وقائيةً، والحرب الدفاعية والحرب الوقائية كلاهما سواء. فلما استتبَّ الإسلام في الجزيرة العربية وبدأت الفتوحات لم تكن تهدف إلى نشر الدين بقوة السيف، وإنما كانت لإخضاع الحكام الظالمين وسلِّ عروشهم، وإنقاذ أبناء البشرية مما أوقعوه عليهم من جَور، وما أحاطوهم به من ظلم وإذلال، ولذلك فإن المسلمين في فتوحاتهم لم يُرغموا أحدًا على الإسلام، ولم يقتلوا طفلاً، أو يؤذوا امرأةً، أو ينالوا شيخًا بضَرَرٍ، فلم تكن الفتوحات الإسلامية في واقعها لتحويل غير المسلمين إلى مسلمين، وإنما كانت لتوسيع نطاق السيادة الإسلامية التي هي سيادة الله، وبسط العدالة والطمأنينة على ربوع العالمين. فأسلوب الدعوة إلى الإسلام بعيد كل البعد عن الدماء، بريءٌ كل البراءة من شهر السيف وامتشاق الحسام، وإنما السبيل إلى ذلك مسطور في حنايا الكتاب العزيز في أكثر من آية من آيات الله، فسبيل نشر الدعوة ينحصر في أن قوة الدعوة نفسها أمضى وأقوى من قوة السيف، فالله تعالى يقول: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: من الاية 256) ويقول: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: من الآية 125) ويقول ﴿وقُلْ لِلَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)﴾ (آل عمران: من الآية 20). هذا هو دستور الدعوة الإسلامية، سبيلٌ كله سلامٌ وحريةُ اختيار، لا إجبار ولا إكراه، ولذلك فمن الحقائق التاريخية المسلَّم بها أن المسيحيين من العرب ظلوا متمتعين بكامل حقوقهم، وأن عمر بن الخطاب لم يفرق بين تغلب المسيحية وبين المسلمين، ومعروف أيضًا أن المسيحيين في الشام طلبوا نجدة الجيوش الإسلامية لكي تخلِّصَهم من ظلم الروم، ولكي تنشرَ العدل بينهم، فقد كانت رسالة السماء تفرض إشاعة العدالة بين الناس أيًّا كان دينهم، وإذا كان الإسلام قد فرض الجزية عليهم فلم يكن ذلك عقابًا لهم، وإنما كان ثمنًا لحمايتهم، وفي نفس الوقت سمح لهم بإقامة شعائرهم الدينية والتمتع بكامل حقوقهم على وجه من العدل والإنصاف. وكان الحال كذلك أيضًا بالنسبة للقبط في مصر، وقد لاقوا من الاضطهاد قبل الفتح الإسلامي ما جعلهم ينتظرون وصول العرب الفاتحين بفارغ الصبر، يقول السير توماس أرنولد في وصف حالهم: "كان بعضُهم يعذَّب ثم يلقَى بهم في اليم، وتبع كثيرٌ منهم بَطْرِيقَهم إلى المنفى لينجوا من مضطهِديهم، وأخفَى عددٌ كبيرٌ منهم عقائدَهم الحقيقية وتظاهروا بقبول قرارات مجمع خلقدونية، وقد جلب الفتح الإسلامي إلى هؤلاء القبط حياةً تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان، وقد تركهم عمرو بن العاص أحرارًا على أن يدفعوا الجزية، وكفل لهم الحرية في إقامة شعائرهم، وخلَّصهم بذلك من هذا التدخل المستمر الذي كانوا يئِنُّون من عبئه الثقيل في ظل الحكم الروماني، ولم يضع عمرو يده على شيء من ممتلكات الكنائس، ولم يرتكب عملاً من أعمال السلب والنهب، ويظهر أن حالة القبط في الأيام الأولى من حكم المسلمين كانت معتدلةً، وليس هنالك شاهد من الشواهد يدل على أن ارتدادهم عن دينهم القديم ودخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعًا إلى اضطهاد أو ضغط يقوم على عدم التسامح من جانب حكامهم المسلمين" (الدعوة إلى الإسلام: ص: 123، 124)، وهكذا وجد القبط في ظل الإسلام الحريةَ الكاملةَ بعد أن قتل الإمبراطور جستنيان من قبط الإسكندرية الأرثوذكس وحدهم مائتي ألف مواطن. وما يقال عن دخول مسيحيّي مصر إلى الإسلام دون ضغط أو إكراه يقال عن غيرهم من سكان البلاد التي فتحها المسلمون، وها هي رسالة كتبها البطريق النسطوري يشوع ياف الثالث Isho Yabh وبعث بها إلى المطران سمعان- رئيس أساقفة فارس- يقول فيها بعد أن صوَّر حزنه لتحوُّل كثير من المسيحيين الفرس إلى الإسلام: "وإن العرب- الذين منحهم الله سلطان الدنيا- يشاهدون ما أنتم عليه، وهم بينكم كما تعلمون حق العلم، ومع ذلك فهم لا يحاربون العقيدة المسيحية، بل على العكس، يعطفون على ديننا ويكرمون قُسُسَنا وقديسي الرب، ويجودون بالفضل على الكنائس والأديار، فلماذا إذن هجر شعبُك من أهل مرو عقيدتهم من أجل هؤلاء العرب؟ ولماذا حدث ذلك أيضًا في وقت لم يرغمهم فيه العرب- كما يصرح أهل مرو أنفسهم- على ترك دينهم؟ بل هم تعهَّدوا لهم أن يبقوا عليه آمنًا مصونًا إذا هم اقتصروا على أداء جزء من تجارتهم إليهم" (توماس أرنولد: ص: 101، 182). والإسلام لم يحفظ على غير المسلمين عقيدتهم وحياتهم وحسب، بل إن بعض حكام المسلمين بالغوا في إكرام المسيحيين واليهود، فوضعوهم في مناصب الدولة المهمة، بحيث كان منهم الوزراء والحجَّاب، سواءٌ في الدولة العباسية في بغداد أو الدولة الفاطمية في مصر أو الخلافة الإسلامية في الأندلس. على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل إن صلاح الدين الأيوبي الذي خاض الحروب الصليبية لم يأخذ رعاياه من المسيحيين بجريرة القادمين الباغِين من أوروبا، وإنما عاملَهم برفْقٍ أكثر، وأسبغ عليهم تسامحَه، وخفَّف عنهم الضرائب وأزال بعضها، ووضعهم في الوظائف كوزراء وكتَّاب وصيارفة، وظل حالُهم كذلك من السعادة والرعاية والاستمتاع بحرياتهم كاملةً في عهد خلفاء صلاح الدين.. لم يدخل أحد إلى الإسلام إذن خوفًا من السيف، وإنما العقيدة نفسها كانت كالنور الوهَّاج يجذب إليه الأنظار، فدخلت أفواج الناس إلى الإسلام عن رِضًى وارتياح وإيمان، فحوادث إجبار غير المسلمين على اعتناق الإسلام قليلة نادرة، وهي فرديةٌ في الغالب، ولعلها في الديانات الأخرى أكثر وأعمّ، فشرلمان- ملك فرنسا- كان يفرض التعميدات المسيحية بحد السيف وكان أولاف ملك النرويج يذبح من يرفض الدخول في الدين المسيحي من سكان فيكن VIKAN (الجزء الجنوبي من النرويج) أو يقطع أرجلهم وأيديهم، كما وجدت جماعةٌ متعصبةٌ لنشر المسيحية بالقوة أسموا أنفسهم إخون السيف. فالذين ذهبوا إلى أن الإسلام قد انتشر بالسيف قوم مخطئون كل الخطأ؛ لأن الدين الذي يعتمد على السيف لكي ينتشر دين ضعيف، وليس الإسلام كذلك، وليس أدلَّ على ذلك من أن المهاجمين لديار الإسلام المنتصرين على المسلمين ما لبِثوا أن اعتنقوه دينًا وآمنوا برسالته، مع أن طبيعةَ الأمور تقضي أن يحوِّلوا المسلمين إلى دينهم لا أن يتحوَّلوا هم إلى الإسلام. فالسلاجقة الوثنيون الذين فتحوا بلاد ما وراء النهر وتقدَّموا إلى العراق العجمي وظلوا يزحفون شيئًا فشيئًا حتى أخضعوا أكثر الأراضي الإسلامية.. هؤلاء الوثنيون الظافرون الفاتحون الغالبون ما لبث الدين الإسلامي بقوته وسلامته وسماحته أن استهواهم فاعتنقوه، وصاروا سلاطين مسلمين، وليس الأمر موقوفًا على هؤلاء السلاجقة وحدهم فإن قومًا أشد منهم عتوًّا وأعنف منهم ظلمًا، وأكثر منهم تعطُّشًا إلى الدماء، قد هاجموا ديار المسلمين وقضوا على خلافتهم، وقتلوا خليفتهم وخضَّبوا الأرض بدمائهم، ورنقوها بأشلائهم، أولئك هم المغول التتار المتوحِّشون الوثنيون الغالبون المنتصرون، الذين ما لبثوا أن انضمُّوا بعد حينٍ تحت لواء الإسلام، فهذَّب أخلاقهم، وجعل لهم حضارةً وفنونًا عُرفت باسم الفنون المغولية. من يصدِّق أن هؤلاء التتار الذين سفكوا من دماء المسلمين ما لم يسفكه أحد من قبلهم، والذين يصف ابنُ الأثير فظائعهم، وجعْلهم مساجد بخارى اصطبلات خيل، وتمزيقهم للقرآن الكريم، وهدم مساجد سمرقند وبلخ، فيقول: "لقد بقيت عدة سنين معرِضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليها رِجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهُل عليه نعي الإسلام إلى المسلمين؟ ومن الذي يهُون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا.. إلى أن حثني جماعةٌ من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمَّت الخلائق، وخصَّت المسلمين، فلو قال قائل منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن: لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا" (ابن الأثير حوادث سنة 617هـ). نقول: من يصدق أن هؤلاء المتوحِّشين يدخلون الإسلام طائعين وهم الظافرون الكاسحون المنتصرون؟! على أن الأمر بالإسلام لم يقِف عند اجتذاب الوثنيين الظافرين من السلاجقة والمغول وحدَهم إليه، بل إنه جذب بعضَ الصليبيين الذين جاءوا ليحاربوا المسلمين فدخلوا فيه طائعين مختارين زرافاتٍ ووحدانًا؛ ذلك أن جنود الصليبيين بينما كانوا يجتازون آسيا الصغرى في طريقهم إلى بيت المقدس تجسَّس عليهم الإغريق من أبناء دينهم، وأبلغوا الترك المسلمين بمواقعهم، فهاجمهم الترك المسلمون وأوقعوا بهم ومزَّقوهم شرَّ ممزق، غير أن من نجا منهم- أيْ من الصليبيين- كانوا في حالةٍ من البؤس والإسراف على الموت لدرجةٍ استدرَّت عطف الترك المسلمين، فما كان منهم إلا أن واسَوا المرضَى وعالجوهم، وأغاثوا الجائعين المشرفين على الهلاك، وبذلوا لهم العطاء في كرم وسخاء . |
(2)
بل لقد اشترى بعض المسلمين النقود الفرنسية من الإغريق لكي يوزِّعوها بسخاء على الصليبيين المعوزين، فكان البون شاسعًا بين المعاملة الرحيمة التي لقيها الصليبيون من المسلمين وبين المعاملة السيئة التي لاقوها من أبناء دينهم الإغريق وما عانوه من قسوتهم، حتى إن كثيرًا منهم دخلوا دينَ منقذيهم بمحض إرادتهم، وبلغ عدد هؤلاء الذين اعتنقوا الإسلام من الصليبيين أكثر من ثلاثة آلاف. لعل هذه الأمثلة التاريخية التي تؤيدها الوثائق، والتي جعلت الغالبين يدخلون إلى الإسلام عن رضًى أكبر دليل على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وإنما انتشر بقوة العقيدة وكمالها، وتشبُّع النفوس بها، واقتناع أولي الألباب بأنها الحق من رب العالمين. وكيف يمكن أن يكون انتشار الإسلام بالسيف، والمؤرِّخون يذكرون لنا أنه حتى نهاية القرن الهجري الأول كان عدد المسلمين في البلاد المفتوحة لا يزيد على الثلثين، ولو كان السيف أداةَ نشر الدين لما بقي واحدٌ من سكان تلك البلاد على غير الإسلام بعد مائة سنة من الزمان، بل لما بقِي في بلاد المسلمين الآن مواطنٌ واحدٌ لا يتخذ الإسلام دينًا. لم ينتشر الإسلام بالسيف إذن، وإنما انتشر بقوة عقيدته وعمق إيمان الناس بعدالتها، وإلا فكيف يفسَّر دخول مئات الملايين فيه من أهالي الهند والصين والملايو وجاوة وجزء الهند الشرقية وإفريقية الوسطى؟! بل كيف آمن به الملايين المنتشرون في روسيا وبولندا ولتوانيا في شمال أوروبا، ثم مدينة الكاب وغينيا التي يحتلها الأوروبيون؟! هل وصلت سيوف المسلمين إلى تلك المناطق؟! لم يقل بذلك عاقل أو مجنون!! لقد دخل الإسلام إلى تلك البلاد عن طريق الدعاة المسلمين المجرَّدين من أي سلاح إلا سلاح السماحة والإيمان، فدخل الناس عن طريقهم في دين الله أفواجًا، إنه في الوقت الذي كان المسلمون يذبَّحون في أسبانيا ويُصنع بهم من ألوان الاضطهاد ما لم يَسمع به التاريخ من قبل.. في ذلك الوقت كان يقتل فيه في الأندلس كلُّ من يقول "لا إله إلا الله محمد رسول الله" حتى أُجلي الإسلامُ وحضارةُ الإسلام عن أسبانيا، كان الإسلام نفسه يكسب أرضًا جديدة ومسلمين جُدُدًا في سومطرة والملايو، وشتان الفرق إذن بين تعصّب يقتل المسلمين في أرضهم، وسماحة تجذب المواطنين في غير أرض الإسلام إلى الإسلام. ربما يظنُّ ظانٌّ أن ما أُنزل بالمسلمين في الأندلس من حيف وتقتيل كان نتيجةً لتعصب سابق أو ظلم أوقعوه على الأسبان، أو إجبار لهم على اعتناق الإسلام، ولكن التاريخ لم يسجِّل حادثةً واحدةً من هذا القبيل، فلم يحدث أن اضطَّهد المسلمون سكان أسبانيا أو أجبروهم على اعتناق الإسلام وقت الفتح، بل كانت سياستُهم كلها تسامحًا وعطفًا، بل إن المسلمين قد شيَّدوا للرهبان والراهبات أديارًا جديدةً تهيَّأ فيها لهم الأمن والطمأنينة، وكان الرهبان يستطيعون أن يخرجوا على المَلأ بألبستهم الدينية، وتقلَّد بعضُهم المناصب العالية في البلاط، وهكذا رعى الإسلام المسيحيين في الأندلس وحافظ عليهم، ولم تحدث حالةُ اضطهاد ديني واحدة.. هكذا انتشر الإسلام في الأندلس بغير ضجَّة ولا سيف، وإنما بالسماحة والرفق والاقتناع، وهكذا خرج الإسلام من الأندلس يسبح في بحار دافقة من دماء أبنائه بسيوف متعصبة ظالمة. ولا يختلف الأمر في دخوله القسطنطينية عنه في دخوله الأندلس، فلم يُرغم القائد التركي أحدًا على اعتناق الإسلام، بل نَشَر العدل وأقام صروحَه، وأمَّن الناس على حياتهم، ونحن لا نستقي ذلك من مؤرِّخي المسلمين، بل من مؤرِّخ بيزنطي شاهَد سقوط القسطنطينية يتحدث عن بايزيد، وكيف كان رحب الصدر، كريم الخلق مع رعاياه المسيحيين، وكيف جعلهم يألفونه ألفةً تامةً بأن سمح لهم بالتردد على مجلسه في حرية كاملة، وكيف أن مرادًا الثاني اشتهر بتحقيق العدل وإصلاح المفاسد التي سادت في عهد الأباطرة الإغريق، لقد كان يعاقب في غير هوادة أيَّ موظف من موظفيه يَثبت أنه استبدَّ بأي فرد من أفراد رعيته. لم يتدخل الترك المسلمون في عقيدة رعاياهم من المسيحيين، ولم يحاولوا نشرَ الإسلام بالسيف، يشهد بذلك بطريق أنطاكية "مكاريوس" الذي يقول من حديث طويل له يلعن فيه البولنديون الكاثوليك، ويُحصي ضحاياهم من الأرثوذوكس بعدد يتراوح بين سبعين وثمانين ألفًا من القتلى: "أدام الله بقاء دولة الترك خالدةً إلى الأبد؛ فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأنَ لهم بالأديان، سواءٌ أكان رعاياهم مسيحيين أم ناصريين، يهودًا أم سامرة.. أما هؤلاء البولنديون الملاعين فلم يقنعوا بأخْذ الضرائب والعشور من إخوان المسيح، بالرغم من أنهم يقومون بخدمتهم عن طِيب خاطر، بل وضعوهم تحت سلطة اليهود الظالمين أعداء المسيح الذين لم يسمحوا لهم حتى بأن يبنوا الكنائس، ولا بأن يتركوا لهم قُسُسًا يعرفون أسرار دينهم". في ظل هذه السماحة المطلقة دخل رعايا الكنيسة الشرقية إلى الإسلام دون ترغيب أو تهديد، بغير سيف ولا رمح، ولكن أعجبتهم شريعته السهلة البعيدة عن التعقيدات، فكان لهم بمثابة المهرب من التعقيدات التي خلقتها الهرطقة البوليشية فدخل الإسلامَ أقوامٌ كثيرون من ألبان وبوسنة وصرب. وما يقال عن انتشار الإسلام في أوروبا يقال عنه في آسيا، ففي فارس كان الكهنة الزرادشتيون قد تسلَّطوا على شئون الدولة المدنية غير مكتفين بنفوذهم الديني، واضطهدوا الديانات المخالفة لهم، من بوذيين ومانويين ومسيحيين ويهود وصابئة، وما إن جاء المسلمون إلى تلك البلاد حتى ضمنوا الحرية الدينية لكل فرقة من هذه الفرق، وعاملوهم جميعًا معاملةَ أهل الكتاب، مكتفين بأخذ الجزية منهم، وشيئًا فشيئًا بدأت الجماعاتُ من سكان المدن خاصة ترحِّب بالإسلام دينًا، وتعتنقه في حماسةٍ كبيرةٍ، وكان في مقدمة هؤلاء جميعًا أصحابُ الحرف والعمَّال بمختلف طبقاتهم، ارتضَوا الدين الجديد لصفائه وخلوِّه من المعتقدات الوثنية التي بدَت كريهةً في أنظارهم؛ نظرًا لسفاهة طقوسها، واستبداد رجال الدين القوَّامين عليها. وإذا كان بعض سكان شمال الهند دخلوا الإسلام خشيةً أو خوفًا في إبان بعض الغزوات المتأخرة، فإن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بجنوب الهند، الذي أسلم الملايين من سكانه نتيجةَ علاقاتٍ وديةٍ وتقدير واحترام نشأت بين التجَّار المسلمين الذين تزاحموا في تلك المنطقة وبين الحكام الهنود الذين أُعجبوا بأخلاق المسلمين ومعاملاتهم وطرُق تعبُّدهم، ولا شكَّ أنه كان للرخاء الذي عمَّ على هذه المنطقة نتيجةً لنشاط العرب وإقبالهم على شراء منتجات هذه البلاد أثرٌ كبيرٌ في ربط أواصر المودة بين السكان والمسلمين، الأمر الذي ساعد على انتشار الدين الإسلامي دون أن يدخل هذه المناطق سيفٌ واحدٌ. وقد لعب رجل عظيم اسمه خواجه معين الدين خشتي دورًا كبيرًا في نشر الإسلام في الهند بالطرق السلمية التي تعتمد على الإقناع والموعظة الحسنة، وإنا لنسمع عن دعاة كثيرين آخرين نذَروا أنفسهم لنشر الدعوة الإسلامية في الهند، فكان السدادُ رائدَهم وأسلم على أيديهم الملايين في أنحاء شبه القارة الهندية وما يحيط بها من جزر، من هؤلاء نادر شاه المتوفَّى سنة 969هـ/ 1039م، وسيد إبراهيم شهيد، وشاه عبد الحميد سنة 1600م، والشيخ يوسف شمس الدين، وممبا ملايكا، وغيرهم كثيرون، لا نستطيع أن نُحصي أعمالهم في هذه الصفحات القليلة. ولقد دخل الإسلام إلى الملايو وجاوة وسومطرة وبورنيو وسيلبيس والفلبين وغيرها من هذه المناطق بالدعوة والتبشير دون سفك قطرة دم واحدة، دخلَها عن طريق التجَّار المسلمين الذين اتصلوا بالسكان اتصالَ المودة والنسب، وكانوا في نفس الوقت يبشرون بدينهم، أو عن طريق الدعاة الذين نذروا أنفسهم لخدمة الإسلام، وكان الناس يقبلون عليهم في يُسْرِ، ويعتنقون الدين الجديد ويؤمنون به في وقت قصير، وفي أحيان كثيرة كان الداعي إذا أقنع الملك بالإسلام قام الملك نفسه ودعا وزراءه ورعيتَه إلى العقيدة الجديدة، فيسارعون إلى الاستجابة في أقصر وقت وأسرعه. ومن تلك القصص الطريفة قصة إسلام ملك قويده في شبه جزيرة الملايو، فقد وصل إلى تلك المملكة سنة 1501م عالم عربي يُدعَى الشيخ عبد الله، وزار الراجه (الملك) وسأل عن ديانة البلاد، فأجابه الراجه: ديني ودين رعيتي كلها هو الذي وصل إلينا من الشعب القديم، ونحن جميعًا نعبد الأصنام، فقال الشيخ، أما سمعتم جلالتكم عن الإسلام والقرآن الذي أنزله الله على محمد ونسَخ به كلَّ الديانات الأخرى وتركها في حوزة الشيطان؟! وظل الشيخ يشرح للراجه تعاليم الإسلام- وكان ذا بشاشة ولباقة- حتى اقتنع الملك بكلامه، وما لبث أن أحضر جميع الأصنام التي في القصر فجمعت في أكوام بعضها من الذهب، وبعضها من الفضة، وبعضها من الطين أو الخشب، وأُلقيت على الأرض وأحرقت، وبعد إيمان الملك آمَن بعده أهل بيته، ثم وزراؤه، ثم بقية رعيته الذين جمعوا كل الأصنام التي كانت في حوزتهم وأُحرقت جميعها وأصبحت رمادًا تذروه الرياح، وأقبلوا على الإسلام تعلُّمًا والبِشر يعمُّهم والفرح يملأ جوانحهم، ولم يكتف الملك باعتناق الإسلام، بل غيَّر اسمه من "برا أونج مها وانجسا" إلى اسم إسلامي هو "مزلف الشاه" ثم بُنِيت المساجد في المناطق الآهلة بالسكان، بهذه الطرق السلمية والوسائل الإقناعية انتشر الإسلام في أقطار آسيا وجزرها. وأما اعتناق الأفريقيين للإسلام فقد تم أيضًا عن طريق الدعاة والتجَّار، ولقد لقي الدعاة المسلمون لدى الزنوج كثيرًا من الإدراك والتقبُّل حين كانوا يحدِّثونهم عن الحقائق المتعلقة بالله والإنسان، هذا فضلاً عن أن الدين الإسلامي دين الفطرة والبساطة، ولذلك كان الأفريقيون يُقبلون على اعتناقه؛ باعتباره لا يفرق بين الأبيض والأسود، على حين أن رجال الإرساليات الأوروبيين لم ينجحوا في شدهم إلى رباط المسيحية؛ لأن الأفريقي السود المنتصر كان يحسُّ في قرارة نفسِه أن أبناء دينه من الأوروبيين ينتمون إلى جنسٍ ولونٍ وحضارةٍ لا ينتمي هو إليها، وكان يحس بذلك الفرق الذي يؤرِّق نفسه ويؤلم إنسانيته. ويعلل بعض الكتَّاب الأوروبيين سرعة انجذاب الزنجي إلى الإسلام فيقول: إن الدخول في الإسلام لا يستلزم أن يفقد الواحد قوميته، ولا يستلزم تغييراتٍ انقلابيةً في الحياة الاجتماعية، ولا يقوض نفوذ الأسرة أو سلطة الجماعة، وليست هناك هوَّةٌ بين الداعي إلى الإسلام والمتحوِّل إليه، فكلاهما متساوٍ ومع الآخر، لا نظريًّا بل عمليًّا أمام الله، وكلاهما ينفِّذ مبدأ التآخي تنفيذًا عمليًّا، والإسلام يمنح هؤلاء الذين يتصلون به منزلةً أرقى وفكرةً أسمى عن مكانة الإنسان في العالم المحيط به، ويحرِّره من ربق ألف عام من الأوهام الخرافية. هكذا انتشر الإسلام في أفريقية انتشار النور في الظلمة، أقبل عليه الأفريقيون وهم يعتبرونه دينَهم الطبيعيَّ بشهادة الكتَّاب الأوروبيين أنفسهم، بغير ضربة سيف أو طلقة بندقية، وكذلك بيَّنا كيف انتشر الإسلام في بقاع الأرض، لم يفرض نفسه بالقوة ولكن فرض نفسَه بسماحته وقربه إلى النفس البشرية، التي رأت فيه أنه يربط بينها وبين الله، ويهديها سبيل الرشاد والهداية في الدنيا، وطريق النور والنجاة في الآخرة. |
جزاك الله خيرا في رمضان واطال الله في عمرك يااخي الكبير ابو ايهاب لقد استفدت شخصيا من هذا العلامة وصحح لي كثيرا من المفاهيم ولي كتاب له قيم ولعل بين صفحاته مما تنقله لنا اكرر شكري وتقديري لك واسال الله لك وله الجنة |
جزاك الله خيرا
|
Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.