أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   خيمة الثقافة والأدب (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=9)
-   -   ساعة عمل (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=50621)

ابن حوران 07-02-2006 10:37 AM

ساعة عمل
 
ساعة عمل ..


لم يكن العمل في الماضي ، له معنى الا أن يكون مصحوبا بتعب عضلي ، ويتبعه عرق وشوق كبير للراحة .. أما اليوم فالعمل هو الراحة عند البعض ، وقد يطلبه الناس إناث أو ذكور ، لجلب الراحة ..

فالسكرتير يعمل ، والمعلم يعمل ، والمخبر يعمل ، والمؤذن يعمل ، والمدير يعمل ، والحارس يعمل ، ومن يلعب كرة قدم يعتبر عاملا ، طالما يأخذ أجورا في بعض الدول ، و أحيانا من لا يعمل شيئا ، فهو يعمل طالما أنه يأخذ راتب ..

وأصبح الراتب يتناسب تناسبا عكسيا مع الجهد العضلي ، فمن يحفر أساسا لبناء عمارة ، لا يتقاضى عليه شيئا يذكر اذا ما قيس بأجر المهندس الذي صمم هذا البناء .. ولا يساوي شيئا من أرباح رجل باع حديد العمارة أو بلاطها ..

مع ذلك ، يعود العاملون الى بيوتهم بكل أصنافهم ، و يطلبوا من كل من يلقاهم أن يحترمهم ـ وان لم يكن ذلك بشكل مباشر ـ فهم تعيبة ، فالمخرج الذي يزعق على العاملين معه ، قد عمل ، ومهندس الصوت الذي هيأ لمطرب مائع أو مطربة ليس لها أي مقومات الا حاجة في نفس شخص ما ، أيضا تعب ، ومن كتب تقريرا آذى به آخرين ، ظنا منه أنه يخدم الوطن خدمة جليلة ، أيضا عمل ولا بد من احترامه ..

كثيرون هم العاملون ، وكثيرة هي المهن ، التي تتولد يوميا ، فكل اختراع يظهر على هامشه عشرات الأصناف من المهن المستحدثة .. وشيئا فشيئا ، تصبح الجامعات تدرس تلك المهارة ، على أساس أنها علم مهم و ضروري ..

نحن أبناء البشر من نخترع كل شيء ، نخترع الحاجة ، ونخترع ما يلبيها ، ونخترع فنونها ، ونكتب تاريخها ، ونعطي براءة اختراع لكل من يبتكر شيئا نافعا أو ضارا ، هاما أو قليل الأهمية .. حتى تصبح تلك الفنون تحاصر الانسان ، وليس هو من يطوعها بل هي من تطوعه ..

قد يكون طريفا أن نقدم تلك الزاوية ، ( ساعة عمل ) لإلقاء الضوء على بعض المهن .. فكان لا بد من تلك المقدمة ..

ابن حوران 08-02-2006 04:42 AM

(1)

لم يكن قد جلس بعد ..
رفع سماعة الهاتف : نعم .. نعم .. سأحاول .. أعطيني فرصة ..
في الطرف الآخر : الله يخليك .. غدا آخر يوم بتقديم الطلبات للجامعة ..
هو : الآن سأتكلم معه .. و أرجو أن ألقاه ..
انتهت المكالمة الأولى ..

أدار جهاز التلفزيون .. وكان على محطة الجزيرة ، حول افتتاح محطة عالمية وكان معظم الضيوف من الأجانب ..

دخل مدير الحركة .. لم تصل البضاعة لحد الآن ، والعمال لم يعملوا شيئا منذ الأمس .. لعدم وصول البضاعة ..
هو : طيب .. طيب

على الهاتف : مرحبا أخي .. حضرتك فلان ؟
هو : نعم
هي : نحن من ضريبة الدخل .. لم تكملوا حتى الآن ملء الكشف الضريبي لعام 2004
هو : 2004 أم 2005 ؟
هي : لا .. بل 2004 .. وهذه مخالفة ..
هو : حسنا .. سأطلب من المحامي .. ان يستلم الكشف ويقوم بتعبئته ..
هي : من مصلحتكم .. عدم التأخير ..
انتهت المكالمة

هو : نعم .. أهلا و مرحبا .. لا ؟ بالله عليك ؟
على الطرف الآخر : هل تحب أن تحضر الدفن ؟
هو : سآتي فورا ..

يقوم ببعض الاتصالات التي قد تحل ما طلب منه من مسائل .. ويغادر

ابن حوران 10-02-2006 06:27 AM

(2)

لم يكن هذا ، الا أول يوم يلتحق به بالعمل ، بعد تخرجه من الجامعة . وعندما يكون الأمر كذلك ، فعليك تخيل ، ذلك الحجم من الاختلاجات التي تعتور كيانه ، فالعمل بحد ذاته هو محطة هامة من محطات حياة الانسان ، فهو كلحظة القبول بالجامعة ، او كلحظة قرار الدخول بليلة الدخلة عند العريس !!

منذ تلقيه ، قرار تعيينه ، وهو يعد لذلك اليوم بالالتحاق بالعمل ، ويرسم صورا قد يستعين بوضع إحداثياتها من خلال ، قصص بعض الأصدقاء ، أو الصحافة أو الأعمال الدرامية التلفزيونية ، لكن كل ذلك لن يسعفه في تكوين شخصيته الوظيفية .. تماما كما هي أخبار العرسان الذين يسبقوا غيرهم .. تبقى قصصهم بلا قيمة ، في حالة التنفيذ ..

لبس أفضل ما لديه من ملابس ، وتعطر ، وأخذت أنفاسه تتناغم مع أحلامه وكيفية طرقه للادخار ، وماذا سيوفر ، وكيف ، وكم يعطي أهله من راتبه .. ومتى سيخطط للزواج ، ثم يعود ، فيستريح من تراكض تلك الأحلام ليعد نفسه للحظات تسلم العمل الأولى ..

بعد أن أبرز أوراقه للديوان ، وبعدما أشارت له الموظفة المسئولة ، الى الغرفة أو القاعة التي سيداوم بها .. طرق الباب طرقات خفيفة مرتبكة ، دخل فحيا بتحية يبدو من ظاهرها الشجاعة ، ولكن تلك الشجاعة كانت شفافة بعض الشيء ، لدرجة أنها كشفت بعض ارتباكه ..

كان في الغرفة موظفتان وموظف .. صمتوا من حديثهم عندما دخل ، ليردوا على تحيته بخفوت ، وكعادة كل موظفي الدوائر الحكومية ، تكون الأقلام مفتوحة ومصوبة نحو أوراق مفتوحة ، لكن العمل يتم بالكلام بين مجموع الموظفين ، أما الأوراق والأقلام ، فهي جزء ظاهري من الوصف العام لحالة العمل أو اللاعمل الحكومي .

وعندما أبرز أوراقه أشار اليه الموظف بيده ليتجه الى موظفة لا يميزها عن غيرها ، الا أن على منضدتها جهاز هاتف .. أطرق قليلا ثم اتجه الى الموظفة ، فتناولت أوراقه منه ، ولم تطلب منه الجلوس ، ولكنها تركته واقفا ، فتخيل أن موجات أشعة نظر الآخرين اخترقت ركبتيه .. هنا طلبت منه الموظفة الجلوس ، فجلس على وجه السرعة ، كأنه يريد أن يتخلص من تثبيت نظرات الموظف والموظفة الآخرين ..

حاول أن يجيب على أسئلة لم تطرح عليه ، ليخرج من حالة الصمت والترقب التي لم يكن قد تدرب عليها ، لكن أحد لم يسأله . تمنى لو كان يدخن ليشتت هذا الموقف .. لكنه لم يكن من المدخنين ..

لم يطل انتظار من في الغرفة كثيرا ، فهم قد مروا بتلك اللحظات ، الا هو .. فطلب الموظف من الموظفة ان تكمل حديثها ، الذي سبق دخول الموظف ، فأدرك صاحبنا أن الفرج قد أتى ، ولم تكن انشدادتهم ، أكثر من التعبير عن شعورهم بالازعاج من طرفه ، كونه قطع حديثهم !

هوت صور الرهبة مرة واحدة ، خصوصا بعد أن بلغته الموظفة التي كانت تقرأ بأوراقه ، بأن كل أموره تمام .. من خلال ابتسامة مصطنعة ، مع عبارة أهلا وسهلا ..

ابن حوران 11-02-2006 06:50 AM

(3)

كان قد تنقل في سنين حياته الست والعشرين ، بين عشرات المهن غير الماهرة ، فيوما تجده مساعدا لمعلم بناء طوب ، ويوم يقوم بعمل مساعد لمعلم قصارة (لبخ أو تببيض) وهي تعني بإخفاء معالم الجدران من خلال إضافة طبقة اسمنتية عليها تسبق الصبغ والدهان ,,

ويوم تجده يبسط بعض السلع ليبيعها على أرصفة الشوارع .. ويوم ينقل ماء بواسطة سيارة أعدت لذلك .. ولكن لم يحس بأمان أي مهنة من تلك المهن ، وقد يكون نفوره من تلك المهن عدم ثبات ديمومة دخلها ، أو أن هناك من يأمره باستمرار ، فينتقل الى أخرى عسى أن يلقى ما ينشده ..

ولما كانت تربط والده ، علاقة طيبة مع صاحب مصنع أعلاف ، فقد تم تعيينه كعامل في المصنع ، يتم ربطه بنظام الضمان الاجتماعي ، ويتلقى راتبا يعادل ضعفي ما كان يحصله في أي مهنة من التي امتهنها سابقا ..

حضر الى المصنع في الصباح الباكر ، وكان هناك في المصنع ثلاثة عمال غيره ، أعمارهم تزيد عن الخمسين عاما وتقل عن الستين ، وكانت حالة الفتوة تبدو على ملامح جسمه ، فكان وزنه يزيد عن تسعين كيلوغرام ، وعضلاته مفتولة ، وعيناه الخضراوان ، تشع حيوية ..

ضمر له العمال الأقدم ، نوايا مخلوطة بين توكيد ذاتهم ، واستغلال خصائص بنية جسمه ، عسى ان يستفيدوا منها بعض الوقت .. خصوصا تلك التي تتعلق بقوامه ..

أعطوه مهمة إحضار أكياس الصويا و خلط المواد ، فأخذ يشدها و يحملها بعنفوان واضح ، ويرميها في المكان الذي أشاروا اليه به ، كان يحس إحساسا بالزهو ، والتفوق الجسماني على غيره .. وهم يراهنون على نفاذ صبره ، وفقدان لياقته مبكرا ..

لقد كان أكبرهم عمرا في الثماني و الخمسين من عمره ، قضى معظمها في أعمال الحصاد اليدوي ، و أعمال البناء الكونكريتي ، والثاني بعمر خمس وخمسين عاما ، قضاها في تنزيل السيارات و تحميلها ، والثالث في بداية الخمسينات لم يترك عملا يعتمد على الكتف الا وعمل به ..

لقد كون العمال الثلاثة الذين سبقوه ، مهاراتهم مجبولة بالصبر ، والتحمل ، وتقنين لياقتهم لتكفيهم طوال النهار .. فكانوا أساتذة بكل معنى الكلمة ، محترفين في أداء عملهم ، دون تذمر ، أو شكوى ..

تطلع الى رؤوس أصابعه ، فرآها قد احمرت و تورمت ، والعضلات التي تحيط بها قد أنهكت بوقت مبكر .. ونظر الى زملاءه الكبار ، فخجل من نفسه ، وتدهور لياقته بسرعة ، واكتشف ابتساماتهم المنتشية بإثبات جدارتهم ، وتفوق الصبر والجلد على الفتوة والرعونة ..

لم يمر بتجربة أسوأ من تلك التجربة ، فحمل أغراضه متذرعا بحجج صاغها بكلام وتمتمة لم يفهمها أحد ، حتى هو .. وغادر ..

ابن حوران 14-02-2006 05:24 AM

(4)

عندما كان يعد لمشروعه ، نعم مشروعه ، هكذا كان يحب أن يطلق عليه ، لم يكن يرغب في استشارة أحد يتوقع أن يثنيه ويمنعه من تكملة مشروعه ، حتى لم يكن على استعداد أن يسمع أي نصيحة من أي إنسان ..

كان يرغب بالتحدث لمن يشجعه ، ويبتسم له ليأخذ منه تزكية ، على إبداعاته ويغذي بها قرارة نفسه ، فتزداد همته نحو المضي الى البدء في تنفيذ ما أزمع على تنفيذه ، و يزداد إصرارا وحتى عمى لا يريد الا أن يرى غير ما أراد أن يراه ، كمن تحزم بحزام ناسف ، لا يشغله الا الموت في سبيل ما هو عازم عليه.

ان معظم الشباب ، يستقون عناصر إراداتهم ، من خلال مشاهدات سطحية ينسجون حولها منظومات ذهنية رجراجة ، غير حقيقية ، ويساعدهم في ذلك أصحاب المشروعات الذين يتصرفون في كثير من الأحيان ، تصرفات توحي بنجاح مشروعاتهم ، يقصدون بتلك التصرفات ، تغليف أوضاعهم ، بهالة من الغموض والتزييف أحيانا ، لبقاء علاقاتهم مع من يورد لهم من مواد أولية أو سلع ، فان ظهر منهم ما يوحي بفشل مشروعاتهم ، ستتوقف تسهيلات الموردين ، و أحيانا تكون الغاية من إظهار نجاح مشروعاتهم ، هي جذب من يحاول شراء تلك المشروعات للتخلص من تبعيات فشلها !

كان المشروع يتعلق بشراء ماكنة حصاد للقمح ، تلك الآلة التي تحصد نباتات القمح المصفرة بعد نضجها كاملة ، من أجل الحصول على التبن والقش إضافة للقمح ، وهي نمط من المشاريع المنتشرة في بعض مناطق الريف ..

كانت دراسة الجدوى الإقتصادية تجري بالمشافهة ، وليست على أسس محاسبية حديثة و محترفة . فكان صاحبنا عندما يتكلم عن (مشروعه ) ، يبدأ بأنه لو حصدت تلك الآلة باليوم ، عشرة هكتارات فعلى مدى شهرين وهي موسم الحصاد ستكون قد أنجزت ستمائة هكتار ، ولو كان الناس يأخذون ستين دولار عن حصاد كل هكتار ، فيكفي أن نأخذ ثلاثين دولارا ، وعندها سيكون عندنا هامش يقل عن ألفي دولار بقليل ..ولو دفعنا كذا بدل وقود وكذا بدل مصاريف لأصبح هامش الربح يزيد عن ثمن الآلة ..

كان وهو يتكلم عن ( مشروعه ) يبدو متساهلا ، فيبالغ بتخفيض السعر ويبالغ في تخفيض مدة العمل ، ويزيد في المصروفات ، ويبتسم ، ملتفتا شمالا ويمينا ، عل أن يقوم أحد ويعلق على صدره نيشانا ..

تعيش الأسرة كلها ، بالأخوة الخمسة والكنات الخمسة و الأب و الأم الكبيرين كلهم حالات ولادة المشروع ، وكأنهم ينتظرون ولادة مولود بكر من أم تولد بعد طول انتظار سنين ..

في أول يوم عمل ، بعد أن تم بيع جزء من مصوغات النساء وشراء تلك الآلة . والتعاقد ( بالمشافهة ) مع أحد المزارعين ، فالتف حول الآلة كل المشاركين بثمنها ومن تابع عمليات الدعاية والتخطيط ..

قام أحد الأخوة بتشغيل الآلة وقيادتها بالحقل .. بعد أن استفسر من الوكيل عن الكيفية اللازمة للتشغيل ، ولما كانت قيمة التعاقد ، هي فعلا نصف ما كان يتقاضى غيرهم من أصحاب مثل تلك الآلات ، ولما كان المتعاقدين المتهافتين من المزارعين مستغلين السعر المنخفض .. فان الأمور الآن أصبحت على المحك !

لم يأخذ صاحب (المشروع ) في الحسبان ، موضوع ( الشحم ) ، فكون الآلة بدائية بعض الشيء ، فإن استهلاكها للشحم يقارب استهلاكها للوقود .. كما لم يأخذ بالحسبان كلفة خيوط الربط ، حيث كانت تقارب قيمة ما تعاقدوا عليه من سعر للتنفيذ !!

ابن حوران 15-02-2006 02:57 PM

(5)

لم تكن السنين السبعة التي قضاها بعد تخرجه من الجامعات الرومانية ، من كلية الهندسة قسم الميكانيك ، بالسهلة حتى ينساها ، وإن كان يخشى أنه نسي ما تعلمه في الجامعة ، أو نسي ما يؤهله ليمارس عمله كمهندس ميكانيكي ، فقد تجول في تلك السنين بين أعمال كثيرة ، لكن لم يكن أيا منها له علاقة بما تعلم في الجامعة ..

كان صاحب همة عالية جدا ، ومن بيت كادح ، فلم يستنكف عن العمل في أي مهنة ، ففي موسم البطيخ ينصب مظلة على الطرق الخارجية ، ويشتري البطيخ بالجملة ، وكان يبيعه بالمفرد ، وكان يتوفق بذلك ، فكان صاحب وجها جاذبا ولسانا يرتاح من يشتري منه له ..

و عندما ينتهي موسم البطيخ ، يذهب الى المشاتل ، ويشتري من نباتات الزينة والحدائق ، ويضعها في ساحة البيت ، فيأتي المشترون اليه ، وفي المساء يذهب الى مجمع النقابات ، فيجلس بالنقابة ويتحدث بأمور السياسة والأحداث الجارية .. كانت النقابة هي الوحيدة التي تذكره بأنه مهندس ميكانيكي .

كان يشارك في معظم أشكال العمل العام ، ولم يكن يتذمر من مهنه التي يتنقل من واحدة الى أخرى ، فقد كانت تلك المهن توفر له هامشا من المال ، لا بأس به ، وقد كانت تلك السمة الغالبة لمعظم خريجي الجامعات ، حيث ينتظرون دورهم في الوظائف الحكومية .

وأحيانا يقتني سيارة شحن صغيرة ، ينقل بها ويتقاضى بدل ذلك أجرة طيبة ، كان صنفه من المهندسين ، يأخذون بدل توقيعهم على مخططات المكاتب الهندسية المعروفة بعض المال ، وأحيانا يعملون بتلك المكاتب بشكل مؤقت ، أو ريثما يتم انفكاكهم من تلقاء أنفسهم ، لأن اصحاب المكاتب الهندسية لا يدفعون لهم بانتظام ..

عندما عرض عليه أحد الأصدقاء ، العمل كمهندس ميكانيكي ، في أحد المصانع حيث يقتضي أن يحل مشاكل إنتاج البخار ، ويراقب على بقية آلات المصنع .. وافق متثاقلا ، فسر تثاقله ، بأنه يخشى أن لا يستطيع إظهار كفاءة كافية في هذا العمل .. وتهتز صورته كجليس و مشارك في القضايا العامة .

باشر عمله ، وتم تقديمه للفنيين والعمال ، على أساس أنه رئيسهم الجديد ، فكان لا يحسن عملية صياغة الأسئلة كي يفهم طبيعة العمل .. وكما هو معروف فان العلم دون تطبيق و ممارسة ، يشبه العمل بدون علم فان كان العامل بلا علم كالأعمى ، فان العالم بلا عمل كالطبل ..

ان المستخدمين ، اذا كانت مدة خدمتهم كافية فانهم سرعان ما يكتشفون ثغرات من يضاف اليهم كوافد جديد ، وان كان يتقدم اليهم على أساس مسمى يفوق مسمياتهم المهنية ، فان الحذر والحيلة من قبلهم تكون أكثر حبكا ، لجعله يحس بدونيتهم تجاهه ..

ما هي الا ساعة عمل واحدة ، حتى دخل على صاحب العمل ( صديقه) و أبلغه باعتذاره عن مواصلة العمل !!

ابن حوران 16-02-2006 04:14 AM

(6)

كان يختفي تحت جناح والده ، تحت رداء سميك وواسع يصنع من جلود الخراف ، حيث يكون الفرو للداخل والجلد المغطى بقماش سميك قاتم للخارج ، وكان هذا النوع من الفراء ، يصنع بشكل فضفاض ، ليبقى يحمي من يحتمي به أن يبقى يغطيه وهو في كل الأوضاع ، سواء كان يجلس أو يمشي ، أو راكبا على فرس ، ولما كان والده ليس بصاحب حجم ضخم ، فقد كانت الفروة كافية لاستيعابه مع والده ..

كان يراقب من خلال إطلالته من تحت الفروة ، وكأنه وليد كنجر ، يطل من جراب أمه ، كان يتابع حركة والده العابثة بملقط لتحريك الجمر في الموقد الذي أنشئ في مكان ما في المضيف ، ووضعت عليه دلال القهوة ، وامتلآ بالرماد الأبيض . وفي المقابل جلس الرجل الذي يستمع لحديث والده في الجهة الأخرى للموقد ، وكان يتناول من والده بين حين وآخر رشفة قهوة في فنجان .

كان الطفل الذي لم يكن عمره يزيد عن عشر سنوات كثيرا ، يستمع لأحاديث ، قد يكون سمع بعضها أكثر من خمسين مرة ، فكان اذا انشغل والده بالسعال أو العطس ، بإمكانه أن يكمل أي قصة بدأها والده . كما كان من يستمع للحديث قد استمع اليه سابقا ، أكثر من مرة ، لكن لم يكن ليتذمر ، فكانت هذه من عادات الفلاحين الذين يحظوا بوقت فراغ كبير في بعض الشهور ، فليس هناك روافد تجدد الأحداث و الأخبار لديهم ، فلم يكن التلفزيون قد انتشر ، وكان هناك قليل من أجهزة الراديو في القرية التي لم تكن قد وصلتها الكهرباء بعد ، ولم يكن من السهولة اقتناء راديو في البيت ، وان تم اقتناؤه فان الأوقات التي يفتح بها قليلة توفيرا لطاقة البطارية الجافة ، وان فتح الجهاز فان من المتعذر فهم ما يقول وعن أي شيء يتحدث ، فمعرفة الناس محدودة بالأماكن ، فهي لا تتعدى دائرة قطرها خمسين كيلومترا ..


لفت انتباه الطفل (الكنجر) أن والده كان يتكلم بفرح ظاهر ، فأمعن ليعرف سر هذا الفرح ، فاكتشف أن والده يبشر ضيفه بموسم خصب ، حيث أن كمية الأمطار كافية لأن يستبشروا بموسم جيد ، وكان الوقت هو منتصف شهر شباط (فبراير) .. و حسب تقويم الفلاحين فهم في بداية ( سعد بلع ) .. حيث كانوا يقسمون الشتاء الى ( مربعانية و خمسينية ) والخمسينية تقسم الى أربعة أقسام سعد ذابح وتبدأ من بداية فبراير (شباط) ثم سعد بلع ثم سعد السعود ثم سعد الخبايا .. وكل قسم من هؤلاء عليه عشرات الأمثلة والقصص والمناسبات التي حفظها الطفل عن ظهر قلب ..

انقلبت فرحة والده بالموسم ، الى هم كبير بالنسبة له ، فهو لم يكن يرغب بسماع مثل تلك الأخبار ، لأنها ستكون عبئا عليه ، فبعد أن تنتهي السنة الدراسية ، فبدلا من أن ينعم بعطلة صيفية عابثة ، سيقضي تلك العطلة في عمل شاق ، وهو ( الدراس ) و استخراج الحبوب من المحاصيل المحصودة والمنقولة للبيادر ..

لم يكن أهل الريف يلتزمون بسن العمل ، فمن يستطيع الحراك عليه أن يعمل الرجل و المرأة ، الشاب والفتاة ، الشيخ والطفل .. فكل واحد سيجد له مهمة تتناسب مع إمكانياته البدنية .. فلذلك كانوا قريبين من التجانس والتساوي ، فلا تستطيع تمييز أحد عن آخر ، لا بسلوكه ولا بكلامه ولا برائحته ..

جاء الموسم ، وباشرت السيارات بنقل الزرع الناضج والمحصود بقشه وسنابله ، وكانت السيارات هي التطور الجديد في عملية النقل وكان يطلق عليها (الرجاد) .. وكانت تتم قبل أن يخلق هذا الطفل بواسطة الجمال (الإبل) ..

امتلأ البيدر بالحصيد ، وتكونت جبال من أكوام الزرع المرجود ، والطفل يتطلع بحسرة ويتساءل : متى سأنهي أنا و أخي طحن كل هذه الجبال واستخراج الحبوب والتبن منها ؟ لقد كان مثقلا بهم وهو ينظر اليها ، كمن يسير في البراري في وقت صيف وينظر بعيدا الى القرية ، متى سأصل الى تلك القرية وأشرب الماء و أرتاح ..

ما هي الا ايام معدودة ، حتى جاء ابن عمه وزوج أخته ، وتناول أداة اسمها (شاعوب ) وهي قطعة من حديد صلب لها أربعة أصابع أطول من الشبر قليلا ، وترتبط بذراع خشبي أطول من متر ونصف .. فهدم أحد أكوام القش ، وقسمه الى عدة أقسام ، كل قسم اسمه (دور ) و أحضر بغلة فتية ، وضع على رقبتها أداة تسمى (الحواة ) يربط بها ذراعان خشبيان وتتصل بقطعة مكونة من أجزاء من خشب السنديان أو الجوز .. ومثبت في أسفلها ، قطع من الحجارة البركانية السوداء ، لتكسر و تسحق القش ..

طلب من الطفل الجلوس على (اللوح) والتمسك جيدا ، و أخذ الرجل طرف الحبل المتصل برأس البغلة لتوجيهها ، ووقف بمنتصف القش و نهر البغلة فكانت تركض وتلف فوق القش والطفل متمسكا باللوح جيدا .. وبعد قليل أعطى طرفي الحبل ( المقود ) للطفل .. ونهره أن يقوم بتلك العملية ..

لقد اكتشفت البغلة أن من يقودها الآن هو غير الذي كان يقودها قبل قليل ، رغم أنه قد وضع على رأسها قطعة من جلد لا تسمح لها الا لرؤية ما أمامها ، لكنها بمهاراتها (البغلية ) اكتشفت من صوت الطفل الذي كان يقودها ، وقوة يديه أنه قاصر .. فتبسمت البغلة و ضمرت له عنادها (البغلي ) ..

لم تكن يداه الناعمتان قادرتين على الصمود طويلا ، لعناد تلك البغلة فتكونت فقاعات على جانبي راحة يده اليمنى ، نتيجة احتكاك الحبل بها ، ومعاندة البغلة ، ويسمع بين حين وآخر صوت زوج أخته من مكان في البيدر ، حيث يقوم بعمل خاص به ..( سوق .. سوق ) أي هيا قم بعملك !!

ما هي الا لحظات ، حتى طلب منه أن يوقف الحركة ، و يأتي لتناول طعام الغداء ، فتنفس الصعداء ، لكن مع تيقنه أنه لا مناص الا أن يتم سحق كل تلك الأكوام من القش !!

ابن حوران 17-02-2006 09:51 AM

(7)

كان عندما يعود الى بيته ، يحرص أن يعود بملابسه العسكرية ، فكان يحس بنشوة عظمى وهو لابسها ، ويسير بين الناس ، و أحيانا يحضر بعض الدعوات الخاصة أو العامة بتلك الملابس ، بحجة أنه قد عاد للتو ، وخشي أن لا يتمكن من استكمال ملابسه المدنية ..

حتى صوته وكلماته وطريقة نظمها ، كانت تتماهى مع ملابسه والشارات التي تدل على رتبته من نجوم وغيرها التي تبين رتبته .. فكان يريد القول لمن ينظر اليه إنني أأمر على مجموعات تفوق عددكم ، وهم يؤدون لي التحية بانضباط كبير .. وهم أكثر أهمية منكم ، لأن من بينهم عشرات تأمر على أعداد تفوق أعدادكم ، وهم من يجلبون لكم الأمن وهم من يحموا استقراركم فاحترموني ، فأنا أهل للاحترام !

لم يكن يدور في خلده أن تقدمه في الجيش سيتوقف في لحظة ما ، فقد كان يعتقد أنه سيصبح يوما ما قائدا مهما ، وليس مهما أن تكون تلك الأهمية تنبع من إنجازات عسكرية ميدانية ، أم لا .. فالمهم أن تزداد الشارات والنوط التي توضع على ملابسه لتدلل على ذلك ..

ولم يكن يدور بخلده ، على وجه التحديد ، الفقه الذي يبقي العسكريين يتقدمون في رتبهم ، فقد كان يعتقد أن إعلان الولاء لقيادته ، والانضباط العسكري وحسن السلوك هي عناصر كافية لتحقيق ما كان يصبو اليه .. في حين أن القيادة تعتمد أساليب معقدة توارثتها من تاريخ طويل للفقه العسكري ، منذ انتهاء عهد المماليك وحامياتهم ، الى عهد العثمانيين و نقلهم لأبناء المناطق ليخدموا في مناطق بعيدة عن مناطقهم ، حتى لا تسول لهم أنفسهم أن يكونوا مصدرا لهواجس أمنية تثير قلق السلطان والولاة . الى عهد المحتلين الأوروبيين الذين قدموا الأقليات الطائفية و الإثنية لتتولى قيادات الجيش ، ولا تتباهى بوضعها كزعامات تقليدية لها امتدادها الشعبي .

أما قيادته فقد ورثت من كل هذا شيئا ، و أضافت عليه معادلات ، احترفتها لوقف حالات الانقلابات التي شاعت في أواسط القرن العشرين .. فكانت تراضي الزعامات التقليدية والإقليمية بمراكز حكومية مدنية ، وتنتقي أكثرهم حرصا على ديمومة الوضع في المراكز العسكرية ..

عندما تلقى أمر التقاعد ، احتاج كثيرا من الوقت للتكيف مع الواقع الجديد فلم يعد هناك من يزلزل الأرض من تحته وهو يؤدي له التحية ، فأصبح يمر بالناس فلا يقوموا بوجهه احتراما و أحيانا يتكاسلوا في رد السلام ..

كبر أطفاله ، وكبرت مسؤولياتهم ، وشارف رصيده من الهيبة على النضوب ولم يعد راتبه التقاعدي يكفي لتغطية كل مهام أسرته التي لا تختلف عن باقي الأسر في الطلبات ، ولم يكن محظوظا كبعض زملاءه المتقاعدين في أن ينسب لأحد الدوائر المدنية ، ولا أن يحظى بطلب من مؤسسات أهلية لتقديم خدماته ، ولا أن يذهب لأحد الدول العربية التي تطلب أمثاله من ذوي الخبرات المطلوبة ، وكل ذلك كان كما يبدو مربوطا بنفس قواعد التأثير الواجبة لتحقيق مثل ذلك .

وكونه لم يحظ بقدر كاف من المعرفة بطبائع تلك الأمور ، فقد انخرط مدنيا بنقد مظاهر الترهل العربي الرسمي ، بل وانخرط بالحياة المدنية العامة ، فأخذ يحضر الندوات ويبتسم لكلام المحاضر الناقد .. كل ذلك باعد بينه وبين أن يحظى برافد جديد عملي يرفد وضعه المالي غير الكافي ..

علا صوت زوجته شيئا فشيئا ، تطالبه بالخروج مما هو فيه ، ثم أصبح كلامها يؤلمه جدا ، فكان له أخ أمي لكنه ناجح في عمله ، فيدس له بعض المبالغ بالسر لكي يخرج مما هو فيه ، وكان تصرف أخيه الذي يصغره ، تصرفا نبيلا لم يحسسه بأي منة ، لكنه كان يتألم وهو يقبل مساعدة أخيه ..

كان على استعداد للقبول بأي عمل بعد تلك السنوات الستة التي قضاها بعد تقاعده ، مقابل أي مبلغ للخروج مما هو فيه ، أو للخروج من بيته بأي حجة للتخلص من نظرات وكلمات زوجته غير الصابرة ..

قبل بعرض أحد أصدقاءه ، بالعمل لديه بصفة مدير أحد فروع شركته ، وكان لصديقه شريك عسكري متقاعد كان دوره تنفيذي ، وكانت رتبة الشريك الذي يكبر صاحبنا بعشرة سنوات على الأقل ، أدنى من رتبته بستة أجيال من الرتب .

لم يكن يدري ، كيف شكل دور الشريك ، وكيف سيحتك به ، وان كانت كل الأمور توحي بأنه لن يحتك به ولن يكون على تماس معه ..

لكن شاءت الأمور أن يبتدع الشريك ذا الرتبة العسكرية المتدنية ، أن يذهب لساحة عمل صاحبنا ، ويفتح نصف زجاج شباك سيارته ، دون أن ينزل ، ويسأله سؤالا ، لم يكن السؤال بتلك الأهمية ، بل كان السؤال فقط من أجل صراعات التذاوت ( توكيد الذات ) .. ليقل له ( صامتا) : أنظر لقد كنت أنت تأمر على مسئول مسئولي ، و الآن أنا أتلذذ بالأمر عليك ..

ذهب صاحبنا لصديقه ، يعتذر عن مواصلة العمل ، ولكن صديقه وعده أن يحل تلك المسألة بعد أن فهمها ، ففض شراكته بمن أراد أن يهين صديقه !

ابن حوران 20-02-2006 03:52 AM

(8)

كان إذا دخل محل لبيع الأقمشة ، أو الملابس الجاهزة ، سواء مع والده أو والدته ، أو عندما شب و أصبح يشتري لوحده دون مساعدة من يكبره . كان يحس أنه أصبح أسيرا لصاحب المحل ، أي محل من تلك النوعية ، فكان يؤخذ برائحة المحل التي تنبثق من المواد الحافظة للأقمشة ، إضافة لبعض البخات التي كان يبخها أصحاب تلك المحال لتدويخ عملائهم أو زوار تلك المحلات .

كان لابتسامة أصحاب المحلات ، و تحركهم بسرعة ، ضمن حركات كرروها مرارا ، وتكلمهم بجمل قصيرة كأنها برقيات ، ولكن رغم قصرها ، فقد كانت وتكون مؤثرة في نفس المشتري ، خصوصا عندما تتبعها حركة سريعة ، يلتقط البائع فيها ، نموذجين أو ثلاثة من القطع التي في الرفوف ، ويفردها أمام المشتري ، إن كانت قماشا ، أو يمسكها من طرفها و يفركها أمام من يراقبه ، لتترك تأثيرا يأسره ، فيغوص المشتري في أعماق رصيده اللغوي ، فلا يخرج إلا بطلب هامشي ، كأن يقول للبائع هل عندك أفضل منها ؟ أو يجب أن تراعينا فنحن نحب أن نأتي الى محلك ..

وكان البائع ، بعد أن يتفقد تأثير حركاته ، ويتفحص نوعية طلب المشتري ، يحس بنشوة الانتصار و نجاح أسلوبه ، فيركض و يأتي بقطعة من نفس المطروح على طاولة العرض ، ولكنها تختلف في اللون أو النموذج ، ويتركها أمام المشتري و يسمر نظراته تجاهه مبتسما ، ومتبعا تلك النظرات ، بإغداق الوصف والتوقير للمشتري ، بأنه صاحب ذوق و ذكي ، فلذلك أتى له بتلك القطعة ، ويسارع لاستثمار حالة الانتشاء عند المشتري لسماعه مدحه من قبل البائع ، ويهمس بصوت لا يكاد أن يكون مسموعا ، صحيح أن ثمنها أغلى من الأولى .. لكن ثمنها فيها !

فيتشبث المشتري بالقطعة ، ويطالب تخفيض الثمن لتكون معادلة لسعر شقيقتها التي رفعها البائع من أمام المشتري ، استبعادا لاحتمال التعرف عليها بأنها لا تختلف عن التي يتم التفاوض عليها ..

كل تلك الصور ، أثرت بصاحبنا ، كما أثرت حالات الغنى والترف التي يعيشها هؤلاء التجار .. فصمم أن يمتهن مهنتهم ، ويستفيد من كل تلك الملاحظات التي تكونت لديه ، وكأنها دراسة جدوى اقتصادية ..

كان محله الذي أسسه ، يتفوق على المحلات التي كان يتجول فيها طيلة حياته ، فالديكور لامع وراقص ، واسم البوتيك حديث وراقص أيضا ، وهناك تنبثق موسيقى في زاوية ما توحي بروحية الشباب ، وقد رش بعض أصناف العطور المؤثرة في نفوس المشترين ، ولبس بلوزة قاتمة فضفاضة دون قميص تحتها ، وكانت قبتها مفتوحة لتسمح لسلسال ذهبي أن يظهر من خلالها على رقبته الشقراء ، وكان يضع على شعره بعض الدهون التي تبقيه لامعا ومنتصبا للأعلى ، ولم ينسى أن يستعين بفتاة محجبة ، وكأنه قد وضع صنفا للعملاء رسمه في ذهنه كجزء من دراسته للجدوى الاقتصادية ، كما أنه خصص محله لبيع الألبسة الجاهزة للفتيات ..

دخل رجل في الستين بعد إلحاح ابنتيه عليه للمرور على محل صاحبنا ، فتلقتهم الفتاة المحجبة ، تطلب منهم أن تخدمهم ، في توقف الوالد مع البائع الشاب الذي ناقشه في سبب اختيار اسم هذا المحل ، الذي لم يعجب والد الفتاتين إذ أحس أن أمور البلاد آخذة في التدهور ، من خلال اسم هذا المحل وديكوره !

تلعثم الشاب ، فلم يكن بحسبانه أنه سيواجه بهكذا ملاحظات منذ اليوم الأول فابتسم و طلب من الرجل الجلوس لكي يضيفه بفنجان من القهوة ، ولكن صرامة الرجل ، وعدم انتباهه لطلب البائع له بالجلوس ، قد تركت أثرا غير طيبا في نفس البائع ..

دخلت ثلاث فتيات ، توزع نظراتهن في أرجاء المحل ، كأنهن فرقة تمشيط جاءت لتطهير هذا المحل في مهمة من حرب الشوارع .. انطلق الشاب نحوهن تاركا الرجل في تساؤلاته ودهشته ، ليقرر أن يتجه نحو باب المحل كأنه غواص يخرج بين حين وحين من الماء ليتنفس .. في حين كانت ابنتاه لا تزالان في حديث بيع وشراء مع البائعة المحجبة ..

ذهب الشاب الى الفتيات الثلاثة ، بعد أن أوقف جهاز الموسيقى ، وتحدث مع الفتيات كأنه في حالة مراقبة حثيثة من الرجل الواقف عند الباب ، فكان ينتقي الكلمات المهذبة المحتشمة ، وتمنى لو أن رأسه مغطى بطربوش أو يشمغ ، حتى يداري مضايقات نظرات الرجل القليلة ، ولكن معانيها قاتلة ..

صاح الرجل بابنتيه مستفسرا ، عما اذا أكملتا الشراء ، فلم يلقى إجابة ، كانتا في كابينة لقياس الملابس ، في حين دخلت امرأة مع بنتها الى المحل ، وحديث جار بينهما ، دون أن يمنعهما المحل عن مواصلته وان كان قد بدأ منذ ساعة .

أحس الرجل والد البنتين ، بأن استغرابه لم يعد ضروري ، و أحس صاحب المحل الشاب بأن ملاحظات الرجل لا تقدم ولا تؤخر ..

ابن حوران 22-02-2006 05:26 AM

(9)

كعادتهم ، لم يكن أهل الريف يطيلوا السهر ، لعدم توفر الكهرباء ، ولطبيعة أعمالهم التي تقتضي نهوضهم باكرا في الصباح ، ولاستنزافهم القصص التي يمكن أن يتداولونها في أمسياتهم الرتيبة ..

كان أبو سليم يمسك بملقط يحرك به الجمر في الموقد الذي يحيط به أخواه وابن عمه وولدين من أولادهم . وكون أحلامهم محدودة ولا تتجاوز أن يكون موسمهم جيدا ، فلم يتمرنوا حتى على أحلام كبرى ، لقد كان أحدهم اذا أراد أن يبالغ في وصف شيء انبهر به ، فانه يكتفي بالتركيز على اسم ذلك الشيء ، كأن يقول (والله قمح جاب فلان ، يصمت ويضيف : قمح ) .. أو والله حياة يعيشها أهل الشام .. حياة ..

كنت تشعر بتعابير حواجبهم الكثة و لحاهم البيضاء ، وصمتهم المدروس بعناية المران و التكرار ، ببلاغة لا يستطيع الأدباء استخدامها حتى لو اجتهدوا .

رغم قصر فترة السهرة ، فإن أبو سليم كان يبتدع بعض الحيل القليلة ، لتمضيتها ، طالما أنه لا جديد هناك لرفد مواضيع السهرة ، فكان يمهد الرماد في الموقد الذي أمامه بواسطة علبة التبغ المعدنية المصقولة التي كان يحتفظ بالتبغ داخلها ، فيسحبها جيئة وذهابا عدة مرات ، حتى يصبح سطح الرماد ناعما وممهدا وجاهزا لخط بعض أحلامه المتطاولة .

ولا تدري ما الذي يجعله يرسم تلك المربعات المتلاصقة ، هل هو استعادة لتكوين صورة رآها في مدينة ، وبنى عليها أفكارا ، تصف حالة أهل المدن المتنعمين ، أم هي حالة التعطش لتوفير حجرات ، حيث كانت ندرتها تشكل شاغلا مستمرا لأهل الأرياف ..

كان الجالسون يراقبونه ، بعدم اهتمام ، لتكرر تلك الحالة بين فترة و أخرى ، ويتقاعسوا عن الاستفسار عما يقوم به ، وان لم يسأله أحد عما يقوم به فإنه يتطوع لتفسير تلك الطلاسم أو الأحلام بكلام لم يكن متوافقا مع صوته أو حركة حاجبيه ..

كان الفارق بين عمره وعمر ابنه سليم يزيد عن خمس وخمسين عاما ، لفقدانه أبناءه بسبب أمراض الحصبة التي كانت تفني معظم المواليد ..

ذهب الى مكتب ابنه المهندس سليم ، ولم يكن سليم موجودا في المكتب ، فدخل وجلس بغرفته الرئيسة ، وكانت السكرتيرة و الرسامون والمهندسون الآخرون قد تعودوا على زياراته المتكررة ..

دخل الغرفة ، طبيب عام وتبعه محامي ، وبعد ذلك دخل ضابط من الشرطة ، سلموا على بعض ، وتعارفوا ، و أبو سليم يشاغلهم بقصص قصيرة ، لم ينتبهوا لها كثيرا ، فكان يمجد لهم من خلال قصصه بمهارات ابنه سليم كمهندس لا ينافسه بتلك المهارات ، أي شخص آخر ، فكانوا يبتسمون من باب المجاملة و يذكرون صفات طيبة لإبنه من باب المجاملة أو ضرورة سياق الحديث ..

كان هؤلاء قد تواعدوا في المكتب للخروج كلجنة انتدبتها محكمة البداية لفض خصومة بين أخوين في إحدى القرى ، وهم ينتظرون المهندس للخروج للوقوف على مكان الخصومة ..

كان أحد أعضاء اللجنة يسأل الطبيب عن مسألة ، بعدما تم التعارف ، وأحس بأن هناك ما قد يساعدهم على قتل وقت الانتظار . فكما هي عادة المنتظرين ، ينساب الكلام منهم دون تخطيط مسبق ، ولكنه كالماء يسيل مع أي انحدار ، فان لم يجد المنتظرون ما يتحدثون به ، عندها قد تشفع لهم لفافة تبغ أشعلها أحد المنتظرين ، لتتحول الى حديث ، أو صوت طريف من نغمة هاتف خلوي ، فتصبح حديثا وهكذا ..

دخل سليم بوجهه المبتسم ، وطريقته السريعة ، في التخلص من واجب الاعتذار عن تأخره ، والتفت نحو والده ، وحياه تحية ، فهم الآخرون من خلالها أنه يبلغهم بضرورة تجاوز ما قد يكونوا سمعوا منه .. وهب الجميع لينطلقوا الى مكان الكشف ..

ابن حوران 23-02-2006 07:14 AM

( 10 )

عندما دخل المبنى الذي تقع فيه الصيدلية المركزية ، وضع يديه في جيبيه ، حتى لا تتلامس مع أي شيء ، فكان عنده اعتقاد أن المستشفيات و العيادات أكثر الأمكنة التي تنتقل فيها الأمراض من المرضى للأسوياء .. فاذا أراد الصعود بمصعد لا يستخدم اصبعه ، بل يستخدم زاوية باكيت التبغ الذي يحمله ، هذا اذا لم يكن هناك من يضغط على زر المصعد من الزوار الآخرين ..

تساءل وهو يتجه الى مكان تسليم العلاجات ، هل أخذ ( كازو تانجا ) الياباني الذي صمم هذا المستشفى التعليمي الضخم ، بالحسبان هذا الكم الهائل من المراجعين ، والذين يتنفسوا كلهم في آن واحد ويتزاحموا على ما تبقى من أكسجين ، وينفثوا ثاني أكسيد الكربون المخلوط بأشكال متنوعة من الجراثيم .. كان بين مصدق بأنه قد أخذ بالحسبان ذلك الجانب ، والا لماذا كانت أجوره خمسة ملايين دولار ، فقط للتصميم ؟

ثم يعود ليتأمل ، إن كانت هناك آلية لتعقيم الأنفاس المنفوثة من أنوف و أفواه لا يقل عن ألف مراجع ، فلا يجدها ، فيحاول التسلح بحذره الشديد ، لكن كيف له أن يحتمي ، فالغاطس في الماء ان لم يصعد للهواء الطلق ، لا بد أن يبتلع كمية منه ، ان استمر في الغطس ، أوليس هذا أشبه بالغطس ، لكن في هواء مخلوط من تلك الأنفاس ؟

توجه الى انبعاج في الصالة الكبرى ، ليجد أمامه حاجزا زجاجيا بطول عشرة أمتار ، يجلس خلفه مجموعة من الموظفات و الموظفين ، ومحفور في أسفل الحاجز ، عشرة دوائر ، لاستلام الوصفات ، وقد كتب فوقهم على قطع متدلية بالسقف ، اسم المهمة التي تقوم بها الموظفة أو الموظف ، ( استلام الوصفات ، تسليم العلاجات ) وهكذا .. فتساءل : ما كانت دراسة هؤلاء الأشخاص ، هل كانت مادة الطب أم الصيدلة ؟ أم القراءة فقط ؟

كان هناك أربعة مسارب ، يفصل بينها سلاسل من جنزير مصقول ، ومثبتة بأعمدة أسطوانية مدهونة بدهان صقيل .. يصطف المراجعون الذكور في أحدها ، و تصطف المراجعات الإناث في طابور خاص بهن ..

لفت انتباهه ، أن عدد المراجعات هو ضعف عدد المراجعين ، فتساءل لماذا تلك الظاهرة ؟ هل تجد الإناث متنفسا في مراجعة المراكز الطبية ، أم أن تلك المهمة التي تتعلق بهن و بأطفالهن ، قد أوكلها الرجال لهن ، وتركوهن لتتلاطم أجسادهن في بحر المراجعين ، في حين أنهن يطرقن الباب بلطف اذا ما أردن أن يحضرن الشاي في بيوتهن لضيوف الرجال !

كان يستطيع معرفة ان كانت إحداهن متزوجة أم لا ، من خلال أوزانهن والكتل الدهنية التي تتكدس على أجساد المتزوجات ، نتيجة للافراط بتناول النشويات ، وتحويلها لدهون حسب دورة ( كريب ) ..

كان معظم الحاضرات يمضغن البان ( العلكة ) بتروي ، كإبل تجتر على مهلها ، فتساءل : ما الذي يجعلهن يضعن العلكة في أفواههن ؟ هل للتخلص من روائح بعض الأطعمة ؟ أم لكي يعوضن ثرثرتهن في الأحوال العادية ، فلكي لا تنسى عادة طق الحنك ، فانها تمرن حنكها ، كتشغيل سيارة مركونة بين فترة وأخرى كي لا تموت بطاريتها !

انها قدرة عجيبة ، لتلك الموظفات التي تقرأ ما كتب على الوصفات بخطوط الأطباء المستعجلة دائما ، وتدفع بورقة يكتب عليها رقم ، بعد الاستعانة بجهاز الكمبيوتر ، الى المراجع ، ليتحول الى طابور جديد ، يوصله الى موظف رجل ، يربض تحت قطعة متدلية فوقه ، كتب عليها المحاسب ..

لم يكن كل المراجعين يدفعوا للمحاسب نقودا ، فقد كان معظمهم يحمل إعفاءات تحت مسميات مختلفة ، وما جعله يتيقن من ذلك ، هو ضئالة النقود في المكان الذي رد له المحاسب ما تبقى من فرط بعدما دفع له ، فلم تكن تلك النقود تتلاءم مع هذا الكم من المراجعين ..

طلب منه المحاسب أن ينتظر ويجلس على أحد المقاعد الخمسين ، التي رصت في خمسة صفوف ، بمواجهة الحاجز الزجاجي ، فالتفت فوجد أن عدد الوقوف يزيد كثيرا عن عدد الجالسين ، ففرح حتى لا يحدث التماس مع الكراسي أو الجالسين عليها ..

كان يتجول بنظره بين الواقفين والجالسين ذكورا و إناثا ، فيركب سيناريوهات ، من خلال إشارات الشخوص التي لم تكن أصواتهم واضحة ، بل تختلط مع صوت الأنفاس و ارتطام الأقدام بالممرات ، وحديث يجري خلف الحاجز الزجاجي الذي يتصدر الانبعاج في القاعة ..

كان يراقب شخصا في الخمسين طوله يقترب من المترين ، يلبس طقما لم يعتني بكيه جيدا ، وكان له كرشا ليس بالضخم بل كان طول الرجل قد أوضح هذا الكرش ، الذي يبدو أنه قد تكون حديثا ، كما هي حالة الزواج من تلك المرأة التي تقف بجانبه هي حديثة ، فقد كان عمرها لا يساوي نصف عمره ، وطولها يزيد عن نصف طوله بمقدار النصف .. وقد تكون تلك العقدة هي سبب قبولها بالزواج منه ..

كانت إحدى الموظفات التي تقف تحت قطعة متدلية فوقها ، كتب عليها تسليم العلاج ، تندب الأسماء من خلال جهاز خاص .. فيقوم المنادى عليه ، فيستلم دواءه و يرحل .. نادت على اسم المريضة التي جاء ليأخذ العلاج لها ، فنهض الى الحاجز الزجاجي واستلم العلاج و غادر ..

ابن حوران 26-02-2006 06:13 AM

(11)

في كثير من الأحيان ينشغل أحدنا في تخمين و حساب ما يجمعه صاحب مهنة ما ، فان جلسنا في عيادة طبيب لننتظر دورنا ، فإننا ننظر الى عدد المراجعين في الساعة و نذهب لحسبتها في اليوم والشهر والسنة .. و إذا ذهبنا لحلاق نشغل حاسبتنا ، كم يدخل عليه في اليوم و كم يستغرق من الوقت حتى ينجز تزيين الزبون .. وهكذا في كثير من المهن المنتشرة هذه الأيام ..

و أحيانا تتوه الحسبة مع حاسبها فلا يستطيع إنجازها ، وكأنها سؤال في الرياضيات توجب الإجابة عليه قبل انتهاء وقت الامتحان ..

وقف في يوم جمعة عند بائع فراريج حية ، وكان قد تسلح بنصائح صديقه عن كيفية اختيار الفراريج قبل الطلب من البائع أن يذبحها و ينظفها ، فيجب اختيار الفروج بوزن يساوي كيلوين ، و أن يكون عرفها أحمر و عيونها براقة ، وريشها أبيض به لمعة ، ولا يكون منفوش ، و الساقين صفراوين ..

ثم تذكر ، عندما كان طفلا ، أن تلك المهنة لم تكن موجودة ، فقد كانت العجائز هن من يقمن بتربية الصيصان ، ويتعرفن على الدجاجة التي تصلح لذلك من خلال بعض العلامات التي تجعلها ترقد ، وتصدر صوتا يدل على ذلك ، وحركات عصبية ، شأنها شأن كل الإناث اللبونة و البيوضة ، فهي تكون يدها العليا ، وعليها أن تفخر أنها سترفد جنسها بمخلوقات إضافية ، فلماذا لا تكون عصبية ؟

لقد كانت العجائز يبنين قنا من طين مجبول بالتبن ، حتى لا يتشقق ، ومبني بشكل قبة بها ثقوب ، لغايات التهوية .. وبعد رقاد الدجاجة فوق البيض الذي يجمع من أمهات مختلفات و يكون عدده حوالي العشرين بيضة ، ويتم تقليبه من الأم كل نصف ساعة تقريبا لكي لا تلتصق الفجوة الهوائية التي في داخل البيضة ويختنق الجنين .. وتحافظ على درجة الحرارة اللازمة وهي حوالي 99 درجة فهرنهايت .. تفقس البيضات بعد مرور واحد وعشرين يوما عن كتاكيت لا يساوي عددها ثلثي عدد البيض ..

وبعد أن تقوم العجوز بمساعدة الدجاجة الأم ، بتقديم بعض الأغذية التي تنمو الكتاكيت من تناولها ، وهي تكون من جريش القمح ، والذي يخلط أحيانا بفتافيت البيض المشوي ، لكتاكيت الديك الرومي ..

بعد كل هذه الرعاية ، ينجو من الكتاكيت التي فقست ، أيضا ما يقرب من ثلثي عددها .. وتبقى عدة شهور حتى تصبح قابلة للذبح .. و عادة كان يذبح منها الذكور فقط ، وعندما يأتي أحد الضيوف ، أو في حالات تقديمها للعروس في صباح ثاني يوم من زواجها ، أو للنفس ، وهي كلها مناسبات نادرة وقليلة .

تبسم ، وقال لو بقيت تلك الظروف قائمة ، لما استطعنا أكل اللحوم بهذه الكميات التي نتناولها اليوم ..

شغله عملية حساب هامش ربح صاحب المحل ، فكان عدد الطيور لديه ، لا يزيد عن مائة طير ، وكان الفرق بين سعر البيع وسعر الشراء لا يزيد عن خمسة سنتات ، يعني أن كامل المربح لا يزيد عن خمس دولارات ، وهو لا يساوي أجرة المحل مع ثمن الغاز المستخدم لغلي ماء التنظيف .. وتبقى ثمن الكهرباء و أكياس التغليف و الماء الخ ..

فرك عينيه ، وتساءل هل يعقل أن هذا البائع يعمل بشكل مجاني ، لقد شغلته الحسبة بشكل احتاج أن يركز من جديد ليخرج بفكرة ما ..

توقفت سيارة لتوزيع الدجاج من المزارع ، فأخذ صاحب المحل منها قفصين إضافيين ، طالما أنه سيرضي أكثر من موزع للدجاج حتى لا ينقطع مستقبلا ، انتبه صاحبنا لعملية الوزن في الجملة فكان هناك سماح من الموزع حوالي ثلاثة كيلوغرام ، ثم استمع لحديث صاحب المحل مع الموزع ، فكان صاحب المحل يطلب من الموزع أن يخصم له ثمن دجاجتين قد نفقتا في الأمس !

راقب عملية الوزن لزبون سبقه ، فكانت الأوزان المستعملة ليست معروفة على وجه التحديد ، فمنها قطع معدنية كتب عليها وزنها ، ومنها قطع حصى ملساء ، ومنها أجزاء من قطع غيار سيارات مهملة .. ولا أحد يستطيع معرفة وزنها على وجه الدقة ..

كان صوت ماكنة إزالة الريش ، و الضجيج و نقنقنة الطيور التي كان يقدم لها الذرة و بجانبها الماء ، مما يجعلها تزداد في الوزن ما يقارب عشر وزنها التي تسلمها صاحب المحل ..

ثم تأتي عملية الحساب من قبل صاحب المحل للزبون ، فيفحص طبيعة الزبون من كونه متعب أم مريح ، ويدون أرقاما على قطعة ورق قذرة امتلأت بالماء و قطرات الدم المتناثرة ، ثم يتمتم ويقول الرقم الكلي و يحرص أن يكون فيه من الكسور التي سيتنازل عنها في حالة تبيان معاندة الزبون !!

أدرك صاحبنا أنه كان مخطئا في تخمينه عن كيفية قبول هذا البائع للعمل بشكل شبه مجاني ، وعرف أن لكل مهنة مهارات لا يفهمها بشكل جيد من هو خارجها !

ابن حوران 02-03-2006 08:44 AM

(12)

لم يكن لفظ ( قاضي) في القديم الا لفظا يسبب لسامعه حالة من الرهبة والاضطراب الوقتي عند سماع اللفظ .. حتى عندما كان يتم تكليف أحدا بالقضاء فان هناك الكثير من الذين يكلفون بذلك ، يمتنعون أو يتمنعون عن القبول بهذا التكليف ، خوفا من أنهم لن يعدلوا .. وقد يكاد القضاء العادل و الحاسم يتناسب طرديا مع قوة الدولة و شيوع الرخاء فيها ، و عندما يتهلهل القضاء و يسوء ، ينفقد معه الشعور بالاطمئنان و يكثر الفساد وتعم الفوضى ..

في العصر الحديث ، وفي بلادنا العربية ـ مع الأسف ـ فان من يتولى القضاء هم خريجو كليات الحقوق ، و القليل منهم بل و النادر من يذهب لتلك الكليات عن رغبة صادقة و استعداد مسبق . و الأكثرية هي من حصلت على شهاداتها من خلال الدراسة بالمراسلة ، او من خلال تنسيب الجامعات أو الجامعات الأهلية التي انتشرت كانتشار الإشاعة ..

في حين يشكل القضاء و التعليم و الأمن العام ، أعمدة الحفاظ على هوية الأمة الحديثة و ضمانا أكيدا لتقدمها .. و تصنع تلك المهن الثلاثة تمهيدا عظيما أمام المهن الأخرى ..

***********

دخل عليه و هو في أثناء محاكمته لعينة من المتخاصمين ، فوقف القاضي وتقدم يعانقه ، ويطلب منه الجلوس على أريكة بجانب المنضدة التي يجلس خلفها القاضي ، و الخصوم في حالة وقوف .. ويضغط القاضي على زر ليسمع صوت الجرس في الخارج ، فيدخل رجل في نهاية الخمسينات ، بخطى ثقيلة ووجه لا ملامح واضحة فيه ، فلا تعرف ان كان يرهب القاضي ، أم يتعامل معه برتابة العمل ، أم لم يكن متحمسا لعمله ، فلا يسأل ان كان القاضي يرضى عنه أم لا ..

طلب القاضي بإحضار ثلاثة فناجين من القهوة ، الفنجان الثالث كان لمحامي يزيد عمره عن عمر القاضي بعشرة سنين ويجلس على المقعد الآخر أمام منضدة القاضي ..

في هذه الأثناء ، التقط الخصوم أنفاسهم ، و استفادوا من تلك البرهة ، ليهيئوا صياغة الأجوبة على أسئلة القاضي ، في حين يجلس على طرف المنضدة شاب يكتب الأسئلة والأجوبة كما يمليها عليه القاضي .. ولم يظهر على وجهه أنه قد تأثر لعدم شموله بالقهوة المطلوبة ، فكان يركز على الحروف التي يكتبها ، كي لا يتعرض للتوبيخ ، واذا ما أخطأ في شيء وهو نادرا ما يحدث ، وانما الذي كان يخطئ هو القاضي نفسه الذي كان يستدرك بين الحين والحين ، بإضافة لا بل كذا ..

طلب القاضي من المتخاصمين ، أن يتصالحا وينصرفا ، أو أن يحولهما للتوقيف ، فوافقا على الفور ، و إن كان أحدهما يحس بالغبطة بوضوح أكثر ، وكان ميكانيكي سيارات ، فاستوقفه القاضي بعدما هما بالانصراف ، و أعطاه مفتاح سيارته و طلب منه أن يرى ما بها ، حيث لم تعجبه حركة الماتور ..

بعدما انصرف المتخاصمان و نهض المحامي وخرج هو الآخر ، قبل أن تصل القهوة ، أخرج القاضي علبة لفافات التبغ و قدم واحدة منها لصاحبنا ، دخل بهذه الأثناء شاب في الثلاثين من عمره ، فسأله القاضي عن اسمه .. فأجاب بشكل اعتيادي ، ولكنه بدلا من يسبق كلامه بسيدي ، قال استاذ ، فلم يعجب القاضي تلك العبارة ، بل أخذ يطلب من الشاب أن يعدل من وقفته .. و

كان القاضي يتكلم خلال تلك الساعة بطريقة ، لم يكن صاحبنا يدرك أسبابها ، فكان القاضي يجعل الحرف الأخير من جملة ، يتدلى من بين شفتيه كذيل ، مع ترك المجال لأسنانه السفلى والتي كانت نقاط تماسها مسودة بفعل الدخان ..

لقد حاول صاحبنا أن يصنف هذا السلوك بالزهو ، و التباهي ، وقد يكون مصدر هذا الزهو ، آت من كثرة من يتشفع عند القاضي ليتكفل موقوفا ، أو يؤجل قضية ، أو يسهل مهمة أحد .. و كان المتشفعين كثر فمنهم من له صفة حكومية ومنهم من له صفة اجتماعية ومنهم له صفة اقتصادية .. وهذا قد يكون أعطى للقاضي هذا الإحساس بأهميته الإستثنائية !!

matar996 02-03-2006 04:10 PM

يوه يوه توني خلصت:New20:

(بــس قـــــــــــــــــــــــــــويـــــــــــــــة )

ويعطيك العافية:New8:

ابن حوران 08-03-2006 03:33 AM

( 13)

لم يكن الحديث عن كرة القدم في الماضي ، له مثل هذا الشأن الذي نشاهده اليوم ، فلو ذهبت الى دائرة حكومية ، ستجد مباراة يوم أمس تحتل مساحة ليست بالقليلة بين أحاديث الموظفين و المراجعين .. ولو ذهبت الى محل لبيع الصحف اليومية ، لوجدت أناسا يشترون الصحف ، ولا يبدو على ملامح وجوههم أنهم مهتمون لا ثقافيا و لا سياسيا ، و لا هم بعمر أولئك الذين يتابعون أخبار الوفيات لكي يقوموا بواجب التعزية !

وحتى في مجالس التعزية ، أو في الجلسات التي تسبق (عزومة ) ، فإن أكثر الأحاديث التي يتم تداولها بين الجالسين ، دون أن تؤدي بهم تلك الأحاديث الى سحبهم لمسائلة أجهزة الأمن التي لا تترك ( عزومة) أو لقاء يضم أكثر من اثنين الا و حضرته ، أو كلفت من يحضره ..

كان يتبارى على الحديث في تلك المجالس ، إما أستاذ رياضة متقاعد ، أو لاعب كرة قدم ( اعتزلت أجياله ) .. وكان أي متحدث يتجنب الخوض في أمور الهيئة العليا لاتحاد كرة القدم ، و يخوض فيما دون ذلك براحته ، و يحاول إدخال كلمات لا يعرف الحضور معناها على وجه التحديد ، ويحلل أي مباراة ، يتذكرها مستخدما بعض الألفاظ الأجنبية أحيانا ..

عندما كان التنافس على المقاعد الجامعية ، كان في أسفل سلم القبول ، مقاعد في كليات التربية الرياضية ، فيلتحق بها من يلتحق ، ثم يعودون ليقفون في ساحات المدارس ليشرفون على حصص وضعت في المناهج الدراسية ، كحشو لا يراعي التوقيت ولا مدى استعداد الطلبة على حضور تلك الحصص ، التي غالبا ما توضع في نهاية اليوم الدراسي ..

وتدور الأيام ، فتنتخب هيئة إدارية لنادي رياضي مأزوم ، فتقرر الهيئة الإدارية التي ترشح معظم أعضاءها لرسم حدود لذاتهم ، في شكل عمل عام .. و يقرروا التحرك من أجل رفد النادي بلاعبين صغار السن ، فيتوجهون لصاحبنا الأستاذ .. ويغدقون عليه بدفقات من المديح والثناء .. وهو يحاول لملمة تقاسيم وجهه ، ليبدو صارما ، وليقول لضيوفه أنكم أحسنتم الاختيار في التوجه لي .

ويدور الحديث ، ويتناوب الوفد الإداري الجاهل بأمور الرياضة ، و يبادر أحد أعضاء الوفد الإداري ، ليبين نفسه بأنه ليس تكميل عدد ولكنه صاحب قرار أيضا .. فيفاجئ الحضور بأنه يطلب من الأستاذ الذي قصدوه ، أن يقوم بتدريب الناشئين في النادي ، وسيكون من طرح الفكرة تلك جاهزا أمام زملاءه ، فيما لو استفسروا عن مبادرته المفاجئة ، فأعد جوابا ، بأنه اقترح ذلك دعما للنادي و أسلوبا أكثر ضمانا لانتظام اللاعبين بالتدريب مع أستاذهم !

لكنه فوجئ بأن أحد زملاءه ، قد زايد عليه ، وقال لماذا الناشئين ، ولما لا يكون الأستاذ مدربا للفريق الأول ؟ . وهكذا فقد تم التعاقد مع مدرب ، كمعظم العقود التي تتم في مجتمعاتنا البسيطة ، دون دراسة وافية ودون شرح كاف ودون توقيع ، ودون السماح باستيضاح ، حيث تطغي عبارات المواددة الفضفاضة ، على روح التعاقد الصحيحة ..

وبعد عدة جولات تدريبية ، للفريق الأول ، والذي كان يتغيب عنها كثير من اللاعبين ، بحجة مطالبتهم بمخصصات الموسم السابق ، أو مطالبتهم بالتحرر من النادي للعب في ناد آخر .. فكان الذين يحضرون حصص التدريب من الكثرة بمكان ، لكن الذين سيخوضون المباريات و الذين سجلوا في سجلات اتحاد كرة القدم ، لم يكونوا يحضروا التدريبات ، بشكل يجعل المدرب و الإدارة يعتقدون أن برامج التدريب وتكوين اللياقة قد اكتملت .. ولكن هذا لم يمنع الإدارة و المدرب بتنظيم مباريات ودية مع فرق أخرى ، و لكن تصنيفها أدنى من تصنيف الفريق التابع للنادي ..

تجمع أعضاء الفريق ، وحضر اللاعبون كلهم ، حتى الذين كانوا يغيبون عن التدريبات ، فكان لديهم اعتقاد بأنهم يتفوقون على كل اللاعبين في كل الفرق ، حتى لو لم يتمرنوا و لم يكونوا لياقة كافية في بداية الموسم الكروي !

صفر حكم المباراة لبدئها ، تحت أعين بضع مئات من المتفرجين ، الذين كانوا فاقدين الحماس ، حتى لحضور تلك المباراة الافتتاحية للفريق ، ولكن كونهم هم من أعضاء النادي وهم من أوصلوا الهيئة الإدارية ، فكان حضورهم من باب رفع العتب ، لا أكثر ..

بعد مرور ربع ساعة ، عن بدء المباراة ، سجل الفريق الخصم هدفا في فريق الأستاذ .. فخرج الأستاذ عن صمته ، و أخذ يصرخ ( كل لاعب مع لاعبه ) .. (هي .. فلان .. مد المكسورة ) ( ويقصد رجل اللاعب الذي يخاطبه ) .. حتى طغى صوت الأستاذ المدرب على صوت كل من في الملعب ، من مشجعين ولاعبين يشتمون بعض عندما لا يوصل أحدهم كرة للآخر ، أو عندما لا يحسن استلام الكرة .. ثم تشجع الجمهور و أخذ يشتم مع الشاتمين ، بعدما جاء الهدف الثاني للفريق الخصم ..

بانت أثر سوء اللياقة على لاعبين الأستاذ ، فأخذوا يسقطون على الأرض ويصرخون من ألم مفتعل بصوت عال كأنهم ذكور جواميس هائجة ، علهم يحصلون على ضربة خطأ .. ولكن الحكم أنذر اثنين منهم .. ثم طرد آخر ..

انتهت المباراة بأربعة أهداف نظيفة ، و ذهب الأستاذ بسيارته الخاصة ، ولم يلتق بأعضاء الإدارة ولا الفريق .. لتوضع تلك الفترة بسجل حياته المهنية كنقطة سوداء !!

ابن حوران 19-03-2006 03:44 PM

(14)

لم يكن الوحيد الذي يتلذذ في رؤية الآخرين يتضرعون ، أو يبدو عليهم الضعف .. بل ما هو الا نموذج من بين نماذج كثيرة في مجتمعاتنا ، و قد يقول قائل : ومن أين جاءت هذه الصفة المنتشرة بكثرة ..

فقد يسهل رؤية هذا النموذج ، عند موظفي الدولة بكثرة ، فاذا ما أحس الموظف بأن المراجع ، تنتابه حالة من التلهف على إنهاء معاملته بسرعة ، فان الموظف يبادره ، بأن يحضر ورقة من دائرة بعيدة ، أو جهة قد تكون غير مدرجة في سلسلة الطلبات البيروقراطية الكثيرة ، ولكن الموظف لا يريد تفويت الفرصة ، في التمتع برؤية المراجع وهو يترجى و يتوسل ..

وقد تجدها عند خباز في يوم عطلة ، فيرى جمهرة الطالبين لخبزه ، بكثرة فيطلب منهم الاصطفاف بطابور طويل ، ولو تمادوا كثيرا فانه سيطلب منهم عدم الكلام مع غيرهم أو إطفاء سجاير المدخنين منهم ، كيف لا ، فالفرصة قد أتته فلماذا لا يضع يديه على خصريه و يأمرهم بأوامر مختلفة ، أو يحرمهم من الخبز لذاك اليوم ..

وقد تجدها عند سائق تكسي ، في يوم ازدحام للمسافرين في محطات التنقل ، ولكن ليس هناك من السيارات ، ما يكفي لنقلهم الى حيث يريدون .. فيضع نظاراته القاتمة على عينيه ، ويسير بين طوابير الركاب ، فيؤشرون له ، وهو يشير اليهم بحركة كلها كبرياء و عجرفة ، معتذرا عن السفر ، ثم يدور حولهم مرة واثنتين وثلاثة .. كيف لا ، فهذه من الفرص النادرة التي يمارس فيها هواية التلذذ بإيذاء الآخرين ..

وقد تجدها عند عجوز بلغ زوجها العجز قبلها ، فتصرخ به بمناسبة ودون مناسبة ، لتيقنها بعدم إمكانياته لإيذائها ، أو العكس بين رجل ، حل بامرأته عارض مرضي ، فيذيقها شتى أصناف الزجر و الإيذاء النفسي ..

أما نموذجنا الرئيسي ، فهو شرطي المرور الذي تتاح له فرص أكثر من غيره في ممارسة تلك الهواية ، التي يتشابه بها مع النماذج السابقة بكثرة ، ولكن ممارساته ، تفوق غيره بطرافتها ووضوحها في نفس الوقت ..

يقف أحيانا قرب سيارة الشرطة ، ويؤشر للسيارات لتقف بالقرب منه ، ويتفحص عيني السائق وتتجول عيناه داخل سيارته ، فيكتشف أضعف نقطة بطريدته ، كما تكتشف سباع الغاب تلك النقطة في فريستها ، عندما تطاردها .

فيطلب أوراق السائق ، وقد تيقن أن هناك شيء قد ظهر من خلال تعبيرات وجهه ، و شدة لمعان عينيه ، فان أبرز السائق أوراقه وكانت كاملة ، فانه يطلب منه أن يفتح له صندوق السيارة الخلفي ، أو أن يختبر بمعيته جاهزية الأضوية و المساحات ، حتى يهتدي الى نقطة الضعف عنده .. وغالبا ما يكون حزره في مكانه .. حيث علمته تجاربه الطويلة ، أن لا يقوم بتلك الأسئلة و الطلبات ما لم يكن متأكدا من أن الذي أمامه لديه ما ينبئ بوجود ما يبرر المخالفة ..

مع ذلك فاليوم معظم هؤلاء الشرطة ، لديهم من التذهيب ما يجعلهم يتفوقون على من سبقوهم قبل عشرين عاما ، حيث أن الأولين ، كان أحدهم يصر أحد عينيه ، ويتكيء على جانب السيارة ، ويسأل أسئلة كأن السائق الذي تطرح عليه الأسئلة ، أحد خصومه المذنبين في عمل كأن يكون قد طلق أخت الشرطي أو اختلف معه على معاملة إفراز أرض ، فلن يكن من السهل الإفلات من الشرطي ، الا بتوسل كبير أو إرضاءه بشيء ما ..

أما شرطة اليوم فمعظمهم متعلمون ، لا يطالب أحدهم بأكثر من خضوع بسيط وكلمات تبجيل وتوقير و احترام مبالغ فيه ، حتى تسجل تلك النقطة لصالح الشرطي ، فقد يستغل تلك الناحية ، في التوسط في مجال آخر .. فالمصالح متبادلة بين أفراد المجتمع .. و كثيرا ما نرى أناس يوسطون كبار قوم في قرية أو مدينة من أجل الإفراج عن رخصة سوق أو تغيير ( كروكي ) أو مساعدة أحد الممتحنين لنيل رخصة سواقة .. وكلها نوافل تؤدي للتمتع في استغلال وضع الآخرين ..

ابن حوران 29-03-2006 10:28 AM

أبو محمود المقاول

لا ندري من أين جاءت كلمة ( مقاول ) .. ولكنها لا بد أنها اشتقت من الجذر (قول) بفتح الواو .. وقيل للملك عند اليمن ( القيل ) لأن قوله نافذا ، وتقاول فلان مع فلان تفاوض معه على شيء ينفذه له ..

والمقاول في أيامنا هو من ينفذ مهمة إنشائية أو توابعها من متممات الأبنية والطرق و غيرها ، وهناك مقاول ومقاول بالباطن .. أي من ينفذ مقاولة أخذها غيره ، تاركا له بعض هوامش الربح ، كون الأول و هو الرئيسي أقدر على الوصول الى أخذ المقاولات و العطاءات ، من خلال علاقاته الواسعة ، و كون سجله زاخرا في تنفيذ تلك الأعمال ، بعكس مقاول الباطن ، الذي غالبا ما يكون مغمورا .. ويرفع شعارا باستمرار ( أريد أن أعمل ) ..

و يختلف المقاولون في قدرتهم على كسب الأموال ، فمنهم من يتفق مع كاتب صيغة المقاولة ، ويطلع على مناقصات الآخرين ، فيضع سعرا مدروسا ، يحتم إحالة المقاولة عليه . ومنهم من يتفق مع كاتب صيغة المقاولة على أن يهمل بندا رئيسيا في صيغة العطاء ، ثم بعد رسو المقاولة عليه ، يتم استدراك ذلك البند بأسعار تعوض ما تنازل عنه في البنود الأخرى ..

وهناك نوع من المقاولين ، يعرفون من أين يحصلون على مواد خام أرخص من غيرها ، فقد تكون ( ستوكات ) وقد تكون من منشأ غريب ، ولكن العلامة التجارية عليها ، تدل على أنها من منشأ معروف و سعره عالي ..

وهناك قسم من المقاولين يخسر بكثرة ، لأنه ينفذ الخطوة رقم خمسة قبل الخطوة رقم واحد ، وعندما يريد تنفيذ رقم واحد يضطر لهدم وإزالة رقم خمسة ، كأن يقيم الأبواب بقياسات تكون أضيق من أن تتسع لإدخال ماتور تبريد أو تدفئة ، فعندما يكتشف ذلك يضطر لهدم الجدار و إعادة توسعته و تغيير قياسات الأبواب ..

وهناك مقاول يحضر الأجراء خمسة أو ستة عمال ، و يأخذهم للموقع مع وجبات غذائهم ، ويكتشف أنه نسي تحضير الماء لصب الكونكريت أو الإسمنت مثلا .. فيضطر لدفع أجور العمال دون أن ينجزوا شيئا ..

أبو محمود ، لم يكن مهندسا ولا معمارا محترفا ، ولا محاسب جيد ، لكنه اقتحم مجال المقاولات في عينة من الزمن ، كان يتعذر على من يريد أن يبني لنفسه بيتا أن يجد من ينفذه بسرعة ، وحتى ببطء ، فالكل مشغول والكل بيده أعمال تحول دون قدرته على تلبية طلبات العملاء الجدد .. فاكتشف انه بإمكانه أن يتحول لمقاول ، يأخذ من بعض محلات بيع المواد عمولة ، مقابل أن يشتري لعملائه منهم ، و يأخذ من العمال عمولة وحتى من المكاتب الهندسية .. وهي علاقات دارجة في عالم المقاولة ..

كان يصطاد عملاؤه من أساتذة الجامعات الذين فتح الله عليهم في عينة من الوقت باب رزق ، في خضم إنشاء الجامعات الأهلية ، أو بعد سفرهم للخارج ، فلم يكونوا ذوي عهد سابق بالأبنية الفخمة ، ولم يكونوا مصنفين على العائلات البرجوازية .. فتكون عندهم سلوك برجوازي لكن دون جذور برجوازية ، فهم كالفلاحين الذين يغتنوا إثر بيع عقار ، فيعبروا عن غناهم إما بالزواج مرة ثانية أو بالإكثار من الطعام الدسم .. وركوب سيارة فارهة ..

فكان أبو محمود يخدع هؤلاء الأساتذة الجامعيين ، بالتحدث معهم بأنواع الحجر والإكسسوارات ، وهو يعلم مدى جهلهم بتلك الكلمات ، وحذرهم الشديد من السؤال عنها ، حتى لا يصنفهم من يسألوه بأنهم جهلة ..

رأيته وهو في جلسة محاسبة وتحكيم بينه و بين أحد الأساتذة في مكتب أحد المهندسين الأصدقاء .. كان يتعامل مع النصوص بالمشافهة ، وكان الأستاذ الجامعي ، يحس بحرج كبير نتيجة استغفاله بعد التنفيذ .. وقد أدرك أنه كان على درجة من الحمق ، عندما كان يتحدث مع المقاول والمقاول يطاوعه بعد كل تعديل تطلبه زوجة الأستاذ .

فكانت إن رأت مطبخا عند أحد صديقاتها ، تطلب من زوجها أن يضيف مترا زيادة على المخطط ، وإن رأت ( قرميدا ) على أحد البنايات تطلب إضافته ، و إن رأت حجر بناء بشكل ما ، تطلب إضافته .. والمقاول يبتسم ، ويقول معها حق .. وعندما يسأله الزوج الأستاذ عن إمكانية التعديل .. يجيب أبو محمود : كله في حبك يهون ..

لقد كلف كل هذا الجهل ، صاحب البناية ضعف كلفتها الحقيقية ، وكان المهندس يستمع لهما ، ويجد أن أبا محمود بجهله قد تفوق على الأستاذ الجامعي ، و أغلق أمامه المنافذ في تحصيل حقه المفقود ..

ابن حوران 05-04-2006 11:50 AM

قاسم المهرب :

هناك صنفان من العرب يستفيدان من التجزئة ، ويكرهان الوحدة ، الصنف الأول الحكام العرب ، والصنف الثاني المهربون .. ومع ذلك أن هذين الصنفان من الناس هم أكثر من يتكلم بالوحدة العربية ، فصنف الحكام يتكلم بها للاستهلاك الإعلامي المحلي ، والصنف الثاني ، يبرر امتهانه للتهريب كونه لا يؤمن بالحدود بين الأقطار العربية ..

التهريب مهنة مستترة ، لا تكتب ببطاقة الأحوال المدنية ، ولا بجواز السفر ولا يقدم من يمتهنوها أنفسهم على أنهم مهربون .. ولكن الناس ، وليس كل الناس تعلم بحقيقتهم .. فهم يغيبون عدة سنوات بالسجن ، ثم يخرجون ليعاودوا نشاطهم و كأنهم في رهان مستمر مع أنفسهم أو مع حكومات بلادهم ..

قليلون الكلام ، عيونهم حذرة ، لا يعلقون على ما يستمعون اليه من حديث حتى لا يتقفى من يتابع حديثهم أخبارهم فيتضررون من تلك السقطات ..

كرماء ، ولكن كرمهم يخدم مهنتهم الخطيرة .. فيهدون هداياهم و يرفضون أن تسمى بالرشاوى ، بل يدرجوها تحت باب ( رحم الله امرؤ فاد واستفاد ) .. وهي قواعد من أدبيات هؤلاء التي يتناقلوا أخبارها بالمشافهة .. فليس لهم مدارس أو مراجع يستمدون منها معرفتهم ..

قوام علومهم وفنونهم تتأتى من معرفة القصص النادرة ، التي تبلغ عن ذكاء سلفهم أو من سبقوهم في هذا الكار .. وان جلسوا في أمان فيما بينهم ، فانهم يهيمون بأنواع لا تخطر ببال من يجهل عملهم .. فمنهم من يتحدث عن كيفية تضليل دوريات الجمارك ، عندما كان التهريب على الخيل ، فيبعثوا أمامهم أحدهم يحمل خرجا من حشائش أو أوراق ، فيجعل الدورية تتعقبه ، في حين يقوم زملاؤه في تهريب ما اتفقوا عليه ..

ومنهم من يدخل حدود بلغاريا بنمرة سيارة ذهب ، تطلى بلون النمر العادية ، ومنهم من يضع قطع ألماز ثمينة في زيت ( الكوابح ) ومنهم من يبرم قطع العملة التي يريد إخراجها من دولة لأخرى ، ويجدلها بشكل حبل ، ويربط بها أمتعته بعد إضافة بعض الخيوط التي تخفي ما يهربه ..

كان قاسم ، قد شرب كل تلك الفنون منذ الصغر ، وتعرض للضرب والسجن والغرامة ، فدعكته السنين والتجارب ، حتى أصبح أستاذا بكل معنى الكلمة ، فلما تقدم به العمر ، وكان لم يكتف بالتهريب من بلاده للبلاد المجاورة ، بل قادته مغامراته للتهريب بين دول أوروبية ..

كان أحد الذين أشاعوا أجواء التهريب و ثقافته في مناطق واسعة ، وعندما كثرت أعداد المهربين ، تفننوا في تطويع القوانين المعمول بها والتي تعني بأمورهم ، و أطلقوا على أنفسهم اسم ( بحارة ) .. و افتتحوا محلات تجارية ، وأخذوا لها رخصا مهنية ، فيعرضون بضائع لا يهتمون بسوقها نهائيا و يخفون بضائعهم الأصلية ، فأصبحت محلاتهم ملتقى لمن يهوى بضائعهم المخفية ..

نجح قاسم في انتخابات غرفة التجارة لمرتين ، و أصبح وجيها غنيا ، يبتسم باقتصاد ، ويرد على من يغمز بجانبه ، متسائلا عن الثروة الهائلة و الأبنية والعمارات التي لديه ، يرد عليه بعبارة عرف بها وبصوت خافت ( على راسي)
ولا يعلق ، لكن كانت عيناه كل واحدة تحمل تعبيرا يختلف عن الأخرى ، واحدة تقول أنه رجل هادئ تائب مستقيم ، والأخرى تقول : لا بد من أن يأتي يوم و أرد عليك تلك الغمزة غير البريئة .. والوسائل لدى قاسم كثيرة !

ابن حوران 10-04-2006 07:18 AM

عايد السائق :

لقد كانت مهنة قيادة السيارات ، مهنة كما هي في كثير من المهن المستحدثة على هامش التطور الحضاري ، فمهن تزول و مهن تظهر ، لم يعد الجلالاتي (صانع جلال الدواب ) أو الدليل ( الذي كان يدل المسافرين بالصحراء ) موجودين بنفس القدر الذي كانوا فيه سابقا .. كما أن مهنا مثل قيادة السيارات ، وان ظهرت في القرن الماضي كمهنة لها أهميتها ، أصبحت اليوم من المهارات الضرورية ، أو العادات ، كعادة التدخين .. فلم تعد بنفس القوة التي ظهرت بها وقت بدايات ظهورها ..

وكان من يتقدم بطلب للعمل سواء في القطاع العام أو القطاعات الأخرى ، يلقى قبولا لطلبه .. أما في هذه الأيام ، فإن تلك المهنة لم تعد مصنفة كمهنة بل كوصف لمن يكلف بها من قبل غيره أو حتى هو يكلف نفسه بها ، كضرورة عملية ، فاقتناء ( سيارة أجرة ) يحتم أن يكون على قيادتها شخص يستطيع القيادة ، و أحيانا يكون هذا الشخص مهندسا أو معلما أو عسكريا متقاعدا ، أو أي صفة مهنية أخرى ، لكنه أضاف تلك الصفة المهنية الجديدة على نفسه ، لضرورات المعيشة أو لاستثمار بعض المال في قطاع النقل ..

كان بعض ممتهني تلك المهنة ، لا ينظرون لها على أنها مصدر رزق فقط ، بل كان ينظرون لها كعادة ، أو صفة محببة لهم ، كما هي صفة أو خاصية الطيران عند الطيور ، فكما يتضايق الطير عندما يوضع في قفص ، أو يعيقه ما يعيقه عن الطيران ، فإن سواق السيارات يصبحون بهذا العشق لمهنتهم ، وخصوصا من يقودوا سيارات الأجرة ( التاكسي ) .. وخصوصا من يتقدم بهم العمر قليلا ، فعليهم أن يتصرفوا في حياتهم بكياسة و رزانة تتناسب مع أعمارهم ، لكنهم في مهنتهم ، يشرعنوا الصبابة و دغدغة بعض مشاعرهم التي عليهم أن يدربوها لتكون عاقلة !
كانوا يستمتعون بحديث يستمعون اليه بين عشيقين يركبان مع أحدهم ، أو يسرقون نظرة من المرآة التي يعدلون وضعها ، ليقنصوا نظرة ممن يجلسن في المقعد الخلفي .. وكان يطربهم صوت ضحكة عفوية من فتاة بسن بناتهم ، لكن لا أحد يراجعهم بما يقترفون من ذنوب هم لا يصنفونها كذلك !

كانت مهنتهم تمدهم بثقافة من نوع خاص ، آتية بالمشافهة ، من خلال ما يشاهدون وما يسمعون ، فأحيانا تسرهم مصطلحات بعض المثقفين الذي نقلوهم من مكان لمكان ، فيحاولوا استعمالها في أحاديثهم مع زملائهم أو أسرهم ، وأحيانا يسربون ما رأوا من مشاهد رأوها في مهنتهم .. كل ذلك كان يعطيهم شعورا بالتفوق في شيء ما !

كان عايد من ذلك النوع من السواق ، لم يكن بحاجة ماسة لما يحصل عليه من أجرة ، فكان ينتقي ركابه أو من يطلبوا الركوب معه ، ليشبع فضوله المستتر ، فلم يختلف على قيمة الأجرة مع من يرغب في نقلهم ..

عندما ركب الرجل بجانبه وكان ملثما ، عندما فاوضه بسرعة على الركوب ، فك لثمته ، في حين جلست المرأة التي كانت مع الملثم في المقعد الخلفي ، طرق عايد بأصبعه طرقة خفيفة على المرآة التي ثبتت في وسط السيارة الأمامي العلوي ، عله يفك لغز زبونه .. وقد انتبه الرجل الذي يجلس بجانبه ، ولكنه لم يكن في حالة تبرر اعتراضه ..فشاغله بالطريق الذي احتاج الى ساعة من الزمن حتى يصلوا الى وجهتهم ، حتى لا يجد عايد فرصة كافية في التمعن بمن تجلس بالخلف ..

كان الرجل يتحدث بمواضيع متعددة وغير مترابطة ، وعايد يستمع ويهمهم ، ولم يظهر ثنية الذهب على سنه طيلة حديث الرجل ..

كان عايد يتساءل ، بينه وبين نفسه ، هل تلك المرأة المكحلة ، والتي تضع عصبة زاهية على رأسها ، هل تكون ابنة هذا الرجل ؟ .. ثم يجيب نفسه : لا ، فلو كانت ابنته لما صعدا في سيارة أجرة ، بل لركبا في الحافلات ، حتى لو طال زمن الوصول الى أربعة أضعاف وصول سيارته !

ربما تكون زوجة له ، وكانت (زعلانة) عند أهلها منذ مدة ، وهاهي تعود معه ، فأراد أن يكرمها بالركوب بسيارة ، أو لسرعة الوصول !

كان الطريق الذي سلكه عايد ، لم يشاهد به بالذهاب أو الإياب أي سيارة أخرى ومن أي نوع .. فقد أشار الرجل الى اتباع طريق مختصر ، علمه البدوي بخبراته السابقة .. كان طريقا ضيقا ليس به من الطرقات الا الاسم ، لم يكن ترابيا ، ولم يكن معبدا بشكل جيد ، لكنه كان خاليا من الحفر ، ولم يكن طريقا موحشا وسيئا على أي حال ..

كان يمر من جنب بيوت ، هي كالبيوت ، لكنها لم تكن بتلك الفخامة ، ويتراكض أمامه أطفال ، هم كالأطفال بالشكل ، ولكن ملابسهم و ألوان بشرتهم وملامح العافية ، لا توحي أنهم أطفال كالذين يراهم في المدن ..

لمح عايد بين تلك البيوت المتواضعة ، قصرا فخما ، يصلح أن يكون أحد قصور الأحياء الفخمة ، في العاصمة ، أقطب جبينه ، وتساءل : هل يكون هذا لشخص ، رفض أحدهم أن يعطيه ابنته عندما كان مغمورا ، فأراد أن يقهر من رفضه ليبقى هذا القصر الذي بناه بعد أن اغتنى فجأة ، شاهدا على خطأ قراره!

برز كلب ضئيل الحجم ، ليلحق بسيارة عايد ، لكن دون جدية ، بل كان يحاول أن يعلن عن نفسه بطريقة مجانية أنه سيد تلك البقعة اللا محددة !

نزل الرجل والمرأة قرب القصر .. ولم يحل عايد لغزهما !

ابن حوران 14-04-2006 05:49 AM

سويلم الراعي

الرعاة في التاريخ من أقدم المحترفين مهنيا ، ومهنتهم تلك قد أثرت في تكوين الحياة الراهنة ، حيث كانوا يشكلون مجسات لمجتمعاتهم ، ترشدهم للتحرك والتنقل من مكان لمكان ، أقوام في أمكنة ليست لها وتصارعت مع أهلها الأصليين ، فأنهت وجودهم أو انصهرت بهم حتى آل الوضع الاجتماعي لما نحن عليه الآن ..

لم تكن ملكيات الأراضي معترف بها سابقا ، فحيث تستطيع الوصول بقطعان أغنامك أو إبلك ، وتحمي وصولك هذا بقوتك أو قوة جماعتك ( قومك ) .. فيصبح عندها هذا الوضع مقبولا وغير قابل للنقاش ..

حافظ الرعاة العرب على بعض الصفات التي تهم الباحثين ، فهم حذرون بطبعهم قليلو الكلام ، لا يدخلوا مفردات جديدة على لغتهم ، فلذلك كانت اللغة العربية عندهم ، هي الأنقى والأكثر مطابقة لصفاتها . وهذا ما يفسر كيف أن الهيثم بن نصر بن سيار ، والخليل بن أحمد الفراهيدي ، عندما خافوا على التلحين في العربية ، ذهبوا الى البادية ليدونوا المفردات العربية بقواميس لا زالت اليوم هي المراجع التي نعود لها عند الحاجة ..

كما أن الرعاة ، لو أراد أحد أن يصنف مزاجهم هل هو عدواني أو متسامح لرجح الحالة الأولى على الثانية ، إذ لم يكن أحدهم يرغب بوجود من ينافسه على المرعى القليل بنباتاته الكافية و ماء الشرب ..

كما أنهم لا يجيبون من يسألهم بوضوح ، بل يتهربون من الإجابة ، توجسا وحذرا من دوافع السؤال ، فإجاباتهم الاعتيادية ، هي أنهم لا يعلمون جواب السؤال الذي وجه إليهم ، وإن اضطروا للإجابة ، فإن الإجابة لا تسعف السائل ، بل سيحتاج أن يسأل بعد الراعي الأول مجموعة من الرعاة ، فيدرك بمرحلة من المراحل أنه في متاهة ، وكأن كل راعي آخر يشكل خط دفاع ثاني بالنسبة لمن وجه إليه سؤالا سابقا ..

بعد أن تشكلت الدول الحديثة ، وأصبح للأرض من يملكها ، وحمت القوانين الراهنة حقوق المالكين ، كان على الرعاة أن ينتقلوا الى الأراضي الميرية (التي تملكها الدولة ) .. أو عليهم أن يتكيفوا مع الوضع الجديد بنمطية جديدة من التحايل على تلك الأعراف و القوانين ..

ولما كانت الأراضي التي تحيط بالقرى والمدن ، هي أكثر خصوبة من غيرها من الأراضي الأخرى ، فكان على الرعاة والذين هم أصلا يرعون لملاك قد يكونوا من سكان تلك المدن والقرى ..

كانت لغة الرعاة وخبراتهم تتركز في كيفية إدارة قطعانهم ، وكان القطيع وأفراده يشكلون صحبة دائمة للراعي ، فكان يميز كل شاة أو كبش من بين عدة مئات ، ويفتقد الناقص منها ، نتيجة لتلك المعرفة الحثيثة ، وكان يسمي كل واحدة منها و يجد ما يميزها عن غيرها ، فيجد صفة بالقرون خاصة ، ولون الوجه ، وتحدب الأنف الخ ..

كما كان على خبرة كافية ، في تربية (المرياع ) وهو خروف تمت رعايته منذ الصغر ، و يشترط بأن تكون أمه معروفة بجودتها ، فلذلك تمت صياغة المثل القائل ( ابن الخوثة ما يصير مرياع ) .. وقد ينسحب هذا المثل على قيادات المجتمع .. حيث أن ( الخوثة هي الهبلة ) .. كان المرياع و أحيانا بالقطعان الكبيرة تجد مجموعة من ( المراييع ) .. تزين بألوان معظمها من مشتقات اللون الأحمر ، انطلاقا من معرفة أن الحيوانات لا ترى سوى اللون الأحمر ، أما باقي الألوان فيكون ( رمادي ) .. ويضع في رقبة المرياع ، جرسا يسمى (كركاعة ) . ليعلم القطيع عن تحرك المرياع الذي يكون على مقربة كبيرة من الراعي وحماره في المقدمة ..

وكان الراعي على معرفة بتربية الجراء (صغار الكلاب ) .. فكان يخضعه لتجارب قاسية تتناسب مع فداحة المهمة التي يقوم بها .. و أحيانا يقطش أذانه أو يقطع جزءا من ذيله ، وللرعاة مبررات وجيهة في ذلك ..

كان سويلم يضع في خرج حماره ، كل ما يلزم لرحلته التي ، فبعض أرغفة الخبز وقليلا من الشاي والسكر ، وإبريق قاتم اللون وبعض المواد القليلة الأخرى ..

أما اللغة التي كان يستخدمها سويلم لإدارة الحيوانات ، فهي مجموعة من الأصوات ودون كلام مفهوم ، كالتي تستخدمها قبائل بدائية جدا ، قسم يخرج من أسفل الحلق ، وقسم من خلال ضغط الشفتين وأحيانا يستعين ببعض أصابعه لإخراج تحذيره لبعض الشياه المتخلفة أو المتمردة على السير ..

كان سويلم ، يرعى في الأراضي التي لا يزرعها أصحابها ، ويبدأ رعيه من بداية الخريف ، فاذا سقط المطر مبكرا ، قامت الحيوانات باستلال البادرات التي تنمو مبكرا ، وحيث أن قوانين الرعي التي كانت تحمى سابقا من مهنة انقرضت تماما وهي مهنة ( المخضر ) الذي كان يمنع الرعاة من الاقتراب من الأراضي المتروكة من دون زراعة ، حتى تزهر نباتاتها و تحفظ جنس النبات ، فقد تدهورت أصناف نباتات المراعي ، واختفى المستساغ منها ..

يلجأ ملاك قطعان الأغنام لشراء حقول القمح أو الشعير ، التي لا يتأمل أصحابها من مردود يعادل كلف الحصاد .. فيرعى سويلم بها حتى أواخر الصيف وعندما تصبح الأراضي جرداء لا عشب ولا قش ولا غيره .. فتبقى عادة الرعي وكأنها فقط لتدريب الأغنام ، حتى لا تنسى عادة المشي !

وضع سويلم إبريق الشاي المسود على نار .. وأخرج ( مزمارا ) وعزف ألحانا مختلفة ، تكاد تكون ثلاث جمل موسيقية بدائية .. وبقي يعزف ، قرب النافذة لأكثر من ساعة ، وعندما تضايق صاحب مكتب قريب ، بني على منشأة بعيدة في البراري .. دفع الفضول صاحب المكتب للذهاب الى سويلم ..

تدري يا سويلم : ما أقل عقل منك إلا هذا المرياع ، الذي يطرق مستمعا اليك ، ألا تمل من هذا العزف ، والضحك على هذا القطيع الأبله ، وكأنك تتجول به في إقليم ( السافانا ) ..

ضحك سويلم ، واستفسر عن ( السافانا ) .. ثم قال : هذه حياتنا ، أستاذ منذ الأزل ، فليس لنا سبيل غير ذلك ، ناوله الأستاذ لفافة تبغ ، كمصالحة ضمنية وودعه معترفا بوجاهة قول سويلم ..

ابن حوران 20-04-2006 07:13 AM

سعدي المذيع

كثيرا ما تستمد الشخصيات قوتها من بيئتها .. وقد تكون البيئة ضيقة .. كما في حال من يركب سيارة فارهة أو يجلس خلف مكتب فخم ، أو حتى يلبس ملابس أنيقة ، فان حركاته ستثقل و تتناسب مع ما دخل فيه من حيز جديد !

و أحيانا تكون البيئة معنوية ، كأن يتباهى أحدهم في انتماءه الى عشيرة كبيرة ويظهر ذلك على طريقة كلامه مع ابن عائلة بسيطة ، قد يفوقه علما و خلقا ومكانة اقتصادية واجتماعية ..

وأحيانا ـ كما في حالة بوش ـ فإنه يسير كأنه طاووس يزهو بريشه ، في حين لو تصورنا أنه مدير ناحية في غينيا بيساو ، فلا أحد يضمن له أن ينجو من حمام من ( البصاق ) يوميا ..

في حالة سعدي المذيع ، التي لا تبتعد كثيرا عن تلك القواعد ، كان يزهو كونه ينتمي لأسرة محطة تلفزيونية ، لها الملايين من المشاهدين يوميا ، وكان يتصرف وفق هذا الشعور ..

كان يتنقل بين مواضيع كثيرة ، ففي الأسبوع تشاهده ، ينتقل بين أزمة اليسار العالمي ، الى موضوع شح المياه ، الى انفلونزا الطيور ، الى أسرار المفاعلات النووية ، وكأنه اكتشف ( أقراصا ) من الدواء ، لو بلع أحدها سيتسوعب خمسة كتب في الثانية !

كان يتلذذ في جعل من يقابلهم ، يشعرون بشعور دوني تجاهه ، فكان ينادي ضيوفه بأسمائهم ، دون ألقاب ، وإن كان القصد الظاهر ، هو إضفاء جو حميمي على المقابلة ، لكنني كنت ألاحظ أنه كان يتعمد ذلك ، لملئ داخله بكبرياء من نوع ما ، أو أنه قد تراهن مع صنف من المشاهدين ، قد تكون زوجته أو خليلته أن يوجه إهانة خفية لأكبر رأس ..

كان يستقبل أكثر من ضيف ، ولا يستمع اليهم ، بل كان يعمل كميقاتي ، تقفز من فمه الأسئلة ، وفق تدريب خاص ، فيطرح سؤاله التالي ، حتى لو لم يكن هناك تأسيسا له في الإجابة السابقة .. وينتقل من ضيف الى آخر ، وفق نظرية الأكل و( أنت ماشي ) .. حيث يقضم من سندويشته قضمة ، ويجرع فوقها جرعة من علبة بها مشروب غازي ..

كان يضع رجلا على رجل ، وبيده أوراق السيناريو ، فيتكلم بصوت كأنه أعد للرد على المكالمات الهاتفية ، فلم يكن بنغمة صوته ما يوحي أنه يفهم ما يطرح

بالمقابل كان ضيفاه ، على ما يبدو أنهما حديثي العهد بذلك النوع من المقابلات التلفزيونية ، وقد تكون تلك أول مرة يجلسان بها أمام كاميرا التلفزيون ، ورغم أن ثقافتهما كانت عالية ، إلا أن شخص متوسط الانتباه يمكن أن يلاحظ ظاهرة الجهل والاستسلام لسعدي المذيع ..

ومن يدري علهما ، انشغلا بتحضير فيديو لتسجيل تلك الحلقة ، وقاما بالاتصال بكل معارفهما ليتسمروا حول أجهزة التلفزيون لمراقبة الحدث العظيم ..

ومن يدري ، لعلهما راجعا أكبر قدر ممكن من كتبهما اللاتي ألفاها ، أو قرأاها، خشية أن يواجههما هذا الصنديد سعدي بسؤال محرج !

لم يكن لأحدهما ، أي فكرة عن عمليات التصوير ، داخل الاستوديوهات ، بل كان يعتقد أن التكلم بصوت رزين والتقليل من إشارات اليد ، ومسحة مبتسمة قليلة على محياه ، مع الاهتمام بتناسق ربطة العنق مع القميص والجاكت ، ستجعله صاحب طلة مؤثرة على الجمهور ..

كان طويلا ونحيفا ، وعندما جلس على الكرسي ، ارتفع بنطلونه ليصبح طرفه الأسفل أعلى من كعبه بأكثر من شبر و نصف ، فبانت جواربه التي كف جزء من إحداها وظهر جزء من ساقه النحيل الأبيض الشاحب ..

كان المصور يعمل كقناص ، وبالطبع فلم يثر المصور ما تم من كلام ، بقدر ما كان فرحا بقنص تلك اللقطات ..

لقد ضاع علي ما طرح من موضوع في تلك الحلقة ، فكنت أنا الآخر مشغولا بتوليف مقالتي ..

ابن حوران 25-04-2006 05:35 AM

يوسف مدير البنك

ارتبط اسم البنوك بالربا ، ولا تكاد تتزحزح تلك الفكرة من رؤوس الناس ، بل تتعمق وتزداد يوما بعد يوم .. ومع ذلك فان أعداد من يتوجه لتلك البنوك للتعامل معها ، تزداد يوما بعد يوم ..

كان هناك قبل انتشار البنوك بهذا الحجم ، بعض المرابين الذين يعطون الناس أموالا بالمضاعف ، وهي أن يقترض مائة دينار مثلا لمدة عام ، ويسددها للمرابي بعد مرور سنة مائتي دينار .. وذلك بعد ظهور موسم الحصاد .. وكان هناك شكل آخر ، إذ يقوم المرابي بشراء محصول الفلاح أو جزءا منه بسعر بخس ، وذلك قبل الموسم ، ليفك ضيقه !

كانت كل تلك الأمور تتم بسرية كاملة ، وترتبط بوثائق يشهد عليها شهود مخصصين لذلك ، وأحيانا تضمن بواسطة رهن قطعة أرض ، أو ذهب المقترض . كانت سريتها آتية من الخوف من الحرام ثانيا ، وكلام الناس أولا ..

عندما انتشرت البنوك ، وكان انتشارها بإذن من الدولة ، على هيئة بنوك تسليف زراعي ، أو عقاري ، كانت أرحم كثيرا من الشكل الذي يتعامل به المرابون ، وقد ساعد على تقبلها ، الممانعة التي ترافق طلب القرض ، فكان مشوار المعاملة يطول لعدة شهور ، وهي مدة كانت كافية لفضح المتعامل وترويضه ، كما كانت كافية للتبشير بفكرة التعامل مع البنوك ، إذ أن النظرة التي كان ينظر بها للمقترض ، هي مزيج من كونه مارقا ومحظوظا .. ثم طغت الصفة الثانية على الأولى ..

لقد ارتبط الربا بالذاكرة الإنسانية عند المسلمين ، إضافة لكونه أحد الكبائر ، بأنه مشروع لسحق الإنسانية ، فكان المرابي عندما نزل التحريم ، يتفق على مضاعفة قيمة القرض بعد مرور عام ، وان عجز المقترض عن التسديد ، فان القيمة الجديدة ( الضعف) ستتضاعف ، وفق قانون المتواليات الهندسية .. ثم اذا عجز المقترض عن التسديد ، فان المرابي يأخذ زوجته و بناته ويبيعهم بسوق النخاسة ، وقد ورد ذلك بشرائع حمورابي ..

لقد استفاد مؤسسو البنوك و أصحابها ، من تلك النظرة الدفينة للبنوك في جني أرباح ضخمة ، فتكاد نسب الفوائد في بلادنا تزيد سبعة أضعاف عما هي عليه في بلاد الغرب ، وعشرة أضعاف عما هي عليه باليابان ، و أصبح البنك ودخوله ، معبرا لدخول عالم الإفلاس عند المقترض ، عاجلا أم آجلا ..

إذا دخلت الى مكتب يوسف ، فانه قد يقوم لمصافحتك ، و قد لا يرد التحية ، وقد يقوم لعناقك ، وقد يبادر ويطلب لك شرابا ، أو يمد يده فيخرج لك قلما فاخرا أو دفترا أو علاقة مفاتيح كهدية ، أو قد يرمقك بنظرة تبلغك بأنك شخص غير مرغوب فيه .. وكل هذا يتوقف عليك أنت .. من تكون ..

إذا كنت نكرة ، وهذه أول مرة تدخل عند يوسف ، وتكرم عليك بالجلوس ، فإن قدراتك على الحديث ستخونك بكل تأكيد ، حتى لو كان يوسف قد جمع عنك معلومات ، بأنك رجل أعمال ناجح أو مشروع رجل أعمال ناجح ..

سينقطع حديث الثلاثة أو الأربعة رجال الجالسين في حضرة يوسف ، وتتسمر نظراتهم تجاهك ، كأنهم وجهوا أشعة ليزر لفحص داخلك ، وعيونهم كلها فضول فلديهم متسع من الوقت ، ستسعفهم في جعلك مادة لأحاديثهم لفترة ما ..

يدخل مستخدم ، لا تتناسب هيئته مع ديكور مكتب يوسف ، المكون من الستيل والجلد الفاخر ، و جهاز تكييف يتم السيطرة عليه بالريموت ، ويتناول سخان قهوة ويسكب لك رشفة ، ليست حارة بالقدر الكافي ، وتستنتج أن هذه الخطوة الإضافية ، لم تكن من تصاميم الجهات العليا ، بل ابتكرها يوسف من تلقاء نفسه .

يدخل موظف يرتدي بذلة قاتمة و ربطة عنق تتناسب مع القميص و لون البذلة ، وعلى ما يبدو أن معظم الموظفين ، يلبسون مثل ذلك ، فيتكلم كلاما لم يسمعه أحد إلا يوسف ، ويرد عليه يوسف بكلام ، لم يسمعه إلا الموظف ، وكأن مهاراتهم المتراكمة ، أوصلتهم لذلك الامتياز .. حتى التلفونات التي كان يرد عليها يوسف ، لم يكن باستطاعة أحد أن يفهم كلمة واحدة منها !

يتوجه يوسف ليحيي ضيفه الطارئ ، بتحية اقتصادية مقتضبة ، مع ابتسامة بلاستيكية ، تمرن عليها طويلا ، ثم يمد عليه ورقة مكتوب عليها بعض المعلومات ، كان يدرك أن ضيفه لن يرى ما كتب عليها ، لكنها كانت دعوة لضيفه أن ينهض و يقترب من يوسف ، ليتكلم معه بكلمات لم يسمعها إلا هو ..
شكره ضيفه ، حاملا الورقة و خرج ..

ابن حوران 04-05-2006 07:36 AM

أبو كفاح المتفرغ

في أواسط القرن الماضي ، انخرط الشباب العربي ، في معظم الأقطار ، بالعمل السياسي أو تأييد العمل السياسي والتعاطف معه ، فانقسموا الى ثلاثة خطوط أيديولوجية ( الإسلامية و اليسارية و القومية ) ..

وعندما تزوج هؤلاء الشباب ، كان من السهل التمييز بين اتجاهات هؤلاء الشباب السياسية من خلال أسماء أبنائهم .. فعند الإسلاميين كنت تلحظ تكرار اسم مصعب و معاذ وعند اليساريين والقوميين ، كنت تلحظ أسماء نضال ، كفاح ، جهاد الخ ..

كان أحدهم إذا سمى ابنه صلاح ، فانه يستحضر القائد صلاح الدين ويتقمص دور أبيه ، فهو لم يكن قادرا على اختيار اسمه الشخصي ، فيقوم بتعويض ذلك بابنه ، أو يهجس بأنه هو أبو النضال أو أبو الجهاد ، وان كانت له بنت بكر ، فقد يسميها عروبة أو تماضر أو روزا ..

كان هؤلاء الشباب الذين بالكاد قد تعرفوا على أطر أيديولوجية ، لم تكتمل لا في عقولهم ولا في النشرات التي كانوا يحصلون عليها بتكتم شديد .. كانوا يريدون التعبير عن ذاتهم بأسماء أولادهم .. و نمط ملابسهم .. وشكل المداخلات التي كانوا يسهمون بها في نقاشاتهم ..

كانوا يتفاخرون بذواتهم ، من خلال ما يحضرون من أنباء عن أقطار يفتتنون بها ، وهي عموما أنباء مبتسرة ، يضيفون عليها إضافات من عندهم ، فيحاولون إقناع من يسمعهم بأن سيارة ( لادا أو موسكوفيتج أو صلاح الدين أو النصر ) هي أقوى و أفضل من ( المرسيدس والشيفورلية و الفولفو ) .. وأن إنتاج الدولة التي يفتنوا بها هي الأولى في العالم من حيث كذا و كذا ..

كان أبو كفاح من ذلك النوع من الناس ، كان من يواظب على حضور الندوات أو المشاركة في مسيرة ، أو يحضر مأتما أو مأدبة أو عرسا إلا أن يلحظ أبا كفاح بين الحضور ..

لم يكن يقرأ ، ولا يحاول كتابة موضوع ، رغم أنه أمضى أكثر من نصف قرن على حاله .. وإن سأل أحدهم ماذا يعمل هذا الرجل ، لسمع إجابة من أحد العارفين بأنه ( متفرغ ) .. فيصمت السائل عند تلك الإجابة ، ولا يحاول الاستزادة بالسؤال ، حتى لا يظهر أمام الآخرين بأنه جاهل !

كان أبو كفاح يكتفي بتعريف نفسه للآخرين بأنه ( أبو كفاح ) .. ف (الروزنامة ) وحدها هي رصيده .. وقد يكون قد استدعي مرة أو اثنتين أو ثلاثة لدائرة أمنية هنا أو هناك .. ورصع بذلك الاستدعاء سجله الحافل بالنضال ..

كان يفترض بالآخرين أنهم يعرفونه ، ويستهجن من يحاول نقاشه بشكل مطول ، كما يستهجن ذلك الحضور الذين يشهدوا تلك المحاولة ..

لقد كان جليسا طيبا ، عنده بعض الطرافة ، و يهب لمحاولة مساعدة من يطلب منه المساعدة ، فله من المعارف في كل بقعة من البلاد ، فهو يواظب لحضور دفن كل الرجال المهمين ، ودائما يلقى من ينقله الى مكان الدفن حتى لو كان بعيدا عن مكان إقامته بسير خمس ساعات في سيارة حديثة ، وطبعا لم يمتلك سيارة ولا يعرف يقود سيارة .

كانت بشاشته و محاولته مساعدة الآخرين ، تشفع له ، عندما تفشل محاولاته وتلك الحالة قد تكررت ، ولم يتضايق من كلفه أو قصده لتلك الخدمة .. كان أصدقاءه متنوعون ، فهو يعرف وزراء و رؤساء وزارات وسفراء ، ومدراء عامين .. ولكنهم كلهم كانوا يتعاملوا معه بروح طيبة ولا تتعدى ذلك ، فيبدو أنهم قد كونوا عنه الصورة التي نراها الآن .. فلا خطورة منه ولا فائدة ضخمة يتم حسابها إذا امتنع أحد عن مساعدته ..

لقد تم توزيع خمسمائة بطاقة في حفل تأبين أبي كفاح ، ولكن الحضور فاق الألفين .. وتبارى خمسة رجال مهمون على إلقاء كلمات بتلك المناسبة ، وكانت كلماتهم سلسة ومؤثرة رغم الكذب الموجود بين ثناياها ..

رحم الله أبا كفاح فقد كان متفرغا و مات متفرغا ..

ابن حوران 13-05-2006 12:12 PM

بائع الموز :

كان يوقف عربته ذات الإطارات الثلاثة ، بجانب رصيف شارع عريض ، وكان الشارع لا يتجول به شرطة المرور كثيرا ، ولا تقف سيارات المشترين بكثرة ، و كان عرض الشارع الزائد يسمح له بالوقوف هناك ..

كانت عربته قد فقدت ألوانها ، فقد كان لون الأخشاب الرئيسية التي تحمل جسم العربة خضراء قاتمة ، أما اللون الذي يصبغ باقي الأخشاب فكان أخضرا فاتحا ، لكن طول عمر الصبغ قد قارب أن يوحد بين اللونين ..

كان يجلس على حجر الرصيف الذي يفصل بين الشارع والرصيف العريض الذي كان أصحاب المحال قد اقتطعوا منه مظلات ليعلنوا عن موجودات محلاتهم وكانت معظمها مطاعم تشوي اللحوم أو الشاورما .. فكانت رائحة المشاوي تغري المارين لأخذ القليل منها أو تناولها داخل المحلات .. وقد كانوا ينجحون في تلك الحيلة عندما تم افتتاحها .. لكن تلك الحيل لم تعد تستطيع قنص الزبائن ، فكان من الطبيعي إذا غبت عن الشارع شهرا أو أكثر أن تفاجئ بتحويل بعض تلك المطاعم الى مقهى للإنترنت ، أو محل لبيع الأدوات الكهربائية ..

كان منشغلا في حشو لفافة تبغ ، وكان يضع التبغ بها على مهل ، ولم يكن متحمسا كثيرا للصوت الذي سأله بكم كيلو الموز ؟ أجابه بكلمة واحدة دون أن يرفع رأسه عن عمله في حشو لفافة التبغ .. طلب منه من سأله أن يضع له كيلوين ونصف ريثما يعود من شراء بعض الحاجات ..

وقف عند بائع المشويات ليشتري بعض الساندويشات لأحد أولاده الذين لا يرغبون بصنف طعام العائلة بعض الأحيان .. فكان وراء الساتر المكون من حافظات زجاجية مبردة لعرض بعض أصناف المقبلات .. ثلاثة أشخاص شاب بعمر خمس وعشرين عاما يقف وراء مخروط الشاورما وصبي ابن خمسة عشر عاما ، يلبي طلبات من يصدر إليه بأوامر .. ورجل يرتدي بنطلون أبيض سميك وقميص بلون زهر السفرجل و يضع نظارتين سوداويين في جيب قميصه ويتنقل من مكان لمكان يشرف بنفسه على صناعة رغيف بالشاورما ..

أكمل الرجل صنع رغيفه ، فلفه بورقة رقيقة ، وجاوب رنة جرس جهاز الهاتف في جيبه ودار من وراء الساتر وتوقف عند الشارع قريبا من بائع الموز ومستندا الى سيارة مرسيدس سوداء حديثة الصنع .. كان عيون الصبي الصغير تتبع الرجل وتنظر تارة إليه وتارة الى السيارة .. في حين انشغل الشاب بتقطيع قطع اللحم المشوي .. وكان يبدو على اللحم أنه من بقايا ( شيش ) الأمس ، فلم يكن الشيش مكتملا ، بل كان بقطر لا يزيد عن عشرة سنتيمترات ، ويعتبر المساء هو ذروة البيع لمثل تلك السلع !

دفع ثمن ما اشتراه لصاحب المطعم ، وتوجه لبائع الموز سائلا إياه : هل أكملت وزن الموز الذي طلبته منك ؟

نهض الرجل بتثاقل ووضع لفافة التبغ التي أكمل صنعها ، ووضعها على حافة العربة ، فانفلت جزء منها ولم تكن مشتعلة من مدة .. وضع الأوزان في كفة ، واقتطع بواسطة سكين صدئة خصلة من الموز الذي كان يبدو أنه في مرحلة ما بعد النضج بقليل .. وكان لونه شاحبا مغبرا ، كأنه جمع مما سقط من سيارة في صحراء ..

كان وجه بائع الموز نحاسي صارم بلاستيكي ملامحه كملامح وجوه لاعبي البوكر ، وأما لون بياض عينيه فلم يكن أبيضا لدرجة أن تفرقه عن سواد القزحية .. كان يلبس ملابس ليست لمثل هذه الأيام بل تناسب أشهر الشتاء الباردة ، وكانت ألوان ملابسه قد تحالفت مع لون بشرته ، لتجعله أحد أبطال روايات أجاثا كريستي .. فسترة جلدية سوداء شاحبة ، أكبر من قياسه بنمرتين وبلوزة ثقيلة رمادية ، وقميص أزرق قاتم ، وملابس داخلية تطل بين تلك الملابس بلون أحمر متسخ .. لعله لبسها كلها في عز الشتاء ونسي أن يبدلها .

لم يكن مقتنعا باضطرار المشتري ، لشراء بضاعته الرديئة ، وهذا زاد من صرامته وقسوة نظراته ، فقد قطع هذا المشتري تفقده لحدود زمانه ، ولعله يكون أحد ضحايا الزمان ، فقد يكون زوجا لامرأة لم تنجب ، توفت منذ مدة فباع كل ممتلكاته ، واكتفى بهذه العربة ، وقد يكون يلبس تلك الملابس لأنه يقضي ليله قرب عربته ، فيمكن أن لا يكون له بيت ، أو أنه لم يتزوج أصلا .. وقد يكون أرملا ولكن أولاده لم يطيقوه فاختار هذه المهنة ليكتفي من مضايقاتهم !

لو أردت أن تقدر عمره ، لأعطيته خمس وستين عاما ، ولكن لو تفحصت شعر رأسه الكث لما وجدت شعرة بيضاء واحدة ، فكان شعره أقرب لشعر أهل كولومبيا .. ولا يوحي وضعه أنه يعرف صبغ الرأس .. ولو قلت أنه كان سجينا أفرج عنه قبل مدة من مؤبد .. لكان ظهر على رأسه بعض الشيب !

لم ينتبه لملاحظة المشتري أن يبقي ما فضل من قطع نقدية له .. أو لعله انتبه لكنه أعاد بقية قطع النقود ..

ابن حوران 20-05-2006 05:13 AM

عاطف الحداد

تكون فرص ثبات أحد الحرفيين بمهنته ، مرهونة بمجموعة من العوامل ، فمن القدرة على إتقان عمله بمهارة ، الى بشاشة خلقته وحسن معاملته لمن يتعامل معه ، الى الصدق بمواعيد إنجاز العمل ، الى الاكتفاء بهامش ربح كريم لكنه ليس فاحش ، الى حسن نوعية المواد الخام المستعملة في صنعته ، الى حسن سلوكه إذا دخل بيوت من يتعامل معه وغض بصره ، الى صبره على مضطر في تأخير ما عليه ، الى متابعة عمله إذا ما احتاجه العميل لصيانتها ، وفوق كل ذلك حسن السوق ..

كان عاطف الحداد ، لا يحتوي من كل تلك الشمائل الطيبة إلا القيل ، فإن طلبت منه أن يصنع لك نافذة مربعة طول ضلع مربعها مترا ، فلن تجد أي ضلع من الأضلاع الأربعة بطول متر ، بل سيكون كل ضلع زائدا جزء من سنتيمتر أو ناقصا جزء من سنتيمتر ، ومع ذلك لن يتساوى أي ضلعين بالمربع ..

كان طوله يقل عن المترين بنصف شبر ، وشعره منكوثا ، ويكاد كل كتف من كتفيه أن يكون على استقامة الآخر ، ليحتضنان رأسا مائلا للأمام ، و لحية باستمرار كأنها حلقت قبل خمسة أيام ، فلم يذكر أحد أن صادفه باليوم الأول للحلاقة ، أو أنه يحلقها بأداة حلق الرأس ، فتبدو كذلك ..

كان مطاردا من عشرات الزبائن يوميا ، فكان جيرانه يسمعون كل ربع ساعة على الأقل من يصرخ ( عاطف .. عاطف ) .. أو يسمعون على الرصيف ، جدالا بين عاطف و أحد الزبائن .. كان الزبون يذكر فهرس التواريخ التي وعده عاطف لإنجاز ما طلب منه ..

أما عاطف ، والذي يطلب من زبونه التحلي بالصبر ، فإنه كان يتكلم بنبرة حادة مبحوحة كمن يتكلم من خلف ورقة ( نايلون) .. كان يشرق كلمتين من كل جملة لا تقل عن خمس كلمات ، وكان وهو يتكلم أحيانا تظهر الطبقة العليا من لحم أسنانه ، كان لا ينظر الى من يتكلم معه ، بل كان ينظر الى (لا مكان ) .. ويطالب من أحد الصناع الذين تحت إمرته أن ينفذوا له طلبا .. كان يعلم أن لا أحد يستمع من العمال لديه ، ولكنها كانت أحد طرقه لتمزيق تركيز الزبون .. فقد كان له أسلوب أشبه بأسلوب المعلقين الرياضيين ، فما أن يكون يعلق على هجمة ، حتى تراه غاص في طقس بوليفيا أو عمل شوربة العدس من ماء المطر وجودتها عن التي تعمل من ماء الحنفية ..

وبعد أن يضمن عاطف أن زبونه استوى ، ولم يعد بنفس الحماس له ، يطالبه بدفعة أو دين قديم ، فإن لم يعطه الزبون شيئا ، يضمن عاطف أنه سيحل عنه ، ويبتعد ..

وأحيانا يتجمع لديه أكثر من زبون للصراخ عليه في وقت واحد ، وكان لديه فن في استثمار هذه الحالة أفضل من الزبون المنفرد ، فكان يستعطف أحدهما ليناصره على الآخر بصفقة معنوية خبيثة ، كأن يمتدح الزبون وكيف أنه قد قصر بحقه ، وان شاء الله بعد أن أنتهي من العمل لتنفيذ طلبه ، سأقوم بإنهاء عملك مباشرة ، فيتولى الزبون الموعود بتصبير الزبون الآخر الثائر ..

كانت معظم مشاكل الزبائن تتعلق بتوفيق عمل عاطف الحداد مع حرفي آخر ، مثلا ( القصير .. المبيض ) فهؤلاء لن يستطيعوا إنجاز عملهم قبل أن ينجز عاطف عمله .. أو أن الزبون يشتكي من عدم طبق الأبواب أو سقوط أحد ظرفتي شباك ، أو انفلات لحام بعض ( المفصلات ) .. أو تكتل نقاط اللحام بحجم حبة الحمص وتحريض الصباغ للزبون على تغيير ذلك ..

لقد ظهر عاطف في أوائل الثمانينات عندما كان هناك فورة عمل ضخمة ، حيث لا يدقق الزبون في مهارة الحرفي ، بل يريد فقط من يعمل له ، فظهر بناءون ضعيفي الأداء والمهارات وظهر سباكون و صباغون و حدادون ونجارون ، كلهم تحت مستوى نقطتين من عشرة ..

وكونهم قد لمسوا حسن السوق ، فقد تجمع أكثر الصناع الذين كانوا يخدمون عند معلمين مهرة ، واستقلوا في عملهم ، و أتوا بأردأ الشغيلة ليعملوا معهم ، فكان مع عاطف ، أحد الشغيلة ، يزيد وزنه عن 150 كغم ، كان إذا صعد الى سطح قاعة تحتاج سقف من الزينكو ، فإن قمة ( الجملون ) لن تعود تظهر بشموخ .. كان مغرما بعلب ( الطون ) فان طلبته لعمل ينجز بثلاث ساعات وتم انتدابه لانجاز هذا العمل ، فبعد أن ينتهي ، ستصدف بأثره لا يقل عن عشرة علب (طون ) فارغة ..

تكونت علاقة عاطف بزبائنه بشكل متداخل ، فهم رغم معرفتهم برداءة عمله ، إلا أنهم ارتبطوا به بشكل استراتيجي ، فإما كان يأخذ منهم مقدما ، أو أن لا أحد من الحدادين يقبل أن يقوم بعمله أو يعدله .. حتى بنا بيتا وكبر أولاده وذهب أحدهم لدراسة الطب في روسيا ، وافتتح أحد ميني ماركت ، فأفلس عاطف و سجن ، وقل عمل ورشته وإذا سأل أحدهم عنه ، أجيب بأنه ذهب لزيارة ابنه في روسيا ..

خرج عاطف من السجن ، أو عاد من روسيا ، فجاءه أحدهم وكان يطلق على عاطف اسم ( مسيلمة الحداد ) .. فطلب منه أن يعمل له بوابة ، فأنجزها له بنفس الموعد ، وكانت متقنة ..

عاد صاحب البوابة في اليوم الثاني وكان طريفا ، إذ وبخ عاطف بصوت عالي جدا حتى تجمع حوله عدة أشخاص .. وعاطف يلح بالسؤال على صاحب البوابة : لماذا تصرخ علي و لماذا أنت هائج ؟ .. فيلتفت صاحب البوابة ويسأل من حوله ممن تجمعوا : أنتم .. أنتم .. ماذا تعرفون عن عاطف الحداد ؟ فأجابوا معا ( كأنهم كورال ) : إنه كاذب ..

يضحك صاحب البوابة .. ويقول لقد صدق معي .. وأنجز شغله على أحسن وجه ، فيضحك عاطف و يضحك الجميع وينصرفون ..

ابن حوران 04-06-2006 04:25 AM

مكتب تقديم الخدمات :

لا أحد يعلم كيف يخطر على بال بعض الأشخاص أن يبدأ بافتتاح عمل ما ، فقد لا يكون هذا العمل ، قد عمله والده ، وقد لا يكون هذا العمل له علاقة بدراسته الجامعية ، وقد يكون قد رآه في عمل تلفزيوني أو سينمائي ، أو فكرة تكونت لديه أثناء خدمته المختلفة عن هذا العمل الذي ابتكره ..

أبو وائل كان موظفا في بنك ، وقد يكون أنيط به عمليات تحويل فلوس الخادمات الأجنبيات ، فتكونت لديه فكرة عن طبيعة هذا اللون من الخدمات ، وقرر بعد أن تقاعد من البنك أن يفتتح مكتبا لتأمين الخادمات في البيوت لمن يطلبهن .

عندما تتشابك الأمور لدى أحد أرباب الأسر ، وتكون امرأته مريضة ، أو أمه عاجزة ، فإنه سيفكر في حل تلك المشكلة عن طريق استقدام خادمة ، إذا كان قادرا على تأمين دفع ما يترتب على تلك الرغبة ..

لقد مضى على استقدام الخادمة الإندونيسية ، عامان ، ويعني أن عليه الآن التفكير بتسفيرها ، أحضر أوراقها لمراجعة ما يساعده في إتمام عملية تسفيرها فوجد رقم هاتف المكتب الذي أحضرها في الأساس .. فاتصل بهم ، فطلبوا حضوره للمكتب ..

دخل المكتب وبعد أن حيا الموجودين ، لم يلحظ وجود أبي وائل ، فسأل عنه فأجابت سيدة تجلس على المكتب بأنه مسافر إلى جنوب شرق آسيا ..

كان يجلس بالمكتب أشخاص كثيرون ، امرأة بالخمسينات من عمرها تتحدث مع لا أحد ، فتحكي قصة قصيرة عن عدم ملائمة الخادمة التي أخذتها منذ أسبوع ، حيث أنها تنام في النهار طويلا ، ولا تقوم بعمل ، وتنفر بمن يناديها لتناول الغداء .. لم يكن حديث المرأة موجها لأحد ، فلم تركز عينيها أو وجهتها تجاه أحد الموجودين ، ولم يكن أحد يصغي باهتمام لما تقول ..

شابان يتكلمان في آن واحد ، يتكلمان عن سيدة عجوز تطلب خادمة لمؤانستها ، لم يكن بين الشابين أي شبه وراثي ، لا من حيث حجمهما ولا من حيث تقاطيع الوجهين ولا من حيث لون العيون ، كان أحدهما ضخما يبدو عليه بعض البله ، والآخر نحيف ، يتناوب معه في سرد مبررات الطلب ، ولم يكن هناك من يصغي إليهما ، كانا يتكلمان بالتناوب ووجهتهما نحو الباب خافضين نظرهما ، لارتفاع نصف متر تجاه الباب ، فكانت الشكوك توحي بأنهما يتكلما مع مخلوق لا يراه سواهما ..

السيدة التي تجلس على المكتب ، كان خداها ساحلين و شفتاها رقيقتين ، تقضم بعض البسكويت ، وتتجرع سائلا من علبة صفيح ، ودون شعورها بأي حرج من الموجودين .. كانت نموذجا لسكرتيرات هتلر التي يختارها منتجو أفلام النازية .. و يبدو أن هناك طفلا أو طفلة تجلس على الأرض وتنادي من تجلس على المكتب ، لكنها متوارية عن الجميع ، حيث يحجب رؤيتها أثاث المكتب المزدحم بالمقاعد والمراجعين ..

على الزاوية اليسرى لسيدة المكتب ، كانت تقف فتاتان واحدة في منتصف العشرينات من عمرها ، وواحدة بمنتصف عمر الأولى تقريبا ، وكانتا على ما يبدو من إندونيسيا ، الصغرى منهما كانت كمن انتهى من البكاء قبل دقيقة ، لم يكن على خديها أثر للدموع ، ولكن عيناها كانتا رطبتين ، وتنظر نحو الجميع ، بعينين حزينتين ، كعيني أرنب ، فلت من مطاردة ثعلب ، ولكنه لم يتيقن من النجاة بعد ..

كانت الكبرى من الإندونيسيتين ، تعمل كمترجمة ، فكانت تتكلم مع الصغرى بلغة غير مفهومة ، وقد تكون مهمتها شاقة أكثر من مهمة معلقي مباريات كرة القدم ، حيث أن كل من في المكتب كان يتكلم في نفس الوقت ..

كانت السيدة التي وراء المكتب ، لها قدرة عجيبة على فهم كل ما يجري ، ففي حين تسكت الطفل الذي يناديها من أسفل مكتبها ، وتقضم البسكويت و تشرب البيبسي و ترد على التلفون ، وتشير بطلب الأوراق لتسفير الخادمة ، وتطمئن الشابين أن قضيتهما سهلة ، وتنظر للإندونيسية التي فرغت من البكاء قبل قليل ، وتقول للشابين ها هي الفتاة ، قد تكون لم تتوفق في خدمة السيدة التي ضجرت من طول نومها ، لكنها ستفيدكما ، فما عليكما إلا أن تدفعا 1500 دولار للسيدة ، وتأخذا الفتاة فورا ..

وتلتفت الى من أراد تسفير خادمته ، وتقول : أهلا أستاذ ، نحن نقوم بكل شيء ، وسيكلفك هذا 300 دولار .. فوافق و أخرج دفتر الشيكات ، وسألها باسم من أكتب الشيك ، فأجابت : باسم منى محمد الدغير ، فاستفسر : هل أكتب آنسة أم سيدة ، ولم يكن يعلم من هي المقصودة .. فابتسمت ابتسامة حمقاء قائلة : وهل تراني آنسة يا أستاذ ؟ و أنا قد رزقت بفريق كرة قدم مع احتياطهم ؟ ضحك لتساؤلها الغبي وأعطاها الشيك وخرج ..

ابن حوران 17-06-2006 03:24 AM

مخمن الضريبة ( موسى ) :

ينشغل من يصطف في طابور للانتظار ، في النظر الى من هو أمامه ، فيحفظ طوله ، و ألوان ثوبه ، وعمر حلاقة رأسه ، وان طالت فترة المكوث بالطابور ، فإن طريقة التنفس ستكون معروفة ، هل النفس طويل أو به بحة ، أو أنه نفس متعب ؟

لكن تكون مهمة من يصطف بالطابور ، بالإضافة للانتظار ، مراقبة من يغادر الطابور عائدا ، فمعرفة ذلك تعطي حالة من الطمأنة لمن يقف بالطابور ، بأن وصول دوره قد اقترب ، بما يعادل فترة (شخص مصطف ) .. وهو التوقيت الذي يستخدم في الطوابير .. بعكس طوابير الخبز في المخابز الشعبية ، حيث يكون الرغيف هو وحدة الوقت ، بدل الثانية و الدقيقة ..

إن من يصطف بالخلف ، لا يكون مهما ولا يتم تركيز الإهتمام بتفاصيل ما يقوم به ، وإن حاول تخطي من أمامه ، فإن ثورة ستقوم لإعادته الى مكانه .

في الوظائف الحكومية ، تتشابه العلاقة بين الموظفين في سلم الوظائف ، مع علاقة من يصطف بالطابور ، فالموظف الذي في المقدمة ، يكون محل اهتمام وتركيز من يليه ، حتى يصل أسفل السلم الوظيفي .. لكن لا يهتم موظفو المقدمة بمن يتبعهم ، إلا في إعاقتهم عن احتلال مواقعهم واستغلالهم في أسوأ وجه ..

عندما يكون موظف المقدمة مستقيما وفاضلا ، فإن معايير الفضيلة ، ستسود الطابور الذي يليه ، فلذلك تقاس قوة الحضارات وازدهارها بقوة فضيلة حكامها ، وبالعكس عندما يكون من في رأس الطابور فاسدا ، فإن الفساد سيعم كامل الطابور .. تماما ، كما تفعل ( الأوكسينات) في أغصان الأشجار ، فأعلى برعم بالغصن سيزهر ، و يعطي إشارة للبراعم التي دونه أن تزهر ..

عندما يرى الموظف الثاني في الجمارك ، أن مديره قد ارتشى بسيارة موديل سنتها فإنه يتكيف مع هذا الوضع ، ليحصل على رشوة تتناسب مع مكانته الوظيفية ، محترما وضعه بين الأوضاع الوظيفية ، حتى تنتهي السلسلة بأقل موظفي الجمارك شأنا الذي يكتفي بعلبة ( سجائر ) ..

بالمقابل ، إن المواطنين الذين يفهموا شيئا عما يحصل ، عند هذا النوع من الموظفين ، فإنهم يجيزون لأنفسهم أن يقدموا الرشوة ، ويسمونها هدية ، أو يلقوا لها تبريرا يعتبرونه مخرجا ( فقهيا ـ فتوى ) .. للقيام بعملهم ، فهم يرغبون في تخفيض نسبة الضرائب عليهم ، أو إدخال بعض بضائعهم دون جمرك أو بجمرك قليل .. كما يعطون لأنفسهم مبررا لسرقة مياه الإسالة الحكومية أو الكهرباء إن استطاعوا الى ذلك سبيلا ..

وإن سألتهم لما تفعلون ذلك ؟ وفي بلاد الغرب ، تفضح الجرائد من يتهرب من دفع الضرائب وتسقطه في الانتخابات لأنه قام بعمل خائن .. فيجيبونك : إنهم في الغرب يتصرفون بأموال الضرائب بعدل ، فلا يقدمون بعثة لطالب قد حصل على معدل منحط ، ويتركون الطلاب المتفوقين يتصارعون مع بؤسهم ، إنهم يعالجون الناس وفق قانون يحترمونه .. أما نحن ، فهل ترى أن الأمور لدينا تسير حسب الأصول لدينا ؟؟

موظفو الضرائب ، يحتكمون الى قواعد وضعت لتحصيل الضرائب ، وفق عمليات حسابية ، كذا ناقص كذا يساوي كذا .. و غالبا ما يستندوا الى ظنونهم وتخمينهم ، فلذلك سمي أحدهم ( مخمن ) .

هناك من لو ربح مليونا في اليوم ، لا يظهر عليه أنه ليس فقيرا ، وهناك من لو لم يربح إلا القليل ، لبانت عليه النعمة ، وقاده سلوكه الى أن يكون فريسة المخمنين .. فلو ركب سيارة حديثة ، أو قام بوليمة كبرى دفعته عقده لعملها ، فلا يطول الوقت حتى يزوره المخمنون و يدخلوه في مسلسلاتهم ..

عند مستخدمي الكمبيوتر المبتدئين ، قد يتلف أحدهم جهازه ، نتيجة للإجابات الخاطئة التي يجيبها عن رسائل تظهر له على الشاشة ، فيقول نعم .. نعم .. وما هي إلا لحظات حتى يفقد محتويات جهازه .. وتبدأ رحلة عذابه ..

دخل موسى مخمن الضريبة ، فبان على وجه فالح الارتباك ، فبعد أن رد تحية موسى ، أجابه بصدق عن كل أسئلته ، ولم يكن فالح قد سألها لنفسه سابقا ، أو لم يكن يتدرب لإخراج صدقه بصورة صادقة ، فاختلطت أمانيه بما يجب أن يكون عليه ، مع واقعه الذي لم يكن باستطاعته وصفه وصفا دقيقا ، لا بلغة الحسابات و لا بلغة الأدب ..

قام فالح بجولة مع موسى ، فقطف له بعض ثمار الكمثرى ، و أحضر له بعض البيض ( البلدي ) .. فاعتذر موسى عن أخذها .. لكن فالح أصر أن يأخذها ، قائلا له أنت ضيفي ، وعملك شيء و ضيافتك شيء آخر .. كان يدور بخلده أنه إذا أبدى قدرا من الود تجاه هذا الموظف فإنه قد يكون رحيما ورفيقا معه في تخمين ما يستوجب دفعه كضريبة ..


يسمع أحدنا أن فلانا قد جمع ثروته من التهريب ، وما أن ينجر أحدنا لتلك المهنة ( التهريب) إلا و أن يمسك من أولها ، ويخسر كل شيء جمعه في حياته ، فالخروج من مطبات التهريب و الضريبة و الرشوة وغيرها ، له فقهه وله فقهائه .. وليس بإمكان أي إنسان أن يقتحم تلك الحقول ، لمجرد أنه رغب بذلك ، فكما يقول المثل اللبناني ( مثل ما الفارة ليها البيسي .. القضايا ليها المحامي )

ما هي إلا أسابيع ، حتى تلقى فالح إشعارا من ضريبة الدخل يطلب منه تسديد مبالغ وصلت الى أكثر من نصف رأسماله !

ابن حوران 25-06-2006 06:49 AM

سالم .. رئيس البلدية ..

إدارة البلديات و المدن ، تقليد قديم ، وجد في أيام (حمورابي) و أشارت شرائع حمورابي في الكثير من موادها الى صلاحيات مجلس المدينة ، وفي اليمن القديم ، كانت (المزاود ) وهي مجالس كانت تنتخب من أرباب الحرف ، وممثلي القبائل ، وممثلي دور العبادة ، وممثلي التجار الخ .. وكانوا من بينهم ينتخبون حاكم المدينة ( الدولة ) .. ومن يراجع تاريخ دول ( قتبان ، وكمنهو ) يجد المثال واضحا ..

وفيما بعد ظهرت مجالس المدن ، في أثينا و إسبارطة وروما .. حتى صار مجلس المدينة ، تناط به التشريعات التي تحفظ القيم التي يعتد بها عقلاء المدينة وتنظم التعاملات فيما بين السكان ..

في العصر الحديث ، لا تجيز القوانين اليابانية ، أن يتقدم أحد للترشيح في انتخابات البرلمان ، ما لم يكن قد نجح في انتخابات لا تقل عن خمسة ، في منظمات المجتمع المدني ، من جمعيات ونقابات ، على أن يكون أحد المرات عضوية مجلس المدينة .. كما يعتبر عمدة أي مدينة في الدول المتقدمة ، شخصية اعتبارية وتنفيذية في كثير من الأحيان ، لها أهميتها التي لا يتم تجاوزها بسهولة ، حتى من رأس الدولة ..

في بلادنا العربية ، تعتبر البلديات مجالا ( لتوكيد الذات الجماعية ) عند الناس الذين ينتخبون أعضاء المجالس البلدية ، وتعتبر مخزن للرأي العام ، يرفع برقيات التأييد للحكام ، من وجهة نظر الحكومات العربية ..

لغياب التنظيمات السياسية ، أو لضعف فعاليتها الجماهيرية في بلادنا ، فإن الانتخابات البلدية ، تتم وفق قواعد فهمها الجميع ، وهي خليط بين العشائرية والقدرة المالية و رضا أجهزة الأمن عن المرشحين ، وعدم خطورتهم وفق مساطر التقييم العام لنظرة تلك الأجهزة .. ونادرا ما يتم انتخاب أعضاء مجلس بلدي وفق برنامجه الانتخابي ، أو على ضوء قدرة المرشحين لخدمة المدينة .

كان سالم عسكري متقاعد ، له ابتسامة دائمة ، يضع (ثنية ذهبية ) .. تعطي لابتسامته بعدا يوحي بعدم عدوانيته ، وخطورته ، وتحسس من ينظر إليه بأنه مكانا للثقة و التفاني في الخدمة .. كان رياضيا سابقا ، لا يدخن ، قليل الكلام ، يروي نكتة كل أسبوعين أو ثلاثة ، ويضحك لنكتة غيره ، ويعيدها في كل المناسبات التي يحضر فيها من رواها ، فيحسسه بعلاقة حميمية ..

خاض الانتخابات مع تسعة من المرشحين ، تم انتقائهم بعناية شديدة ، وفق أصول لعبة الصوت التي تضمن لتلك ( الكتلة ) النجاح .. وفعلا ، نجحت الكتلة فيما عدا واحد ، لم يسعفه الحظ لعصبية أقاربه ، و وجود بعض الملاحظات على سلوكه ، ولوجود مرشح قوي في الكتلة المنافسة ، والذي حاز أعلى الأصوات ، حتى تلك التي كانت للتسعة أعضاء الكتلة الناجحة ، وكون الأعراف تعطي للكتلة التي نجح منها عدد أكبر أن تختار الرئيس من بين أعضائها ، تم اختيار (سالم) ليكون رئيسا للبلدية ، وقد كان ذلك متفقا عليه قبل المعركة الانتخابية ..

كان خليط الأعضاء فيه من الغرابة الشيء الذي لا يجعل منهم فريقا متجانسا ، فكان من بينهم شيخ في الثمانين من عمره ، وكان هناك محامي ومهندس و مدير سجن سابق ، و مدير تموين سابق من جماعة دينية ، ورئيس للجنة نقابية عمالية ، وموظف بلدية متقاعد ، ومدرس للغة الإنجليزية متقاعد ، وللأعراف المتبعة ، تم إضافة عضوين من الكتلة التي لم ينجح منها سوى عضو .. فأصبح المجلس البلدي اثنا عشر عضوا ..

أخذ الأعضاء التسعة الذين منهم الرئيس ، عهدا على أنفسهم ألا يعودوا لترشيح أنفسهم مرة أخرى ، وحلفوا على القرآن بذلك .. لكي يكون أداء عملهم لا يتأثر بمؤثرات لعبة الصوت ، ليرتبوا أدائهم وفق رغبتهم بالعودة !

كان التسعة يجتمعون كل ليلة في بيت أحدهم ، من أجل وضع خططا لجعل أدائهم يختلف نوعيا عن أداء من سبقهم ، فوضعوا خطة تنسق مع مديرية التربية ، لحل مشاكل التسرب من المدارس ، ووضعوا خطة تنسق مع البنوك والجامعات وغرفة التجارة لنشر ( التقنية ) في عمل أسبوعا (كرنفاليا) يتم فيه تكريم المبدعين من الحرفيين ، وربط ذلك بندوات ترفع من شأن المشاريع الصغيرة و المتوسطة ، يحاضر بها أساتذة الجامعات .. ووضعوا مجموعة من الخطط لنقل قلب المدينة الى الأطراف ، ووضع الأسواق المتخصصة الخ .

كان ثلاثة من الأعضاء ، يعرفون أهمية جدول أعمال (الجلسة ) .. فيكتب بدعوة الجلسة ، النقاط التي يتوجب بحثها في الاجتماع ، وكان هؤلاء الثلاثة لا يتكلم أحدهم إلا إذا سمح له الرئيس ، وإن غاب فإنهم يطلبوا الإذن من نائبه ، ومع ذلك لم تتوقف الفوضى في الكلام إلا بعد مرور تسعة أشهر .. فقد كان الكلام يأتي من الشيخ حول تأخر سيارة نقل النفايات ، أو يأتي من آخر حول تعطل مصابيح الإضاءة في الشارع الفلاني .. وكان كل ذلك يتم وهم يناقشون نقطة لترخيص بناء لمواطن !

كان سالم فرحا في النمط الجديد الذي كان يقوده ، وتهمس بأذنه جهات معينة أن هذا المجلس من خيرة المجالس البلدية في البلاد ..

لكن ذلك لم يطول كثيرا .. فطرح أحد الأعضاء ، فكرة منع شركة (الكوكاكولا) بدخول المدينة ، لأنها شركة صهيونية ، ولم تكن في حينها قد تمت أي اتفاقية صلح مع الصهاينة .. تكهرب الجو ، عندما طرحت تلك الفكرة ، لظن الكثير بخطورة مثل هذا الطرح .. فابتسم سالم لمن طرح تلك الفكرة قائلا : كيف حالك؟

لم يدم الوقت طويلا ، فقد دفعت شركة كوكاكولا ، ما يعادل عشرة دولارات عن كل متر مربع من ( القارمات ) الخاصة بها .. وحلت بعدها بأسبوعين كل البلديات .. وعاد سالم لترشيح نفسه ، في حين لم يرشح أحد من زملاءه نفسه للانتخابات البلدية ، والتي لم يقضوا فيها أكثر من واحد وعشرين شهرا ..

ابن حوران 04-07-2006 05:21 AM

سعادة النائب أبو فايز

النائب مذكر للنائبة .. والنائبة هي المصيبة .. ولكن ليس بالضرورة أن يكون مذكر مصيبة مصيب ، بل يبقى مصيبة في معظم بلادنا العربية ..

عندما وضع (مونتسكيو ) وثيقته المشهورة قبل أكثر من قرنين ونصف ، بأنه لا يجوز القتل إلا بقانون و لا يجوز استملاك أموال الغير ، إلا بقانون ، ولا يجوز سن قانون إلا بحضور ممثلي الشعب . من هناك انطلقت فكرة الديمقراطية الحديثة .. ومن هناك تم تطوير فكرة الانتخابات الحديثة .. ووضعت لها التشريعات وفق دساتير و قوانين تنظم عملية الانتخابات ..

يكون النائب نائبا عن الشعب إذا كان يمثل إرادة الشعب ، ولن تكون للشعب إرادة إلا أن يكون له ممثليات قائمة تتصل بالنائب بعد الانتهاء من وصوله (توصيله ) الى البرلمان ، لكي تجسد تلك الصلة العضوية به ، فلو كان النائب قد حصل على عشرة آلاف صوت ، فلا يعقل أن يعود في كل مرة يتخذ بها موقفا تجاه ما يطرح في البرلمان الى العشرة آلاف ناخب ، يسألهم عن موقفهم ، فيقوم بإجراء فرز لآرائهم ، حتى يحدد موقفه ..

لذا كانت التجارب الديمقراطية المتقدمة في العالم ، تربط الانتخابات بنظام متكامل ، وهو نظام تكوين مؤسسات المجتمع المدني ، فعندما تكون هناك مسألة وطنية ، يكثر الخلاف حولها ، يعود النائب الى مؤسسته التي انطلق منها ، والعودة هنا لا تكون الى الناخبين بل الى قياداتهم التي وقفت وراء الناخب ، فيكون الرأي هو رأي تلك القيادات ..

ثم لو كان النائب طبيبا ، فإنه سيناقش بكفاءة ما سيطرح في البرلمان حول قضايا الصحة ، لكنه سيكون غير مؤهل لمناقشة ما سيطرح من مشاكل زراعية ، ولا ما سيطرح من مشاكل المرأة وغيرها .. فلذلك يكون المتخصصون من مساعدي النائب و الذين يشكلوا قيادة المؤسسة الاجتماعية التي انطلق منها ، هم من يناقش بإسهاب ما هو مطروح في البرلمان ، ويقاربوه مع رؤى مؤسستهم في تلك المسألة ، ويبلغوا النائب خلاصة موقف تلك المؤسسة .

أبو فايز ، كان معلما متقاعدا ، ليس له بالسياسة ولا بالاقتصاد ، ولم يرأس يوما من الأيام أسرة صف مدرسي .. كان إنسانا مغمورا ، يميل للعزلة ، يميل للبخل ، لدرجة أنه لم يتسامح عن كسر (غماز ) سيارته الأوبل (موديل ال 1974) .. وبقي يصرخ حتى وصلت الشرطة ، وأقنعت من كسر الغماز أن يدفع له ما قيمته (عشر دولارات ) .. كان ذلك قبل أن يعتمد كمرشح عشائري بيومين فقط !

لقد اعتمده مجموعة من الرجال الماكرين ، كمخرج لخلافاتهم في تسمية مرشح متفق عليه من جميع الأطراف .. وكانوا يراهنوا أن يقوم أبو فايز بأي لحظة بالتنازل عن تلك المهمة لأي من الطرفين المتذاكيين ، وقد عملا لذلك ، لكن نجح أبو فايز ، دون أن يخسر فلسا واحدا في حملته الانتخابية ، لا بل طالب بعض المتبرعين في دعمه بتسديد ما عليهم بعد ظهور النتائج ، لعمل وليمة لمحبيه و أنصاره !

لقد بهر أبو فايز ، بأجواء الولائم ، و اتصال رجال ذوي أهمية استثنائية به في التنسيق لحملات انتخاب رئيس لمجلس النواب ، أو لمنح الثقة بالحكومة ، أو لتمرير قانون ما . وكان عندما يعود من نشاطاته المفاجئة ، يسرد من التقى بحضرتهم من هؤلاء ، دون ذكر شيء عن القوانين أو المواقف ، فقد كانت المسألة الأهم أنه قد جلس في حضرة فلان الوزير المعروف أو رئيس الوزراء .


كانت طلباته ثمنا لمواقفه ، لا تزيد عن طلبات ذاك المعدم الذي سأله صاحبه ذات يوم لو أنك تحصل على مليون دينار ، ماذا ستفعل ؟ ، فأجاب : أشتري رطلا من اللحم .

لقد اكتشفت الجهات التي تراقب نشاط النواب خصائص كل نائب ، خلال أسبوعين ، وإن كانت تعلم عن تلك الخصائص منذ اليوم الأول لاعتمادهم كمرشحين ، فتفننت في ربطهم بها من خلال تلبية طلباتهم الساذجة ، بالإفراج عن اثنين من أقارب الناخب قد تشاجرا في حفل عرس ، أو عن مهرب ل(كلوز سجائر ) .. أو تعيين فراش في مدرسة في أحسن الأحوال ..

لقد انقضت سني برلمان أبو فايز ، وقد حصل فيها على أنه كان في الخصومات ، قد حظي بوضع فنجان القهوة أمامه في فض الخصومات ، أو خطبة العرائس . كما حظي بزيارة بعض الدول ، و نال بعض الهدايا التي كتب عليها اسم حاكم الدولة التي زارها أبو فايز ، كما حظي بخط للحافلات تم صرفه له كجزء من أعطيات تمنح في المناسبات !

لكنه لم يحظ باحترام حقيقي من لدن من حوله ، فلم يستطع أحد أن يتذكر مداخلة واحدة لأبي فايز ، داخل مجلس النواب الذي كانت جلساته تبث على الهواء الطلق !

وعندما تنادى الناس لاختيار مرشح للانتخابات التالية ، حضر أبو فايز مع بعض أقاربه ، دون أن ينبس ببنت شفة تدل على رغبته في المنافسة مع المتنافسين ، لكنه ترك تلك المهمة لأحد أقاربه ، الذي ما أن أبدى رأيه في ترشيح أبي فايز .. حتى رد عليه أحد المسنين بالقول : ( إبن الخوثة ما يصير مرياع )
والخوثة هي الهبلة من النعاج و المرياع هو الكبش الذي يقود القطيع .

ابن حوران 04-07-2006 05:25 AM

سعادة النائب أبو فايز

النائب مذكر للنائبة .. والنائبة هي المصيبة .. ولكن ليس بالضرورة أن يكون مذكر مصيبة مصيب ، بل يبقى مصيبة في معظم بلادنا العربية ..

عندما وضع (مونتسكيو ) وثيقته المشهورة قبل أكثر من قرنين ونصف ، بأنه لا يجوز القتل إلا بقانون و لا يجوز استملاك أموال الغير ، إلا بقانون ، ولا يجوز سن قانون إلا بحضور ممثلي الشعب . من هناك انطلقت فكرة الديمقراطية الحديثة .. ومن هناك تم تطوير فكرة الانتخابات الحديثة .. ووضعت لها التشريعات وفق دساتير و قوانين تنظم عملية الانتخابات ..

يكون النائب نائبا عن الشعب إذا كان يمثل إرادة الشعب ، ولن تكون للشعب إرادة إلا أن يكون له ممثليات قائمة تتصل بالنائب بعد الانتهاء من وصوله (توصيله ) الى البرلمان ، لكي تجسد تلك الصلة العضوية به ، فلو كان النائب قد حصل على عشرة آلاف صوت ، فلا يعقل أن يعود في كل مرة يتخذ بها موقفا تجاه ما يطرح في البرلمان الى العشرة آلاف ناخب ، يسألهم عن موقفهم ، فيقوم بإجراء فرز لآرائهم ، حتى يحدد موقفه ..

لذا كانت التجارب الديمقراطية المتقدمة في العالم ، تربط الانتخابات بنظام متكامل ، وهو نظام تكوين مؤسسات المجتمع المدني ، فعندما تكون هناك مسألة وطنية ، يكثر الخلاف حولها ، يعود النائب الى مؤسسته التي انطلق منها ، والعودة هنا لا تكون الى الناخبين بل الى قياداتهم التي وقفت وراء الناخب ، فيكون الرأي هو رأي تلك القيادات ..

ثم لو كان النائب طبيبا ، فإنه سيناقش بكفاءة ما سيطرح في البرلمان حول قضايا الصحة ، لكنه سيكون غير مؤهل لمناقشة ما سيطرح من مشاكل زراعية ، ولا ما سيطرح من مشاكل المرأة وغيرها .. فلذلك يكون المتخصصون من مساعدي النائب و الذين يشكلوا قيادة المؤسسة الاجتماعية التي انطلق منها ، هم من يناقش بإسهاب ما هو مطروح في البرلمان ، ويقاربوه مع رؤى مؤسستهم في تلك المسألة ، ويبلغوا النائب خلاصة موقف تلك المؤسسة .

أبو فايز ، كان معلما متقاعدا ، ليس له بالسياسة ولا بالاقتصاد ، ولم يرأس يوما من الأيام أسرة صف مدرسي .. كان إنسانا مغمورا ، يميل للعزلة ، يميل للبخل ، لدرجة أنه لم يتسامح عن كسر (غماز ) سيارته الأوبل (موديل ال 1974) .. وبقي يصرخ حتى وصلت الشرطة ، وأقنعت من كسر الغماز أن يدفع له ما قيمته (عشر دولارات ) .. كان ذلك قبل أن يعتمد كمرشح عشائري بيومين فقط !

لقد اعتمده مجموعة من الرجال الماكرين ، كمخرج لخلافاتهم في تسمية مرشح متفق عليه من جميع الأطراف .. وكانوا يراهنوا أن يقوم أبو فايز بأي لحظة بالتنازل عن تلك المهمة لأي من الطرفين المتذاكيين ، وقد عملا لذلك ، لكن نجح أبو فايز ، دون أن يخسر فلسا واحدا في حملته الانتخابية ، لا بل طالب بعض المتبرعين في دعمه بتسديد ما عليهم بعد ظهور النتائج ، لعمل وليمة لمحبيه و أنصاره !

لقد بهر أبو فايز ، بأجواء الولائم ، و اتصال رجال ذوي أهمية استثنائية به في التنسيق لحملات انتخاب رئيس لمجلس النواب ، أو لمنح الثقة بالحكومة ، أو لتمرير قانون ما . وكان عندما يعود من نشاطاته المفاجئة ، يسرد من التقى بحضرتهم من هؤلاء ، دون ذكر شيء عن القوانين أو المواقف ، فقد كانت المسألة الأهم أنه قد جلس في حضرة فلان الوزير المعروف أو رئيس الوزراء .


كانت طلباته ثمنا لمواقفه ، لا تزيد عن طلبات ذاك المعدم الذي سأله صاحبه ذات يوم لو أنك تحصل على مليون دينار ، ماذا ستفعل ؟ ، فأجاب : أشتري رطلا من اللحم .

لقد اكتشفت الجهات التي تراقب نشاط النواب خصائص كل نائب ، خلال أسبوعين ، وإن كانت تعلم عن تلك الخصائص منذ اليوم الأول لاعتمادهم كمرشحين ، فتفننت في ربطهم بها من خلال تلبية طلباتهم الساذجة ، بالإفراج عن اثنين من أقارب الناخب قد تشاجرا في حفل عرس ، أو عن مهرب ل(كلوز سجائر ) .. أو تعيين فراش في مدرسة في أحسن الأحوال ..

لقد انقضت سني برلمان أبو فايز ، وقد حصل فيها على أنه كان في الخصومات ، قد حظي بوضع فنجان القهوة أمامه في فض الخصومات ، أو خطبة العرائس . كما حظي بزيارة بعض الدول ، و نال بعض الهدايا التي كتب عليها اسم حاكم الدولة التي زارها أبو فايز ، كما أن الصفير الذي كان يرافق لفظ السين قد اختفى ، كما حظي بخط للحافلات تم صرفه له كجزء من أعطيات تمنح في المناسبات !

لكنه لم يحظ باحترام حقيقي من لدن من حوله ، فلم يستطع أحد أن يتذكر مداخلة واحدة لأبي فايز ، داخل مجلس النواب الذي كانت جلساته تبث على الهواء الطلق !

وعندما تنادى الناس لاختيار مرشح للانتخابات التالية ، حضر أبو فايز مع بعض أقاربه ، دون أن ينبس ببنت شفة تدل على رغبته في المنافسة مع المتنافسين ، لكنه ترك تلك المهمة لأحد أقاربه ، الذي ما أن أبدى رأيه في ترشيح أبي فايز .. حتى رد عليه أحد المسنين بالقول : ( إبن الخوثة ما يصير مرياع )
والخوثة هي الهبلة من النعاج و المرياع هو الكبش الذي يقود القطيع .

ابن حوران 26-07-2006 05:08 AM

معالي الوزير علي

هل تحسن القول بأن قوة علاقات الدولة و مكانتها العالمية تعود لحكمة وحنكة فخامة رئيس الجمهورية ؟

هل تحسن القول بأن اقتصادنا ينمو باطراد و صعود ، وأن بلادنا من أقل بلاد العالم فقرا ؟

هل تحسن القول بأن بلادنا تشكل واحة أمن فريدة ، وأن أعين أجهزتنا الأمنية بالمرصاد لكل من تسول له نفسه العبث بأمن الوطن والمواطن ؟

إن كنت تحسن ذلك أو مثله ، وإذا كنت على قدر من التفاني في تقديم جواب ، عن أخبار أهلك و محيطك بما يرضي رجلا (مهما عند الدولة) من جواب ، و إن كنت ممن يتواجد في الاحتفالات التي يخطط لها مليا ، لتكون احتفالات ، وإن كنت ممن كان لهم ماض معارض ، فصرت تعلن توبتك بمناسبة و دون مناسبة ، وإن كنت ممن يرفع البرقيات على صفحات الجرائد ، وإن كنت صاحب أثر في محيطك أو توهم الآخرين بأنك كذلك .. فتوقع أن تكون أحد أعضاء وزارة في يوم ما .

في البلاد العربية ، لا تحل مشاكل الوزارات بوزراء قديرين ، بل تحل مشاكل الوزراء غير القديرين بوزارات .. وطبعا لن يكون اسم أحدهم وزير قبل توليه الوزارة ، بل كان رجلا ولكن ليس ككل الرجال !

تكاد أنظمة الحكم أن تكون بحكم المتأكدة أو المتيقنة ، بأن الوزراء الذين يتم اختيارهم ، سيكونون أكثر طاعة وهم داخل الحكومة منهم وهم خارجها ، وهو أسلوب قديم ظهر منذ عهد العباسيين في استرضاء الخصوم لاتقاء شرورهم . وقد اكتشف المستوزرون هذا الأسلوب ، فيكونوا نارا على الحكم وهم خارجه ، وبردا وسلاما على الحكم وهم في داخله ونارا على خصوم الحكم ..

يكفي أن يكتب أحدهم عدة مقالات ينتقد فيها الحكم ، ويضحي بجلسات للمسائلة من قبل أشخاص رفيعي المستوى من أجهزة الأمن ، ويكون يستند على قوة مضللة للحكم ، قد تلقى الحكومات فيها كتلة شعبية أو حزبية مقلقة ، فما أن يتم تعديل آراء المعارض العتيد ، حتى يستسهل حضور سهرات الصالونات السياسية ، وتصبح معظم مساهماته داخل تلك السهرات ، عبارة عن تندر بماضيه السياسي ، وقد يتعمد لذكر قصة أو أكثر في كل سهرة ، تبين إعجابه بفطنة الحاكم ومن حوله ، ويسردها بطريقة ذكية حتى لا يوصف بالابتذال ، ويكون هناك من يرقب هذا التحول النوعي عند تلك الشخصية ( المحيرة) .. ولا يطول الوقت حتى يعتبر من في الحكم أن تكليف هذا الشخص بحقيبة وزارية لا يخلو من حكمة مليئة بالمكاسب !

كان الناس ينظرون الى الأستاذ علي نظرة مليئة بالإعجاب و الحيرة في آن واحد ، وكان هو يتعمد أن يجعلهم في حيرة مستمرة ، فكان يوحي لهم بأنه على علم بأدق التفاصيل لدى الدولة ، ولكنه لا يسهب في ذكر أي منها ، بل ينتقل الى مواضيع عدة ، فيلاطف هذا و ينتقل بأسلوب رشيق الى ما قبل ثلاثين عاما مستشهدا بأحد كبار السن الجالسين ، فيضحك ذلك المسن للحظوة التي نالها ، ويبتسم أبناؤه فرحا بأن أباهم على صلة بالأستاذ ، ثم يتذكر أحد الجالسين أنه أهمل من قبل الأستاذ علي ، فيبادر بصوت قوي يدعوه للغداء هو ومن يحب في أقرب فرصة ، فيجد الأستاذ بهذا الاهتمام والتنوع ممن حوله ، ملاذا للإبقاء على غموض شخصيته ..

عندما تم إعلان التشكيل الوزاري ، وظهر اسم الأستاذ علي بين الأسماء ، هب محبوه بالتحرك الى العاصمة لتقديم التهاني و التبريكات ، ومع ذلك كان الأستاذ يحسس المهنئين بأنه قد فضل عليهم في استقبالهم ببيته ، وكان أهل بلدته يحسون بحرج شديد ، إذا دخل البيت رجال لم يشاهدوهم إلا في التلفزيون أو يسمعوا عنهم بالإذاعة و يقرءوا عنهم بالصحف .. فكانوا يهمون بالرحيل لتخفيف الحرج عنه ، لكنه كان يومئ لهم بالبقاء ، لقد كان ماكرا بما فيه الكفاية ، يريد أن يبلغ رجال الدولة بأنه رجل مؤثر جماهيريا ، ويريد أن يبلغ أهله أنه رجل مهم على صعيد الدولة ، وها هم رجالها يتقاطرون لمجاملته ..

لم تطل متعة الأستاذ علي كثيرا ، رغم أنه بقي في الوزارة عدة سنوات ، فلم يسمع أحد ببلدته أنه قدم خدمة لأحد منهم سوى حالتين ، فقد كان يغزوه في الشهور الأولى يوميا رجال ذو أهمية اجتماعية يطلبون تعيين أحد أو ترقية مدير أو إخراج أحد من ( الحبس ) .. ثم أغلق الأبواب أمام الزوار ، ولم يرد أن تهتز صورته أمام الحكومة بزهده في طلب الخصوصيات ..

كان المواطنون يتساءلون : كيف إذا أردنا أن نقابل مديرا عاما ، نقضي شهورا ولن نفلح ، وفي نفس الوقت ، كان من السهل أن يتجمع ثمانية وزراء أو أكثر على ( عزومة ) في قرية نائية ؟

قلت مشاركات الأستاذ علي في المناسبات الاجتماعية في بلدته ، واقتصرت على وقوفه القليل من الوقت في مآتم ذويه ، ولم يعد استخدامه لبعض المفردات الإنجليزية في حديثه ، أو رش نفسه بعطر كان يشتهر به سابقا .. لم يعد ذلك مؤثرا في نفوس المواطنين الذين تكونت لدى معظمهم قصص لا تترك أثرا للود بينهم و بين الأستاذ ..

عندما تم تغيير الوزارة ، ولم يكن هو ضمن التشكيل ، اكتشف أن تصنيفه بين الناس أصبح من الصعوبة بمكان ، فلا هو ممن اكتفى ماليا حتى يكون لكراهية الناس له ثمنا ما ، فاضطر لبيع بيته ، ولا هو ممن أبقى على علاقاته القديمة التي كانت توفر له بعض قرارة النفس !

ابن حوران 08-08-2006 06:25 AM

عطوفة المدير العام عبد العزيز

إذا كان نحت شرعية أنظمة الحكم في البلاد العربية ، يتم من خلال بناء الهالة الأولى المحيطة بنظام الحكم ، فإن أفراد تلك الهالة سيكونون معنيين في اختيار أفراد الهالة الثانية ، ليستمدوا منها مبررات بقائهم بالهالة الأولى ، ولتكون تلك الهالة مصنعا لإمداد الهالة الأولى بالأفراد ..

ليس هناك الكثير ما يطلب من المدراء العامين ، في بلادنا ، فمن يعينهم يعلم أنه قطع إقطاعية و منحها لمن يستحقها حسب مسطرة الحاكم ، ولا يستحقها حسب مسطرة المصلحة العامة ، التي نسمع بها ولا نراها .


ينشغل المدير العام المعين بمرسوم عالي ، في أول أيامه في استقبال المهنئين ، وتغيير ديكور مكتبه وسيارته الخاصة ، ثم يلتقي برؤساء الدوائر الفرعية التي تتبع لإدارته ، ويتكلم معهم بكلام ، حفظوه عن ظهر قلب ، محشوا بكلمات مثل المصلحة العامة والتفاني بالعمل ، وعدم مساواة المبدع بالمهمل ، ومقارنات مع حضارات العالم القائمة ، ويذكر لهم ما رآه في فرنسا أو اليابان أو يسرد لهم إبداعاته في دوائر أخرى قبل أن يحل عليهم منقذا ..

يهز الجميع رؤوسهم ، ولا ينسوا أن يرفقوا هز رؤوسهم بابتسامة توحي للمدير العام ، بأنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر قدومه كمنقذ ، ورغم معرفة المدير العام بأنهم يكذبون ، فإنه يعتبر هذا النفاق عبارة عن دفقات من التبجيل و التوقير يستحقها عن جدارة .. ورغم معرفة هازي الرؤوس ـ أنفسهم ـ بأنهم يكذبون ، إلا أنهم يصرون على ألا يخطئوا بأي حركة !

لا يتذكر الناس أشخاصا اعتياديين ، يتواجدون بينهم بشكل طبيعي ، إنما يتذكرون أشخاصا مخترعين أو قادة أشاوس ، أو أشخاصا يسمع عنهم الناس ولكن لا يروهم ..

وبما أن معشر المدراء العامون في بلادنا ، ليس من النوع المخترع ، ولا من النوع القائد الفذ ، فإنهم يبتكرون طرقا للتخفي عن عيون العامة ، حتى يكتسبوا أهميتهم المفقودة .. فكلما تطورت وسائل التخفي والابتعاد عن العامة ، كلما ازدادت أهمية هؤلاء المدراء .

وقد نمت مهارات تتواكب مع تلك الطلبات المتزايدة من المدراء العامين ، فالسكرتيرة أو مدير المكتب ، عليه أن يتقن معرفة الأجوبة اللازمة : عطوفته عنده اجتماع ، عطوفته عند الوزير ، عندك موعد مع عطوفته ؟ الخ

كان الدكتور عبد العزيز نموذجا صادقا عن تلك النماذج ، فهو خريج دولة من أوروبا الشرقية ، في مادة لا تحتاجها البلاد نهائيا ، وكانت معظم المعلومات التي تعلمها ، قد جاء بها إشعارات من منظمة الأغذية والزراعة والدولية التابعة للأمم المتحدة ، بأنها أساليب خاطئة ، على المعنيين تجنبها وعدم تطبيقها !

لا زلت أذكر حديث خبير تلك المنظمة ( الفاو) في أواسط السبعينات من القرن الماضي ، عندما أخذ يسرد في محاضرة له : بأن مساحة البلدان العربية تقل قليلا عن أربعة عشر مليون كيلومتر مربع ، وأن 78% منها في إفريقيا والباقي في آسيا ، وأن 3.4% من تلك المساحة صالح للزراعة ، منها 30% على حوض النيل ، و44% في دول المغرب العربي ، و22% في الهلال الخصيب والباقي في الجزيرة العربية ..

وبعد أن أنهى محاضرته ، ابتسم بمكر وقال : كنت أسأل نفسي ، لو ألغيت وزارات الزراعة في البلدان العربية ، ماذا سيحصل في الزراعة .. صمت وأجاب لوحده : لا شيء !

لم أكن أدرك مغزى تلك الطرفة بشكل جيد ، ولكنني عندما تعرفت على الدكتور عبد العزيز .. أدركت حكمة ذلك الخبير ..

كان الدكتور عبد العزيز ، يرتب مع الإذاعة أو التلفزيون الحكومي ، لقاءات على الهاتف ، إذا ما جاء في شهر يناير/كانون الثاني المطر بشكل جيد أو غطت الثلوج مساحات واسعة من المحافظة التي يدير مديرية الزراعة فيها . فكان يخرج للناس و كأنه أحد الآلهة السومرية ( إنليل ) .. وأنه هو من أحضر تلك الأمطار و الثلوج .. فكان يمط حرف الجر ليأخذ مساحة بيت شعر على البحر الطويل .. ليغنم أكبر وقت ممكن يتكلم فيه ..ويبشر المزارعين بموسم خير وفير و ينصح مربي المواشي بنصائح يعرفها راعي مبتدئ و مربي النحل ومربي الدجاج ، وكان يود لو أتيح له المجال ليقول للمشاهدين أي أنواع الطبخ تلاءم مثل تلك الأجواء ..

عندما جاء كتاب تقاعد الدكتور ، بذل قصارى جهده ليبقى في مكانه ، أو ينقل للجامعة العربية ، فإن له اثني وعشرون عاما خبرة كمدير عام ، لم يشأ أن يبقي أثره على التدني بمستوى الزراعة ببلاده بل أراد أن ينعم بها الأشقاء العرب ، لكن البطء في استصدار قرار تصديره عربيا ، قد عجل في موته ، فمات وقد يكون قد عرف عن أي شيء إلا الزراعة !

ابن حوران 20-08-2006 05:10 AM

سيد غني الميكانيكي :

تجد بين البشر نماذج بطولية ، لم يتعرف الى بطولتها إلا من كان قريبا منها ، وكونها لم تكن من علية القوم ، فلم يكتب أحد عنها ، ولم تكن تلك النماذج تمارس بطولتها ، ليكتب أحد عنها . فهي كالنمل تتشابه في اللون مع أبناء طائفتها ، وتقوم بتضحيات لتطفئ نارا بجسدها الضئيل ، وهي تعرف أن ليس هناك من يخلدها بالتاريخ ..

كان سيد غني رجلا في الخمسين من عمره ، يتعلم في مدارس محو الأمية ، ويشرف على إدارة قسم المكننة الزراعية ، كرئيس فنيين ، فلديه من السواق ومعاونيهم ست وثلاثون فردا ، كان منهم العرب و الجرجر والشبك و التركمان والأكراد .. منهم من يقود ساحبة روسية ومنهم من يقود ساحبة إنجليزية ومنهم من يقود ساحبة يابانية ، أو رافعة وبلدوزر و مدرجة ..

كانت المكائن الموجودة بأعمار مختلفة ، فمنها من العهد الملكي ومنها ما بعده ، ولم تكن أعمارها تؤهلها لأداء مهامها بكفاءة عالية ، فأعطالها كثيرة ، وقطع غيارها غير متوفرة ، و الحواجز المكتبية و المكاتبات الطويلة تعيق وصول قطع الغيار من بلاد المنشأ بأقل من سنة ..

كل تلك الظروف ، وما رافقها في منتصف السبعينات من مصاعب ، صنعت من سيد غني بطلا ، رغم أنفه ، فلم يكن مسئوليه يعذروه في عدم قدرته على تصليح ما يعطب من تلك المكائن الكثيرة والتي لا يحل محلها ماكنة أخرى .. فكان لزاما على سيد غني أن يشغل مخه و يبتكر وسائلا لتصليح ما يعطب .

كان مبتسما باستمرار ، ذو بنية قوية ، وكذلك من في خدمته ، كانوا يتبارون في إنجاز ما يصعب إنجازه ، بتجريب يكلفهم جهدا عضليا هائلا ، فقد رأيتهم يتناوبون على الطرق على ( مسنن ) ضخم لبلدوزر روسي ، لمدة يومين كاملين حتى لا يكلفوا المنشأة استقدام خبير لاستخراج المسنن ، ولكن في النهاية اتصلوا بأرمني فجاء ومعه جهاز ( هيدروليك) لم يأخذ وقتا سوى ربع ساعة حتى استخرج المسنن الضخم من سلسلة الجنزير الضخم .

كان سيد غني يطوف على عدة محطات في عدة محافظات ( الحويجة/كركوك) و(صندور/دهوك ) و (اسكي كلك / أربيل) .. بالإضافة الى محطة نينوى مقره الرئيسي .. ويعود ليخبر من أرسله ، بأن مهمته تمت بنجاح ..

كان من بين المكائن ، ساحبة بلغارية بقوة 65 حصان ، تسير على جنزير (وليس إطارات) عرضها متر وربع و طولها متران دون المحراث الذي تسحبه ، كان المحراث يدور بقوة المحرك بواسطة مجموعة نقل صنعت من مادة نسبة الكربون بها عالية ، وقد امتازت هذه الساحبة في قدرتها على إزالة الأعشاب في خطوط بساتين العنب التي تزرع على أسلاك و المسافات بين خطوطها لا تزيد عن مترين .. فتزيل الساحبة كل الأعشاب و تهيض الأرض ، دون أن تؤذي الأشجار ، لأن المحراث مزود بمجس لين ما أن يمس ساق الشجرة حتى يبتعد عنها بكل لطف ..

تجمع في نينوى حوالي أربعين ساحبة عاطلة عن العمل من مختلف محطات القطر ، طمعا بأن يقوم سيد غني بتصليحها ، فكان يشخص العيب ، ثم يطلب من مديره تزويده بقطع الغيار اللازمة فيكتب مديره للمدير العام ، الذي يخاطب الوزير ليخاطب وزارة الخارجية ، لتبعث الى السفارة البلغارية ، وتعود الإشارة طالبة إرسال مواصفات وتطول المسألة ليأتي القطار القادم من بلغاريا ، به كل القطع عدا التي طلبت .. وتتكرر المسألة ..

فاجتهد سيد غني بأخذ القطعة و إحالتها لخراطين محليين في عملها من الفولاذ ، وكان ثمن القطعة 3 دولارات ، فاشترى 150 قطعة وأصلح كل ساحبات القطر ، فنال وسام الرافدين من الدرجة الثانية ..

ثم أتى لساحبة روسية ذات ثلاث إطارات تستخدم لغرس (عقلات المشاتل) كانت إذا تحركت يتبعها أكثر من 150 عاملة ليوجهن العقلة باتجاهها الى الأسفل ، فأضاف ترتيبا يتم مناولة العقل أوتوماتيكيا ، دون إشراك العاملات ، فوفر كما هائلا من الأيدي العاملة ، فنال وساما آخرا ..

ثم نظر الى قالعة بطاطا (فنلندية روسية ) .. فكانت تحطم درنات البطاطا ، ويلتصق بالدرنة كم من التراب و الطين مما يقلل من جودتها و يفقد المحصول جزءا كبيرا منه ، فلبس قضبان الماكنة المعدنية بغطاء كاوتشوك ، وأضاف مسنن ، ذا شكل بيضوي ، يزيل في حركته غير المنتظمة التراب العالق على الثمار .. فاستحق وساما ثالثا ..

كان سيد ظريفا لطيفا ، بعد كل إنجاز وبعد أي مكافئة تأتي له أو لمن معه ، يذهب فيأتي بكمية من اللحم والخبز والبصل و يضعهم في قدر ويتركهم تحت شجرة ( توت )عملاقة تقع قرب مضخة على نهر دجلة ، وبعد أن ينضج الطعام البسيط يتجمع جزء من الموظفين والمستخدمين ليتناولوا طعامهم بأيديهم بقصعات ، كانت أطيب من أي مآدب تعمل في قصور .. حتى أصبح هذا العمل تقليدا يتبرع به كل من ينال علاوة من مدير المحطة الى أصغر مستخدم من المستخدمين الستمائة .

كان سيد يروي نكاتا ممن يصدفهن في عمله ، فقد ذكر أنه يذهب للحويجة من أجل تشغيل مضخة عملاقة على (نهر الزاب ) ، وذلك في شهر أيار/مايو ، ثم يعود ليطفئها في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني ، وتبقى تلك المضخة التي تصدر صوتا كصوت القذائف المدفعية المتتالية ، تعمل ليلا ونهارا وتزود بما يلزمها وهي تعمل . قال لقد نسيت أدوات التشغيل في المحطة عندما أطفأتها ، فعدت بعد يومين لآخذ الأدوات ، فإذا بمن يسكن بالمنطقة يتوسل به ليشغلها ساعتين من الزمان ، كي ينام هؤلاء الناس .. فقد تعود السكان النوم على ضجيج الماكنة .

طوبى لكل العاملين الأبطال المجهولين ..

ابن حوران 06-09-2006 03:49 AM

جعفر المهاجر :

تختلف أسباب الهجرة من زمان لزمان و من مكان لمكان ، فمنها من يأتي لسبب أمني ، إذ يقتل من يهاجر أحدا و يخشى من نقمة ذويه أو ملاحقة القانون أو يكون معارضا ليس على دين أو عقيدة قومه ، فيخشى سلطة الأغلبية .. ومنهم من يهاجر طلبا للرزق أو العلم ، ومنهم من يهاجر لاحقا بمن يحب ، ومنهم من يهاجر حالما بغد أفضل .. الخ من تلك الأسباب ..

عندما كانت الهجرة في الماضي تصل الى مناطق يشترك ساكنوها مع المهاجر في الدين أو اللغة أو النسب ، فإن المهاجر لم يكن يحس بقسوة الغربة ، بل سرعان ما يندمج مع المكان الجديد وعندما يبعث لأهله برسالة ، فإنه يقول (نحن أهل العراق ) ، ولم يكن هو أصلا من العراق ، بل قد يكون آت من قرطبة أو القاهرة أو الخرطوم ، فيصبح يتكلم بلسان أهل العراق ، حتى لو مضى عليه عدة شهور ، وكذلك يفعل ابن العراق الذي انتقل الى تونس أو المغرب ، فكان الإحساس بسلاسة الانتماء الأدبي والاجتماعي يعوض سريعا عن قسوة غربة المكان .. وعندما يوقع باسمه لا ينسى ذكر مكان مولده وإقامته فيقول فلان العمواسي العراقي .. أي من ولد في عمواس (فلسطين ) ويقيم في العراق .

في القرن الثامن عشر ابتدأت موجات الهجرة ، لتصل أمريكا اللاتينية ، واستراليا و مناطق عديدة في العالم ، استطاع أبناء العرب المهاجرون أن يصلوا الى قمة السلطة في تلك البلاد كما في ( الأرجنتين وإندونيسيا و زنجبار و موزنبيق والكثير من البلدان ) ..

أما الهجرات التي حدثت في القرن العشرين ، فقد كان أصحابها ـ غالبيتهم ـ يعانوا من تمزق و ضياع في الانتماء ، فقد تطورت قوانين الهجرة ، حتى في البلدان العربية ، وأصبح المهاجر يعاني من عزلة بالتصنيف و محاصرة في الهوية ، فلا هو المندمج بواقع البلد الذي هاجر إليه ، بحيث يستطيع أن يفخر بإنجازاته ، ولا هو الباقي في بلاده ، يفرح لفرح أهلها و يتألم لآلامهم .

كان جعفر أحد طلبة كلية الهندسة الذين تركوا صفوف دراستهم و غادر الى الولايات المتحدة الأمريكية ليلتحق بأخواله الذين سبقوه قبل ثلاثين عاما .. فكان أحدهم مدرسا للغة الإنجليزية في بلاده ، وأشقاءه الأربعة قد غادروا في الستينات من القرن الماضي على دفعات خلال ثلاث سنوات ..

تفاجأ جعفر بأن أخواله الذين ورثوا عن أبيهم عقارات تبلغ فوق ثلاث ملايين دولار في بلدهم الأصلي ، ليسوا بتلك الحالة الاقتصادية التي تبرر لهم الهجرة ، فكان أحدهم يبيع الخمر في متجر بسيط ، ويعيش مع صديقة له ، في حين يمر على زوجته (ابنة عمه) مع أولادهما كل شهر مرة ، وكان كل أفراد العائلة قد تكيفوا مع الوضع الجديد ، فلا يتذمرون ولا ينتفضون لتغيير وضعهم البائس .. فكل فرد من العائلة له شأنه الذي لا يختلف كثيرا عن كبير العائلة !

أما الخال الأكبر ، فكان قد حفظ من الإسلام خاصية السماح بالزواج المتعدد فقط ، فقد تزوج ثلاث عشر زوجة كلهن عربيات ، وباستمرار كان على ذمته أربع نساء ، في حين كان وكيل لتوزيع الخمور في المدينة التي عاش بها نحو أربعين عاما قبل أن يعيدوا جثمانه الى بلاده التزاما بوصيته !

أما الخال الأوسط ، فقد كان في غربته لا يتأثر بمكان وجوده ، فلا فرق بين أمريكا وبوركينافاسو أو حتى قريته التي غادرها ، حتى لو أمضى قرنا كاملا ، فكان قبل موته يلتزم الصلاة ، وقد حول ما جمعه من أمريكا الى عقارات اشتراها من إخوانه و أبناء أعمامه ، كان شخصا غريبا ، يوافق على أي رأي يقال له ، ولا ينفذ أي طلب رغم إيحاءه بأنه قبله ، فكان المتذاكون يطرحون عليه مشاريع (كممول) فيضحك مقهقها حتى يتخيل من يراه بأنه ليس هناك فتحتان لعينيه ، حيث تنغلقان بشكل كامل .. فلو أراد أحد أن يستغل فترة القهقهة وينسحب من المكان ، فلن يحس عليه .. ولكنه لم ينفذ لأحد طلبا حتى توفاه الله .

أما الخال الأصغر فكان صامتا ، لا يستطيع أحد أن يصنف مشاعره ، هل هو فرح أم متضايق .. لقد بقي هو وأخويه معلم اللغة الإنجليزية و أخ آخر أصيب بالسرطان ، فترك عمله في بلده الأصلي وعاد الى أمريكا التي يحمل جنسيتها قبل عودته والتحاقه بعمل حكومي ، لينعم بالمعالجة المجانية ..

كان عندما يعود أحدهم من أمريكا ، يفتح بيته لعدة أسابيع فيأتيهم الزوار من أقاربهم ، ويحسدوهم الزوار على ما هم فيه ( من وجهة نظر الزوار ) .. وكان من السهل على أحدهم أن يضلل الزوار ، خصوصا عندما يجيب على سؤال موافقا فيقول ( يا ) بدل نعم ..

عندما سألت أحدهم ذات يوم عن جعفر ، ابتسم وقال : ذايح ، عجبا كيف لم ينس هذا المهاجر تلك الكلمة القبيحة خلال أربعين سنة ، فعندما ألححت عليه السؤال ، هل أكمل دراسة الهندسة ؟ أجاب بأنه لم يدرس ، بل ابتدأ بغسل الصحون في أحد المطاعم ، وهو الآن يعمل كسائق شحن بين سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس .. فهززت رأسي قائلا في نفسي ( ثلثين الولد لخاله) .

ابن حوران 22-09-2006 04:36 AM

أبو فرحان الملاَك :

هناك أشخاص لا يعرفون العمل ، وما معناه ، ومع ذلك يعطون آرائهم بموضوع العمل ، وقد يصلوا الى أعلى المراتب في المجتمع ، ويساهمون في وضع قوانين للعمل ، وهم لم يمارسونه طيلة حياتهم .. وقد يعتبرون وضعهم طبيعيا جدا ، إذ أن هناك من يجب أن يعمل من أجلهم !

من هؤلاء الناس تجد طبقة الملاَكِين ، الذين يعتقدون أنهم ورثوا عن آبائهم وأجدادهم ما ورثوا لينعموا هم بالراحة و عدم العمل ، وقد يدعموا آرائهم ببطولات قد تكون حقيقية وقد تكون وهمية ، وهو الغالب ، فقد تكون ثروة هؤلاء التي ورثوها جاءت عن كد و تعب الأجداد و قطع اللقمة عن أفواههم ليحولوها الى عقارات ، وقد تكون ثمنا لخيانات قدمها أجدادهم لسلطات الاحتلال فأصبحوا ملاَكين ..

وهناك أناس يثرون بالصدفة من امتلاك أراض حقيرة غير منتجة ، لكن قرارا إداريا جعل أراضيهم ذات قيمة ، فترتفع أثمانها بشكل خرافي ، يجعل ورثتهم من الأثرياء ..

كان أبو فرحان يجلس على (دكة ) صنعت من الطين و الحجر وطليت بطبقة رقيقة من الإسمنت ، أنشئت عند بوابة بيت منزله ، بعرض يستوعب فرشة رقيقة من القطن ، كانت تمد له عندما يصل الظل لها بعد الظهر ، كان يجلس عليها ، وقد تدلت أنسجة خديه لتكون بشكل شبيه بالكرتين المسطحتين بجانب طرفي فمه ، كان يخيل لمن يراه أن تلك الكرتين قد تكونتا بفعل الجاذبية الأرضية ، حيث أجبرت تلك الجاذبية بانزلاق محتويات أنسجة وجهه لتستقر في ذلك المكان .. كما تطاولت الجاذبية على مقلتيه فسحبت أطرافها للأسفل ، لتكشف عن بياض مصفر في عينيه أفقدهما هيبتهما ، فبدا صاحبهما كنموذج غير متقن في متحف الشمع ..

كانت زوجته الثانية ، تجلس بجنبه في هذا المشهد اليومي ، ليرقبوا لا شيء بل يمضون طقسا يوميا ، بشكل أزلي ، يضعان بالقرب منهما ( سخان) قهوة ، يسكبان منه بعض القهوة بتثاقل و بلا حماس ..و قنينة ماء مثلجة ..

إنه كان في جلوسه ، يحرك حدقتا عينيه بملل ، عساهما يقعان على جسم يعرفه ويستعيد بعض ذاكرته المهشمة ، من خلال النظر لابن من أجياله ، تأخر قدره في طلبه كما تأخر في طلب أبي فرحان نفسه ..

لم يهنأ أبو فرحان بأملاكه الواسعة التي كانت تزيد عن مائة هكتار من الأراضي الزراعية الجيدة ، وكان يحول ما تنتج من حبوب ، الى أراض يشتريها من المعوزين ، لتزيد أملاكه باستمرار .. كان يعمل بيده ، ويفاصل من يعاونه على الأجرة ، وبعد إنجاز الأجير يقص من قيمة ما يدفعه له ، متذرعا بأن الأجير لم يبذل جهدا يعادل ما اتفقا عليه ، وأن ظنه خدعه في تقدير الأجرة ، كان الأجراء يعرفون طبعه ، فيحاولوا زيادة ما يتفقون عليه ، لضمان أخذ أجرتهم بعد الاقتطاع المعهود ..

كان ذات مرة ، قد أتى لدكان ، وكان صاحب الدكان قد أحضر للتو صينية واسعة من الحلويات الشعبية ( هريسة ) وهي تتكون من السميد والسكر والسمن ، ويثبت فوقها حبات من الفول السوداني المحمص ، فسال لعاب أبي فرحان ، فانحرف قليلا واستخرج من جيبه منديلا معقود فحل عقدته فأخرج منديلا آخرا من داخله فحل عقدته ، فوقعت يده على بعض النقود النحاسية الحمراء تقريبا ، فمسك بين أصبعيه قرشا ، ليشتري به بعض الحلوى لنفسه ، ثم خاطب نفسه قائلا : الله يذلك أيتها النفس مثلما أردتي إذلالي ، فأعاد القرش الى المنديل الأول وشد عقدته ، ثم أعاد عقد المنديل الثاني و انصرف ، منتصرا على شهوته ..

عندما ماتت أم فرحان ، ضغط عليه بعض الأقارب فأقنعوه بالزواج وكان عمره في وقتها ، حوالي الخمسين ، وكان ذلك قبل اثني وثلاثين عاما ، وكان له من أم فرحان ثلاثة أبناء ذكور يشبهونه في حرصه على المال ، وابنتين تزوجتا منذ وقت طويل .. فتزوج أم حسين التي تجلس جنبه في المشهد اليومي ، وكانت أم حسين ماكرة ، فسجل معظم ممتلكاته باسمها و احتفظ بالربع تقريبا ..

وعندما كبر حسين ، وأحس بأنه يتكئ على قوة والدته العظمى ، أطلق العنان لعفريت الشهوات الذي كان محبوسا في قمقم منذ آلاف السنين ، ليهتدي حسين بمساعدة والدته التي فكت طلاسم زوجها من قبل ، على فك طلاسم العفريت .. فلم تعد الهريسة إلا شيئا حقيرا لا يشتهيه لا حسين ولا والدته ، حتى الكنافة والبقلاوة ، بل لم تعد السهرات في عواصم دول قريبة إلا كمشوار قريب ، لقد ابتكر حسين طرقا في إفناء ثروة والده ، فلم يتبق منها شيئا خلال عشرة سنوات ، فمن سيارة حديثة الى أخرى ومن لعب قمار في صالات الفنادق ذات النجوم الكثيرة .. الى كل دروب الفحش و التبذير .. حتى آتى على كل ما جمعه والده .

اقترب الغروب ، فطلبت أم حسين من زوجها أبي فرحان ، وكانت تناديه بأبي حسين .. أن يدخل الى المنزل .. أبو حسين .. أبو حسين .. ولكنه لم يجاوبها فعندما هزته خر ساقطا عن الدكة منتهيا ..

ابن حوران 11-10-2006 06:38 AM

ذيبو الحصاد :

تفرح الأم بعد أن تعاني من فترة الحمل والولادة نفسها ، عندما تحس أن وليدها سليم ، وتبتهج بصورة أكبر عندما تقع عيناها عليه ، إن رؤية الوليد ولمسه ، تعمل بشكل سريع لإزالة الآلام و تعيد حالة حب الحياة ، فكم امرأة توفت عند الولادة وهي تبتسم ، لأن وليدها سليم .

وكم من أب قطع عن فمه اللقمة لكي يتمم مشروع تدريس ولده ، وما أن يتخرج ، حتى تزول كل معاناته دفعة واحدة ، دونما أن يتيقن من أن ولده قد وصل بر الأمان .. فقد كان الهدف : هو دراسة الولد ، وها هو قد تخرج ، لقد انتهى الهدف الأساس ، كما في حالة الولادة .. لقد ولد المولود دونما أن تكون هناك ضمانات بأن يكون هذا المولود خال من الأمراض وصاحب مستقبل جيد ، فقد يكون مخترعا أو قائدا أو صائعا .. فهذه مسائل لم تدخل بفكرة الفرحة ..

يفرح الفلاح ، عندما يبذر بذاره في الأرض ، فقد ابتدأ خط السباق من تلك اللحظة ، كما هو من يتيقن من تلقيح بقرته ، أو من يحضر كتاكيت بعمر يوم واحد ، كلهم قد بدءوا من خط بداية ، ويشكل الحصاد خط النهاية لفلاح القمح وولادة البقرة لمربي المواشي ، واكتمال نمو الفراخ لمربي الدجاج اللاحم .

عند وصول خط النهاية في كل سباق ، تجد هناك أناس يتجمعون ليروا من الذي سيسبق ، وقد لا يعرف أي واحد من المتسابقين ، كما هو الحال عندما يتوقف أحد المكلفين من زوجاتهم بإحضار لوازم البيت ، وقد طلب منه أن يستعجل ، لأن الوقت قد يمضي دونما أن تكمل ربة البيت عملها للعزومة . ومع ذلك يتوقف هذا المستعجل ، ليراقب خناقا بين أشخاص ، قد لا يعرف منهم أحدا نهائيا . لماذا توقف ؟

لم يكن (ذيبو ) صاحب أرض ولا صاحب بقرة ولا صاحب فراخ ، ولم يكن للعبث و الفضول في حياته مكانا ، بل كان كادحا يتعامل مع الحياة كمشَاهد متعددة لتحريك العضلات وفق إرادة من يدفع له لقاء تحريك تلك العضلات في عمل هم يعرفون طعمه و نوعه وما سيئول إليه .. وذيبو أيضا يعرف ، لكن لا يشغل نفسه في كثير من الأمور ، لأن الانشغال بها ، يصنف مع العبثية، هو لم يعرف تلك العبثية ماذا تعني، لكنه كان يتجنب ما يدلل عليها، دونما أن يدرك أن ذلك من باب الابتعاد عن العبثية ..

كان ذيبو ينام قرب البغال و الحمير والجمال، لأن هناك مكان نوم (المرابعي)، وقد سمي (مرابعي) لأنه يأخذ ربع ما يقوم بعمله ، فهو يبذر و يحرث و يحصد ويدرس و يذري ويقطف و يخزن ، ويهتم بالحيوانات التي كانت تقوم بمساعدته في إنجاز الأعمال السابقة ، فعندما نقول يبذر ، يعني نقل حبوبا من القمح أو الشعير أو العدس وغيرها ، على ظهر الدابة ، وسار بها خمسة كيلومترات ، يمشي بمحاذاة الدابة ويحافظ على كيس الحبوب من السقوط . ثم يقوم بتخطيط الأرض برجله حتى يعرف المساحات التي بذرت ، ثم يأخذ في حضنه بواسطة قطعة قماش اسمها (مبذرة) ، وتلمس يداه كل حبة من الحبوب ، وعندما يصر عينه اليمين ويمد لسانه مع كل رمية من رميات البذار ، كان كأنه يقوم برقصة موزونة الإيقاع ، وعندما كنت أتساءل : ماذا يعمل هذا الرجل ؟ وسألته وكنت يافعا بالقدر الذي يجعله يزهو بدور المحاضر ، كان يقول يجب علينا بكل رمية أن نضمن سقوط خمس حبات من القمح في مساحة كف اليد ..

وكان بعد أن يتمم البذار ، عليه أن يباري بغله لحرث الأرض ، فهو مطلوب منه أن تطأ قدماه كل حبة تراب من الأرض ، مع فرض هيبته على البغل ، حتى يلتزم بالمسير المستقيم .. وعليه أن يتفقد نصل المحراث بين فترة وفترة ليأخذه للحداد ليصرفه ( يجعله حادا ) ..

وإن ظهر (دغل) حشيش غريب ، بعد إنبات البذور ، على ذيبو إزالتها . كان غير متزوج ، أو أنه قد يكون متزوج ولكنه يناضل بالابتعاد عن ذويه ، من أجل أن يؤمن لهم لقمتهم .. وإن كان غير متيقن من ذلك ..

كانت العجوز التي تعد طعام العشاء لها ولزوجها و لأبنائهم الخمسة وزوجاتهم وأبنائهم التسعة وبناتهم الثمانية و ذيبو وزميله المرابعي الثاني .. وكونها كانت تقوم بدور المخطط والمدبر ووزيرة التموين ، فعليها أن تقتصد بقدر الإمكان تحسبا لسنين قحط قد تحل بالبيت وساكنيه .. لكنها كانت تبالغ بذلك التقتير ، فكانت تطبخ حوالي (الصاع ) من جريش القمح ، وتضع عليه ضعفه من الماء ليصبح (طبيخا) ثخينا ، ثم تضع قطرات من الزيت في (مقلى) وتضع فيه البصل المفروم ، وبعد أن يتحمص البصل ، تضيف عليه من آنية بجنبها أكثر من لتر من الماء ، فتصنع تلك الإضافة (طشطشة) وتسكب ما حدث لديها فوق الطعام المسكوب في أواني .. حتى اعترض ذيبو يائسا : عمة .. عمة (مخاطبا العجوز) : إنك تضحكين علينا .. إن ذلك ليس (قفرة ) أي ليس دهنا .. بل ماء بئر .. خافي من الله يا عمة لم نعد نرى ليلا من سوء التغذية .. طبعا لقد دربت العجوز على سماع مثل هذا الكلام ، ولن يؤثر بها قطعا ..

كانت عملية الحصاد من أقسى ما يمكن أن يقوم به الإنسان من أعمال ، فهي تأتي في أشد أوقات السنة حرارة ، وعلى من يحصد أن يمس كل عود واقف أمامه ويقطعه ، ويجمع مع معه عيدان أخرى ويرميها في إيقاع ، وعليه إذا كانت عملية الحصاد تجري (زحفا) فإن ركب الحصاد ستواجه صراعا مع قطع الحصى والشوك . وإن أراد الحصاد أن يشرب وما أكثر حاجته للماء ، فإنه سيصب قليلا من الماء الفاتر من صفيحة معدنية ، تلوذ بكومة قش حتى تبرد وتصبح منعشة !

لن يكون من السهل عليك أن تتضامن مع (ذيبو) ضد من يعمل لديه ، فكلاهما كان يعيش حياة بائسة ، كحياة معظم الفلاحين العرب ، الذين يتسم عملهم باللايقين .. فلا زارع القمح متيقن من حصاده و ان حصده غير متيقن من بيعه بسعر ملائم .. وكذلك هذا حال معظم أصناف العمل الزراعي ..

ابن حوران 09-11-2006 06:56 AM

قاطف الزيتون :

لو أصدرت حكومة ما بلاغا أو قرارا أو إهابة للمواطنين أن يتبرعوا بقرش واحد للمساهمة في وقف زحف الصحراء، لتبرم الجميع وتخلف قسم كبير منهم عن دفع ذلك الرسم الصغير لعمل ضخم ووطني .. لكن ما أن تنتشر إشاعة أو اعتقاد خاطئ في أن التوجه لعمل ما هو من الأهمية بمكان وسيعود بأرباح هائلة لمن يعمله، لسارع الناس بسرعة البرق الى تقليد من ابتدأ بهذا العمل، دون فحص لما سيؤول إليه مصير العمل، ودون وضع دراسة جدوى اقتصادية، إنها مسألة تتكرر في كثير من الأمور ..

لم يكن هناك في الماضي اهتمام واضح بزراعة الزيتون، في كثير من بقاع بلادنا، ولكن خلال أربعين عاما، انتشرت زراعة الزيتون وفق السيرورة التي ضربناها بالمثل السابق، فأصبح من السهل على المار بسيارته فوق طرق معبدة أو ترابية أن يلحظ بساتين الزيتون منتشرة في كل مكان محتلة مساحات كانت تخصص لحقول القمح والعدس و غيرها من المحاصيل الحقلية التي ارتبطت بتراث كثير من الفلاحين الاقتصادي ..

كان تعدد مصادر الرزق للناس وتنوعها، جعلهم يبتعدون عن التشبث بزراعة الحبوب، كما أن تغيير أنماط المباني و استغناء البيوت عن الحيوانات المنزلية المنتجة كالأبقار والأغنام وغيرها، و تطور قوانين البلديات بمنع اقتناء مثل تلك الحيوانات، وارتباط البساتين بفكرة السياحة وقضاء وقت للمتعة بينها، كل ذلك وغيره، كان وراء هذه الفورة وراء زراعة الزيتون بتلك الكثرة ..

كثير من البساتين اندثرت قبل بلوغها مراحل الانتاج، ومع ذلك فإن الزراعة لتلك البساتين لا زالت على قدم وساق، وقد حاول الكثير من المختصين ثني هذا الاندفاع، بذكر صعوبة الري البديل، وعدم ديمومة مثل تلك البساتين ولكن دون جدوى..

في مراحل قطف الزيتون والتي تتزامن مع أواسط الخريف وبداية الشتاء، تنتشر مجموعات من الناس بين تلك البساتين لقطف الثمار، والذهاب بها الى المعاصر للحصول على زيت الزيتون الذي يحتل مكانة مرموقة في ذاكرتهم الشعبية والدينية ..

من السهل على المار أن يلحظ أستاذا جامعيا يضع على رأسه رباطا من قماش عتيق، ومعه زوجته وأطفاله يتسلقون شجرة ويقطفون ثمارها.. كما من الطبيعي جدا أن تجد أسرا فقيرة تتحين الموسم، لتخرج في تلك الأيام الباردة صباحا والماطرة في بعض الأحيان، لتقطف مقابل أجرة معلومة أو نسبة من المحصول، وتتفاوت اهتمامات المالكين بالقطف بأيديهم من مالك لآخر، معتمدة على حجم الملكية ومصادر الرزق الأخرى، فمنهم من لا يستأجر قاطفا حتى لو كان يملك آلاف الأشجار، ومنهم من يستأجر قاطفين حتى لو كانت أشجاره بالعشرات ..

في اليوم الأول للقطف، يأخذ طابع الرحلة الترفيهية، فيتضاحك الأطفال، ويغني الرجل بعض المواويل أسوة بقصص التراث غير البعيد، وهناك من يحضر الشاي وهناك من يحضر طعام الغداء، ولا أحد يهتم بحجم الناتج ، فالطابع العام مصبوغ بعمل رفاهي أو (نزهوي ) ..

في اليوم التالي يختفي بريق النزهة من العمل، ويصبح الحديث عن توقعات الانتهاء من العمل له ما يبرره، وفي اليوم الثالث سيقوم بعض الفتية بعد الأشجار التي تم قطفها و الأشجار التي لم تقطف بعد، ويذهب بحسبة بسيطة عن الوقت الذي سينتهي به هذا العمل الممل ..

في حين يرى الرجل وزوجته الأكياس الممتلئة بالزيتون، وهم يرتشفون بعض الشاي، ستكون عمليات الحساب على قدم وساق، لو قلنا أن الكيس به خمس وأربعون كيلوغرام وكل خمسة كيلوات زيتون أعطت كيلو من الزيت فإنه سينتج عندنا كذا (تنكة) .. فيبادر الزوج، سنبعث لبيت أختي واحدة وبيت عمتي واحدة وبيت فلان .. فتتكدر الزوجة، وتقول: حرام لو أتت فلانة وأبنائها ليعاونونا ؟

لقد كان الناس خصوصا الذين لم يتحملوا مسئولية وضع ميزانيات الأسرة يتمنون أن لا تكون مواسم القمح أو العدس جيدة، حتى لا يتكبدوا عناء العمل الشاق بالحصاد و الدراس و التذرية و القطف والتخزين، ولا يهمهم إن كانت تلك الأماني لا توفر لهم حياة أفضل أم لا .. كما أنهم لم يسرهم وجود آبائهم بوضع متكدر عندما تكون المواسم سيئة .. إنها معضلة الفلاحين وأبنائهم باستمرار .. وكان هناك من الفلاحين من يربطوا زواج أولادهم أو شراء ثياب جديدة لهم بالموسم الجيد، وهو أسلوب ترغيب ذكي لشحذ همم أفراد الأسرة.

لقد اختفت تلك المشاعر المعقدة بظهور مكائن الحصاد التي اختصرت الوقت والشقاء لأفراد الأسرة، ولكن بثورة الزيتون عاد الشقاء المتمثل بتحمل القطف في البرد، محل شقاء الحصاد في الصيف ..

وعندما تخرج نصيحة من خبير ويتناقلها أصحاب الزيتون، بأنه لا تضربوا الأشجار بالعصي، فإن عادة حمل الزيتون تكون على دوابر ثمرية عمرها سنة الى سنتين، وهذا يعني أنكم إن فعلتم هذا فلن يكون لديكم موسم قادم لأنكم ستكسرون كل الدوابر الثمرية التي ستحمل في العام القادم، وهي ظاهرة (المعاومة) التي يعرفها مربي أشجار الزيتون. في تلك الحالة يتكدر الفتية من تلك النصيحة، ذلك بأن عليهم أن يقضوا أياما إضافية في عمل القطف!

من السهل مشاهدة نسوة في الصباح الباكر، يتنقلن بين البساتين التي تم قطفها للبحث بين أغصانها، عن ثمار منسية، وكان أصحاب البساتين يتسامحون في النظر لتلك الظاهرة على أنها ظاهرة طبيعية وتتسم بالإحسان. لكن هناك من النسوة من كانت تبدأ صباحها الباكر بالتجول بين أشجار بساتين لم تقطف بعد، ثم يضفين مسحة إخراجية على جولتهن في بساتين تم قطفها، فتجدهن يحملن على رؤوسهن أكياسا بها ما يقرب الأربعين كيلو في الثامنة صباحا!

خاتون 09-11-2006 08:46 AM

ربما كان من المستحيل أن يمر ابن حوران على بساتين الزيتون
في هذه الأيام الجميلة، ثم لا يضفي عليها صبغته الفنية


تحياتي لرجل تحبه الأرض أكثر مما يحبها
خاتون

ابن حوران 22-11-2006 07:51 AM

أشكرك أيتها الأخت الفاضلة على مروركم الكريم

احترامي و تقديري

ابن حوران 22-11-2006 07:54 AM

في معصرة الزيتون :

هناك أعمال تدوم بدوام صاحبها في مزاولتها، فنقول حراثة وحرَاث طالما أن يكون هناك من يحرث، ونقول مؤذن طالما كان الأذان يؤدى، ولكن لن يستطيع أي كان التعرف على المؤذن وهو يسير في الأسواق، دون أي يكون من ينظر إليه ليس على سابق معرفة به.

كما هناك أعمال تؤدى في مواسم دون غيرها، وتنتهي بنهاية الموسم، وقد تحتاج الى مكائن وآلات خاصة، فماكنة الحصاد للحبوب لا تستخدم إلا في الصيف عند نضج الحبوب واصفرار نباتات القمح والشعير وغيره، فيقوم أصحاب تلك الآلات بتوظيبها وتهيئتها قبل الموسم بمدة بسيطة.

كذلك هي مكائن وآلات عصر الزيتون والمحاصيل الزيتية، والتي جرى عليها تطوير مستمر منذ عهد الإنسان في استخراج الزيوت من المحاصيل الزيتية، فمن فكرة التكسير و الطحن والعجن والتخمير الى استخدام خاصية التباين في الكثافة الى استخدام خاصية الطرد المركزي المستخدمة حاليا، إذ تطرد السوائل المستخلصة من العمليات المتعاقبة ذات الكثافة العالية من خلال مخرج خاص بها لتنساب قطرات الزيت المتجمعة من فتحة خاصة قريبة من المحور الرئيسي لجهاز الطرد المركزي.

يكثر حديث الناس الذين يرتادون الى تلك المعاصر، في حساب أرباح أصحابها فيضربون عدد خطوط الإنتاج بالطاقة الإنتاجية، ثم بأجرة المعصرة، ويقدرون أرباحا مبالغا فيها لأصحاب المعاصر، شأنهم في ذلك شأن كل الناس في كل شيء فإن مروا بمحطة للوقود أشغلوا أنفسهم بكم سيارة تقف بالساعة ويضعون هامشا للربح ويحسبون، وكأنهم يعملون بدائرة ضريبة الدخل ..

لكن الحديث والحساب لن يدوم، فكما يفكر بعض أبناء العشائر ببناء ديوان للعشيرة إذا ما توفي عندهم أحد، وبعد أن تخلص أيام العزاء تتبخر الفكرة لحين وفاة أخرى. ولكن تكرار تلك العمليات الحسابية والأفكار هذه قد تدفع بمغامر أن يحول تلك الأفكار لإجراء.

عندما وصل الى معصرة الزيتون، رأى أكداسا من أكياس الزيتون مكومة مع فواصل بسيطة فيما بينها، لتبين حدود ملكية كل زبون، ورأى أصنافا مختلفة من الناس فمنهم من يقف بملابس فاخرة ويتأفف من التماس مع أكوام الأكياس التي ينز الزيت منها، وعندما يخطو يخشى على أطراف (بنطاله) من أن تعشق شيئا من لزوجة الأرضية، التي لم تعد بلاطاتها تظهر من كثرة ما التصق بها من بقايا سحب الأكياس وأقدام المارين ..

قبل عدة سنين، كان مزارعو الزيتون يذهبون لمسافات تصل الى مائة كيلومتر وراء شهرة إحدى المعاصر، فقد تنتشر الإشاعة بأن تلك المعصرة أفضل معصرة بالبلاد لما تعطي من نسبة عالية من الزيت، وقد يضيف من ينشر تلك الدعايات قصصا عن معاصر زارها وكيف أنه رأى أحد المزارعين أحضر أكثر من طنين من الزيتون دون أن يحصل على قطرة من الزيت، ويكثر الحديث بالدواوين عن أنواع الزيتون الذي يعطي زيتا وفيرا، وعن مواعيد قطف الزيتون وغيرها من المهارات التي لم يكن فيها من الصحة إلا القليل ..

واليوم بعد أن زادت أعداد الأشجار حوالي أربعين ضعفا عما كانت عليه قبل خمس وعشرين عاما، فقد يسجل أحدهم اسمه ويشترط عليه إداريو المعصرة أن يحضر زيتونه، وقد يتناوب على حراسته انتظارا للدور حوالي خمسة أيام، خصوصا أيام أوج الفيض، أو أن يصادف عطلة ما، فإن القطف سيزداد من الموظفين وطلبة المدارس ..

كنت تلاحظ عجوزا تسند ظهرها على مجموعة أكياس وهي مغمضة العينين، وتسمع حوارا بصوت عالي قرب (قادوس) الزيتون عند بداية الخط، وأيدي تمتد لتزيل أوراق الزيتون قبل أن يرفعه(السير) للغسيل و الطحن، وتلاحظ هناك من يفاوض أحد العاملين ليقدم دوره على الآخرين، وتلاحظ رجلا (فني) منكوث الشعر بوجه غاضب يحمل أدوات لفك قطعة من أحد الخطوط، وتلاحظ أحدهم يراقب (عجنته) في قادوس قبل أن تتهيأ لدفعها الى (جهاز الطرد المركزي)..

وتلاحظ أحدهم يجلس على كرسي ومركز ناظريه على سيلان زيته من أنبوب ليستقر في عبوة، في حين تصطف عدة عبوات مليئة بالزيت وراءه وبالقرب منه، وهناك من يزن زيته ويتحدث الى الإداري، ولما أصبحت حصتكم واحد من ثمانية ألم تكن في العام الماضي واحد من إحدى عشر، والإداري يبرر ذلك بارتفاع فواتير الوقود ..

وهناك من يحسب زيته ويحاور نفسه، عمال القطف أخذوا خمس الإنتاج وهؤلاء سيأخذون ثمن الإنتاج، سأبعث الى أخواتي كذا وسأعطي فلان كذا، فينتبه على صريخ أحدهم .. السيارة التي تريد أن تفرغ الماء تعيقها سيارتك .. أبعدها أخي لو سمحت ..

وهناك من تحمل بيدها وعاءا صغيرا تطلب المساعدة وملئه ممن يعصرون، وهناك من يراقب الأدوار وليس معه زيتون، ليجد غفلة من زمن ليأخذ كيسا من زيتون ويضعه الى جانبه ..

وهناك من يأتي بساحبة (تراكتور) ليملأ عربتها ببقايا عجينة الزيتون التي لفظتها المكائن خارج مبنى المعصرة، ليطعمها لأغنامه ..

هذا عالم المعصرة الموسمي ..


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.