أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   الخيمة السياسية (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=11)
-   -   (الهجرة) وحق الإنسان في التفكير والاختيار (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=10877)

صلاح الدين 25-03-2001 09:23 PM

(الهجرة) وحق الإنسان في التفكير والاختيار
 
يحتفل العالم الإسلامي هذا العام بذكرى الهجرة النبوية الشريفة في ظروف قاسية أقل ما يقال فيها إنها مأساة متكاملة العناصر، ففي أنحاء متفرقة منه حروب داخلية عاصفة أكلت الأخضر واليابس ولم تدع فرصة لالتقاط الأنفاس، وساهمت في تراجع بعض مواقعه المتقدمة، بينما تعيش مناطق أخرى منه هجمة خارجية تدمر في طريقها كل أثر للحياة، يساهم في أوارها ضعف العالم الإسلامي وافتقاد المنظمات الدولية لآلية فاعلة تستطيع إيقاف التدهور، ولعل كوسوفو أقرب الأمثلة إلينا، بعدما سبقتها قضايا مشابهة ابتداء من قضية فلسطين وكشمير والفليبين ومروراً بجنوب السودان والبوسنة والهرسك وكارباخ.

= يتبع =

صلاح الدين 26-03-2001 08:34 AM

لقد تداخلت المصالح والاحتياجات في عالم اليوم إلى حد التأثّر المرهف بكل ما يقع على الساحة الدولية مهما بدا صغيراً أو غير ذي بال، فقد تقاربت الأقاليم المتباعدة بسبب وسائل الاتصالات والمواصلات الحديثة، وما يجري في بقعة ما من العالم يؤثر على بقية البقاع إما سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً.

لم يعد أيٌّ منا في منأى عن التأثر والتأثير كما كان الحال قبل عقود معدودات، ولم يعد أحد قادراً على الاعتزال مهما حاول، فالدنيا في حِجر كل منا، شاء أم أبى، ورضي أم كره، وبالتالي فإن الأحداث (الداخلية) لم تعد كذلك، وبات كل حدث (عالمياً) بحكم الواقع الذي نتكلم عنه.

= يتبع =

صلاح الدين 26-03-2001 07:50 PM

ألا ترى أن مشكلة مغنية صاعدة، أو متدربة متطوعة، أو حادث سيارة في منطقة ما من العالم، تصبح مشكلة عالمية تشغل الرأي العام بسبب تبني الإعلام لها، مخطئاً كان أو مصيباً، وقد يترتب عليها مآسٍ فردية وجماعية، فكم من إشكال قام هنا أو هناك بسبب التهور والنفوس المشحونة المنتظرة على فوهة بركان يشعل نارها المدمرة عود ثقاب عابث بيد عابثة! وينتقل الخبر انتقال النار في الهشيم فينتقم مَنْ هنا لحدث وقع هناك يفصل بينه وبين أهله بحار وقارات؟

وكما هو السائد، يتناول خطباء ذكرى الهجرة – وأية ذكرى أخرى - الوجه المأساوي لواقع الأمة اليوم، ويتطرق آخرون إلى ما وقع في الهجرة من أحداث، وينصح البعض بترك الاحتفالات جملة وتفصيلاً باعتبارها بدعة في الدين لم ينزل الله فيها من سلطان، بينما يتمسك آخرون، ويبالغون في مظاهر الاحتفاء؛ ربما لعلة التعويض عن الواقع باللجوء إلى الماضي؛ فالماضي يحافظ في الوعي العربي المعاصر على نضرة ألوانه، بخلاف الواقع الذي لا يرى فيه سوى سجلا مزدحماً بالهزائم والتراجعات والتبعية، مع ما في هذه الصورة السوداء من مبالغة.

= يتبع =

صلاح الدين 26-03-2001 07:53 PM

للحذف مكرر -
صلاح الدين

صلاح الدين 27-03-2001 10:17 PM

ولكن المسألة الأهم في الهجرة - وهي موقع الإنسان في الإسلام نفسه - لم يتطرق إليها جل الخطباء الأفاضل، ونعني بالإنسان هذا المخلوق المكرّم بغض النظر عن المواصفات الأخرى الدخيلة عليه، كالعِرق واللغة واللون والمستوى الاجتماعي والمالي.

وفي خضم التقليدية الصارمة التي تفرض نفسها علينا يدور معظم الحوار على القضايا الهامشية التي تأتي نتيجة للالتزام وليس مقدمة له، وننسى كما ينسى كل مشغول بأزمته عما حوله، فندخل في التفاصيل والنتائج قبل معالجة الأسباب والمسببات، وبذلك تراوح الأزمة داخل متاهة تتداخل طرقاتها وتدفع بالسائر فيها إلى النهايات المغلقة، ليعاود المحاولة اللاهثة من جديد.
= يتبع =

صلاح الدين 28-03-2001 10:01 PM

لقد كانت الهجرة في بعدها الأول تحقيقاً ميدانياً وممارسة واقعية للحرية، حرية العقيدة وحرية الاختيار، ففي المجتمع المكي الجاهلي لم تكن حرية الاختيار مسألة مطروحة فيما يعنى بالواقع المكي لا من الناحية الفكرية ولا الاجتماعية بالرغم من احتكاك المكيين من خلال التجارة بالأمم المحيطة بهم، وبينها أمم تتحكم بالقرار الإقليمي والدولي – ضمن إمكانيات تلك المرحلة التاريخية – وهي أمم ذات حضارة راقية متمكنة كالفرس والروم والحبشة.

وكان على كل من تمرّد من المكيين على الواقع السائد، كان عليه الاعتزال أو الانكفاء على نفسه، محتفظاً بآرائه لا يجهر بها – اللهم إلا تلميحاً – ولعلّ وجود بضعة أفراد من الأحناف يؤكد هذا الذي ذهبنا إليه، منهم ورقة بن نوفل، أحد أبناء عمومة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها).
= يتبع =

صلاح الدين 29-03-2001 10:40 PM

كانت السياسة العامة المتبعة في قريش، بما في ذلك توزيع المهمات المتعلقة بالتجارة والرفادة والسقاية، كانت أموراً ثابتة، لا يسمح المسّ بها إلا بالقدر الذي لا يؤثر على السياق العام للحياة المكية اليومية، فهناك وظائف محددة لقبائل محددة ضمن شروط معروفة مسبقاً تم التفاهم عليها، ولها في نظر المكيين قدسية تحفظ لهم أمنهم الداخلي وهيبتهم بين العرب الذين يقدسون البيت الحرام فيها.

ويمكن القول بأن (الاجتهاد) والتغيير في أنماط الحياة وفي المفاهيم السائدة - بل إلى حد بعيد في الوسائل والآليات - كان بعيداً كل البعد عن مجالس المكيين، فهناك دار الندوة، ولأهلها وحدهم الحل والعقد والأمر والنهي، في صورة بدائية من صور الشورى التي لم تصل إلى مستوى المؤسسة، وهؤلاء تفرضهم أسرهم المتنفذة، وعلى العامّة السمع والطاعة.

أما العبيد فسقط متاع لا رأي لهم، وليس على مالكي رقابهم أي حرج من استخدامهم بالطريقة التي تروق لهم، والقتل والجلد واستخدام العنف في التأديب قاموس يومي لا يجرؤ أحد على تغييره أو الاعتراض عليه.
= يتبع =

صلاح الدين 30-03-2001 07:17 PM

وفيما كانت المرأة المكية محترمة تأخذ مكانتها من مكانة أسرتها وقد تتدخل في شؤون الرجال من خلال زوجها أو ولدها أو تجارتها كانت المرأة الأَمَة تعيش حياة بؤس وتستخدم كما يحلو لسادتها ومالكي رقبتها، ولطالما دُفعت إلى البغاء ترفيهاً عن السادة الكبار، ونوعاً من أنواع التسلية للوافدين بتجارة أو حج، وعرفت مكة (الرايات الحمر) دليلا على بيوت الدعارة التي تنتهك فيها كرامة الأمة الآدمية مقابل الدرهم والدينار.
= يتبع =

صلاح الدين 31-03-2001 04:40 AM

كانت مكة مغلقةً في وجه التغيير، حريصة على استمرار الموروث كما هو، لأنه – بزعم الملأ من أهلها – يوفّر الطعام من جوع والأمن من خوف، ولأنه يحافظ على هذه المعادلة المعقّدة من التوازن بين أسرها المتنفّذة، وكان النفوذ المالي متحكماً بالمجتمع المكي، وكانت الكهانة تبعاً له.

فالحرم وما حوله تحوّل إلى نوع من سوق المال والأعمال، وحلقات متكاملة من الصناعة والتجارة تقوم حول أصنام العرب في البيت العتيق، وتعطيل التفكير الفردي جزء مهم في الحفاظ على الأوضاع بشكلها السائد، فالتفكير سيفتح أبواباً مقلقة لطالما حرص القرشيون على إغلاقها، لم يكن أمام الأفكار المستبصرة سوى الأسوار والحواجز والصمت المطبق، حتى بدت جدران مكة محصنةً يصعب اختراقها.
= يتبع =

صلاح الدين 01-04-2001 05:29 AM

لم يقبل المجتمع المكي من المسلمين أن ينصرفوا إلى دينهم بدون عوائق، لأن المجتمع المكي لم يعتبر (الدين) شأناً شخصياً، ولم يستطع استيعاب: {لكم دينكم وليَ دينِ} بالرغم من فصاحة الملأ في مكة وتعمقهم في فهم العربية، فهو يريد الفرد على صورة من سبق: {إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف/23].

لم يكن للإنسان الفرد وجود في مكة، الوجود الوحيد المعترف به هو وجود القبيلة، والعشيرة، والأسرة، ولذلك كان الخطاب المكي الرافض يتحدث عن (بني هاشم) ولا يتحدث عن محمد (صلى الله عليه وسلم).

رأى الملأ من المكيين التوازن مهدداً بظهور نبي من بني هاشم، فمن أين يأتي الآخرون بأنبياء؟

وكل الأسر عندهم تجار بارزون، وفرسان يشار إليهم بالبنان، ومفاوضون من الطراز الأول، وشعراء مفوّهون مبدعون، كل هذه الميادين مقدور عليها والتنافس فيها لا يؤثر على التوازن العشائري، ولكن النبوّة أمر مختلف، أمر يستحيل تحقيقه، ومكة لا تريد لبني هاشم أن يتفردوا فيها بأمر يزلزل توازناتها ويهدد – فيما يظهر لهم – تجارتها ومكانتها بين العرب.

= يتبع =

صلاح الدين 01-04-2001 06:39 PM

لقد تعاملت مكة مع المسلمين - وهم أفراد من مختلف شرائحها وأسرها - ككتلة واحدة يرأسها بنو هاشم.

وكان الضغط على الأسرة الهاشمية لتقف هي نفسها في وجه النبي (صلى الله عليه وسلم) والجماعة المسلمة الأولى يتسق مع سياسة مكة في إلغائها للشخصية الفردية والتعامل فقط مع القبيلة. فقد كانت سياسة الملأ من قريش أن يمسك الهاشميون بزمام ابنهم النبي (صلى الله عليه وسلم) ومن التحق به من الأسر الأخرى وعبيد وأحابيش قريش، وهل من برهان أوضح من حصار هؤلاء جميعاً في شعب أبي طالب لا يبيعون لهم ولا يبتاعون منهم، ولا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يكلمونهم ولا يستمعون إليهم، وجلهم لا يعتنق الإسلام.

كان حصاراً شديداً وامتحاناً قاسياً بسبب عدم إقرار مكة للفرد بحرية الاختيار، وهو إنكار ينسحب على كل شيء ابتداء من الاعتقاد وانتهاء بالوضع الاجتماعي، فليس للمكي ولا للمكية أن يتزوج ممن يريد إلا إذا وافق ذلك سلم الانتماء الاجتماعي للمجتمع القرشي، فهناك معايير دقيقة متبعة لا يصح من الفرد – كائناً من كان – تجاوزها أو التهاون فيها.

= يتبع =

صلاح الدين 02-04-2001 09:42 PM

وفي الوقت الذي أنكرت فيه جاهلية قريش حرية الإنسان وحقه في اختيار عقيدته وطريقه في الحياة، آمن الإسلام بالمسؤولية الفردية، وجعل حرية الاختيار معياراً وحيداً لانتماء الفرد الديني والعقدي، بين الكفر والإيمان والنفاق، ومحاسبته في الدنيا والآخرة.

ولا يقر الإسلام بالتوارث في العقيدة والفكر، ولا يقبل الانتماء القسري الذي تفرضه الأعراف أو القوانين، قال سبحانه وتعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى} [النجم/39]، وقال عزّ من قائل: {وألا تزر وازرة ورزَ أخرى} [الأنعام/164] وقال (صلى الله عليه وسلم): (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) [رواه مسلم].

وجعل الإسلام بني هاشم – وهم عزوة النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته - كغيرهم من المسلمين، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا يميزهم شيء عن الناس ولا عن المسلمين اللهم إلا في أحكام تملي عليهم مراقبة أنفسهم وتصرفاتهم احتراماً لنسبهم من رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

وفي الحديث الشريف: (يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا) [رواه البخاري ومسلم].

= يتبع =

صلاح الدين 04-04-2001 06:50 PM

وآيات الكتاب الشريف، وأحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، والأحكام الشرعية الإسلامية واضحة في أن الناس سواسية أمام الله، لا فرق لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، وأن الجميع سواسية أمام الشريعة، وأن قرابة أي إنسان أو مكانته الاجتماعية أو موقعه السياسي لا تعطيه الحق في تعدي حدود الله، ولا توفر له أي حصانة أمام القضاء، فليس لأحد أن يشفع في حد، وليس لسلطة أن تسقط عقوبة عن معتدٍ، كائناً مَن كان.

وإن فرّط أحدُ بني هاشم في جنب الله، أو أخطأ في حق رسوله (صلى الله عليه وسلم) أو في حق دعوته، فهو – كأي مسلم - ليس في معزل عن العقوبة، تعزيراً كانت أو حداً، وربما أدت قرابته إلى مضاعفة عقوبته، ولقد نزل في عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبي لهب وامرأته {حمالة الحطب} [المسد/4] سورةٌ من القرآن يتلوها المسلمون في صلواتهم إلى يوم القيامة تؤكد الصورة المغايرة لما كانت عليه الجاهلية من تقديم النسب وتقديس القربى على حساب الحق، كما تؤكد سواسية الناس أمام التشريع الإلهي.

= يتبع =

صلاح الدين 08-04-2001 01:03 PM

لقد شهدت مسيرة الهجرة النبوية عدداً من المعجزات الدالة على حفظ الله ورعايته لنبيه (صلى الله عليه وسلم)، وهي أمور توسع في ذكرها رواة السيرة، وخطباء منابر الإسلام في كل زمان ومكان. وتطرقوا إلى أصغر التفاصيل الوصفية، وبينوا دور الصحابة (رضوان الله عليهم) في إنجاح أهداف الهجرة وإقامة دولة الإسلام، وذكروا ما قيل فيها من أشعر، وكيف استقبل الأنصار والمهاجرون رسول الله (صلى الله عليه) وصاحبه الصدّيق (رضي الله عنه).

وكل ما قالوه طيب وفيه خير كثير، ولكن ما حققته الهجرة في عالم الواقع للإنسان - من لدن الهجرة وحتى قيام الساعة – كتقرير حق التفكير، وحرية الاختيار، وعدم الإكراه، وإقرار التنوع في المجتمع الواحد، ووضع أسس التحالف السياسي الذي يعزز مفهوم المواطنة بالرغم من اختلاف الدين والعرق واللغة، كل هذه الأمور وغيرها، تستحق – كذلك - الوقوف عندها، وقراءتها قراءة واعية تستهدف تعديل واقعنا وتصحيح كثير من مفاهيمنا بعدما طغت التقاليد والأعراف وركام سنوات التخلف والجهل على حقائق الإسلام وقواعده في عالم الدين والثقافة والسياسة والاجتماع.

= يتبع =

الدكتور2000 09-04-2001 10:26 AM

ننتظر المزيد - جزاكم الله خيراً.

صلاح الدين 09-04-2001 11:39 AM

كان العهد الذي وقّعه النبي (صلى الله عليه وسلم) مع أهل المدينة واضحاَ غاية الوضوح في احترام الإسلام للإنسان بعيداً عن كل عصبية تدعو إلى نبذ الآخر وعزله وتصفيته لمخالفته دين السلطة أو اختياره طريقاً آخر غير طريق الأكثرية.

ففي عين الواقع ألغت (صحيفة المدينة) مفهوم (الأقليات) وجعلت كل الأفراد في المجتمع مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات، كما نصت على واجبات الدولة وحقوقها، وأقامت توازناً سبق ما وصلت إليه (عصبة الأمم) ومن بعدها (الأمم المتحدة) من حيث التطبيق وعدم الاكتفاء بالتنظير والتقعيد دون الممارسة والتنفيذ.

وللأسف يقر بهذه السابقة علماء السياسة والنظم السياسية، ودارسو المجتمعات، والعاملون في حقل (حقوق الإنسان) من منصفي العلماء الغربيين والشرقيين على حد سواء. وينكره ملحدو العرب!!!!

= يتبع =

الدكتور2000 09-04-2001 05:26 PM

بالفعل، لقد حل الإسلام ما يسمى بمشكلة الأقليات، ولكن هل نمارس هذا الحل اليوم، وفي واقعنا رفض تام للحوار الإيجابي، وقبول التعدد داخل الطائفة نفسها فكيف مع بقية الطوائف؟؟؟؟؟؟

صلاح الدين 09-04-2001 11:26 PM

أسئلة الأخ الدكتور2000 جديرة بموضوع مستقل، وعسى أن نكتب فيه بعد الانتهاء من موضوعنا هذا، إن شاء الله. وليساهم المشاركون بآرائهم!
-------------

وفي سياق التطبيق وعدم الاكتفاء بالتنظير علينا أن نقف عند النموذج العملي الذي بناه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في المدينة، من موقعه في السلطة بالإضافة إلى موقعه في التبليغ عن الله، وفي القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه، وفي كل مواقع حركته اليومية أباً وزوجاً وإماماً، وهلمجرا.
فقد اعتدنا من بعض السياسيين المغامرين أو القياديين الطموحين أن يعارضوا الظلم الذي يواجههم أو يواجه جماعتهم في فترة نضالهم، وأن يطالبوا النظام الحاكم أو المجتمع السياسي بتحقيق العدالة والإقرار بالحقوق المهضومة، سياسية كانت أو غير سياسية، فإذا ما قفزوا إلى السلطة أداروا ظهورهم لكل المطالب، وتجاهلوا كل الشعارات التي رفعوها، وتنكروا لأقرب المقربين إليهم حفاظاً على مواقعهم الجديدة.

غير أن النموذج الذي رأيناه في المدينة بعد الهجرة، بقيادة النبي (صلى الله عليه وسلم) والنخبة من أهل الحل والعقد والشورى من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، كان البر التام بكل الشعارات المرفوعة في فترة الاستضعاف.

= يتبع =

صلاح الدين 11-04-2001 09:18 PM

فالنبي (صلى الله عليه وسلم) لم يدر ظهره لشعار العدالة الذي رفعه في وجه الملأ من قريش، ولا لشعار حرية الاختيار الذي حث المكيين والقبائل المحيطة بهم على العمل به، ولا لشعار التفاضل على أساس التقوى والعمل الصالح دون العرق واللسان واللون.

كانت الهجرة – بهذا المعنى – مفصلا تاريخياً بين الظلم والعدالة، وبين الإنسانية والحيوانية، والروحية والمادية، والسمو والضعة، والعالمية والإقليمية.


صلاح الدين 12-04-2001 11:17 AM

كانت الهجرة – بهذا المعنى – مفصلا تاريخياً بين الظلم والعدالة، وحوّلت المدينة في كنف العهد الجديد إلى موئل لكل مستضعف ولو لم يكن مسلماً، بل إن العهد المذكور (صحيفة المدينة) أمّن أهل الشرك على أصنامهم، وترك الفرصة لهم ليخبروا الإسلام عن كثب وليعتنقوه عن رضا وليتخلوا عن عقائد الجاهلية عن قناعة، ففي رأس قواعد الإسلام: {لا إكراه في الدين} [البقرة/256] وهي قاعدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بممهدات تعترف للإنسان بقدراته وقابلياته وحرية اختياره.

وهو أمر فاق بكثير ما تدعيه الأمم المتحضرة خلال تاريخها القديم والمعاصر. بل إن الولايات المتحدة الأمريكية، لم تعرف حتى اليوم، معنى التعددية التي عرفتها المدينة المنورة في العهد النبوي والراشدي على حد سواء.

وهي صورة حضارية إسلامية رائعة ومتميزة لم تتوقف بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا بانتقال خلفائه إلى الرفيق الأعلى، بل استمرت في تاريخنا، إلا ما كان في أيام معدودة من الجور والظلم أصابت المسلمين قبل غيرهم.


صلاح الدين 13-04-2001 08:40 PM

ولمستفسر أن يتساءل عن أهمية (التفكير الفردي) أو فلنقل المسؤولية الفردية في التفكير، حتى نتطرق إليها في قضية (الهجرة النبوية الشريفة) ودلالالتها، ولهذا نقول إن أول أسس الحضارة والعمران البشري أن يتحمل الفرد مسؤولية نفسه تفكيراً وتدبيراً ومسؤولية {وقفوهم إنهم مسؤولون} ثم يتعاون مع الجماعة في الإنماء والنماء (يد الله على الجماعة) بعد أن تتضح له معرفة الواجب والحق والحرام والحلال وسواها من القواعد والضوابط التي لا تقوم الحياة إلا بها.

والتفكير الفردي، أو قل: تحمل الفرد لمسؤولية التفكير والاختيار الحر، هو مفتاح الاجتهاد في الفقه، والإبداع في الصناعة، والابتكار في وسائل الزراعة، والنجاح في التجارة، والريادة في الاختراع، ذلك لأنه يحرر الفرد من عبودية (القطيع). وهي غير الالتزام بالجماعة والعمل الجماعي الذي دعا إليه الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم).

ولتأكيد هذا المعنى في التفاضل بين حرية الفرد في الاختيار والعبودية للسياق العام في بناء الحياة نقرأ النص التالي لـ(ديفيد لانديس) عن التفاضل بين الصين السبّاقة في ميدان الاختراع وأوروبا التلميذ النجيب الذي فاق في العصر الخير أساتذته في الأندلس والصين معاً، حيث يقول:

(اخترعت الصين البارود والورق والطباعة والبورسلين وأنظمة الري وزراعة الشاي وصناعة الحرير ما بين العامين 900 – 1200 ميلادية، لكنها عجزت عن تطوير واستثمار اختراعاتها التي أخذتها عنها أوروبا وركزت عليها ثورتها الصناعية ..... والفارق كان نظام السوق، حيث المبادرة كانت حرة في أوروبا ومقيدة في الصين التي حصرت التجارة والتعليم في يد الدولة).




صلاح الدين 16-04-2001 05:56 AM

ولعلنا في حاجة إلى أن نتذكر بشكل دائم ومستمر أن إطلاق الإسلام للعقل البشري من عقال الخمول والأسطورة والشعوذة إلى رحابة العلم والتمييز والصحة في الأسس والقواعد وشروط الاستنباط والاستقراء – التي هي مناط التكليف – لا يعني دعوة الفرد إلى الانطواء والإنغلاق على النفس والبعد عن الجماعة، فيد الله – كما جاء في الحديث الشريف – على الجماعة. ولهذا حديث مستقل قادم إن شاء الله.

التفكير الفردي الذي نذكّر به هنا، هو مسؤولية الفرد عن التفكير، وليس إنغلاق الفرد على نفسه دون العالمين.


صلاح الدين 18-04-2001 12:44 PM

لقد كانت المسؤولية الفردية في التفكير على رأس آليات التبليغ والوصول إلى الحقيقة.
فهي التي أخرجت المسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.
وهي التي جعلت لسلمان الفارسي (رضي الله عنه) المكانة التي نعرفها له.
وهي التي دفعت الصحابي الموسوي عبد الله بن سلام (رضي الله عنه) لمواجهة قومه لا يخشى في الله لومة لائم.
وهي التي أنطقت النجاشي ملك الحبشة بكلمات الحق الخالدة دون أن يعير كبار القساوسة بالاً عندما سمع القرآن من فم جعفر الطيار (رضي الله عنه) فقال: (إن الذي قرأت والذي جاء به المسيح يخرج من مشكاة واحدة).
إن القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً أنهم رفضوا رفضاً قاطعاً أن يكونوا أعداداً لا قيمة لها في قافلة الخرفان، وأصروا على تحقيق إنسانيتهم من خلال التزامهم بما رأوه من الحق ولو خالفوا في ذلك الثقلين من المشركين.
فالمسؤولية الفردية في التفكير كانت - وما زالت - مفتاح الخير لهؤلاء جميعاً، ولو أعملنا فكرنا لرأيناها تؤدي نفس الأغراض مع المهتدين الجدد.


صلاح الدين 21-04-2001 05:10 PM

لم تتوقف نتائج حرية الفرد في التفكير على ميدان واحد من ميادين الحياة والإبداع، ولكنها انسحبت على كل ساحة فيها فائدة للإنسان، قبل الإسلام المحمدي وبعده.

فقبل رسالة النبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) قام أفراد من العرب، من قريش وغيرها، بالبحث عن الحقيقة، وبعضهم أقام على الحنيفية السمحاء، حنيفية جدنا إبراهيم (عليه السلام) وأبرزهم ورقة بن نوفل، وقصته مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) عندما سألته عما يعتري النبي (صلى الله عليه وسلم) معروفة مشهورة.

جاء في (الخصائص الكبرى) وغيره، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دخل على أم المؤمنين خديجة (رضي الله عنه) قادماً من حراء، فقال: (زملوني، زملوني) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها خبر جبريل (عليه السلام) وما أمره به من القراءة، وقال: (لقد خشيت على نفسي)! فقالت: (كلا؛ والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).

ثم انطلقت به خديجة (رضي الله عنه) حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان أمرءاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الانجيل بالعربية ما شاء الله ان يكتب، فقالت له خديجة (رضي الله عنه): (يا ابن عم؛ اسمع من ابن اخيك). فقال ورقة: ما ترى؟ فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما رآه.

فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومُك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (أومخرجي هم)؟ قال: نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومُك أنصرك نصراً مؤزراً.

ثم لم ينشب ورقة أن توفي.


صلاح الدين 22-04-2001 02:51 AM

قال ابن اسحاق (رحمه الله): اجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده، فخلص منهم أربعةُ نفر نجياً، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض! قالوا: أجل.

وهم ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وزيد بن عمرو بن نُفيل. فقال بعضهم لبعض:

(تعلموا والله؛ ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم، فإنكم - والله - ما أنتم على شيء).

فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم، فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها.

وذكر الزبير بن أبي بكر بإسناد له إلى عروة بن الزبير (رضي الله عنهما)، قال سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ورقة بن نوفل، فقال: (لقد رأيته في المنام عليه ثياب بيض، فقد أظن أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض).

وكان ورقة يذكر الله في شعره في الجاهلية ويسبحه، وهو الذي يقول:

لقد نصحت لأقوام وقلت لهم: * أنا النذير فلا يغرركم أحدُ
لا تعبدن إلها غير خالقكم * فإن دعوكم، فقولوا: بيننا حددُ
سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له * رب البرية فرد واحد صمدُ
سبحان ذي العرش سبحانا نعود له * وقبل سبحه الجودي والجمدُ
مسخر كل ما تحت السماء له * لا ينبغي أن ينادي ملكه أحدُ
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته * يبقى الإله ويودي المال والولدُ
لم تغن عن هرمز يوما خزائنُه * والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له * والإنس والجن فبما بينها بردُ
أين الملوك التي كانت لعزتها * من كل أوب إليها وافد يفدُ؟
حوض هنالك مورود هناك بلا كذب * لا بد من ورده يوما كما وردوا

والشاهد فيما تقدم أن ورقة وصحبه سعوا – قبل البعثة المحمدية - بعد إعمالهم لعقولهم واستخفافهم بما عليه أهل الجاهلية، ونهضوا يبحثون عن دين إبراهيم (عليه السلام)، وخالفوا بذلك قومهم، وهم يعلمون خطورة هذه المخالفة حتى تعاهدوا على الكتمان.

وإخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ورقة ولبسه البياض إشارة واضحة على أن الله يثيب الباحث عن حقيقة العبادة والعبودية والتعبد والمجتهد في ذلك قدر استطاعته، وإن لم تبلغه الرسالة والوحي، لأن الإنسان لا يعذر – في التصور الإسلامي – على جهله، ولا يبارك له في قعوده، ويثاب على سعيه.


بكري عمري 22-04-2001 07:27 AM

الأخ الدكتور2000، السلام عليكم، كنت قد أثرت على هذا الموضوع سؤالاً يتعلق بفهمنا للتعددية، ورأيت من المناسب أن أنشر هنا خبر مؤتمر (التجديد فى الفكر الإسلامي) الذي ينظمه (المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف المصرية) فى 31/5/2001م، لأنها تعزز الإجابة على التعددية داخل الأمة المسلمة.

ويدور حول أربعة محاور وهى:

المحور الأول:
حول ضرورة التجديد وضوابطه؛ ويشمل: مفاهيم التجديد والاجتهاد والإبداع ، ضرورة التجديد، الأساس الإسلامى للتجديد وضوابطه، اتجاهات المجددين فى الإسلام فى العصر الحديث.

المحور الثانى:
التجديد فى مجال الفقه الإسلامى؛ ويشمل : الوسطية أساس التشريع الإسلامى، فقه الواقع ..المستحدثات فى مجال الطب والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، وفقه المتغيرات فى الواقع السياسى والاجتماعى - حقوق الإنسان - المرأة - الطفل. بالإضافة إلى فقه الأولويات، المصالح المرسلة ، الضرورات التى تبيح المحظورات ، الترجيح بين المصالح، فقه الأقليات المسلمة ، فقه البيئة ، التوفيق والتقريب بين المذاهب الإسلامية.

المحور الثالث :
ويدور حول التجديد فى مجال الدعوة والإعلام؛ ويشمل التجديد فى مجال عرض علوم العقيدة ، التجديد فى طريقة عرض الإسلام فى الغرب ودور العقل فى الخطاب الدينى ، والحفاظ على الهوية الإسلامية فى إطار التجديد.

المحور الرابع:
ويدور حول النهضة والإحياء؛ ويشمل مفهوم التنوير فى التصور الإسلامى الأصالة والمعاصرة ، إحياء التراث الإسلامى وضرورة تخليصه من العناصر الدخيلة ، النهوض باللغة العربية فى مختلف المراحل التعليمية والإعلام، مع ضرورة تدريس العلوم التجريبية باللغة العربية .

يشارك فى المؤتمر مفكرون وعلماء من مصر ومختلف دول العالم.

صلاح الدين 26-04-2001 07:14 AM

أشكر الأخ بكري، وأتمنى على الاخوة المهتمين المشاركة في تعميق مفهومنا للتعدية (داخل إطار الوحدة الإسلامية) لما في ذلك من خير، إن شاء الله.
----------

والآيات الدافعة إلى التفكر والتدبر والتعقل كثيرة في الكتاب الكريم بحيث تُشعِر القارئ والسامع بخطورة هذا المر ووجوبه، حتى قيل (إن التفكير في الإسلام عبادة مأجورة)، منها قوله تعالى:

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ/46]
يأمر الله عز وجل نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يحاجج الكافرين الزاعمين أنه (صلى الله عليه وسلم) مجنون، بالتفكر - أفراداً وجماعات - بعيداً عن الهوى والعصبية والأحكام المسبقة السائدة من خلال الفكر الجماعي الضاغط، فيسأل بعضهم بعضاً: هل بمحمد (صلى الله عليه وسلم) مسٌّ من جنون؟ وهو المعروف بينهم برجاحة العقل، والترفع عن السفاسف، والملجأ عند المهمات، كما وقع لهم في اختلافهم عند بناء الكعبة ونزولهم عند قوله في وضع الحجر الأسود مكانه، وهو المعروف بينهم بالصادق الأمين.

وقد خبروه وعرفوه عن كثب في الحل والترحال، والبيع والشراء، والتعامل اليومي فلم يروا منه إلا رجاحة في العقل، وقيادة في الشخصية، وأمانة في الأداء، فهل للجنون إلى هذه الشخصية سبيل؟ إنما هي تهمة أراد مروجوها تبرير كفرهم وإعراضهم عن الاستماع للحق وقبولهم به.


صلاح الدين 28-04-2001 05:28 PM

ويؤكد الإمام ابن كثير (رحمه الله تعالى) في تفسيره أن الآية نزلت في دعوة المشركين إلى التفكر بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وصدقه فيما بلغ عن الله، ولم تنزل في الصلاة فيقول:

فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم ... عن أبي أُمامة (رضي الله عنه) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يقول: (أُعطيت ثلاثا لم يعطهن أحد قبلي، ولا فخر: أُحلت لي الغنائم ولم تحل لمن قبلي، كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها. وبُعثت إلى كل أحمر وأسود، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة. وجُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أتيمم بالصعيد وأصلي فيها حيث أدركتني الصلاة، قال الله تعالى: {أن تقوموا لله مثنى وفرادى}. وأُعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي). فهو حديث ضعيف الإسناد، وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد، ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة، فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها. والله أعلم.

وحجة الله تعالى على هؤلاء المشركين لاستكبارهم عن الإقرار بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) مع يقينهم بصدقه، واضحة في الآية نفسها، وهي قوله تعالى: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} فقد روى البخاري (رحمه الله) ... عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال:

صعد النبي (صلى الله عليه وسلم) الصفا ذات يوم فقال: (يا صباحاه)! فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك؟ فقال: (أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم، أو يمسيكـم، أما كنتم تصدقوني)؟ قالوا: بلى. قال (صلى الله عليه وسلم): (فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد). فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل: {تبت يدا أبي لهب وتب}.


صلاح الدين 28-04-2001 05:33 PM

ويقول شهيد القرآن (سيد قطب) في كتابه المشهور (في ظلال القرآن) تعليقاً على الآية:

دعوة الكفار للتفكر بالرسول الحق وطبيعة الرسالة والرسول (صلى الله عليه وسلم)
وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق، ومعرفة الافتراء من الصدق، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل:

{قل: إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جِنة، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}

إنها دعوة إلى القيام لله، بعيداً عن الهوى، بعيداً عن المصلحة، بعيداً عن ملابسات الأرض، بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب، فتبعد به عن الله، بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة، والمؤثرات الشائعة في الجماعة.

دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة؛ ولا مع العبارات المطاطة، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها.

دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي، بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس؛ والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة.

وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة. منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات. وعلى مراقبة الله وتقواه.

وهي واحدة.. إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق. القيام لله.. لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة.. التجرد.. الخلوص.. ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.

{أن تقوموا لله مثنى وفرادى} مثنى؛ ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء.. وفرادى؛ مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق.

{ثم تتفكروا: ما بصاحبكم من جِنة} فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة. وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده. إن هو إلا القول المحكم القوي المبين.

{إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} لمسة تصور العذاب الشديد وشيكاً أن يقع، وقد سبقه النذير بخطوة لينقذ من يستمع، كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق. وهو تصوير - فوق أنه صادق - بارع موح مثير.


صلاح الدين 07-05-2001 07:22 AM

أتوقف قليلاً لأجيب الأخ الفاضل (حامل المسك) على أسئلته شاكراً له في البدء اهتمامه وحسن ظنه بي وبما كتبت في هذا الموضوع. وأجيب على الأسئلة بما أعلم:

1= سؤالك عن حكم الاحتفال (بالمولد)؛ أشبعه العلماء قديماً وحديثاً، بياناً وفتوى، ولم تخرج أقوالهم عن حكم من ثلاثة: (1) الإباحة المطلقة (2) الحَظْْر المطلق (3) إباحته بشروط معينة تدور مع الالتزام الشرعي، وتجنب النواهي الشرعية فيه.

وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) في المولد فصلاً كاملاً في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) رأى فيه أنه بدعة، ثم قال كلاماً يحسن الوقوف عنده وتأمله، خاصة وأن شيخ الإسلام (رحمه الله) من أكثر العلماء تشدداً في مسألة الاحتفال بذكرى المولد الشريف وغيره من الاحتفالات التي لم تكن على عهد رسول الله (صلى الله علبيه وسلم)، قال (رحمه الله):

(فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كما قدمته لك، أنه يحسن من بعض الناس ما يُستقبح من المؤمن المُسَدّد، ولهذا قيل للإمام أحمد (رحمه الله) عن بعض الأمراء إنه أنفق على مصحفٍ ألفَ دينار، ونحو ذلك. فقال: (دعه؛ فهذا أفضل ما أُنفق فيه الذهبُ). أو كما قال( )، مع أن مذهبه (رحمه الله) أن زخرفة المصاحف مكروهة.

وقد تأوّل بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط. وليس مقصود أحمد (رحمه الله) هذا، وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضا مفسدة كُرِه لأجلها. فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا الفساد الذي لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ككتب الأسمار أو الأشعار أو حكمة فارس والروم( ). [انتهى كلام ابن تيمية].

وأكتفي بهذا النقل دون أي توسّع. ولجميع الاخوة والأخوات أن يعود كل منهم لمن يثق بدينه من أهل الفتوى ليطمئن لدينه وعمله.


صلاح الدين 10-05-2001 04:31 AM

وأتابع مع الأخ الفاضل الإجابة على أسئلته:


2= تسأل عن عبارة: (لقد كانت الهجرة في بعدها الأول تحقيقاً ميدانياً وممارسةً واقعيةً للحرية، حرية العقيدة وحرية الاختيار).

وقد أوضحت ذلك في المقال نفسه، وأعني به أن الهجرة، ودولة الهجرة، أعطت الحرية لكل فرد من أهل المدينة المنورة، ولمن اختار الإقامة فيها من المهاجرين، وأهل القرى، من العرب وغيرهم، والمسلمين وغيرهم، في أن يختار العقيدة والدين الذي يشاء، ضمن عقد اجتماعي نظمته (صحيفة المدينة) وحددت فيه ما يصح وما لا يصح في علاقة المجموعات البشرية المختلفة المقيمة في المدينة.

فلو أسلم فرد من أسرة، ما كان لأبناء أسرته أو عشيرته أن يمنعوه أو يحاربوه بالمقاطعة ولا غيرها، كما يفعل الناس في المناطق الأخرى كمكة المكرمة أو الطائف، ولو بقي فرد من أفراد أسرة أو عشيرة على ما كان عليه آباؤه وأجداده؛ ما كان لهم أن يحملوه بالإكراه على إعلان دخوله في الإسلام.

لقد تركت دولة الهجرة للناس أن يختاروا بملء إرادتهم الإسلامَ أو غيره، ولم نقرأ أو نسمع قط أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) امتحن أحداً – حتى المنافقين – ليرى مدى إسلامهم أو التزامهم، وإنما ترك للممارسة العملية لقيم الإسلام، وللنموذج العملي التطبيقي للمجتمع وللدولة المسلمة، وللاحتكاك اليومي بين المسلمين وغيرهم، أن يفعل فعله في نفوس الآخرين الذين لم يعلنوا إسلامهم بعد.

وهذا الذي فعله كذلك مع أهل مكة المكرمة بعد تحريرها (يوم الفتح) حيث قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) وتركهم للزمن، يروا بأم العين، ويلمسوا لمس اليد، عدالة الإسلام، فأقبلوا عليه باختيارهم.

ومن قال أن (مسلمة الفتح) أسلموا خوفاً من سيف، أو رهبة من سلطة الدولة المسلمة، افترى كذباً، لأن الإسلام نفسه لا يؤمن بالإكراه، ولا يؤمن بصحة إسلام من لم يسلم طواعية واقتناعاً. وعبادة المكره، ونكاحه، وطلاقه، وعقوده، كلها باطلة لانعدام الاختيار الذي هو شرط في قبول الإيمان والعبادة والعمل.

لقد ترك الإسلام للممارسة العملية الواعية أن تعمق الإسلام في نفوس أتباعه، وأن تبين لغيرهم الخيرَ الذي يحققه لهم الإسلام، اعتنقوه أم لم يعتنقوه. وتدرج في ذلك، واستمع إلى حديث أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها):

عن يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ؛ قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (رَضِي اللَّه عَنْهَا) إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ؛ فَقَالَ: أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ؛ وَمَا يَضُرُّكَ؟ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَرِينِي مُصْحَفَكِ. قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ. قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ! إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ؛ نَزَلَ الْحَلالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ (لا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ) لَقَالُوا: لا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: (لا تَزْنُوا)، لَقَالُوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا. لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}، وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ (الْبَقَرَةِ) و(النِّسَاءِ) إِلا وَأَنَا عِنْدَهُ. قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ، فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ( ).

والمقصود بالتأليف كتابته مرتباً في مصحف، كما هو المطبوع اليوم، لا على حسب النزول وإنما على حسب ما أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) الناس بعد كل عرضة له مع جبريل (عليه السلام)، وكان البعض ما زال يقرأه منجماً لعدم توفر الطباعة والورق، ولقلة الكتابة الفنية كما هو الشائع اليوم.


صلاح الدين 11-05-2001 04:32 AM

ومع أسئلة الأخ الفاضل:


3= وتسأل عن عبارة: (التفكير الفردي، أو قل تحمل الفرد لمسئولية التفكير والاختيار الحر هو مفتاح الاجتهاد في الفقه) هل الاجتهاد الفقهي يندرج تحت حرية الفكر

صلاح الدين 11-05-2001 04:36 AM

ونتابع مع أسئلة الأخ الفاضل:


3= وتسأل عن عبارة: (التفكير الفردي، أو قل تحمل الفرد لمسئولية التفكير والاختيار الحر هو مفتاح الاجتهاد في الفقه) هل الاجتهاد الفقهي يندرج تحت حرية الفكر؟ ثم أليس الاجتهاد الفقهي مقنن بضوابط وقواعد معينة تقنن ذلك التفكير؟

أقول: نعم؛ صدقتَ – أخي - في الإشارة إلى أن (الاجتهاد) محكوم بقواعد وضوابط بينها أهل الاختصاص – قديماً وحديثاً – ولكنني أتكلم عن مفتاح ذلك كله، وجُماعه، فالتبعية لا تؤدي إلى الاجتهاد، قط، وإنما تحصر الفرد والجماعة والأمة في مربع (التقليد).

وذلك لا يكون في العلوم الدينية وحدها، وإنما في الحياة كلها.

ألا تلاحظ أننا عندما كان بيننا مجتهدون في الشريعة كنا مبدعين في كل ميدان من ميادين الحياة، في الإدارة والسياسة والتجارة والصناعة والزراعة والإعلام، وكانت الدنيا تقصد حواضرنا الكبرى كدمشق وبغداد ومراغة وقرطبة، وسواها، لتنهل من علوم المسلمين! فلما انكفأنا وساد (التقليد) بيننا، أصبحنا نقصد الغير – أفراداً وجماعات - لنأخذ منهم ما طوروه من علومنا وفنونا ومهاراتنا في الفكر والدنيا. وصار أساتذة الأمس طلاب اليوم، وطلاب الأمس أساتذة اليوم؟


صلاح الدين 12-05-2001 09:17 AM

ومع السؤال الرابع من أسئلة الأخ الكريم:

4= وتسأل: في الدين الإسلامي؛ إلى أي حد تصل حرية التفكير؟

وهذا من أصعب الأسئلة، قديماً وحديثاً، لأن الخوض في هذا يحتاج – بالإضافة إلى الضوابط والأدلة الشرعية – إلى أذن واعية، وقلب حي، لا يكتفي السامع بالتقاط طرف الخيط ثم يحيك به ما يشاء، ويقول ما يفهمه أو يتصوره من موضوع التفكير وحدوده.

وكم من عالم اتهم في دينه والتزامه بسبب سوء فهم العامة له، وأقربهم إلينا زمناً، عالم الشام، الشيخ محمد جمال الدين القاسمي (المتوفى 1332هـ/ 1914م)، وكل جريمته أنه دعا إلى العودة إلى الينابيع الأولى للإسلام، ونبذ التقليد الأعمى الذي جعلنا محصورين في دائرة الحواشي، وحجب عنا المتون، وفي أقوال طلبة العلم (من جمع الحواشي، ما حوى شي، ومن حاز المتون؛ جمع الفنون).

والتقليد – كما هو الواضح والملموس – استنساخ، لا أقول للجسد وإنما للفكر، بحيث يحرص المبتلى به أن يكون صورة طبق الأصل عمن يتلقى عليه، وهي صورة لا روح فيها لأن صاحبها بالأصل ألغى نفسه من أجل أن يستمر (شيخه أو معلمه أو زعيمه) فيه.
ولقد وقعت على عددٍ وافٍ من النصوص التي توضح بدون أي مواربة أن التفكير نفسه غير محجور عليه في الإسلام، ولا حرج على المسلم أن يبحث عن حقيقة ما تحدثه به نفسه، وألا يتحرج من السؤال مهما بدا له الأمر مهولاً أو جرئياً.

وقد بوّب الإمام مسلم (رحمه الله) في صحيحه للوسوسة، وهي حديثُ الشيطان، وقد تكون حديثَ النفس، فقال:

(باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها:

عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: ثم جاء ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به! قال (صلى الله عليه وسلم): (وقد وجدتموه)؟ قالوا: نعم. قال (صلى الله عليه وسلم): (ذاك صريح الإيمان)( ).

وعن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: ثم سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الوسوسة! قال (صلى الله عليه وسلم): (تلك محض الإيمان)( ).

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ثم لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا؛ خَلَقَ اللهُ الخَلْق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنتُ بالله)( ).

وعن هشام بن عروة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ثم يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول: اللهُ). ثم ذكر بمثله وزاد: (ورسله)( ).

وعن عروة بن الزبير (رضي الله عنه) أن أبا هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ثم يأتي الشيطانُ أحدَكم، فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقولَ له: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته)( ).

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (ثم لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله)؟ قال: وهو آخذ بيد رجل، فقال: صدق الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) قد سألني اثنان، وهذا الثالث. أو قال: سألني واحد، وهذا الثاني( ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ). وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ - بِهَذَا الْإِسْنَادِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ. ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ وَزَادَ: وَرُسُلِهِ( ).

وفي البخاري (رحمه الله) عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ (رضي الله عنه) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ)؟( )

وبين ابن حجر في كتابه العظيم (فتح الباري) الفرق بين صدّ شيطان الجن عن الوسوسة، وصدّ شياطين الإنس عنها، قال في شرح حديث البخاري السابق:

(قوله: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته. أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها. قال الخطابي: وجه هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص بالله منه وكف عن مطاولته في ذلك اندفع. قال: وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك، فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان. قال: والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه الكلام بالسؤال والجواب، والحال معه محصور، فإذا راعى الطريقة، وأصاب الحجة انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلما ألزم حجة زاغ إلى غيرها، إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة. نعوذ بالله من ذلك( ).

فشيطان الجن مقدور على صده بالاستعاذة والتلاوة، ولكن الثاني (شيطان الإنس) لا تصده إلا الحجة والبرهان. وهذا يعني – باختصار - أن يكون المسلم متمكناً، عارفاً بالشبهات وردها، ولا يكون هذا إلا بالعلم الواعي، ولا يكون إلا بجرأة وتفكير حرّ يأخذ بيده إلى أقصى ما يمكن مما يخطر للبشر. والله تعالى أعلم.

ويقول ابن كثير (رحمه الله) في تفسيره المشهور:
(عن أُبيّ بن كعب (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: {وأن إلى ربك المنتهى}، قال: (لا فكرة في الرب). قال البغوي (رحمه الله): وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعاً: (تفكّروا في الخلق، ولا تفكّروا في الخالق، فإنه لا تحيط به الفكرة). وكذا أورده وليس بمحفوظ بهذا اللفظ، وإنما الذي في الصحيح: (يأتي الشيطان أحدَكم؛ فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقولَ: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغ أحدُكم ذلك فليستعذ بالله، ولينته). وفي الحديث الآخر الذي في السنن: (تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذات الله)( ).
ففيما نقل ابن كثير إرشاد للناس كيف ينظمون تفكيرهم وإلى أي جهة يوجهونه، لا أن يتم الكبت الفكري، أو التجاهل، أو الصد، دون توجيه وتسديد صحيحين.

وينبغي علينا السعي المستمر نحو تنمية التفكير الصحيح لدى الفرد المسلم ليتمكن من فهم ما يدور حوله، والانصياع للشريعة على بصيرة ووعي، ولا يتم ذلك من خلال إهمال القدرات والقابليات العقلية والتفكيرية، وإنما يحتاج إلى مثابرة على تدريب مهارات التفكير، والإبداعي منه على وجه التخصيص.

وقد تجلت عظمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) – فيما تجلت - في تنمية قدرات أصحابه (رضي الله عنهم) وهو يأخذ بأيديهم من الجاهلية إلى الإسلام، ومن التبعية إلى القيادة، مراعياً استعداداتهم الفطرية، وقابلياتهم العقلية، وتيسير سبل الفهم لهم، ومخاطبتهم بما يناسب طاقاتهم وعقولهم وأفهامهم.

وفي المأثور عن الإمام عليّ بن أبي طالب (كرم الله وجهه، ورضي الله عنه): (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)( ).

وعن ابن عباس (رضي الله عنهما): (إِنَّ لِلْقُلُوبِ نَشَاطًا وَإِقْبَالاً، وَإِنَّ لَهَا تَوْلِيَةً وَإِدْبَارًا، فَحَدِّثُوا النَّاسَ مَا أَقْبَلُوا عَلَيْكُمْ)( ).

وما تقدم من حديث الإمامين الجليلين علي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس (رضي الله عنهما) صريح بأن الحكمة مطلوبة في بيان الحق للناس، وهذا لا يكون إلا بحرية تصونها الضوابط والقواعد الشرعية، التي تحتاج هي نفسها إلى أهلية لا تتوفر بدون طلب العلم والتفكر في سنن الخلْق.

والله تعالى أعلم وأحكم.


صلاح الدين 13-05-2001 06:34 PM

لقد ارتبط الفكر الجاهلي بالملموس، والتصق الجاهليون – حتى العلية والقادة منهم - بالأمور التي تقع تحت قدرات الحواس المعتادة، كالنظر واللمس والسمع، وقد أراد الله تعالى لهم أن يرتفعوا عن هذا المستوى في فهم الأشياء، أراد لهم أن يرتقوا من مستوى العجماوات في فهمها وتعاملها مع ما يعاين وما يلمس وما يقع تحت قدراتها المحدودة إلى ما هو أعلى من ذلك، إلى المستوى الذي يفوق فيه آدم الملائكة في معرفته الأسماء.

ولو كان الحيوان كالإنسان لرأيناه يرتقي في مدارج الحضارة، ولرأيناه يطور وسائله لتتوافق مع احتياجاته، وهو أمر لم يقع خلال آلاف السنوات. فما زالت الطيور تعمل أعشاشها بنفس الطريقة، وما زالت الأبقار ترعى وتتوالد بنفس الأسلوب، ما زال ما كتب عن وصف حياة الحيوان الأعجم وسبل تصرفه منذ مئات السنين يصلح لوصف حيوان اليوم.

ولكن أمر الإنسان أمر آخر، فهو قادر على التطور، وقادر على افهم والتحليل المنطقي، وقادر على تغيير أنماط حياته، وتلبية احتياجاته الفطرية، وتكييف المكان ليوائم احتياجاته.

والإنسان فوق هذا كله قادر على استخدام تراكم المعلومات والتجارب، من مرحلة المشافهة وحتى مرحلة التوثيق والكتابة، وهانحن نقرأ ما كتبه الأقدمون، ونحفظ ما سطروه من الحكمة، وما زلنا نستفيد مما وصلوا إليه ونزيد عليه ما وصلنا إليه، والذين سيأتون من بعدنا سيستفيدون مما تركنا ويزيدون عليه.

ولعل مراقبٍ مهتمٍ بمسيرة الحضارة الإنسانية يلاحظ التسارع الذي عرفناه في القرن الأخير من مكتشفات علمية، وتطوير سبل الإدارة والسياسة، مما لا يقارن بما عرفه الآباء والأجداد، وكل ذلك ثمرة من ثمرات (التفكر) و(التدبر) القائم على (العلم) و(الفهم) و(التجربة).

ولقد بين الكتاب الكريم الفرق الواسع بين مستوى هموم وفكر كفار قريش، وبين المستوى الذي يريده لهم ذو العزة والجلال، وهو يدعوهم – سبحانه – إلى أن يرفعوا هاماتهم ليروا ما لا يراه من يبقى مكباً على وجهه.


صلاح الدين 16-05-2001 11:33 AM

فالقرآن الكريم، وهو كلمة الله ووحيه إلى عباده وخلْقه، يلامس الفطرة، ويخاطب العقول، ويفتحها على أفق من الرقي ترى فيه بعين البصيرة ما لا تراه بعين البصر. ولقد يسّر الله لهم هذا الذِّكر الحكيم ليأخذ بأيديهم في دروب الهداية وسبل الفهم، يقول عز وجل:

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا(89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا(93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا(94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا(95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا(97)} [الإسراء]

وقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍِ} أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم الحق، وشرحناه، وبسّطناه ومع هذا {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} أي جحوداً للحق، ورداً للصواب.

روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن عِلية القوم من قريش اجتمعوا، أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض:

ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. فجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سريعاً وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصاً، يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا:

يا محمد؛ إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رِئْيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي ـ فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلّغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)، أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).

فقالوا: يا محمد؛ فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً، ولا أقل مالاً، ولا أشد عيشاً منا. فاسأل لنا ربَّك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت علينا، وليبسطْ لنا بلادنا، وليفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قُصيّ بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول، فقال حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك، وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول.

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم).

قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا، فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث مَلَكاً يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله، فيجعل لك جناتٍ وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك، إن كنت رسولاً كما تزعم.

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكنّ الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم).

قالوا: فأَسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ذلك إلى الله، إن شاء فعل بكم ذلك).

فقالوا: يا محمد؛ أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله؛ لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد؛ أما والله لانتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.

وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهي بنات الله.

وقال قائلهم: {لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً}.

فلما قالوا ذلك، قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب، فقال: يا محمد؛ عرض عليك قومك ما عرضوا، فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب، فوالله لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً، ثم ترقى وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتي معك بصحيفة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله؛ لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك.

ثم انصرف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وانصرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أهله حزينا أسفاً لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه. [انتهت رواية الطبري]

فمن الواضح تباين مستويي التفكير بين كفار قريش الذين لم يلتفتوا إلى عمق الدعوة المحمدية، وبقوا ملتصقين بما اعتادوا عليه من ملامسة المعجزة، فطالبوا بأمور تخالف ناموس الكون وسنن الله تعالى فيه، ولم يطرحوها حباً في الإيمان، وانقياداً له، وإنما طرحوها من باب المشاكسة والتعجيز، بظنهم. حتى قال قائله: (وأيم الله؛ لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك)!

وانظر إلى حلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وحرصه على هدايتهم، ومدى تأثره لإعراضهم وتضييعهم لفرصة الحوار فيما لا طائل من ورائه، لأنه آنيٌّ والقرآن إلى يوم الدين، ولأن أثر ما طلبوا كان سيقتصر على أمور محددة لا تفيد – إن فادت أو أثّرت – إلا فيمن شاهدها، بينما ما يدعوهم إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) أبعد أثراً، وأعمق معنى مما التصقوا به من مطالب الدنيا. فالدعوة الإسلامية تخاطب الإنسان المكلّف الواعي ذي اللب والحجى، القادر على التدبر والتفكر في آيات الله، التي تنقضي الدنيا ولا تنقضي عجائبها. والله تعالى أعلم.


صلاح الدين 17-05-2001 05:48 PM

ونضيف إلى ما تقدم من عناد مشركي قريش وارتباطهم – ككل المعاندين – بالمحسوس من الأشياء وملموسها، أنهم يعطلون تفكيرهم في آيات الله، فإن أعملوا فكرهم اتجهوا الوجهة الخطأ التي لا تؤدي بهم إلى أية نتيجة صحيحة، مما يجعل مطالبهم تعجيزاً وتحدياً في غير موضعه، ولله أن يختبر عبده وليس للعبد أن يختبر ربَّه، فمما يروى أن ‏ إبليس (لعنه الله) حين ظهر لعيسى ابن مريم (عليهما السلام)‏؛ قال:‏ ألست ‏تقول أنه لن يصيبك إلا ما كتبه الله عليك؟‏ ‏قال:‏ (نعم)‏.‏ ‏‏قال:‏ فارم نفسك من ذروة هذا الجبل، فإنه إن يقدر ‏لك‏ السلامة تسلم. ‏فقال له:‏ (يا ملعونُ؛ إن للهِ أن يختبر عبادَه وليس للعبد أن يختبرَ ربَّه)( ).‏

وهذا المجلس – المذكور آنفاً - الذي جمع هؤلاء المكابرين لم يكن مجلس تفاوض ولا استرشاد، ولكنهم طلبوا ذلك كفراً وعناداً، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، وَنُؤْمِنُ بِكَ. قَالَ: (وَتَفْعَلُونَ)! قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَدَعَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ (عليه السلام) فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ (عَزَّ وَجَلَّ) يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ؛ وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ! قَالَ: (بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ)( ).

وفي هذا ومثله من عناد المستكبرين، نزل قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا بِهَا، وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء/59]

فهؤلاء لا يستخدمون ما وهبهم الله تعالى ليفكروا بشكل صحيح، وليصلوا – ثَمّ - إلى نتائج صحيحة، وإنما يتخذون منهجاً أبعد ما يكون عن الصحة يدفع بهم نحو الهلاك وأوله انحراف التكفير بعيداً عن الموضوعية، فليس من العجب في شيء أن يغطوا بصائرهم ويحبوها عن رؤية ما يراه المؤمنون وما يراه أولوا النهى من الناس:

{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ! لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا. وَقَالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا(8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا(9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا(10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ، وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا(11)} [الفرقان/7-11].

والأصل أن تكون بشرية النبي (صلى الله عليه وسلم) دليلاً على صدق دعواه، ولكن تفكير هؤلاء الملأ المادي واقتصارهم على الماديات جعلهم يعيّرونه (صلى الله عليه وسلم) بكونه بشراً يمارس ما يمارسه البشر، ويعتاش كما يعتاشون، ويأكلون ويشرب مما يأكلون منه ويشربون، وهو ليس بأغناهم ولا أيسرهم مالاً وأثاثاً.

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى، وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام/111].

وانظر إليهم في مطالبهم التي يحسبوها تعجيزية: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} [الإسراء/90-91]

وهي مطالب تندرج تحت الحوار العبثي الذي استدعى عِلية قريش ورجالاتها رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) إليه، ولم تكن مطالب جادة، ولم يكن لها علاقة بالمستوى الفكري والعقلي والتدبّري الذي دعاهم إليه رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا نزلت به آيات الذكر الحكيم.


Leena2000 19-05-2001 03:18 PM

السلام عليكم ..

بعد طول انتظار .. وبالرغم من تعرضه لهجوم الحقودين .. بسبب تميزه باعضاء متميزين امثالكم .. عاد منتدى الهدف من جديد .. وبقوة .. للتسجيل الآن .. اضغط على هذا الرابط .. جزاكم الله خير ..
http://www.alhadaf.f2s.com/vb

Leena2000 19-05-2001 03:20 PM

السلام عليكم ..

بعد طول انتظار .. وبالرغم من تعرضه لهجوم الحقودين .. بسبب تميزه باعضاء متميزين امثالكم .. عاد منتدى الهدف من جديد .. وبقوة .. للتسجيل الآن .. اضغط على هذا الرابط .. جزاكم الله خير ..
http://www.alhadaf.f2s.com/vb

صلاح الدين 19-05-2001 03:39 PM

يا أختاه.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
شكر الله لك حسن الظن.


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.