أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   خيمة الثقافة والأدب (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=9)
-   -   هل من الممكن أن يتغير السلوك الحضاري في مجتمعنا؟ (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=27677)

محمد ب 28-10-2002 03:39 AM

هل من الممكن أن يتغير السلوك الحضاري في مجتمعنا؟
 
<html dir="rtl"><head><title>head</title></head>
<body bgcolor="#ffff00" text="7" face="arial">
<font face="arial"size="6" color="#fuchsia"><center><b>
أولاً:في الوعي فاعلاً
</b></center>

</font></body></html>



1-الوعي كأساس لتغير السلوك:

منذ طفولة الإنسانية الأولى توجه الأنبياء عليهم السلام (والمصلحون أيضاً) إلى وعي الأفراد، وعبر تغيير هذا الوعي كانوا يريدون تغيير الواقع الفاسد.
فتغيير سلوك البشر كان يتم عبر المرور بتلك الحلقة الضرورية التي هي تغيير وعيهم.
ولا شك أن هذا الوعي نفسه مركب من عناصر فطرية ومكتسبة منها ما استقي من التجربة والتأمل العقلي ومنها ما ورث في الفطرة ووضعه الله عز وجل في أساس الخلق، فالأنبياء عليهم السلام منذ آدم اعتمدوا على العنصرين معاً: التذكير بما هو عميق في فطرة الإنسان و الدعوة إلى التفكير والنظر في الكون، وفي ما يراه العقل السليم إن حكّمه صاحبه ولم ينصرف عنه إلى الهوى،لقد توجهوا إلى مكوّنين متكاملين يكوّنان الوعي الإنساني:المكوّن الأوّل هو "الوعي الموروث" الذي هو الفطرة، ويتضمن أساساً الوعي الديني والأخلاقي غير المكتسب ،ويتضمن أيضاً المعلومات الغريزية عن العالم والدوافع الأوّلية التي تحفظ بقاء الفرد والنوع، والمكوّن الثاني هو "الوعي المكتسب" الذي يكتسب عبر الخبرة والاستنتاج العقلي.
والأساس النظري للتغير الاجتماعي في نظر الإسلام يمر بوضوح بعنصر الوعي"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
والسلوك الاجتماعي للفرد يظهر فيه بصورة واضحة أثر المكوّنين، فهو بدفع من "الوعي الأخلاقي" يصطف في الصراعات الاجتماعية خلف طرف يحدده على أنه "خير" وهذا التحديد يتولاه المكوّن الثاني من الوعي المتعلق بالخبرة والعقل،غير أن هذا السلوك قد يكون سوياً حين يحدد الفرد ما هو "خير" بصورة صحيحة ويصطف إلى جانبه وقد تعتري هذا السلوك اختلالات،فهو قد يصاب بموات للوعي الأخلاقي فتسير سلوكه العوامل الأنانيّة والغرائز الدنيا،وقد لا يختل هذا الوعي الأخلاقي ولكنه بسبب من الوعي العقلي الخاطئ وانعدام الخبرة يتوجه باتجاه خاطئ ولا يرى الشر والخير على صفتهما الحقيقية بل يخلط بينهما(ومن هنا كان دعاء النبي عليه السلام الأثير:"اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه!)وقد يصاب الوعي الأخلاقي بالإحباط فيتحيّد ويكف عن الفعل ويفقد قوّته المحركة تحت هيمنة وعي مكتسب موسوم باليأس والشعور بالعجز.
والوعي عموماً يتراوح في فاعليته أي في مقدرته على تقرير السلوك وتغييره بين حدي الانعدام (الانصياع التام للهوى أو تقاليد الآباء أو القوى الخارجية الغاشمة) و حد الهيمنة المطلقة في تحد تام للهوى والمصلحة والتقاليد والقوى الخارجية ونجد هذه الحالة الأخيرة مثلاً في الصمود الأسطوري لبلال بن رباح رضي الله عنه في وجه التعذيب الذي واجهه به سادته وإصراره على التوحيد: "أحد أحد".
ويشكل المجتمع الوليد في المدينة المنورة الذي تكون من المهاجرين والأنصار أحد الأمثلة الفريدة في تاريخ البشرية على هيمنة الوعي على السلوك، فقد خالف أفراد ذلك المجتمع هواهم وغرائزهم الدنيا في سبيل بناء نموذج حضاري ينسجم مع فكرة الوحي عن المجتمع النموذجي.
هكذا شارك الأنصار المهاجرين في أموالهم ودورهم وآخوهم وخلطوهم بأنفسهم.
وفاعلية الوعي لا تستمد جذورها من عنصر واحد فقط هو عنصر الاقتناع العقلي البارد، إذ هناك دفعة انفعالية قوية تحرك معتنق العقيدة وتغير سلوكه وتصوغه وفق ما يسميه مالك بن نبي "الفكرة المطبوعة" للعقيدة.

2

محمد ب 28-10-2002 03:40 AM

-عصر الشك في قيمة الوعي كعنصر مشكل للسلوك ومن خلاله للبنية الاجتماعية:

إن دور الوعي كأساس للسلوك وبالتالي لتغيره ومن ثم لتغيير البنية الاجتماعية لم يبق أمراً مسلماً به، بل جاءت الفلسفة الحديثة الغربية في الاتجاه المادي منها للتشكيك به.
الماركسية بنت منظومتها النظرية على أساس الفكرة القائلة أن الوعي هو انعكاس للواقع الاجتماعي وأن من يقول إن الوعي يكون هذا الواقع هو مثالي لا بد له من أن يصطدم بما تعده هذه الفلسفة حقيقة وهو أن الوعي يعبر عن تطور البنية الاجتماعية ولا يخلق هذا التطور. ومن هنا جاء نقد الماركسية اللاذع لما دعي بالاشتراكية الطوباوية التي وضع أقطابها تصوراً لمجتمع بديل خال من مفاسد المجتمع القائم، واعتمدوا في إنشاء هذا البديل على عنصر الوعي والاقتناع وخصوصاً الاقتناع المبني على القيم الأخلاقية والضمير الذي يحض الإنسان على مناصرة العدالة.
الماركسية رأت أن سلوك الطبقات الاجتماعية يتحدد بمصالحها وليس بقناعات عقلية أو أخلاقية مجردة عن المصلحة، بل و أفكار هذه الطبقات أيضاً و رؤاها عن العالم تنبني على أساس المصلحة، ومن هنا لا تفيد الدعوة الأخلاقية أو العقلية المجردة لبناء المجتمع العادل في تحويل هذا المجتمع من فكرة إلى واقع فالمصلحة هي الدافع الذي يعتمد عليه "الاشتراكيون العلميون" لبناء هذا المجتمع أي هم يعتمدون على الطبقة التي لها مصلحة في بناء هذا المجتمع.
ومن تناقضات الماركسية الكبرى أنها في التطبيق العملي اعتمدت على ما كانت تنكره على "الطوباويين" إذ جندت المناضلين عملياً لا على أساس مصلحتهم الطبقية بل على أساس القناعات العقلية والأخلاقية وكان أكبر المناضلين الماركسيين بما فيهم مؤسسو الماركسية بالذات من غير الطبقة التي افترضت الماركسية أنها صاحبة المصلحة في النضال الاشتراكي!
ولأجل أن ينتصر شيوعيو روسيا و الصين وفيتنام وكوبا وغيرها من البلاد تم الاعتماد على نخبة من الكوادر التي لم تحرك سلوكها المصالح التي افترضتها الماركسية، وحين سيرت المجتمعات الاشتراكية لاحقاً فعلاً على هدي المصالح المادية للأفراد والجماعات تفككت التجربة الاشتراكية بأسرها وعادت الرأسمالية!
هذه تجربة غربية أو ذات جذور غربية للقفز على "البديهية التقليدية" القائلة بأولوية الوعي انتهت إلى إخفاق مدو.
على أن الحضارة الرأسمالية الحديثة جلبت على أقل تقدير في بعد العلاقات الدولية مبدأ يعمل به وليس من الضروري أن يعلن صراحة هو المبدأ التالي: "يتحدد السلوك حسب المصلحة المادية"، وهذا المبدأ هو بمثابة "سر مذاع" فالسياسيون يدعون أنهم تسيرهم دوافع أخلاقية وهم يعرفون وغيرهم يعرف أن المصالح المادية هي المحرك الأساسي لهم إن لم نقل إنها المحرك الوحيد.
ومع تراجع دور الدين، والاحتقار الذي جاءت به المادية الحديثة للأخلاق والوعظ الأخلاقي بقي من فاعلية الوعي المعترف بها أنه يحدد ما هي المصلحة ويحث صاحبه على السير وفقها! أي أن الوعي يقتصر دوره على تنظيم أمور الهوى وتيسيرها وتسييرها!
ولا شك أن التطورات اللاحقة في الفلسفة والعلوم الإنسانية في الغرب قد عززت هذا الميل لتحديد دور الوعي في تشكيل البنية الاجتماعية بل حتى في تشكيل السلوك الفردي، وهذا ما يتضح عياناً في النظرية الفرويدية التي جعلت الوعي مجرد الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي هو اللاشعور بما فيه من تثبيتات واستيهامات غريزية.ولم تكن التطورات اللاحقة أحسن حالاً فقد أعلن فوكو "موت الإنسان"، الذي لم يعن إلا تقريراً لتلاشي الحرية الفردية التي كان من المفروض أن تقريرها كان مفخرة الحضارة الحديثة،ولم يكن اعتراض وجودية سارتر الذي قرر أن الإنسان حر بطبيعته إلا اعتراضاً أجوف لأن هذه الحرية لا موضوع لها فهي عبثية مطلقة مبنية على مبدأ إلحادي جذري يقرر أن الوجود لا معنى له!
إن هذه التشكيكات النظرية في قدرة الوعي، وخاصة الوعي الأخلاقي، على تشكيل السلوك البشري، وتغييره، وتغيير البنية الاجتماعية، انعكست في شكل يأس من تغيير الواقع الذي يحس الإنسان في الغرب وفي غير الغرب بفطرته السليمة الكامنة في قاع الوعي المكبوت أنه واقع غير سليم وغير إنساني. وأعتقد أن النقد الماركسي الآثم لكل من يدعو إلى تحكيم الأخلاق لا المصلحة المادية في البناء الاجتماعي قد صار في الغرب الآن لا يطاق، لأنه تم تبنيه لمصلحة القوى الأكثر أنانية واستهتاراً بمصلحة البشرية، وما عادت الحركات الغربية الجديدة التي تدعو إلى إيقاف تدمير البيئة والحد من النزعة العسكرية العدوانية والحد من التفاوت الفاحش بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة في العالم تفكر ولو للحظة في الاستناد إلى العقلية الماركسية التي تحتقر دور الوعي والأخلاق.
لقد أثبت الوعي، وخصوصاً ذلك القسم منه الذي هو الأخلاق، أنه هو المرجع الأخير للإصلاح وأنه الرهان الأخير لبشرية يهددها الفناء فعلاً لا قولاً! (هذه الأخلاق التي لا يمكن أن تجد لها أساساً في النظريات المادية التي سادت في القرون الأخيرة في الغرب بل تجد أساسها الوحيد في نظرية الفطرة التي جاءت بها الأديان السماوية ولا سيما الدين الإسلامي بنصوصه الأصلية الباقية التي لم ينلها التحريف كما نال نصوص الأديان الأخرى) .

ثانياً: في الوعي مقرراً للسلوك- السلوك العالي والسلوك المنحط:

أدعو "بالسلوك العالي" ذلك السلوك الذي يسيره مثل أعلى، هو الذي يحدد لصاحبه هدفاً عاماً يتجاوز المصلحة الفردية الذاتية والدوافع الغريزية الدنيا (وإن كان لا يمحو هذه المصلحة وهذه الدوافع ولكنه يخضعها للهدف الأعلى ويجبرها على الانسجام معه)
وأدعو "بالسلوك المنحط" ذلك السلوك الذي لا يسيره شيء غير المصلحة الذاتية الأنانية والدوافع الغريزية الأولية الدنيا.
وبين هذين الحدين من السلوك ثمة سلوك يرجح فيه بدرجات مختلفة المثل الأعلى أو المصلحة الذاتية والدوافع الدنيا فما نراه في سلوك أفراد مجتمعنا الآن أنهم في غالبيتهم لا يخلون من لحظات يخضع فيها سلوكهم للمثل الأعلى ولكن الأغلب عليهم أن هذا المثل الأعلى عندهم مغلوب لا غالب ومرجوح لا راجح، ولهذا نقول عن مجتمعنا إنه مجتمع متخلف ممزق لا موحد، وبنتيجته النهائية التي نريد التركيز عليها هنا وفي زماننا هذا: هو مجتمع "قابل للاستعمار" وفق تعبير مالك بن نبي رحمه الله الأثير.
إن سؤال النهضة الحضارية هو في نهاية التحليل ليس إلا سؤال تغير السلوك عندنا وتحويله من سلوك يغلب على طبيعته أنه "سلوك منحط" إلى سلوك صفته الغالبة أنه "سلوك عال".
وهذا التحول السلوكي صار الآن في مجتمعنا ضرورة وجودية ولم يعد مجرد دافع لتحسين وضع المجتمع، إنه لا يتوقف عليه بقاء المجتمع متخلفاً أو نهضته بل يتوقف عليه بقاؤه أو زواله من الوجود! وإن أول شرط من شروط هذا التغير المطلوب الآن هو أن تعي الغالبية الساحقة من أفراد مجتمعنا هذه الحقيقة الحاسمة.

ثالثاً: ما الذي يغير السلوك الحضاري؟

1-نظرية توينبي ونظرية مالك بن نبي:
يرى أرنولد توينبي أن الحضارة تنشأ حين تواجه جماعة بشرية معينة "تحدياً" عظيماً "باستجابة" مناسبة، ويرى مالك بن نبي أن الحضارة تنشأ حين تندفع جماعة بشرية (يسميها بن نبي "إنسان ما قبل الحضارة") بتأثير فكرة عظيمة من طبيعة دينية صريحة أو مضمرة إلى بناء حضارة وفق القالب الذي أعطتها إياه المثل العليا للفكرة الدافعة (أو "الفكرة المطبوعة") وهذه الفكرة العظيمة تنظم الطاقة الحيوية للأفراد وتوجهها في اتجاه بنائي.
وفي اعتقادي أن كلتا النظريتين يمكن دمجهما في فكرة عامة واحدة: إن الجماعة تملؤها حين تبدأ في بناء الحضارة فكرة هدف عظيم يستحق من الفرد أن يبذل قصارى جهده في سبيل تحقيقه متنازلاً عن دوافعه الأنانية ومستبدلاً مفهومه للسعادة من مفهوم أناني يجعل السعادة تتحقق بتحقق الدوافع الدنيا إلى مفهوم غيري يجعل السعادة تتحقق بتحقق الدوافع العليا.
تحول الدافع المهيمن على الفرد المحرك لسلوكه من دافع منحط إلى دافع عال هو الذي يميز مرحلة بناء الحضارة الجديدة، وهذا الدافع المهيمن يستقى من الفكرة الجديدة الجبارة التي فرضت نفسها على الجماعة وتبنتها الأخيرة بغالبيتها الساحقة.
كيف يحدث أن تنتقل الجماعة من مرحلة "السلوك المنحط" إلى مرحلة "السلوك العالي"؟
لا بد لهذا من حدث كبير قد يكون وحياً كما في نزول الرسالات على الأنبياء عليهم السلام، وقد يكون تحدياً وجودياً خارجياً كبيراً تواجهه الجماعة.
ومن الجدير بالذكر أن الجماعة، وكما يذكر توينبي مصيباً، قد لا تستجيب للتحدي استجابة مناسبة مما يقودها إلى الفناء بالمعنى المادي الحرفي أو بالمعنى الحضاري التاريخي.

2-في السلوك الراهن لمجتمعنا: هل التغير السلوكي الجذري ممكن؟

كل ما تقدم من قول عن الوعي،وتأثيره في السلوك الاجتماعي لأفراد مجتمع ما،والعوامل التي تزيد هذا التأثير أو تنقصه،كان هدفه البحث في مسألة واحدة ملحة تطرح نفسها بشدة في وضعنا الراهن:هل نستطيع أن نراهن على تغير في السلوك الحضاري لأفراد مجتمعنا بحيث يصل سلوكهم إلى مستوى من الفاعلية الإيجابية تدفع مجتمعنا في قفزة حضارية تنهي عهد الشرذمة والضعف والتمزق،عهداً وصل الآن إلى أسوأ حالاته، بحيث تواترت النذر التي تنبئنا بخطر فناء محقق لهذه الثقافة العظيمة إن لم يتغير السلوك الحضاري للغالبية تغيراً جذرياً؟.
إن المراقب الخارجي لمجتمعنا يذهله أن المبادئ المعلنة لهذا المجتمع:مبادئ الإسلام،هي مبادئ نهضوية حضارية كافية لبناء مجتمع صحيح يتناقض كل التناقض مع المجتمع القائم ،فما الأمر إذن؟ما هو هذا السر الغريب الذي يجعل هذه المبادئ الحضارية النهضوية بعيدة عن التأثير في الفرد؟ لماذا يؤمن المسلم نظرياً بمبادئ توجهه إلى "السلوك العالي" ولكنه يسلك "سلوكاً منحطاً"؟

محمد ب 28-10-2002 03:41 AM

أزعم أن الطبيعة العامة للسلوك النهضوي الحضاري المطلوب معروفة عند المسلم،ولكنها معرفة غير فاعلة،معرفة لا تسيّر السلوك فهي مثل معرفة الطالب بضرورة الاجتهاد حين يكون يسلك سلوكاً كسولاً معاكساً لما يعلم أنه هو المطلوب والصحيح! والذي يذكّر ابن مجتمعنا بقواعد السلوك السليم النهضوي الذي يكفل وحده إمكانية نهضة مجتمعنا من كبوته المريعة معرّض للسخرية لكونه يعظ مواعظ فارغة لا فائدة منها!وقد يوصف "بالمزايدة" فإن حاول تطبيق ما يدعو إليه من سلوك في وسطه المحيط في السكن أو العمل أو العائلة سخر منه المجتمع ووصف "بالحنبلية"!
هذا كله وضع مجتمع استنفد ما عنده من حماس ومن أمل،واستنام كل فرد فيه إلى شؤونه الخاصة،فهو يحرك أغلب أفراده دوافع منحطة تجعل سلوكهم من نوع السلوك المنحط عموماً.
ولكن هذا الوعي النظري الذي قلنا أنه موجود يشكل مع ذلك أرضية للنهضة على شرط انبثاق تلك الدفعة الحضارية الخارقة التي وصفها توينبي ومالك بن نبي والتي تكوّن الحضارة.
المسألة يمكن فهمها إذا أخذنا المثال الفردي التالي:
شخص صحيح الجسم ينصحه الطبيب بجملة نصائح تكوّن مفهوماً متكاملاً عن "السلوك الصحي" ولكنه وهو صحيح يميل إلى الكسل والنزعة الذميمة التي تجعل الفرد يفضل العاجل على الآجل ولا يفكر إلا في القريب دون البعيد،وفي اللذات العاجلة متناسياً العواقب الأليمة الآجلة.
في هذه النقطة الزمنية يبدو الطبيب"حنبلياً" وقد يبدو "مزايداً"،ويطلب المستحيل،ونصائحه مجرد مواعظ مملة،أو قد يقال عنها شيء معاكس له المفعول نفسه: إنها أرقى بكثير من أن يحتملها هذا الإنسان العادي،فهي تريد أناساً مثاليين هم إلى الملائكة أقرب!
والآن تأتي تلك الدفعة حين يقع الإنسان فريسة مرض خطير فيتذكر نصائح الطبيب بحذافيرها،ويصبح السلوك الصحي بعيداً عن أن يكون مجرد "مثاليات" أو "حنبليات" بل يغدو السلوك الوحيد لإنقاذ الحياة من الخطر الداهم!
هنا تستعيد "الوصفة السلوكية" كل فاعليتها،ويغدو سلوك الفرد موجهاً باتجاه هدف واحد هو الصحة أو الحيلولة دون الهلاك،ويتوفر عنصر الالتزام وعدم الإهمال!
أخشى أن هذه الثقافة العظيمة تحتاج إلى هذه الهزة لتنفذ وصفة "السلوك الحضاري الصحي" بحذافيرها!
وإنني لآمل أن حماقة القوى الكبرى الخارجية التي لم تترك مجالاً لمنفذ للناس عندنا بل تجاهلتهم واحتقرتهم وأرتهم أنها تريد هلاكهم المادي أو الثقافي،ستقود إلى تلك النتيجة الإيجابية التي تخرج "الوصفة السلوكية النهضوية" من عالم المواعظ إلى عالم التطبيق.
عندها سيستعيد الوعي دوره الفاعل في السلوك وسيتحول السلوك عند الغالبية إلى سلوك عال يشبه سلوك تلك الأمم العظيمة التي هدمتها الحرب فأعادت بناء نفسها بهمة من أمثال ألمانيا واليابان.

3-ما هو السلوك الحضاري النهضوي المطلوب؟

في انتظار لحظة الصحوة العتيدة تلك لن يكون من تضييع الوقت التفكير بصوت مرتفع في موضوع السؤال عن مواصفات السلوك المطلوب.
وقد قلت قبل قليل إنني أعتقد أن هذا السلوك بوجه عام معروف وإن كان التطبيق العملي له مهجوراً!ولأذكر بعض الخطوط العريضة التي تخص طبيعة هذا السلوك:

أ-الفكرة الموجهة للسلوك النهضوي:

إن هذا السلوك موجه بكلية لخدمة هدف عام يخص المجموع هو هدف بناء مجتمع ناهض قوي مادياً ومتلاحم في وحدته الداخلية كالبنيان المرصوص.
ففي كل صغيرة وكبيرة من السلوك يسأل الفرد نفسه:هل هذا ملائم لهدف النهضة ويساهم في تحقيقه أم هو غير ملائم ويعرقله؟
وعلى هذا الأساس سيقمع الفرد كافة الدوافع الداخلية التي تدفعه إلى سلوك غير ملائم للهدف النهضوي العام، وسيشجع الدوافع التي تنسجم مع هذا الهدف.

ب-أمثلة على مكونات هذا السلوك:

الفرد الذي يسير سلوكه الوعي النهضوي سيقمع في نفسه الدوافع المنحطة التي تمنع ابن مجتمعنا حالياً من الأشياء التالية (مثلاً):
-أن لا يحقر شيئاً من المعروف!
فابن مجتمعنا الآن لا يقبل أن يعمل أشياء مفيدة بدعوى أنها صغيرة لا قيمة لها وتكون النتيجة أنه لا يعمل شيئاً مفيداً لا صغيراً ولا كبيراً!
-قبول رئاسة الآخر!
فالفرد عندنا في وضعه المنحط الحالي لا يقبل إلا أن يكون هو "الزعيم"، والحال أن المخلص حقاً يقبل أن يتنازل عن نزعته التزعمية،ويقمع هذه النزعة،ويطيع الشخص الكفء لتسيير أي شأن اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي بالشكل الأمثل.
-التعود على العمل الجماعي:
ابن مجتمعنا يشكو من الفردية والضعف الشديد في القدرة على التنسيق مع الآخرين،والإنسان الذي يسير سلوكه الوعي النهضوي سيقمع هذا الميل الذي يمنعه من تعلم العمل الجماعي ويجتهد لحيازة أخلاق ابن فريق العمل الناجح.
-تعلم القيام بحوار نهضوي فعال:
من ملاحظات بن نبي الصائبة أن الفرد في المجتمع المنحط "مجتمع ما بعد الحضارة" لا يبحث في جدالاته عن الحقيقة،بل هو يبحث دوماً عن حجج يفحم بها خصمه.
وأقول:إن السلوك الناهض في ميدان الحوار يجب أن يعود الفرد نفسه عليه بقمع هذه النزعة الذاتية في نفسه.الحوار النهضوي هو أشبه بحوار المهندسين والعمال في ورشة حين يواجهون مشكلة عملية ويرغبون بإخلاص في إيجاد أحسن حل لها،فهم يتعاونون وهدفهم إيجاد الحل وليس إثبات مهارة الذات في الجدل أو أن الذات "أذكى" أو "أشطر"!
ومن عيوبنا أننا في حوارنا لا نسمع الآخر حقاً وللتأكد أدعو القارئ العزيز لمراقبة أي حوار يحضره،فسيرى أن المحاور غالباً ما يتابع ما بدأ قوله رغم أن محاوره جاء للتو بمعلومات يعيد هو ذكرها غير منتبه إلى أنها قيلت من الطرف الآخر!
-قبول أن يكون الآخر على حق والإقرار بأننا على خطأ إذا ثبت لنا هذا!
وكم قال الأسلاف إن "الرجوع عن الخطأ فضيلة"!وما أكثر ما نعاند ونركب رؤوسنا ولا نقر بالخطأ!
-التنازل عن الكرامة الزائفة تجاه إخوتنا وعدم تقديم التناقضات الثانوية معهم على التناقضات الرئيسية:
هذا مع الأسف العيب الذي يوجد عندنا من أصغر وحدة اقتصادية أو سياسية إلى مستوى زعماء دولنا:نحن لا نغفر لأخينا زلة!ولسنا مستعدين للتنازل عن كرامتنا الزائفة حياله،بل لا بد لحربنا الداخلية معه أن تصل لمستوى تكسير العظام!وما أكثر ما يترافق هذا مع الخضوع الذليل للعدو الخارجي،واتباع "سياسة مرنة" معه،وحتىقبول شتى الإهانات منه!
-رفض النزول عن بعض المكتسبات الأنانية لأخينا،ومعاملته بكل دقة حسابية "شايلوكية" بمقابل الكرم الحاتمي مع غيره!
وانظروا الأمثلة في التشديد الهائل الذي نراه في التعاملات الاقتصادية بين أقطارنا:الجمرك موجود يراعى بدقة في وجه البضائع الشقيقة،العمالة يفضل أن تكون من غير الأقطار الشقيقة! و وهذا بالتناقض مع كل منطق ديمغرافي أو تربوي لكي لا نذكر المنطق العقائدي!

ج-سلوك هوأقل من الشهادة بكثير:هل أنت قادر عليه!

صحيح أننا نشهد في السنوات الأخيرة مستوى من البطولة عند شبابنا في فلسطين خصوصاً لا يكاد يكون له مثيل في تاريخ الشعوب.
وهذا المستوى من روح التضحية بالنفس أشاع فكرة يحسن بنا الوقوف معها بصورة نقدية،وهي تقول إن الحل للنهوض من الكبوة المخزية لا يكون بأقل من الشهادة!
ثمة لحظات تاريخية فاصلة تحتاج فيها المجتمعات حقاً إلى أبطال أفذاذ مستعدين أن يضحوا بحياتهم في سبيل العقيدة أو الهدف العام.وهذا موجود حتى على مستوى الحياة اليومية فربما نحتاج إلى أولئك الشجعان ليقوموا بأعمال الإنقاذ الخطرة كما هو معلوم.
ولكن لنتوقف قليلاً ونقول: هل الشجاعة وحدها وروح التضحية تكفي حقاً للنهضة المطلوبة؟
ما قولكم بشباب على مستوى عال من القدرة على التضحية بالذات ولكنهم مع ذلك مستعدون "ليضحوا بذاتهم" في قتال داخلي بين التنظيمات المتنافسة(هذا رأيناه مراراً مع الأسف في الساحة الفلسطينية،وفي ساحات عديدة أخرى)
ثم إن الشهادة على جلالة قدرها التي لا ينكرها مؤمن تظل عاملاً من عوامل النهضة لا يكون مفيداً إلا في مواضع جزئية خاصة.
ولكن المطلوب لإنقاذ هذه الثقافة العظيمة نهضة حضارية اجتماعية شاملة!
والشرط لهذه النهضة هو في اعتقادي تحول السلوك في مجتمعنا إلى السلوك النهضوي الذي ذكرته،وهذا المطلب هو في الظاهر أقل صعوبة بكثير من الشهادة! فهل يا ترى نحن قادرون عليه؟
هل نستطيع فرض الوحدة في أقطارنا من الأسفل إذا كان "الكبار" مصرين على فرض الحدود بيننا وتأبيد تجزئتنا حتى النهاية؟
هل نستطيع أن نجاهد أنفسنا الجهاد الأكبر فنمنعها من السعي لخراب الشقيق وتدميره؟ونمنعها من الحسد الذي يجعلنا نسعى لعرقلة مواهب زميلنا في العمل؟ونتغاضى عن إساءة جارنا ونحاول استمالته بالحسنى لنحقق معاً جماعة محلية متكافلة؟
وما أكثر الأمثلة من هذا النوع،ولا تستصغروها، فصدقوني ها هنا يكمن الحل إن أراد الله أن يكون حل!

محمد ب 29-10-2002 01:41 AM

<html dir="rtl"><head><title>head</title></head>
<body bgcolor="#ff0000" text="4" face="arial">
<font face="arial"size="4" color="#blue"> <b>
ما تقدم من قول كان محاولة لمناقشة السؤال:هل السلوك غير المناسب للنهضة والكفيل بتأبيد التفكك الحضاري محتوم؟هل يستطيع الوعي تغييره؟هل توجد شروط لهذا التغيير؟



<b>
</font></body></html>


عمر مطر 30-10-2002 07:40 AM

مشاركتك هذه الأخيرة تذكرني بفيصل القاسم. :)

أنا مع جملة ما ذكرته، وأعتقد أن تغيير السلوك، ونقل العقيدة النظرية إلى عقيدة عملية، يحتاج إلى قدوات تأكل الطعام وتمشي في الأسواق. فالمهاجرين والأنصار تكونت لديهم تلك الأفكار النهضوية والسلوكية العلوية التي نزلت عليهم قرآنا يتلا، ولكن الذي جعلهم قادرين على تطبيق هذه العقيدة هو مشاهدتها واقعا في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه هي البداية -في نظري-.

ونحن بحاجة الآن إلى عدد كبير من القدوات التي تحمل هذه المبادئ السامية، تعيشها وتنشرها، وفي نفس الوقت لا يؤخذ عليها مآخذ توهم النقص أو العجز، فلا يلزم على من يحمل هذه المبادئ أن يكون فقيرا رث الثياب، ولا يلزم أن يكون جامعا لعلوم الدين، تاركا لعلوم الدنيا، ولا يلزم أن يكون متقوقعا على نفسه تاركا للجماعة، ولا يلزم أن يكون عابس الوجه، قاطب الحاجبين.

نحن نفتقد القداوت.

محمد ب 30-10-2002 11:53 AM

صدقت يا عمر!
والشيء الجديد الذي عرفته من ردك الرائع حقاً وفعلاً غير ما فيه من فكرة وجيهة لماحة أنك تشاهد فيصل القاسم:)

عمر مطر 05-11-2002 05:24 AM

لو كانت لدي صورة لرجل يفتح ذراعيه ثم يعيد ضمهما لأنزلتها هنا.... ولكن للأسف لم أجد. :)

محمد ب 05-11-2002 08:32 AM

يعني ما فهمت.
أنت قصدك بهذه الصورة أن تقول:"ماذا أفعل الأمر لله!"
أو "حكم القوي على الضعيف"
هل هناك "ضغوطات" تجعلك ترى السيد فيصل القاسم أو صيك إذاً أن ترى المذيعة القديرة السيدة جمانة نمور(وهي صراحة ذات أسلوب أحسن من أخينا فيصل ..هكذا أظن..ربما أنا مخطئ..)..انظر ثم أخبرني برأيك النير..إذا استطعت:)

عمر مطر 07-11-2002 06:12 AM

لا أبدا، كنت أقصد طريقة فيصل القاسم في التقديم لبرامجه، من فتح الذراعين ثم ضمهما. :)

وأما المذيعة جمانة النمور -ولا أعرف أيهن هذه- فما برنامجها إن لم تكن مذيعة أخبار؟

لا تقل لي "للنساء فقط" فأنا صراحة لم يعجبني هذا البرنامج. :(

لماذا؟

لأن كثيرا من النساء اللاتي يستضفن عليه لا يعبرن عن الشارع العربي المسلم، بل هي المدام كارين لوك من فرنسا تتحدث عن معاناة النساء المسلمات في الوطن العربي. :angryfire

محمد ب 07-11-2002 06:31 AM

برنامج "للنساء فقط" تقدمه السيدة منتهى الرمحي من الأردن.
وفي برنامجها نساء من النوع الذي ذكرت ولكن فيه الممتازات.
يا أخي راجع صفحة المذيعين في موقع الجزيرة لتعرف عمن أتكلم!


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.