حظوظ حماس
حينما يصبح الاقتتال الفلسطيني خبرا، وليس مجرد شبح أو كابوس يلوح في الأفق البعيد، فإن ذلك يطلق نفير إنذار عالي الصوت، ويستدعى وقفة حازمة، ليس فقط لوأد الفتنة قبل أن يستفحل أمرها، ولكن أيضا لمراجعة مجمل الظروف التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
(1) يتعذر علينا أن نعرف بالضبط ما الذي جرى في غزة حين طلع صباح ذلك الاثنين الأسود (8/6) الذي وقع فيه الاشتباك المسلح بين عناصر الأمن الوقائي المحسوبين على "فتح"، وبين عناصر حركة حماس، الأمر الذي انتهى بمقتل ثلاثة فلسطينيين وجرح 11 آخرين. وهو ما أوقع الجميع في محظور إسالة الدم الفلسطيني، الأمـر الذي يستدعى إلى الذاكرة سيناريو الحرب الأهلية باحتمالاته المفزعة. رغم تضارب البيانات المتعلقة بالتفاصيل فبوسعنا على الأقل أن نحدد الطرف الفلسطيني الداخلي صاحب المصلحة في إشاعة الانفلات الأمني، وفي جرجرة حماس إلى الاقتتال الداخلي الذي اعتبرته دائما خطاً أحمر، لا ينبغي الاقتراب منه. وهو الاقتتال الذي من شأنه تشتيت الحكومة الجديدة وإفقادها السيطرة على الموقف، لإشهار فشل تجربتها. وهو ما غدا - للأسف - هدفاً "استراتيجيا" لبعض الأطراف التي خرجت خاسرة من الانتخابات الأخيرة. لقد أشارت التقارير الصحفية التي خرجت من غزة إلى دور لما سمى بـ "فرقة الموت" التابعة للأمن الوقائي في عمليات اختطاف الأشخاص والاشتباك المسلح الذي استهدف عناصر حماس. وهذه الفرقة تضم مجموعة منتقاة مدربة تدريبا خاصاً، وقد أنشأها العقيد محمد دحلان أثناء الانتفاضة الثانية (عام 2000). وما زالت تأتمر بأمره حتى الآن. وهو الرجل صاحب الطموح السياسي المشهور، الذي كان مسؤولا عن الأمن الوقائي طوال عهد الرئيس أبو عمار، ولأن له علاقات جيدة مع الإسرائيليين، فإنهم طالبوا دائما باحتجاز حقيبة الداخلية له. (للعلم: هذه العلاقة تحدث عن تفاصيلها رئيس جهاز "الشاباك" الأسبق يعقوب بيري في كتابه الذي صدر بعنوان "مهنتي كرجل مخابرات"- وقد ترجمه إلى العربية بدر عقيلي، ونشرته دار الجليل في عمان سنة 2001 - والتفاصيل وردت في ثنايا الصفحات 356 إلى 362). في حدود معلوماتي فإن العقيد دحلان هو القائد الميداني الذي يدير المعركة ضد الحكومة الجديدة، حتى سمعت من مسؤول كبير في حماس أن المعركة الحقيقية في غزة ليست بين فتح وحماس، ولكن الطرف الأول فيها هو دحلان وجماعته. وهناك لغط كثير حول الدعم البريطاني والأمريكي فضلا عن الإسرائيلي بطبيعة الحال- الذي يقدم للرجل، حيث يراهن عليه هؤلاء في سيناريوهات المستقبل. وما تردد عن وضع البريطانيين مبلغ سبعة ملايين إسترليني تحت تصرفه لحساب تلك السيناريوهات، جزء من ذلك اللغط. (2) لا تفوتك ملاحظة أن ذلك الاقتتال حدث في ظل عملية الحصار والتجويع، ومتزامنا مع حملة التشويه والتخويف من وجود حماس في السلطة، التي اعتمدت أسلوب الدس وترويج الشائعات المكذوبة، التي لا أشك في أن للتسريبات الإسرائيلية دورا فيها. من تلك الشائعات مثلا ما قيل عن "مخطط" في حماس لاغتيال أبو مازن رئيس السلطة، وما أعلن عن تأسيس خلايا لتنظيم القاعدة في فلسطين (بزعم أن وصول حماس للسلطة يهيئ فرصة مواتية لظهور تلك الخلايا). من تلك الشائعات أيضاً ما قيل عن قيام قيادات حماس في سوريا بتهريب أسلحة إلى الأردن لاستخدامها ضد أهداف وشخصيات في داخل المملكة (وهو ما لم يحدث خلال العشرين عاما الماضية). ذلك فضلا عن محاولات الدس والوقيعة بين قيادات حماس ذاتها عن طريق الإلحاح على وجود خلافات بين قيادات الداخل والخارج. هذه النماذج من الأخبار الخبيثة والملفقة اريد لها أن تقنع الرأي العام العربي والدولي بأن وجود حماس في السلطة ليس خطراً على إسرائيل وحدها، وإنما هو خطر على المنطقة بأسرها. وهو ما عبر عنه بصراحة أحد الكتاب الأردنيين في مقالة نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط" (عدد 11/5/2006). بثت تلك الرسالة البائسة، التي ربط فيها بين بن لادن وخالد مشعل، في حين ادعى بأن المواجهة بين الأردن وحماس لا تزال في بداياتها، ولم يشر بكلمة إلى أن ثمة مواجهة من أي نوع مع إسرائيل. ذلك على صعيد التفاصيل (الميكرو) أما إذا طالعنا الصورة من زاوية أوسع (ماكرو)، فسنواجه بحقيقة أن الولايات المتحدة تحديداً مصرة على إفشال حكومة حماس، لأن أي نجاح لها يمثل سحبا من الطموحات الإسرائيلية، وذلك يمثل خطاً أحمر في الاستراتيجية الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط، وهو ما نعرفه جميعا. أما الذي ليس واضحا تماما في أذهاننا فهو أن موقف الإدارة الأمريكية الحالية على الأقل يتجاوز حدود حركة حماس، إلى الالتزام بمبدأ رفض وصول أية حركة إسلامية إلى السلطة في المنطقة، في حين يقبل فقط بمجرد مشاركة او تمثيل تلك الحركات شريطة ألا تكون لها الأغلبية لأسباب تتعلق باستقرار المصالح الغربية. هذا الكلام سمعته في الأسبوع الماضي من أحد الخبراء العرب المخضرمين الذين يعيشون منذ ثلاثة عقود في واشنطن، وأضاف في هذا الصدد أن الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط تقوم على ضرورة تأمين حاجتين أساسيتين، هما النفط وإسرائيل، وهي تعتبر أن وصول الإسلاميين إلى السلطة يهدد هاتين الحاجتين بدرجة أو أخرى. لذلك ينبغي _ في رأيهم_ أن يغلق ذلك الباب تماماً، في المشرق العربي تحديداً. ذلك ليس قدراً مكتوباً بطبيعة الحال، ولكنه عامل مهم ينبغي الانتباه إليه والتحسب له، خصوصا في ظل حالة الانصياع التي تتسم بها الأوضاع العربية الراهنة. (3) من المقولات الشائعة في الخطاب السياسي أنه يتعذر تقييم أداء وتوجهات أي حكومة قبل مرور المائة يوم الأولى من استلامها للسلطة. لكن الأمر اختلف مع حكومة حماس، التي حسم الموقف منها، وصدر قرار بإفشالها ومقاطعتها منذ إعلان فوزها في الانتخابات في 26 فبراير الماضي. وهو القرار الذي توافقت عليه إرادات ومصالح أطراف عدة في داخل فلسطين وخارجها. في تقييم تجربة حكومة حماس هناك عناصر ايجارية تحققت، كما أن هناك تفاعلات سلبية ظهرت في الأفق. في الشق الإيجابي نستطيع أن نرصد العوامل التالية: ü أدى فوز حكومة حماس إلى إعادة وضع القضية الفلسطينية على خريطة الاهتمام الدولي مرة أخرى، بعدما انشغل العالم عنها بما حدث في العراق، وبمواجهة المشروع النووي الإيراني، حيث أدرك الجميع أن القضية مازالت حية، وانتبهوا إلى أن أوهام التسوية السلمية لم تقم لها قائمة على أرض الواقع. فهمي هويدي |
ü حين تمسكت حماس بموقفها من عدم الاعتراف بإسرائيل، ومن الحق في مقاومة الاحتلال، فإنها أكدت موقفها المبدئي، وأثبتت أنها محصنة ضد الاستدراج والغواية، الأمر الذي بين للكافة أن حرصها على الالتزام بالمبادئ مقدم على بقائها في السلطة، التي لم تسع إليها يوما، ولكن اختيار الجماهير هو الذي فرض عليها أن تتحمل مسؤولية الحكومة في الظرف الراهن. ü أعادت حكومة حماس طرح الأسئلة الأساسية في القضية المتعلقة بالانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي المحتلة عام 67 على الأقل، وبوقف الاستيطان وإزالة السور، إلى جانب التمسك بحق العودة، مع رفض الاعتراف بإسرائيل وبالإملاءات التي فرضتها على الفلسطينيين في السابق، والإعلان عن حق مقاومة الاحتلال - ذلك كله حقق ثلاثة أمور مهمة الأول أنه أدى إلى وقف التنازلات التي دأبت السلطة على تقديمها للإسرائيليين بالمجان، والثاني أنه وضع القضية على مسارها الصحيح الذي انحرفت عنه منذ توقيع اتفاقيات اوسلو عام 93، الأمر الثالث أنها كشفت زيف ما سمى بمسار السلام، الذي لم يقدم شيئا حقيقيا لحل أي من أركان القضية، وإنما أخذ من الفلسطينيين اللحم وألقى لهم بالعظم. ü في حين حددت حركة حماس موقعها وحجمها الحقيقي على الخريطة الفلسطينية، الأمر الذي ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار في أي محاولة لإعادة بناء منظمة التحرير، فإن حكومة الحركة كشفت عن حجم الهدر في المال العام، وأزاحت الستار عن صور الفساد والاستغلال التي مورست خلال سنوات احتكار السلطة من جانب شريحة معينة. ü كشفت تجربة حكومة حماس عن حجم التواطؤ المحلي والإقليمي والدولي ضد القضية الفلسطينية،- وفي الوقت نفسه فإن التعامل معها أحدث نوعا من الفرز الواضح الذي تحددت في ظله مواقع الغيورين على القضية والمتاجرين بها، والساعين إلى عرقلة حلها، بما في ذلك استعداد بعض النخب الفلسطينية للوقوف في المربع الإسرائيلي عند الاختبار الحقيقي في نهاية المطاف. ü كشفت التجربة عن مدى الهيمنة الأمريكية على القرار العربي، بقدر ما أنها رفعت كثيراً من قدر الشعب العربي الذي سارع إلى احتضان التجربة ومساندتها بكل ما يملك. وهذه المفارقة سلطت ضوءاً قويا على مدى اتساع الهوة بين الحكومات والشعوب في المنطقة. ü فضحت التجربة مدى النفاق في الموقف الغربي بعامة والأمريكي بوجه أخص، في التعامل مع قضية الديمقراطية، حيث تبين أن المطالبة بالديمقراطية لدى تلك الأطراف لا يراد بها إلا الديمقراطية التي تفرز حكومات موالية للغرب وتابعة له. أما تلك التي تعبر عن ضمائر الشعوب وأحلامها فهي مرفوضة. ليس ذلك فحسب وأنا فضحت التجربة أيضا مدى النفاق الغربي إزاء قضية حقوق الإنسان، منذ توافق الغربيون على حصار الشعب الفلسطيني وتجويعه، عقابا له على اختياره الديمقراطي. (4) في النصف الفارغ من الكـوب نستطيـع أن نرصد مؤشرات سلبيـة أخـرى، في مقدمتها ما يلي: ü أثبتت الممارسة أنه من المتعذر الجمع بين السلطة والمقاومة. وهو ما يدعونا إلى القول بأن حماس بتحملها لمسؤولية الحكومة انتقلت من المقاومة إلى الممانعة، وهذه الأخيرة مهمة لا ريب، وضرورية بالتأكيد، إلا أنها تظل أدنى مرتبة من المقاومة بخياراتها الواسعة، في حين أن الممانعة تظل محصورة في حدود الصمود والمقاومة السياسية. وهو ما أدركه الإسرائيليون فلجأوا إلى أمرين، أولهما تكثيف قصف التجمعات الفلسطينية، مطمئنة إلى التزام حماس بالتهدئة والسكون لإنجاح مهمتها السياسية. والأمر الثاني أن إسرائيل كثفت في ضغوطها على حركة الجهاد الإسلامي، فتوسعت في اعتقال كوادرها في الضفة خصوصا، ولم تتردد في اغتيال بعضهم. ü إن حماس حين اضطرت إلى تشكيل حكومة اللون الواحد، وقعت في كمين استهدافها والتفرد بها. ورغم أن ذلك يحسب في التحليل الأخير على الفصائل الأخرى التي تخلت عنها ورفضت المشاركة في حكومة وحدة وطنية، إلا أن ما ترتب على ذلك سهل مهمة الذين أرادوا عزل الحكومة ومحاصرتها وقطع المعونات والرواتب عنها. ü بالمقاطعة الدولية التي حركتها إسرائيل وعممتها الولايات المتحدة، رفع الجميع أيديهم عن القضية، بما في ذلك اغلب الأنظمة العربية. وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأن القضية صارت بلا صاحب، وانتهى الأمر بعزل حكومة حماس بصورة نسبية عن العالم الخارجي. بما تضمنه ذلك من توحد للموقف الأمريكي مع الأوروبي، الذي تخللته بعض التمايزات في الماضي. ü أدت المقاطعة الاقتصادية إلى زيادة معاناة الشعب الفلسطيني في الداخل، فضلا عن أنها أصابت دورة الاقتصاد الفلسطيني بالشلل النسبي، وهو ما أربك الحكومة الجديدة، وفرض عليها أن تعطي أولوية لحل مشكلة الرواتب والموارد، التي احتلت رأس جدول أعمالها طيلة الشهرين الماضيين، ولأنها شغلت بذلك فإنها لم تستطع أن تتقدم بشكل محسوس على المسارات الأخرى المهمة، التي من أهمها قضية الإصلاح الداخلي ومسألة إعادة بناء منظمة التحرير. ü استثمرت إسرائيل بشدة مسألة وصول حماس إلى السلطة، وتذرعت بذلك لكي تبرر خطتها في استكمال بناء السور ورسم الحدود النهائية، التي تلتهم 58% من أراضى الضفة ولأن واشنطن تعتبر حماس منظمة إرهابية، فقد برر لها ذلك تأييد الخطة الإسرائيلية، التي يعرف الجميع أنها معدة سلفا وأن تنفيذها بدأ قبل تولي حكومة حماس. ü تقليديا كانت العلاقات متوترة بين حماس وبين بعض قيادات فتح في السلطة لأسباب مفهومة، ولكن هزيمة فتح في الانتخابات وحدت صفوفها، وفرضت نوعاً من الاستقطاب في الأرض المحتلة بين الطرفين. الأمر الذي فتح باب "مناكفة" حماس بأساليب عدة، كانت عناصر الأمن الوقائي المحرك الأساسي لها. وهو ما تطور إلى الاشتباك المسلح الذي وقع، واستدعى إلى الإدراك سيناريو الحرب الأهلية. ما هي خيارات حماس إزاء ذلك الوضع المتفجر؟ |
فقط لتذكر اخينا يتيم الشعر الذي انقطعت اخباره منذ زمان اسال الله ان يوفقه وكل الغائبين الى مافيه الخير والصلاح |
Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.