أجب نبيك صلى الله عليه وسلم
دعوة تريد أن تستـقيم إلى الله .
فعليها أن تدلف من باب الاستـقامة إذن . وبابها المحراب . وهكذا ، فإن على الدعوة الإسلامية في كل وقت أن تبدأ عملها من المسجد ، فتصلح العقيدة ، وتعلم دعاتها أدب التعامل الإسلامي ، وبذلك تسقط تـلقائياً كل المقاييس الأخرى في التـفاضل ، من جودة الكتابة ، و بلاغة اللسان ، و بهرج الشهادات الجامعية . وإنما جماع الخير في ارتياد المسجد ، وذخيرة المسجد نعم زاد الانطلاق . ولقد أحصاها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فقال : " من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال : آية محكمة و أخاً مستفاداً و علماً مستطرفاً و رحمة منتظرة وكلمة تدله على هدى ، أو تردعه عن ردى . وترك الذنوب حياء ، أو خشية " " فالمسجد هو في حقيقته موضع الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يزيغ به الاجتماع . هو فكر واحد لكل الرؤوس ، ومن ثم فهو حل واحد لكل المشاكل . وكما يشق النهر فتـقف الأرض عند شاطئيه لا تتقدم , يقام المسجد فتـقف الأرض بمعانيها الترابية خلف جدرانه لا تدخله " . " فما المسجد بناء ولا مكاناً كغيره من البناء والمكان ، بل هو تصحيح للعالم الذي يموج من حوله و يضطرب ، فإن الحياة أسباب الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها ، وهذه كلها يمحوها المسجد ، إذ يجمع الناس مراراً في كل يوم على سلامة الصدر ، وبراءة القلب و روحانية النفس ، ولا تدخله إنسانية الإنسان إلا طاهرة منزهة مسبغة على حدود جسمها من أعلاه و أسفله شعار الطهر الذي يسمى الوضوء ، كأنما يغسل الإنسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخول المسجد ) . ولقد تـفاعل الموفقون مع هذه الأعطيات التي تمنحهم إياها مساجدهم ، فولعوا بها ، و شدوا إليها شداً أنطق الشاعر بالصدق فوصفهم بأنهم : يمشون نحو بيوت الله إذ سمعوا **** ( الله أكبر ) في شوق وفي جذل أرواحهم خشعت لله في أدب **** قلوبهم من جلال الله في وجل نجواهم : ربنا جئناك طائعة **** نفوسنا ، وعصينا خادع الأمل إذا سجى الليل قاموه و أعينهم **** من خشية الله مثل الجائد الهطل هم الرجال فلا يلهيهم لعب **** عن الصلاة ، ولا أكذوبة الكسل ثم ما برح أئمة الموفقين يلحون في التوصية بذلك ، ابتداء بالصدر الأول ، كمثل عبد الله بن المبارك حين يقول : اغتنم ركعتين زلفى إلى الله **** إذا كنت فارغاً مستريحاً و إذا هممت بالنطق بالباطل **** فاجعل مكانه تسبيحاً و انتهاء بقادة الدعوة في هذا القرن ، كمثل الإمام البنا حين يوصي أن : " أيها الأخ العزيز : أمامك كل يوم لحظة بالغداة ، ولحظة بالعشيّ ، ولحظة في السحر ، تستطيع أن تسمو فيها كلها بروحك الطهور إلى الملأ ، فتظفر بخير الدنيا والآخرة . وأمامك يوم الجمعة وليلتها تستطيع أن تملأ فيها يديك و قلبك وروحك بالفيض الهاطل من رحمة الله على عباده ، وأمامك مواسم الطاعات وأيام العبادات وليالي القربات التي وجهك إليها كتابك الكريم ورسولك العظيم ، فاحرص على أن تكون فيها من الذاكرين لا من الغافلين ، ومن العاملين لا من الخاملين ، واغتـنم الوقت ، فالوقت كالسيف ، ودع التسويف فلا أضر منه " وكمثل الإمام بديع الزمان سعيد النورسي حين يخاطبك و يقول : " رُكِّبتَ من القصور والفقر والعجز و الاحتياج ، لتـنظر بمرصاد قصورك إلى سرادقات كماله سبحانه ، وبمقياس فقرك إلى درجات غناه و رحمته ، و بميزان عجزك إلى قدرته و كبريائه ، ومن تـنوع احتياجك إلى أنواع نعمه و إحسانه . فغاية فطرتك هي العبودية . و العبودية أن تعلن عند باب رحمته قصورك بـ( أستغفر الله ) و ( سبحان الله ) . و فقرك بـ ( حسبنا الله ) و بـ ( الحمد لله ) ، و بالسؤال . و عجزك بـ( لا حول و لا قوة إلا بالله ) و بـ ( الله أكبر ) ، و باستمداد . فَتُظْهِر بمراتب عبوديتك جمال ربوبيته " و كمثل الإمام المودودي – رحمه الله – حين يتحدث عن بعث الرسل عليهم السلام لتحقيق غاية العبودية في الأرض ويقول : " انظروا قليلاً في ما تحرّى النبي صلى الله عليه وسلم من التدرج والترتيب للبلوغ إلى هذه الغاية ، فقد قام بدعوة الناس – أولاً و قبل كل شيء – إلى الإيمان ، و أحكمه في قلوبهم ، وأتـقنه على أوسع القواعد و أرحبها ، ثم نشأ في الذين آمنوا تعليمه و تربيته طبقاً لمقتضيات هذا الإيمان تدرجاً بالطاعة العملية – أي الإسلام – و الطهارة الخلقية – أي التـقوى – و حب الله والولاء له – أي الإحسان . ثم شرع بسعي هؤلاء المؤمنين المخلصين المنظم المتواصل في تحطيم النظام الفاسد للجاهلية القديمة و استبدال نظام صالح به ، قام على القواعد الخلقية و المدنية المقتبسة من القانون الإلهي المنزل من الرب تعالى . ثم لما أصبح هؤلاء الذين آمنوا ولبوا دعوته من كل وجهة – بقلوبهم وأذهانهم ونـفوسهم وأخلاقهم وأفكارهم وأعمالهم – مسلمين متـقين محسنين بالمعنى الحقيقي ، وانصرفوا بأنفسهم إلى ذلك العمل الذي ينبغي لعباد الله المخلصين الأوفياء أن ينصرفوا إليه إذن ، وبعد كل ذلك أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يرشدهم إلى ما يزين حياة المتـقين المحسنين من الآداب والعادات المهذبة في الهيئة والملبس والمأكل والمشرب والمعيشة والقيام و الجلوس ، وما إلى ذلك من الشؤون الظاهرة . وكأنني به فتن الذهب و نقاه من الأوساخ و الأقذار أولاً ، ثم طبع عليه بطابع الدينار ، ودرب المقاتلين أولاً ، ثم كساهم زي القتال . وهذا هو التدرج الصحيح المرضي عند الله في هذا الباب كما يبدو لكل من تأمل القرآن و الحديث و تبصر فيهما " • أجب نبيك صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تطهر في بيته ، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله ، كانت خطوتاه أحدهما تحط خطيئة ، والأخرى ترفع درجة ) وقال : ( من غدا إلى المسجد وراح أعدّ الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح ) وقال : ( أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ، و الذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام ) و عن جرير رضي الله عنه قال : ( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة ) و سأله ابن مسعود : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها و خشوعها و ركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأتي كبيرة ، و كذلك الدهر كله ) وكانت آخر ابتسامة للنبي صلى الله عليه و سلم في الدنيا : ابتسامته للصلاة ، و ذلك لما كشف ستر الحجرة يوم الإثنين فرأى أبا بكر يؤمّ الصفوف . وحث على صلاة الفجر وصلا ة العشاء فقال : ( من صلى البردين دخل الجنة ) وقال – وقد نظر إلى البدر - : ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و قبل غروبها فافعلوا . ثم قرأ : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } و قال : ( الذي تـفوته صلاة العصر كأنما وُتِرَ أهله و ماله ) أي فقدهما ، وفي لفظ : ( من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ) فأنت أيها الداعية ما بين ترهيب ينذرك النبي صلى الله عليه و سلم فيه حبوط العمل وترغيب يشوقك فيه إلى قصور الجنة و رؤية الله فيها ، فأجب ، و إنه لثمن يغري و يطمع و يحرص عليه قبل الكساد ، وكن عند حسن ظن الفضيل ابن عياض فإنه تحدى وقال : ( ما حليت الجنة لأمة ثم لا ترى لها عاشقاً ) ، عاشقاً يخرج من أجلها في البردين ، وقل له : إني أنا العاشق . فإن وجدت من نفسك ثقلاً و تكاسلاً فهناك مخاطبة لطيفة يمكن لك أن تخاطب بها نفسك فتـقول : هب أنك من العسكريين ، أو من عمال المخابز ، أو الصيادين أو .. ، أما كان يجب عليك التبكير في الاستيقاظ قبل الموظف و الطالب طاعة للنظام العسكري أو تـنافساً في طلب الرزق ؟ فالله سبحانه أحق أن يطاع ، وصلاة الفجر أحق أن ينافس فيها . فبمثل هذه المخاطبة لنفسك يحصل الحث لها إن شاء الله إن تراخت واستأنست بالنوم . و إذا ألممت بذنب أو خطأ فاستدرك بالركوع ، فإن داود عليه السلام لما جاءه الخصم يختصمان في النعاج انتبه و استدرك و وصف الله تعالى انتباهه فقال : { وظن داود أنما فتـناه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب * فغفرنا له ذلك ) فجعل الاستغفار و الركوع طريقة ، يعلم بذلك الدعاة أن يركعوا . • حرص الأولين على الصلاة وكان السلف الصالح يستحبون الأناة في كل شيء ، إلا في الصلاة ، فقد قيل للأحنف بن قيس رضي الله عنه : ( إن فيك أناة شديدة ) فقال : ( قد عرفت من نفسي عجلة في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها ) وكان المحدث الثقة بشر بن الحسن يقال له : ( الصَفّي ) ، لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة . و مثله : إبراهيم بن ميمون المروزي ، أحد الدعاة المحدثين الثقات من أصحاب عطاء بن أبي رباح ، وكانت مهنته الصياغة و طرق الذهب و الفضة . قالوا : ( كان فقيهاً فاضلاً ، من الآمَّارين بالمعروف . وقال ابن معين : كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها ) . وقيل لكثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط وقد أمَّ أهل حمص ستين سنة كاملة ، فقال : " ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله " وقال قاضي قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي ، وهو من ذرية ابن قدامة صاحب كتاب المغني : " لم أصلّ الفريضة قط منفرداً إلا مرتين ، وكأني لم أصلهما قط " مع أنه قارب التسعين . و الداعية السعيد من يتأمل و يقتدي . • دعوة تتعلم من داود وكان داود عليه السلام يسبح بالعشيّ و الإشراق ، فسخر الله تعالى الجبال يسبحن معه ، وقال : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي و الإشراق } ، فوهبه الله هبة عظمى ذكرها فقال : { وشددنا ملكه } و دعوة تدعي أنها إسلامية لا يشد ملكها اليوم و تغلب مالم يسبح رجالها بالعشي و الإشراق . وإن التواصي بالصلاة لحسنة نقترفها يزيد الله لنا فيها حسناً ولا بد لنا أن نجعلها كلمة باقية في عقبنا من أجيال الناشئة الجدد ، فإن لم نفعل ، فإن عقد الدعوة سينفرط – لا سمح الله – انفراطاً ما له من فواق . من كتاب الرقائق لمحمد احمد الراشد |
Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.