أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   خيمة الثقافة والأدب (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=9)
-   -   هل من الممكن أن يتغير السلوك الحضاري في مجتمعنا؟ (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=27677)

محمد ب 28-10-2002 03:39 AM

هل من الممكن أن يتغير السلوك الحضاري في مجتمعنا؟
 
<html dir="rtl"><head><title>head</title></head>
<body bgcolor="#ffff00" text="7" face="arial">
<font face="arial"size="6" color="#fuchsia"><center><b>
أولاً:في الوعي فاعلاً
</b></center>

</font></body></html>



1-الوعي كأساس لتغير السلوك:

منذ طفولة الإنسانية الأولى توجه الأنبياء عليهم السلام (والمصلحون أيضاً) إلى وعي الأفراد، وعبر تغيير هذا الوعي كانوا يريدون تغيير الواقع الفاسد.
فتغيير سلوك البشر كان يتم عبر المرور بتلك الحلقة الضرورية التي هي تغيير وعيهم.
ولا شك أن هذا الوعي نفسه مركب من عناصر فطرية ومكتسبة منها ما استقي من التجربة والتأمل العقلي ومنها ما ورث في الفطرة ووضعه الله عز وجل في أساس الخلق، فالأنبياء عليهم السلام منذ آدم اعتمدوا على العنصرين معاً: التذكير بما هو عميق في فطرة الإنسان و الدعوة إلى التفكير والنظر في الكون، وفي ما يراه العقل السليم إن حكّمه صاحبه ولم ينصرف عنه إلى الهوى،لقد توجهوا إلى مكوّنين متكاملين يكوّنان الوعي الإنساني:المكوّن الأوّل هو "الوعي الموروث" الذي هو الفطرة، ويتضمن أساساً الوعي الديني والأخلاقي غير المكتسب ،ويتضمن أيضاً المعلومات الغريزية عن العالم والدوافع الأوّلية التي تحفظ بقاء الفرد والنوع، والمكوّن الثاني هو "الوعي المكتسب" الذي يكتسب عبر الخبرة والاستنتاج العقلي.
والأساس النظري للتغير الاجتماعي في نظر الإسلام يمر بوضوح بعنصر الوعي"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
والسلوك الاجتماعي للفرد يظهر فيه بصورة واضحة أثر المكوّنين، فهو بدفع من "الوعي الأخلاقي" يصطف في الصراعات الاجتماعية خلف طرف يحدده على أنه "خير" وهذا التحديد يتولاه المكوّن الثاني من الوعي المتعلق بالخبرة والعقل،غير أن هذا السلوك قد يكون سوياً حين يحدد الفرد ما هو "خير" بصورة صحيحة ويصطف إلى جانبه وقد تعتري هذا السلوك اختلالات،فهو قد يصاب بموات للوعي الأخلاقي فتسير سلوكه العوامل الأنانيّة والغرائز الدنيا،وقد لا يختل هذا الوعي الأخلاقي ولكنه بسبب من الوعي العقلي الخاطئ وانعدام الخبرة يتوجه باتجاه خاطئ ولا يرى الشر والخير على صفتهما الحقيقية بل يخلط بينهما(ومن هنا كان دعاء النبي عليه السلام الأثير:"اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه!)وقد يصاب الوعي الأخلاقي بالإحباط فيتحيّد ويكف عن الفعل ويفقد قوّته المحركة تحت هيمنة وعي مكتسب موسوم باليأس والشعور بالعجز.
والوعي عموماً يتراوح في فاعليته أي في مقدرته على تقرير السلوك وتغييره بين حدي الانعدام (الانصياع التام للهوى أو تقاليد الآباء أو القوى الخارجية الغاشمة) و حد الهيمنة المطلقة في تحد تام للهوى والمصلحة والتقاليد والقوى الخارجية ونجد هذه الحالة الأخيرة مثلاً في الصمود الأسطوري لبلال بن رباح رضي الله عنه في وجه التعذيب الذي واجهه به سادته وإصراره على التوحيد: "أحد أحد".
ويشكل المجتمع الوليد في المدينة المنورة الذي تكون من المهاجرين والأنصار أحد الأمثلة الفريدة في تاريخ البشرية على هيمنة الوعي على السلوك، فقد خالف أفراد ذلك المجتمع هواهم وغرائزهم الدنيا في سبيل بناء نموذج حضاري ينسجم مع فكرة الوحي عن المجتمع النموذجي.
هكذا شارك الأنصار المهاجرين في أموالهم ودورهم وآخوهم وخلطوهم بأنفسهم.
وفاعلية الوعي لا تستمد جذورها من عنصر واحد فقط هو عنصر الاقتناع العقلي البارد، إذ هناك دفعة انفعالية قوية تحرك معتنق العقيدة وتغير سلوكه وتصوغه وفق ما يسميه مالك بن نبي "الفكرة المطبوعة" للعقيدة.

2

محمد ب 28-10-2002 03:40 AM

-عصر الشك في قيمة الوعي كعنصر مشكل للسلوك ومن خلاله للبنية الاجتماعية:

إن دور الوعي كأساس للسلوك وبالتالي لتغيره ومن ثم لتغيير البنية الاجتماعية لم يبق أمراً مسلماً به، بل جاءت الفلسفة الحديثة الغربية في الاتجاه المادي منها للتشكيك به.
الماركسية بنت منظومتها النظرية على أساس الفكرة القائلة أن الوعي هو انعكاس للواقع الاجتماعي وأن من يقول إن الوعي يكون هذا الواقع هو مثالي لا بد له من أن يصطدم بما تعده هذه الفلسفة حقيقة وهو أن الوعي يعبر عن تطور البنية الاجتماعية ولا يخلق هذا التطور. ومن هنا جاء نقد الماركسية اللاذع لما دعي بالاشتراكية الطوباوية التي وضع أقطابها تصوراً لمجتمع بديل خال من مفاسد المجتمع القائم، واعتمدوا في إنشاء هذا البديل على عنصر الوعي والاقتناع وخصوصاً الاقتناع المبني على القيم الأخلاقية والضمير الذي يحض الإنسان على مناصرة العدالة.
الماركسية رأت أن سلوك الطبقات الاجتماعية يتحدد بمصالحها وليس بقناعات عقلية أو أخلاقية مجردة عن المصلحة، بل و أفكار هذه الطبقات أيضاً و رؤاها عن العالم تنبني على أساس المصلحة، ومن هنا لا تفيد الدعوة الأخلاقية أو العقلية المجردة لبناء المجتمع العادل في تحويل هذا المجتمع من فكرة إلى واقع فالمصلحة هي الدافع الذي يعتمد عليه "الاشتراكيون العلميون" لبناء هذا المجتمع أي هم يعتمدون على الطبقة التي لها مصلحة في بناء هذا المجتمع.
ومن تناقضات الماركسية الكبرى أنها في التطبيق العملي اعتمدت على ما كانت تنكره على "الطوباويين" إذ جندت المناضلين عملياً لا على أساس مصلحتهم الطبقية بل على أساس القناعات العقلية والأخلاقية وكان أكبر المناضلين الماركسيين بما فيهم مؤسسو الماركسية بالذات من غير الطبقة التي افترضت الماركسية أنها صاحبة المصلحة في النضال الاشتراكي!
ولأجل أن ينتصر شيوعيو روسيا و الصين وفيتنام وكوبا وغيرها من البلاد تم الاعتماد على نخبة من الكوادر التي لم تحرك سلوكها المصالح التي افترضتها الماركسية، وحين سيرت المجتمعات الاشتراكية لاحقاً فعلاً على هدي المصالح المادية للأفراد والجماعات تفككت التجربة الاشتراكية بأسرها وعادت الرأسمالية!
هذه تجربة غربية أو ذات جذور غربية للقفز على "البديهية التقليدية" القائلة بأولوية الوعي انتهت إلى إخفاق مدو.
على أن الحضارة الرأسمالية الحديثة جلبت على أقل تقدير في بعد العلاقات الدولية مبدأ يعمل به وليس من الضروري أن يعلن صراحة هو المبدأ التالي: "يتحدد السلوك حسب المصلحة المادية"، وهذا المبدأ هو بمثابة "سر مذاع" فالسياسيون يدعون أنهم تسيرهم دوافع أخلاقية وهم يعرفون وغيرهم يعرف أن المصالح المادية هي المحرك الأساسي لهم إن لم نقل إنها المحرك الوحيد.
ومع تراجع دور الدين، والاحتقار الذي جاءت به المادية الحديثة للأخلاق والوعظ الأخلاقي بقي من فاعلية الوعي المعترف بها أنه يحدد ما هي المصلحة ويحث صاحبه على السير وفقها! أي أن الوعي يقتصر دوره على تنظيم أمور الهوى وتيسيرها وتسييرها!
ولا شك أن التطورات اللاحقة في الفلسفة والعلوم الإنسانية في الغرب قد عززت هذا الميل لتحديد دور الوعي في تشكيل البنية الاجتماعية بل حتى في تشكيل السلوك الفردي، وهذا ما يتضح عياناً في النظرية الفرويدية التي جعلت الوعي مجرد الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي هو اللاشعور بما فيه من تثبيتات واستيهامات غريزية.ولم تكن التطورات اللاحقة أحسن حالاً فقد أعلن فوكو "موت الإنسان"، الذي لم يعن إلا تقريراً لتلاشي الحرية الفردية التي كان من المفروض أن تقريرها كان مفخرة الحضارة الحديثة،ولم يكن اعتراض وجودية سارتر الذي قرر أن الإنسان حر بطبيعته إلا اعتراضاً أجوف لأن هذه الحرية لا موضوع لها فهي عبثية مطلقة مبنية على مبدأ إلحادي جذري يقرر أن الوجود لا معنى له!
إن هذه التشكيكات النظرية في قدرة الوعي، وخاصة الوعي الأخلاقي، على تشكيل السلوك البشري، وتغييره، وتغيير البنية الاجتماعية، انعكست في شكل يأس من تغيير الواقع الذي يحس الإنسان في الغرب وفي غير الغرب بفطرته السليمة الكامنة في قاع الوعي المكبوت أنه واقع غير سليم وغير إنساني. وأعتقد أن النقد الماركسي الآثم لكل من يدعو إلى تحكيم الأخلاق لا المصلحة المادية في البناء الاجتماعي قد صار في الغرب الآن لا يطاق، لأنه تم تبنيه لمصلحة القوى الأكثر أنانية واستهتاراً بمصلحة البشرية، وما عادت الحركات الغربية الجديدة التي تدعو إلى إيقاف تدمير البيئة والحد من النزعة العسكرية العدوانية والحد من التفاوت الفاحش بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة في العالم تفكر ولو للحظة في الاستناد إلى العقلية الماركسية التي تحتقر دور الوعي والأخلاق.
لقد أثبت الوعي، وخصوصاً ذلك القسم منه الذي هو الأخلاق، أنه هو المرجع الأخير للإصلاح وأنه الرهان الأخير لبشرية يهددها الفناء فعلاً لا قولاً! (هذه الأخلاق التي لا يمكن أن تجد لها أساساً في النظريات المادية التي سادت في القرون الأخيرة في الغرب بل تجد أساسها الوحيد في نظرية الفطرة التي جاءت بها الأديان السماوية ولا سيما الدين الإسلامي بنصوصه الأصلية الباقية التي لم ينلها التحريف كما نال نصوص الأديان الأخرى) .

ثانياً: في الوعي مقرراً للسلوك- السلوك العالي والسلوك المنحط:

أدعو "بالسلوك العالي" ذلك السلوك الذي يسيره مثل أعلى، هو الذي يحدد لصاحبه هدفاً عاماً يتجاوز المصلحة الفردية الذاتية والدوافع الغريزية الدنيا (وإن كان لا يمحو هذه المصلحة وهذه الدوافع ولكنه يخضعها للهدف الأعلى ويجبرها على الانسجام معه)
وأدعو "بالسلوك المنحط" ذلك السلوك الذي لا يسيره شيء غير المصلحة الذاتية الأنانية والدوافع الغريزية الأولية الدنيا.
وبين هذين الحدين من السلوك ثمة سلوك يرجح فيه بدرجات مختلفة المثل الأعلى أو المصلحة الذاتية والدوافع الدنيا فما نراه في سلوك أفراد مجتمعنا الآن أنهم في غالبيتهم لا يخلون من لحظات يخضع فيها سلوكهم للمثل الأعلى ولكن الأغلب عليهم أن هذا المثل الأعلى عندهم مغلوب لا غالب ومرجوح لا راجح، ولهذا نقول عن مجتمعنا إنه مجتمع متخلف ممزق لا موحد، وبنتيجته النهائية التي نريد التركيز عليها هنا وفي زماننا هذا: هو مجتمع "قابل للاستعمار" وفق تعبير مالك بن نبي رحمه الله الأثير.
إن سؤال النهضة الحضارية هو في نهاية التحليل ليس إلا سؤال تغير السلوك عندنا وتحويله من سلوك يغلب على طبيعته أنه "سلوك منحط" إلى سلوك صفته الغالبة أنه "سلوك عال".
وهذا التحول السلوكي صار الآن في مجتمعنا ضرورة وجودية ولم يعد مجرد دافع لتحسين وضع المجتمع، إنه لا يتوقف عليه بقاء المجتمع متخلفاً أو نهضته بل يتوقف عليه بقاؤه أو زواله من الوجود! وإن أول شرط من شروط هذا التغير المطلوب الآن هو أن تعي الغالبية الساحقة من أفراد مجتمعنا هذه الحقيقة الحاسمة.

ثالثاً: ما الذي يغير السلوك الحضاري؟

1-نظرية توينبي ونظرية مالك بن نبي:
يرى أرنولد توينبي أن الحضارة تنشأ حين تواجه جماعة بشرية معينة "تحدياً" عظيماً "باستجابة" مناسبة، ويرى مالك بن نبي أن الحضارة تنشأ حين تندفع جماعة بشرية (يسميها بن نبي "إنسان ما قبل الحضارة") بتأثير فكرة عظيمة من طبيعة دينية صريحة أو مضمرة إلى بناء حضارة وفق القالب الذي أعطتها إياه المثل العليا للفكرة الدافعة (أو "الفكرة المطبوعة") وهذه الفكرة العظيمة تنظم الطاقة الحيوية للأفراد وتوجهها في اتجاه بنائي.
وفي اعتقادي أن كلتا النظريتين يمكن دمجهما في فكرة عامة واحدة: إن الجماعة تملؤها حين تبدأ في بناء الحضارة فكرة هدف عظيم يستحق من الفرد أن يبذل قصارى جهده في سبيل تحقيقه متنازلاً عن دوافعه الأنانية ومستبدلاً مفهومه للسعادة من مفهوم أناني يجعل السعادة تتحقق بتحقق الدوافع الدنيا إلى مفهوم غيري يجعل السعادة تتحقق بتحقق الدوافع العليا.
تحول الدافع المهيمن على الفرد المحرك لسلوكه من دافع منحط إلى دافع عال هو الذي يميز مرحلة بناء الحضارة الجديدة، وهذا الدافع المهيمن يستقى من الفكرة الجديدة الجبارة التي فرضت نفسها على الجماعة وتبنتها الأخيرة بغالبيتها الساحقة.
كيف يحدث أن تنتقل الجماعة من مرحلة "السلوك المنحط" إلى مرحلة "السلوك العالي"؟
لا بد لهذا من حدث كبير قد يكون وحياً كما في نزول الرسالات على الأنبياء عليهم السلام، وقد يكون تحدياً وجودياً خارجياً كبيراً تواجهه الجماعة.
ومن الجدير بالذكر أن الجماعة، وكما يذكر توينبي مصيباً، قد لا تستجيب للتحدي استجابة مناسبة مما يقودها إلى الفناء بالمعنى المادي الحرفي أو بالمعنى الحضاري التاريخي.

2-في السلوك الراهن لمجتمعنا: هل التغير السلوكي الجذري ممكن؟

كل ما تقدم من قول عن الوعي،وتأثيره في السلوك الاجتماعي لأفراد مجتمع ما،والعوامل التي تزيد هذا التأثير أو تنقصه،كان هدفه البحث في مسألة واحدة ملحة تطرح نفسها بشدة في وضعنا الراهن:هل نستطيع أن نراهن على تغير في السلوك الحضاري لأفراد مجتمعنا بحيث يصل سلوكهم إلى مستوى من الفاعلية الإيجابية تدفع مجتمعنا في قفزة حضارية تنهي عهد الشرذمة والضعف والتمزق،عهداً وصل الآن إلى أسوأ حالاته، بحيث تواترت النذر التي تنبئنا بخطر فناء محقق لهذه الثقافة العظيمة إن لم يتغير السلوك الحضاري للغالبية تغيراً جذرياً؟.
إن المراقب الخارجي لمجتمعنا يذهله أن المبادئ المعلنة لهذا المجتمع:مبادئ الإسلام،هي مبادئ نهضوية حضارية كافية لبناء مجتمع صحيح يتناقض كل التناقض مع المجتمع القائم ،فما الأمر إذن؟ما هو هذا السر الغريب الذي يجعل هذه المبادئ الحضارية النهضوية بعيدة عن التأثير في الفرد؟ لماذا يؤمن المسلم نظرياً بمبادئ توجهه إلى "السلوك العالي" ولكنه يسلك "سلوكاً منحطاً"؟

محمد ب 28-10-2002 03:41 AM

أزعم أن الطبيعة العامة للسلوك النهضوي الحضاري المطلوب معروفة عند المسلم،ولكنها معرفة غير فاعلة،معرفة لا تسيّر السلوك فهي مثل معرفة الطالب بضرورة الاجتهاد حين يكون يسلك سلوكاً كسولاً معاكساً لما يعلم أنه هو المطلوب والصحيح! والذي يذكّر ابن مجتمعنا بقواعد السلوك السليم النهضوي الذي يكفل وحده إمكانية نهضة مجتمعنا من كبوته المريعة معرّض للسخرية لكونه يعظ مواعظ فارغة لا فائدة منها!وقد يوصف "بالمزايدة" فإن حاول تطبيق ما يدعو إليه من سلوك في وسطه المحيط في السكن أو العمل أو العائلة سخر منه المجتمع ووصف "بالحنبلية"!
هذا كله وضع مجتمع استنفد ما عنده من حماس ومن أمل،واستنام كل فرد فيه إلى شؤونه الخاصة،فهو يحرك أغلب أفراده دوافع منحطة تجعل سلوكهم من نوع السلوك المنحط عموماً.
ولكن هذا الوعي النظري الذي قلنا أنه موجود يشكل مع ذلك أرضية للنهضة على شرط انبثاق تلك الدفعة الحضارية الخارقة التي وصفها توينبي ومالك بن نبي والتي تكوّن الحضارة.
المسألة يمكن فهمها إذا أخذنا المثال الفردي التالي:
شخص صحيح الجسم ينصحه الطبيب بجملة نصائح تكوّن مفهوماً متكاملاً عن "السلوك الصحي" ولكنه وهو صحيح يميل إلى الكسل والنزعة الذميمة التي تجعل الفرد يفضل العاجل على الآجل ولا يفكر إلا في القريب دون البعيد،وفي اللذات العاجلة متناسياً العواقب الأليمة الآجلة.
في هذه النقطة الزمنية يبدو الطبيب"حنبلياً" وقد يبدو "مزايداً"،ويطلب المستحيل،ونصائحه مجرد مواعظ مملة،أو قد يقال عنها شيء معاكس له المفعول نفسه: إنها أرقى بكثير من أن يحتملها هذا الإنسان العادي،فهي تريد أناساً مثاليين هم إلى الملائكة أقرب!
والآن تأتي تلك الدفعة حين يقع الإنسان فريسة مرض خطير فيتذكر نصائح الطبيب بحذافيرها،ويصبح السلوك الصحي بعيداً عن أن يكون مجرد "مثاليات" أو "حنبليات" بل يغدو السلوك الوحيد لإنقاذ الحياة من الخطر الداهم!
هنا تستعيد "الوصفة السلوكية" كل فاعليتها،ويغدو سلوك الفرد موجهاً باتجاه هدف واحد هو الصحة أو الحيلولة دون الهلاك،ويتوفر عنصر الالتزام وعدم الإهمال!
أخشى أن هذه الثقافة العظيمة تحتاج إلى هذه الهزة لتنفذ وصفة "السلوك الحضاري الصحي" بحذافيرها!
وإنني لآمل أن حماقة القوى الكبرى الخارجية التي لم تترك مجالاً لمنفذ للناس عندنا بل تجاهلتهم واحتقرتهم وأرتهم أنها تريد هلاكهم المادي أو الثقافي،ستقود إلى تلك النتيجة الإيجابية التي تخرج "الوصفة السلوكية النهضوية" من عالم المواعظ إلى عالم التطبيق.
عندها سيستعيد الوعي دوره الفاعل في السلوك وسيتحول السلوك عند الغالبية إلى سلوك عال يشبه سلوك تلك الأمم العظيمة التي هدمتها الحرب فأعادت بناء نفسها بهمة من أمثال ألمانيا واليابان.

3-ما هو السلوك الحضاري النهضوي المطلوب؟

في انتظار لحظة الصحوة العتيدة تلك لن يكون من تضييع الوقت التفكير بصوت مرتفع في موضوع السؤال عن مواصفات السلوك المطلوب.
وقد قلت قبل قليل إنني أعتقد أن هذا السلوك بوجه عام معروف وإن كان التطبيق العملي له مهجوراً!ولأذكر بعض الخطوط العريضة التي تخص طبيعة هذا السلوك:

أ-الفكرة الموجهة للسلوك النهضوي:

إن هذا السلوك موجه بكلية لخدمة هدف عام يخص المجموع هو هدف بناء مجتمع ناهض قوي مادياً ومتلاحم في وحدته الداخلية كالبنيان المرصوص.
ففي كل صغيرة وكبيرة من السلوك يسأل الفرد نفسه:هل هذا ملائم لهدف النهضة ويساهم في تحقيقه أم هو غير ملائم ويعرقله؟
وعلى هذا الأساس سيقمع الفرد كافة الدوافع الداخلية التي تدفعه إلى سلوك غير ملائم للهدف النهضوي العام، وسيشجع الدوافع التي تنسجم مع هذا الهدف.

ب-أمثلة على مكونات هذا السلوك:

الفرد الذي يسير سلوكه الوعي النهضوي سيقمع في نفسه الدوافع المنحطة التي تمنع ابن مجتمعنا حالياً من الأشياء التالية (مثلاً):
-أن لا يحقر شيئاً من المعروف!
فابن مجتمعنا الآن لا يقبل أن يعمل أشياء مفيدة بدعوى أنها صغيرة لا قيمة لها وتكون النتيجة أنه لا يعمل شيئاً مفيداً لا صغيراً ولا كبيراً!
-قبول رئاسة الآخر!
فالفرد عندنا في وضعه المنحط الحالي لا يقبل إلا أن يكون هو "الزعيم"، والحال أن المخلص حقاً يقبل أن يتنازل عن نزعته التزعمية،ويقمع هذه النزعة،ويطيع الشخص الكفء لتسيير أي شأن اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي بالشكل الأمثل.
-التعود على العمل الجماعي:
ابن مجتمعنا يشكو من الفردية والضعف الشديد في القدرة على التنسيق مع الآخرين،والإنسان الذي يسير سلوكه الوعي النهضوي سيقمع هذا الميل الذي يمنعه من تعلم العمل الجماعي ويجتهد لحيازة أخلاق ابن فريق العمل الناجح.
-تعلم القيام بحوار نهضوي فعال:
من ملاحظات بن نبي الصائبة أن الفرد في المجتمع المنحط "مجتمع ما بعد الحضارة" لا يبحث في جدالاته عن الحقيقة،بل هو يبحث دوماً عن حجج يفحم بها خصمه.
وأقول:إن السلوك الناهض في ميدان الحوار يجب أن يعود الفرد نفسه عليه بقمع هذه النزعة الذاتية في نفسه.الحوار النهضوي هو أشبه بحوار المهندسين والعمال في ورشة حين يواجهون مشكلة عملية ويرغبون بإخلاص في إيجاد أحسن حل لها،فهم يتعاونون وهدفهم إيجاد الحل وليس إثبات مهارة الذات في الجدل أو أن الذات "أذكى" أو "أشطر"!
ومن عيوبنا أننا في حوارنا لا نسمع الآخر حقاً وللتأكد أدعو القارئ العزيز لمراقبة أي حوار يحضره،فسيرى أن المحاور غالباً ما يتابع ما بدأ قوله رغم أن محاوره جاء للتو بمعلومات يعيد هو ذكرها غير منتبه إلى أنها قيلت من الطرف الآخر!
-قبول أن يكون الآخر على حق والإقرار بأننا على خطأ إذا ثبت لنا هذا!
وكم قال الأسلاف إن "الرجوع عن الخطأ فضيلة"!وما أكثر ما نعاند ونركب رؤوسنا ولا نقر بالخطأ!
-التنازل عن الكرامة الزائفة تجاه إخوتنا وعدم تقديم التناقضات الثانوية معهم على التناقضات الرئيسية:
هذا مع الأسف العيب الذي يوجد عندنا من أصغر وحدة اقتصادية أو سياسية إلى مستوى زعماء دولنا:نحن لا نغفر لأخينا زلة!ولسنا مستعدين للتنازل عن كرامتنا الزائفة حياله،بل لا بد لحربنا الداخلية معه أن تصل لمستوى تكسير العظام!وما أكثر ما يترافق هذا مع الخضوع الذليل للعدو الخارجي،واتباع "سياسة مرنة" معه،وحتىقبول شتى الإهانات منه!
-رفض النزول عن بعض المكتسبات الأنانية لأخينا،ومعاملته بكل دقة حسابية "شايلوكية" بمقابل الكرم الحاتمي مع غيره!
وانظروا الأمثلة في التشديد الهائل الذي نراه في التعاملات الاقتصادية بين أقطارنا:الجمرك موجود يراعى بدقة في وجه البضائع الشقيقة،العمالة يفضل أن تكون من غير الأقطار الشقيقة! و وهذا بالتناقض مع كل منطق ديمغرافي أو تربوي لكي لا نذكر المنطق العقائدي!

ج-سلوك هوأقل من الشهادة بكثير:هل أنت قادر عليه!

صحيح أننا نشهد في السنوات الأخيرة مستوى من البطولة عند شبابنا في فلسطين خصوصاً لا يكاد يكون له مثيل في تاريخ الشعوب.
وهذا المستوى من روح التضحية بالنفس أشاع فكرة يحسن بنا الوقوف معها بصورة نقدية،وهي تقول إن الحل للنهوض من الكبوة المخزية لا يكون بأقل من الشهادة!
ثمة لحظات تاريخية فاصلة تحتاج فيها المجتمعات حقاً إلى أبطال أفذاذ مستعدين أن يضحوا بحياتهم في سبيل العقيدة أو الهدف العام.وهذا موجود حتى على مستوى الحياة اليومية فربما نحتاج إلى أولئك الشجعان ليقوموا بأعمال الإنقاذ الخطرة كما هو معلوم.
ولكن لنتوقف قليلاً ونقول: هل الشجاعة وحدها وروح التضحية تكفي حقاً للنهضة المطلوبة؟
ما قولكم بشباب على مستوى عال من القدرة على التضحية بالذات ولكنهم مع ذلك مستعدون "ليضحوا بذاتهم" في قتال داخلي بين التنظيمات المتنافسة(هذا رأيناه مراراً مع الأسف في الساحة الفلسطينية،وفي ساحات عديدة أخرى)
ثم إن الشهادة على جلالة قدرها التي لا ينكرها مؤمن تظل عاملاً من عوامل النهضة لا يكون مفيداً إلا في مواضع جزئية خاصة.
ولكن المطلوب لإنقاذ هذه الثقافة العظيمة نهضة حضارية اجتماعية شاملة!
والشرط لهذه النهضة هو في اعتقادي تحول السلوك في مجتمعنا إلى السلوك النهضوي الذي ذكرته،وهذا المطلب هو في الظاهر أقل صعوبة بكثير من الشهادة! فهل يا ترى نحن قادرون عليه؟
هل نستطيع فرض الوحدة في أقطارنا من الأسفل إذا كان "الكبار" مصرين على فرض الحدود بيننا وتأبيد تجزئتنا حتى النهاية؟
هل نستطيع أن نجاهد أنفسنا الجهاد الأكبر فنمنعها من السعي لخراب الشقيق وتدميره؟ونمنعها من الحسد الذي يجعلنا نسعى لعرقلة مواهب زميلنا في العمل؟ونتغاضى عن إساءة جارنا ونحاول استمالته بالحسنى لنحقق معاً جماعة محلية متكافلة؟
وما أكثر الأمثلة من هذا النوع،ولا تستصغروها، فصدقوني ها هنا يكمن الحل إن أراد الله أن يكون حل!

محمد ب 29-10-2002 01:41 AM

<html dir="rtl"><head><title>head</title></head>
<body bgcolor="#ff0000" text="4" face="arial">
<font face="arial"size="4" color="#blue"> <b>
ما تقدم من قول كان محاولة لمناقشة السؤال:هل السلوك غير المناسب للنهضة والكفيل بتأبيد التفكك الحضاري محتوم؟هل يستطيع الوعي تغييره؟هل توجد شروط لهذا التغيير؟



<b>
</font></body></html>


عمر مطر 30-10-2002 07:40 AM

مشاركتك هذه الأخيرة تذكرني بفيصل القاسم. :)

أنا مع جملة ما ذكرته، وأعتقد أن تغيير السلوك، ونقل العقيدة النظرية إلى عقيدة عملية، يحتاج إلى قدوات تأكل الطعام وتمشي في الأسواق. فالمهاجرين والأنصار تكونت لديهم تلك الأفكار النهضوية والسلوكية العلوية التي نزلت عليهم قرآنا يتلا، ولكن الذي جعلهم قادرين على تطبيق هذه العقيدة هو مشاهدتها واقعا في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه هي البداية -في نظري-.

ونحن بحاجة الآن إلى عدد كبير من القدوات التي تحمل هذه المبادئ السامية، تعيشها وتنشرها، وفي نفس الوقت لا يؤخذ عليها مآخذ توهم النقص أو العجز، فلا يلزم على من يحمل هذه المبادئ أن يكون فقيرا رث الثياب، ولا يلزم أن يكون جامعا لعلوم الدين، تاركا لعلوم الدنيا، ولا يلزم أن يكون متقوقعا على نفسه تاركا للجماعة، ولا يلزم أن يكون عابس الوجه، قاطب الحاجبين.

نحن نفتقد القداوت.

محمد ب 30-10-2002 11:53 AM

صدقت يا عمر!
والشيء الجديد الذي عرفته من ردك الرائع حقاً وفعلاً غير ما فيه من فكرة وجيهة لماحة أنك تشاهد فيصل القاسم:)

عمر مطر 05-11-2002 05:24 AM

لو كانت لدي صورة لرجل يفتح ذراعيه ثم يعيد ضمهما لأنزلتها هنا.... ولكن للأسف لم أجد. :)

محمد ب 05-11-2002 08:32 AM

يعني ما فهمت.
أنت قصدك بهذه الصورة أن تقول:"ماذا أفعل الأمر لله!"
أو "حكم القوي على الضعيف"
هل هناك "ضغوطات" تجعلك ترى السيد فيصل القاسم أو صيك إذاً أن ترى المذيعة القديرة السيدة جمانة نمور(وهي صراحة ذات أسلوب أحسن من أخينا فيصل ..هكذا أظن..ربما أنا مخطئ..)..انظر ثم أخبرني برأيك النير..إذا استطعت:)

عمر مطر 07-11-2002 06:12 AM

لا أبدا، كنت أقصد طريقة فيصل القاسم في التقديم لبرامجه، من فتح الذراعين ثم ضمهما. :)

وأما المذيعة جمانة النمور -ولا أعرف أيهن هذه- فما برنامجها إن لم تكن مذيعة أخبار؟

لا تقل لي "للنساء فقط" فأنا صراحة لم يعجبني هذا البرنامج. :(

لماذا؟

لأن كثيرا من النساء اللاتي يستضفن عليه لا يعبرن عن الشارع العربي المسلم، بل هي المدام كارين لوك من فرنسا تتحدث عن معاناة النساء المسلمات في الوطن العربي. :angryfire

محمد ب 07-11-2002 06:31 AM

برنامج "للنساء فقط" تقدمه السيدة منتهى الرمحي من الأردن.
وفي برنامجها نساء من النوع الذي ذكرت ولكن فيه الممتازات.
يا أخي راجع صفحة المذيعين في موقع الجزيرة لتعرف عمن أتكلم!

mohd_1954 14-11-2002 11:03 AM

حكم الله وحكم العقل
 
السلوك الانساني يتبع المفاهيم والتي بالتالي تحددها الاحكام والدوافع

و تختلف أحكام الإنسان على الأفعال والأشياء باختلاف نظرته في الحياة عن تلك الأفعال والأشياء التي هي موضع إصدار الحكم.

فالمسلم مثلاً يأخذ أحكامه من الله (سبحانه) الذي آمن به خالقاً وحاكماً ومشرعاً. وغير المسلم، كالرأسمالي مثلاً يأخذ أحكامه من عقله، ويجعله أصلاً لإصدار الأحكام على الواقع.

وغيرهم قد يأخذ أحكامه من أحد المفكرين الذين لهم وجهة نظر في الحياة. ويعتبرون أفكاره هي الأصل أو الأساس لاستصدار أحكامهم على الوقائع والأشياء، وهكذا تتفاوت أحكام الناس بتفاوت هذه المصادر.

وكذلك قد يختلف الناس في تعيين الحاكم (أي من له حق إصدار الحكم) باختلاف الحكم الذي يراد إصداره، فيقال هذا حسن أو قبيح عقلاً، أو هذا حلال أو حرام شرعاً، أو هذا مسموح أو ممنوع قانوناً.

ولذلك كان من الضروري إذاً معرفة نوع الحكم لمعرفة من له حق إعطاء ذلك الحكم حتى يتعين موقف الإنسان تجاه الفعل أو الشيء هل يفعله أو يتركه أو هل يأخذه أو لا يأخذه.

ويلاحظ أولاً أن الإنسان يستطيع إصدار أحكامه على الأشياء من حيث واقعها أحَسنٌ أو قبيح، فيقول مثلاً إن المرض قبيح، والصحة حسنة، أو يقول الغنى حسن والفقر قبيح، أو الصدق حسن، والكذب قبيح وهكذا.

وقد يستطيع الإنسان أو العقل أن يصدر أحكاماً على وقائع من زوايا أخرى مثل جهة النفع أو الضرر بالنسبة له، فقد يحكم على العسل مثلاً بأنه نافع والسم ضار، وقد يرى أن الخمرة ضارة، أو مفيدة، أو أن لحم الخنـزير ضار أو مفيد، أو يعطي حكماً لواقع الماء فيقول إنه يتكون من ذرة أكسجين وذرتي هيدروجين، أو أن الأرض كروية مثلاً وأن الشمس تشرق من الشرق، وكذلك قد يعطي العقل حكماً على أفعال فيقول: إن توزيع الموارد بين الناس يجب أن يكون بالتساوي، أو قد يقول إن التوزيع يجب أن يكون حسب الجهد. أو يقول إن البنوك الربوية ضرورة للنظام الاقتصادي فهو نافع، وقد يقال إنه يحجر المال في أيدي قلة من الناس فهو ضار وهكذا فإن العقل قد يعطي حكماً لهذه الأشياء والأفعال وذلك حسب ما يراه مناسباً، وهذه الأحكام تبقى عرضة للصحة والخطأ، والتفاوت والتباين من زمان لآخر، ومن مكان لآخر، ومن شخص لآخر.

كما أن الإنسان يستطيع أن يعطي أحكاماً على الأشياء من حيث ميله لهذه الأشياء أو منافرتها لطبعه أو ملاءمتها له. فيقول مثلاً إن رائحة العطر جميلة، ورائحة البصل قبيحة، أو إن الحلو حسن، والمر قبيح، أو إن الخمرة أطيب من عصير البرتقال، أو الراحة أفضل من التعب، أو القعود خير من الخروج للقتال وهذه أيضاً فإن العقل يعطي أحكامه فيها حسب ملاءمتها طبعه وتختلف طبائع الناس باختلاف أنماط حياتهم.

أما الأحكام المتعلقة بالمدح والذم من الله، فهذه أحكام ليس للإنسان أن يصدر أحكامه عليها، بل هي لله وحده، ذلك أن الجنة والنار مخلوقات خلقها الله سبحانه كما خلق الإنسان والسماوات والأرض، وجعل استحقاق الجنة والنار منوطاً باتباع أحكامه التي أمر بها.

فالجنة والنار، والعقاب والثواب من الله مرهونة باتباع أحكام الله مالك الجنة والنار وليس بالإنسان المخلوق بحدوده التي حدّها الله له فلا يستطيع الإنسان أن يعطي حكمه في أمور خارجية عن إطار عقله أو هي فوق طاقته، بل ليس بمقدوره أن يعطي حكماً على أمر غير محسوس لديه، فيقول هذا حلال أي يدخل الجنة وهذا حرام يدخل النار إلا إذا استند لحكم من الله سبحانه في ذلك.

وقد عاب الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يصدرون أحكام الحلال والحرام حسب أهوائهم، لأنها تكون محض افتراء وكذب على رب العزة فقال سبحانه وتعالى: ]ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام[ نعم إن وصف الحلال والحرام من غير الله سبحانه هو كذب على الله، فمن يدعي هذا الوصف، فكأنما ادّعى أنه خالق، أو في موضع الخالق الذي يحكم بالحلال والحرام ولكنه تعالى رب العزة عن أن يداني مكانته أحد ]ولم يكن له كفواً أحد[.

ولذلك فإنه عندما قدِم عَدي بن حاتم الطائي ـ وكان قد تنصّر في الجاهلية ـ على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ قوله تعالى: ]اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله...[ فقال عدي: إنهم لم يعبدوهم، فقال عليه الصلاة والسلام: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم.

هكذا فسر النبي عليه الصلاة والسلام معنى العبودية ولذلك كان الأحبار والرهبان أرباباً لأولئك الذين اتبعوهم. بل إنه سبحانه وتعالى قد قبّح وصف الذين يتبعون أهواءهم بدل اتباع آيات الله وأحكامه حيث يقول في كتابه: ]واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأَتبعه الشيطان فكان من الغاوين @ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتَّبَعَ هواه، فَمَثَلُه كَمَثَل الكلب[ ففي هذه الآيات يصف الله سبحانه أولئك الذين يتبعون أهواءهم بالانحطاط إلى منـزلة البهائم، ذلك لأنهم تركوا أحكام الله واتبعوا أهواءهم التي تسيّرهم سيراً بهيمياً حسب شهواتهم وغرائزهم تماماً كما هو حال الكلب الذي خلقه الله سبحانه يسير سيراً غريزياً دون إدراك أو تمييز، بخلاف الإنسان الذي رفعه الله بالعقل والإدراك، وأمره ونهاه، فإن اتبع أوامر الله واجتنب نواهيه، ارتقى وارتفع بها (ولو شئنا لرفعناه بها) ولكنه انحدر إلى مستوى الكلاب باتباعه هواه.

يتبع............

mohd_1954 14-11-2002 11:06 AM

.......................
 
إذاً فإن وصف الحلال والحرام هو حق الله وحده وليس حسب ما يراه العقل من نفع أو ضر، أو خير أو شر، لأن الإنسان إن فعل ذلك يكون قد جعل إلهه عقله وهواه وهذا مذموم منهي عنه قال تعالى: ]أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علمٍ، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله، أفلا تذكرون[.

قد يقول قائل: إن الله سبحانه قد خاطب عقول البشر في كثير من الآيات القرآنية كما طلب من الناس أن يبحثوا عن طريق العقل في وجود الخالق، وأن يتفكروا في خلق الله تدبراً عقلياً، فأين إذا هو دور العقل ؟

نعم إنه سبحانه قد طلب منّا البحث والتفكير العقلي للتوصل إلى الحق، وإلى خالق ما وراء هذا الكون، بل إنه ذم أولئك الذين يأخذون فكرة الإيمان تقليداً لا تصديقاً جازماً مطابقاً للواقع مع وجود الدليل على هذا التصديق، ]قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون[ وخاطب العقل السوي قائلاً: ]أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت @ وإلى السماء كيف رفعت @ وإلى الجبال كيف نصبت[ دلائل على وجود الخالق. وقال أيضاً: ]أم خلقوا من غير شيء، أم هم الخالقون[ وقال: ]أفرأيتم الماء الذي تشـربون @ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنـزلون[ وقال أيضاً: ]من أي شـيء خلقه @ من نطـفة خلقه فقدره[ وقال: ]أم اتخذوا من دونه آلهة، قل هاتوا برهانكم[.

إن المتأمل في هذه الآيات يرى أن الله يأمر الإنسان باستخدام عقله في قضية الإيمان الأساسية، وهي ما وراء هذا الكون، أي من هو الخالق، ومن له حق إصدار الأحكام، ومن خلق الجنة والنار ومن له إصدار الأحكام المتعلقة بالجنة والنار، فهذا البحث إذاً لا بد أن يكون أساسه العقل، والطريق الوحيد لمعرفة الخالق حق المعرفة هي بالتفكر والبحث العقلي السليم في الآثار التي تدل على الخالق.

فلذلك كان لزاماً على الإنسان أن يتوصل إلى هذه القاعدة العقلية باستخدام العقل، وهي العقيدة السليمة التي تبنى عليها جميع أحكامه في الحياة. فيكون الإنسان بذلك قد سلم تسليماً عقلياً يقينياً بالمصدر الذي يأخذ منه أحكامه ولكن لا يصح له بعد هذا التسليم بالخالق الحاكم المشرع، أن يشرك معه في حكمه أحداً من خلقه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

إن العقل هو الأمر الأساس في العقيدة الإسلامية، فبالطريقة العقلية يقطع الإنسان بوجود الخالق سبحانه وأنه واجب الوجود، الأزلي الذي لا إله إلا هو، لا كفوَ له ولا شريك. وبالعقل يقطع الإنسان برسالة محمد r وبالقرآن كلام الله ويؤمن كذلك بكل ما ثبت أصله بالعقل كالجنة والنار والبعث والحساب.

هذا هو دور العقل وهو دور كبير، إلا أن للعقل حدوداً حدّها الله سبحانه فإن تجاوزها ضل وتاه، فهو لا يستطيع أن يحدد الحكم من حيث الثواب والعقاب فقد يرى العقل البشري أمراً يظن خيراً فيه وهو عند الله شر، وقد يرى أمراً يظن فيه نفعاً وهو عند الله إثم وضر. والشواهد على ذلك كثيرة تبين عجز الإنسان ومحدودية عقله يقول سبحانه: ]كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون[ هذا عن الجهاد الذي هو كره للإنسان وهو عند الله خير عظيم. كذلك فإنهم رأوا أن البيع مثل الربا فأعلمهم الله أن البيع حلال والربا حرام وأنهما أمران مختلفان ]ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا[.

إن العقل البشري أعجز من أن يقرر ما يُقوِّم اعوجاجه أو يصلح أمره ناهيك عن تقرير ما يصلح الآخرين، فهو قد يصدر حكماً في مسألة هذه الساعة غير ما يصدره قبل أو بعد ساعة. أما الخالق سبحانه فهو البصير بمخلوقاته العليم الخبير بالخير والشر والحسن والقبيح، فأوحى إلى رسوله r أحكاماً تنظم كل شئون حياتهم وأوجب عليهم التزامها والتقيد بها فيفوزوا بها في الدنيا والآخرة.

إن هذا الإلزام والتقيد بالأحكام الشرعية لا يعني حَجْراً على العقل بل هو إطلاق له فيما هو صالح له وعلى وجهه، فإن الله سبحانه قد كرم الإنسان بالعقل ورفعه على باقي المخلوقات ]ولقد كرمنا بني آدم[ وهو سبحانه الذي خلق للإنسان عقله وبين له حدوده، ]وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً[ وقال تعالى أيضاً: ]نرفع درجات من نشاء، وفوق كل ذي علم عليم[، وكذلك أرشد سبحانه إلى مواضع إعمال العقل، والمواضع التي لا يصح فيها إعمال العقل، فقد خاطب العقل البشري بالآيات المكية، ليرشده أن طريق معرفة الخالق هو بالتفكر العقلي في مخلوقاته وذلك كما بينا.

ثم إنه تعالى فتح للعقل باباً واسعاً للتفكر في عمارة الأرض وذلك تحت عموم باب المباحات التي أحلها الله للإنسان، من البحث العلمي، والتطوير الصناعي، والحربي ]واسعوْا في مناكبها[ ]كلوا من طيبات ما رزقناكم[ ]وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة[ وقال عليه السلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة».

وكذلك بالعقل أيضاً يدرك الإنسان أحكام الله ـ لأنه مناط التكليف ـ فبحث الواقع ومعرفة انطباق الأحكام على الوقائع هو دور العقل، وكذلك باب الاجتهاد من بذل الوسع لاستنباط أحكام الله من الأدلة الشرعية كل ذلك بإعمال العقل وذلك من الأعمال التي مدحها الله وحض عليها ]قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون[ ]فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون[ ]يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات[ ]وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به[.

وبهذا التناغم والتوافق بين فهم دور العقل الحقيقي وبين حكم الله سبحانه وتعالى، استوت أروع الأمثلة البشرية في العلاقة بين الخالق والمخلوق، وتحققت الرحمة التي بعث بها الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) عندما فهم الصحابة الأُوَلُ رضوان الله عليهم دور العقل، وأدركوا معنى الالتزام قبل كل شيء.

ومن إحدى هذه الومضات من حياة الصحابة رضوان الله عليهم نلاحظ هذا المعنى، ففي معركة بدر الكبرى عندما نزل النبي عليه الصلاة والسلام عند ماء بدر، فقال الحباب بن المنذر لرسول الله: يا رسول الله، أرأيت هذا المنـزل أمنـزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنـزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننـزله... الخ. هكذا أدرك الصحابة رضوان الله عليهم وميزوا بين حكم الله (أهو منـزل أنزلكه الله؟). أي إن كان هو حكم الله فلا علينا إلا الالتزام والطاعة. وإن يكن أمراً نعلمه ونُعمل عقولنا فيه فنصدقك الرأي (أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟) فكان الجواب أن هذا الأمر مما يجوز فيه الرأي، وكذلك كان الرأي أيضاً لغاية نوال رضوان الله سبحانه ثم كان لهم النصر...!

وأخيراً نقول: إن الافتراء على الإسلام أن يقال إن الإسلام يحجر على العقل، أو إن الإسلام لم يستطع مواكبة التطور المادي الذي وصل إليه الإنسان. بل عدم فهم حقيقة الإسلام، وحقيقة موقع المخلوق من الخالق، وحقيقة العقل البشري وطاقاته، هو الذي يؤدي إلى تيه البشرية وضياعها، فالإسلام رسالة الحق الذي أنزلها رب العزة من السـماء، ليسـير الخلقُ كما أمر الخالق عز وجل، فتنير درب حياتهم في الدنيا لتكون نبراسـاً يحتذى لأهل الأرض، ومن بعده ثواب الآخرة، فينال بذلك عز الدنيا والآخرة. والحمد لله رب العالمين q

محمد ب 14-11-2002 02:00 PM

الأخ الكريم
قرأت كلامك القيم .
وهو بمجمله يمكن لي أن أوافق عليه.
ولكن فيه عيب صغير:
كل هذا الكلام النظري الذي قلته لا يكفي للإجابة على السؤال الذي يطرحه المقال: المطلوب ليس تأملات نظرية عن الحلال والحرام ومدى دور العقل والنقل فيهما،بل هو السؤال الملموس عن أمة وصلت إلى ذروة التفتت وانعدام الفاعلية.
هل يكفي يا ترى أن نعيد ونكرر:الحل في العقيدة الصحيحة؟
هذا حل يعيدنا إلى تقطة البداية: كيف نجعل المسلم يتحول إلى فاعل؟
وهل يكفي الكلام النظري الذي سقته لحل هذا الإشكال؟
أعتقد أن مشكلتنا أننا لم نأخذ الواقع بجدية كافية ولا نزال نعتقد أننا يمكن بالأفكار المجردة أن نحل مسائل لا تخص عالم المنطق أو علم الكلام بل تخص قضايا ملموسة جداً من نوع: الوحدة السياسية وإنهاء التجزئة، العمل للنمو الاقتصادي وإنهاء التبعية، تحويل إنساننا الخامل إلى إنسان نشيط، وقف قدرتنا اللامنتهية على التجزؤ والصراع الداخلي وتقديم التناقضات الثانوية على الرئيسية،والأجوبة النظرية يمكن أن لا تدل على غير نفسها،فقد جاهد علماء الإصلاح العقدي منذ مائتي سنة في سبيل إصلاح عقيدة المسلمين وتطهيرها من البدع،بل كانت ثمة محاولات لتطبيق الشريعة الإسلامية،ولكنها توقفت أمام ظاهرة التخلف الحضاري ولم تستطع أن تحقق شيئاً يزيد على ما حققته التجارب اللبرالية والاشتراكية:كلها حققت مزيداً من التدهور والمشي إلى الوراء.
ولعمري إنني ليس عندي جواب جاهز.
موضوع مقالي كان فقط السؤال التالي:هل يمكن لنا إن عرفنا السلوك الحضاري الصحيح الذي إن سلكناه تغير وضعنا ونهضنا أن نراهن على مجرد الوعي لتغيير السلوك؟

يتيم الشعر 15-11-2002 10:53 PM




أحببت أن أسجل موقفاً ولو صغيراً هنا لكنني خشيت هجمةً شرسة من محمد وعمر لذا فضَّلت أن أراقب ولو بعينٍ واحدة .. :eek:

محمد ب 16-11-2002 03:34 AM

ول ول ول ول
إلى هذا الحد!
(أحببت أن أجيبك بالفلسطيني يا يتيم الشعر)

mohd_1954 16-11-2002 03:47 PM

العقيدة وما ينبثق منها من أحكام وما ينبني عليها من أفكار

هي أساس التغيير

سلوك الإنسان مربوط بما يحمله من مفاهيم. والمفاهيم هي قناعات ناتجة عن إدراكٍ للأشياء وخصائصها وعن ما يبنى على هذا الإدراك أو ينبثق عنه من قناعات أخرى.

========================================

والمفاهيم نوعان: الأول: مفاهيم عن الأشياء. وهي قناعات أو أحكام مصدرها الأشياء ذاتها. كقولنا: النار تحرق والسم يقتل والخمر يسكر. أو أن اللحم يؤكل والتراب لا يؤكل. أو أن كثرة الضغط تولد الانفجار، أو أن المجتمع مجموعة أفراد تربطهم علاقات دائمية. أو أن النهضة لا تكون إلا بالفكر المستنير. فهذه الأفكار أوصاف أو أحكام مصدرها موضوعها. وهي تكون صحيحة أو خطأ وذلك بحسب مطابقتها أو مخالفتها للواقع. وفي كل الحالات هي مفاهيم عند من يصدقها. وسلوك الإنسان مربوط بمفاهيمه عن الأشياء، فمن اقتنع أن طعامه مسموم فلن يتناوله وإن كان جائعاً. ومن كان عطشان فسيسعى إلى الماء لا إلى غيره، ومن أراد أن يسكر سيسعى إلى الخمر لا إلى الماء.

النوع الثاني: مفاهيم عن الحياة، وهي قناعات أو أحكام مصدرها خارج عن موضوعها. كقولنا: الصلاة فرض والغش حرام والخمر حرام والقتل حرام...، فهذا الحكم ليس مصدره الشيء نفسه أو الفعل نفسه، وإنما هذا هو موضوعه أو الواقع المحكوم عليه ومصدر الحكم شيء آخر.

فقولنا: الخمر يسكر هو صفة أو خاصية ذاتية للخمر، وهو حكم على الشيء بما فيه أو بما هو عليه. وقولنا: الخمر حرام ليس حكماً على الشيء بما فيه وإنما هو حكم من الله سبحانه الذي له أن يجعله حراماً وله أن يجعله مباحاً.

وسلوك الإنسان مربوط أيضاً بمفاهيمه عن الحياة، فإن كان مفهومه عن لحم الخنـزير بأنه يؤكل، أي أنه قابل للأكل ويشبع الجائع. فهذا مفهوم عن الشيء. والمفهوم عن الحياة هو أن الخنـزير حرام، أي أنه يجب أن يجتنبه. فمن أدرك هذا الحكم وصدقه، فهو حينئذٍ مفهوم لديه وسيؤثر في سلوكه ويمنعه من سد جوعته بلحم خنـزير.

ومن كانت لديه مفاهيم أن الصنم له أثر في أمنه ورزقه وتوفيقه، أو أن بعض الأموات لهم هذا الأثر، فإنه سيعتريه شعور الرهبة والخشوع عند الأصنام، وسيستغيث بالأموات. على العكس ممن لا يصدق هذه الأمور، فلن يتوانى عن تحقير الأصنام وتخطئة المستغيثين بالأموات.

وهكذا فإن السلوك الإنساني مربوط بالمفاهيم عن الأشياء وبالمفاهيم عن الحياة. وما يلاحظ على بعض الناس أحياناً من ضعف هذا الربط فهو ناتج عن غفلةٍ عن هذه المفاهيم أو تغييبٍ لها وكأنها ليست مفاهيم له لأسباب عديدة تعرض للنفس. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبةً يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» [رواه البخاري].

ولذلك وجب لأجل تصحيح السلوك أو تقويمه إعادةُ الحقائق إلى الأذهان: حقائق الأشياء، والحقائق الشرعية من معتقدات وأحكام، والتذكير بها كي تكون مستحضرة ماثلة كي تؤثر في السلوك. قال تعالى: ]وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين[ [الذاريات] على عكس الكافرين فإن تذكيرهم بالحقائق والمفاهيم الشرعية لا ينفعهم. فهم يسمعونها كأفكار ولكنها ليست حقائق بنظرهم، فهي ليست مفاهيم لهم، وبالتالي فلن تؤثر في سلوكهم.

فالمفاهيم عن الحياة تعيّن للإنسان كيف يعيش، فلا يكون همه أن يعيش، وإنما كيف يعيش، وليس همه أن يشبع حاجاته وإنما كيف يشبعها. ولذلك فالمفاهيم عن الحياة تجعل له طرازاً معيناً من العيش.

وبما أن المفاهيم عن الحياة مصدرها خارج عن الأشياء والأفعال ذاتها، فإنه لا يمكن أخذها إلا بعد الاقتناع بأن هذا المصدر له الحق أو الصلاحية أو السلطان بأن يحكم عليها، وأن أحكامه صحيحة.

والإسلام قد قرر أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى وأن مصدر الأحكام هو الوحي المنـزَّل على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال تعالى: ]إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه[ [يوسف/40] وقال تعالى: ]ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون[ [المائدة]. وكل حكم غير حكم الله فهو طاغوت: ]ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويرد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً[ [النساء].

فلا حكم للعقل أو للإنسان. وليس هذا سلباً لدورِ العقل أو حداً لقدراته، لأنه لا يملك الأدوات اللازمة للحكم، لأن هذا الحكم ليس مصدره الشيء أو الموضوع. فالذين جعلوا الحكم للشعب ـ مثلاً ـ لم يستندوا إلى دليل، وإنما تاهوا وضلوا، فحملوا مفهوماً غير صادق ولا واقع له، وجحدوا الحقيقة فقالوا بفصل الدين عن الحياة، ومعنى ذلك أن لا حكم لله.

وإذا أُعطيتْ صلاحية إصدار الأحكام للإنسان، وهو لا يملك أداة للحكم، فهو حينئذٍ لن يحكِّم إلا هواه وميوله ومصالحه حسبما يراها، وهي متغيرة ومتقلبة، وهو قد يرى المفسدة مصلحة وقد يرى الداء دواءً.

ومن هنا تأتي أهمية الإيمان بالله وبالنبوة وبالقرآن، فهذا الإيمان هو العقيدة التي تؤثر في السلوك، إذ تجعل عند الإنسان مفاهيم عن الحياة تعيّن له كيف يعيش، وغايته في الحياة، وغايته من سلوكه وهي أن ينال رضا الله عز وجل.

ومن هنا ـ أيضاً ـ تظهر أهمية أن تكون المفاهيم عن الأشياء وعن الحياة صحيحة صادقة، أي أن تكون حقائق. ويظهر أيضاً خطر عملية التجهيل والتضليل وتسويق المغالطات لإيجاد مفاهيم خطأ لدى الناس، وبذلك يقعون ضحية للجهل والضلال: ]قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً @ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً[ [الكهف]. نعم يضل الأفراد وتضل الشعوب كما تضل سمكة في البحر حين تلتهم الطُعم، أو فأرةٌ أسرعت إلى طعام لها على مصيدة.

ويتيه الإنسان ولا يصل إلى غايته حين يسير في طريق مقتنعاً بأنه يوصله إليها، وهو في الحقيقة يسير في الاتجاه المعاكس.

ويضل كذلك عندما يحمل مفاهيم خطأ عن الحياة نتيجة الجهل أو التحريف كمن يَرى أو يُرى أن الربا مباح، وأن الديمقراطية من الإسلام. أو أن تعلم الشريعة هو لأجل التكسب كغيره من الاختصاصات أو المهن. وعندما تُغَيَّب حقائق الإسلام وتُحشى الأذهان بأفكار خطأ كأفكار الحريات العامة، أو بأن تغيير الواقع المنحط مستحيل في جيلنا أو في مئات السنين، أو أنه مِنَّةٌ من الله لا يسعنا إلا أن ننتظرها قاعدين أو أن ننتظر المهدي. وبذلك يتحول الأفراد والشعوب أو الأمة إلى مجموعة كسالى خاملين يُساقون حيث يريد من يحمِّلهم هذه المفاهيم، وإلى أدوات لعدوهم وهم يظنون أنهم يحاربونه: ]كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه[ [الرعد/14] ، ]مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون[ [البقرة].

ولذلك نكرر، أنه لأجل تغيير السلوك وتصحيحه وجعله سلوكاً صحيحاً راقياً وموصلاً إلى غايته، لا بد من إيجاد المفاهيم الصحيحة عن الأشياء وعن الحياة، وحينئذٍ يحسن الإنسان تسخير الأشياء وخصائصها بنجاح ويحسن السلوك الموصل إلى غايته وإلى غاية الغايات وهي نوال رضوان الله عز وجل: ]وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك[ [القصص/77].

إن أولى الحقائق وأهمها على الإطلاق هي العقيدة التي تعيّن للإنسان مفاهيمه عن الحياة، وهي أن الأشياء كلها مخلوقة لخالق هو الله سبحانه وتعالى، وأن الله أرسل رسولاً هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسالة الإسلام التي تبين كل ما يلزم الإنسان، وأنه تعالى سيحاسبه على الإيمان أو الكفر وعلى التقيد أو عدم التقيد بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم q

محمد ب 17-11-2002 01:13 PM

أختلف مع بعض ما ذكرت مثل الجزم القاطع بأن الديمقراطية ليست من الإسلام!
وهذا نقاش طويل لست بصدده الآن وهو من مصائب فكر بعض "الإسلاميين" في عصرنا.
ولكني سأعود إلى الموضوع الجوهري لأقول: إذا لخصنا النتيجة النهائية لمداخلتك المفصلة فسنقول إنك ترى أن السلوك يتحدد بصورة تامة بالوعي.
وهذا يدلني على أنك مع الأسف لم تدرك المشكلة التي قادتني إلى كتابة هذا المقال في حوار مع نفسي محاولاً حلها: المشكلة هي بالتحديد أن الوعي ليس هو الذي يحرك السلوك على ما يبدو!
وفي السؤال عن شروط تفعيل الوعي وتحويله إلى برنامج واقعي للسلوك الحضاري كتبت ما كتبت واستعرضت آراء وناقشتها.

mohd_1954 22-11-2002 02:35 PM

ما هو مفهوم الوعي عندك لاستطيع تحديد الاجابة؟

محمد ب 23-11-2002 04:36 AM

الأخ الكريم:
(يا أخي اسمك صعب وأنت أول من يشجع فيما أعتقد استعمال العربية في الأسماء فليتك سميت نفسك باسم نعرفه ويسهل علينا أن نناديك به!)
سألتني عن تعريفي للوعي،وهو سؤال وجيه.
أستعمل مصطلح "الوعي" بالمعنى النفسي الذي هو "إدراك المحيط والذات" وهذا الإدراك لا يكون صحيحاً تماماًً أبداً.
وأستعمله أيضاً بصورة خاصة في المجال الاجتماعي بمعنى إدراك الفرد والجماعة لطبيعة البنية الاجتماعية وما هي مركباتها وما هي المهام المفروضة على الجماعة مثل مواجهة التحديات المختلفة الداخلية والخارجية.
وأستعمله ثالثاً بالمعنى العقدي بمعنى مجموعة المعتقدات التي تؤمن بها الجماعة أو فلسفتها التي الدين أحد أشكالها،وقد تكون الجماعة دهرية ملحدة في معتقدهاأيضاً.

mohd_1954 26-11-2002 05:01 AM

الاخ محمد ب
 
اولا اسمي ليس صعبا كما تقول وسبب التسميه هو انت لاني عندما سجلت للمنتدى باسم محمد جاءت رسالة المنتدى بان الاسم موجود فكتبته بالانجليزية مع سنة ميلادي للتمييز ليس الا .

ثانيا ان كان هذا معنى الوعي عندك فارجو ان تقرا الردود مرة اخرى بتمعن وستجد الاجابة عن تساؤلاتك .

محمد ب 26-11-2002 05:56 AM

أخي محمد 1954
اسمي ليس هو المشكلة لأن هناك فراغاً وباء زادا.
يبدو أن أحداً قبلك سجل باسم محمد
ولو سجلت باسم محمد 1954 فلا أظن أن هذا الاسم سبق تسجيله!
وأما إعادتك لي إلى ملاحظاتك فأشكرك عليها وأعيدك بدوري إلى ملاحظاتي!


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.