التَّصْحيحُ و التَّضْعيف
التَّصْحيحُ و التَّضْعيف
عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق من الأمور التي عمَّتْ في هذا الزمان فتحُ باب ( التصحيح و التضعيف ) في الحديثِ لكلِّ أحدٍ من الناسِ ، دون مراعاةٍ لمقامِ التأهُّلِ مراعاةً صحيحةً وَفْقَ المنهاج المرسوم لدى أهلِ الفَنِّ . فأنتَ راءٍ في الناسِ خللاً كبيراً في هذه المسألة ، و تُبْصِرُ وقوعهم في هوةٍ بعيدةِ القعر ، ذلك أن رأسَ هذا و ذاك هو عدمُ مراعاة أصولِ ( المُصحِّحِ و المُضَعِّفِ ) ، و الغفلةُ عن قواعد ذلك . لذا لمَّا كان التصنيفُ وَقفَ العلماءُ على كتبٍ رَعوْها و فقهوها ، و عرفوا لأصحابها حقهم ، فصارَ التعويل عليها ، و ذلكَ لكونها كائنةً من أئمةٍ على مثلهم يُعتمَدُ في تحرير الأحكام على الأحاديث ، و ذوي أهليةٍ في ذلك ، و الاعتمادُ عليهم لذاك . يقول الحافظُ ابنُ رجبٍ _ رحمه الله _ " الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة " ( ص / 25 ) : … و أما سائرُ الناس : فيُعوِّلون على هذه الكتب المُشار إليها ، و يكتفون بالعزو إليها . أ.هـ . و يقصدُ بالكتب : الكتب الستة . فَعَمَدَ بعضٌ من الناس _ في الأزمان المتأخرة _ إلى إعمالِ أذهانهم إعمالَ الحفاظ الكبار ، فتعرَّضوا لدراسةِ الأسانيد ، و تحرير محلِّ النزاع في الرجال ، و التحقيق في دعوى العلل ، فصُحِّحَ الضعيفُ ، و ضُعِّفَ الصحيح ، و استُخْرِجَتْ صِحاحٌ بعد الصِّحاح ، و كثُرَ المُجتهدون في ذا الباب . معَ لحْظِ غِياب الأهلية و التمكُّن في الفن و أصوله . و من أجلِ ذلك شدَّدَ العلماءُ في هذا الباب حتى ذموا الإمام الحاكم _ رحمه الله _ في تصنيفه " المُسْتدرَك " ، قال الحافظُ ابنُ رجبٍ الحنبلي _ يرحمه الله _ " الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة " ( ص / 24 ) : و لهذا أنكرَ العلماءُ على مَن استدرَك عليهما _ أي : الصحيحين _ الكتابَ الذي سماه : المستدرك . أ.هـ . و لقد كان صنيعُ الإمام ابن الصَّلاح _ رحمه الله _ حسناً في سدِّه باب التصحيح و التضعيف ، حيثُ قال " المقدمة " ( ص / 12 ) : تعذَّرَ في هذه الأعصار الاستقلالُ بإدراك الصحيح بمُجرَّدِ اعتبار الأسانيد ، لأنه ما مِنْ إسنادٍ من ذلك إلا و تجدُ في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عرِيَّاً عما يُشْترَطُ في الصحيح من الحفظ و الضبط و الإتقان ، فآلَ الأمرُ إذاً في معرفةِ الصحيح و الحسن إلى الاعتماد على ما نصَّ عليه أئمةُ الحديثِ في تصانيفهم المعتمدة المشهورة ، التي يُؤْمَنُ فيها _ لشهرتها _ من التغيير و التحريف .أ.هـ . إلا أن كلامَ ابنِ الصلاحِ مُقَيَّدٌ فيمن ليس بذي أهليةٍ ، و أما المتأهِّلُ فليس مراداً بهذا الكلام ، قرَّرَه النووي في تقريبه " تدريب الراوي "( 1/143 ) . و غيرُ المتأهِّل لا يُقبَل كلامه ، و لا يُعوَّل عليه فيقول ابن رجبٍ _ يرحمه الله _ " الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة " ( ص 25 ) : و لم يُقبل من أحدٍ بعد ذلك الصحيح و الضعيفُ إلا عمَّن اشتهرَ حِذْقُه و معرفته بهذا الفن و اطلاعه عليه ، و هم قليل جداً . أ.هـ . و حيثُ أن الكلامَ دائرٌ على الأهلية في ذلك فلا بُدَّ من إيضاحٍ لتلك الأهلية على وجهِ إيجازٍ و استيفاءٍ للمقصود . إنَّ المُتأهِّلَ الذي يُعْتَمَدُ على حكمه في الحديث هو مَنْ توفرتْ فيه شروط الاجتهاد ، هذا من حيثُ كونُه مُسْتقِلاًّ بالحكم ، و شروط الاجتهاد هي : 1. معرفةُ الكتاب ، و المُرادُ : إدراك آيات الكتاب ، و الإلمامُ بمعانيها ، و المُتَعَيِّنُ آيات الأحكام . انظر : " المُستصفى " ( 2/350 ) ، " المحصول" (2/33 ) ، " البحر المحيط " (6/199 ) . 2. معرفةُ السنة ، كالسابق في حدِّ المُراد . انظر : " البحر المحيط " ( 6/200 ) . 3. معرفة اللغة العربية ، و المُشْترَطُ العلمُ بما يتعلَّقُ بنصوص الأحكام . قال الطُّوْفي _ يرحمه الله _ " شرْح مختصر الروضة " ( 3/581 ) : و يُشترَط أن يعرف من النحو و اللغة ما يكفيه في معرفة في معرفة ما يتعلَّق بالكتاب و السنة مِنْ : نصٍّ ، و ظاهرٍ و مجمَلٍ ، و حقيقةٍ و مجازٍ ، و عامٍ و خاص ، و مُطْلَقٍ و مقيَّدٍ ، و دليل الخطاب و نحوه كـ : فحوى الخطاب ، و لحنه ، و مفهومه ، لأن بعضَ الأحكام يتعلَّق بذلك و يتوقَّف عليه توقفاً ضرورياً . ا،هـ . انظر : " البحر المحيط " ( 6/202 ) ، " التحبير " ( 8/3875 ) . 4. معرفة مواقع الأجماع ، و ذلك لأمرين : أ _ التحرُّز من القول بما يُخالفه ، و يُلْحق بذلك : إحداثُ قولٍ ثالث . ب _ التحرُّز من القول بالخلاف أو القول المهجور المتروك . انظر : " المستصفى " ( 2/351 ) ، " البحر المحيط " ( 6/201 ) . فائدة : قال الإمامُ الزركشي _ يرحمه الله _ " البحر المحيط " ( 6/201 ) : و لابُدَّ معَ ذلك أن يعرفَ الاختلاف . أ.هـ . 5. معرفة الناسخ و المنسوخ ، حتى لا يستدل بنصٍّ منسوخ . انظر : " البحر المحيط " ( 6/203 ) ، " التحبير " ( 8/3873 ) . 6. معرفةُ أصول الجرح و التعديل . قال المرْداوي _ يرحمه الله _ " التحبير " ( 8/3875 ) : لكنْ يكفي التعويلُ في هذه الأمور كلها في هذه الأزمنة على كلام أئمة الحديث كأحمد ، و البخاري ، و مسلم ، و أبي داود ، و الدارقُطْني ، و نحوهم ؛ لأنهم أهل المعرفة بذلك ، فجازَ الأخذ بقولهم كما نأخذ بقولِ المُقَيِّمين في القيم . أ.هـ. انظر : " البحر المحيط " ( 6/203 ) ، " التحبير " ( 8/3875 ) . 7. معرفة أصول الفقه . انظر : " المحصول " ( 2/36 ) ، " إرشاد الفحول " ( ص / 234 ) ، " التحبير " ( 8/3870 ) . فائدتان مُتَمِّمَتان : الأوْلى : قال الصَيْرَفي _ يرحمه الله _ : و مَنْ عرَفَ هذه العلوم فهو في المرتبة العليا ، و من قَصر عنه فمقدارُه ما أحسن ، و لن يجوز أن يُحيطَ بجميع هذه العلوم أحدٌ غير النبي _ صلى الله عليه وسلم _ و هو مُتفرِّقٌ في جملتهم . و الغرضُ الّلازم مِن علمِ وصفت ما لا يقدرُ العبد بترك فعله ، و كلما ازداد علماً ازداد منـزلةً. قال _ تعالى _ : { و فَوْقَ كلِّ ذيْ علمٍ عليمٍ } . أ.هـ " البحرُ المحيط " ( 6/203 ) . الثانية : قال الشوكاني _ يرحمه الله _ : و منْ جعل المقدار المُحتاجَ إليه من هذه الفنون هو معرفةُ مُختصَرَاتُها ، أو كتابٍ متوسِّطٍ من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعدَ ، بل الاستكثارُ من الممارسة لها و التوسع في الإطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوةً في البحثِ ، و بصراً في الاستخراج ، و بصيرةً في حصول مطلوبه . و الحاصلُ : أنَّه لابُدَّ أن تَثْبُتَ له الملَكَةُ القوية في هذه العلوم ، و إنما تثْبُتُ هذه الملَكَةُ بطولِ المُمَارَسة ، و كثرة المُلازمة لشيوخ هذا الفن . أ.هـ " إرشاد الفحول " ( ص / 234 ). و بعدَ ذكرِ هذه الشروط المُؤَهِّلَةِ للتصدُّر للاستنباط في الشريعة نعرِفُ عِظَمَ الأمر ، و خطورة الإقدام على مثل هذا . و المُتصدِّرُ للحكمِ على الأحاديث _ صحةً و ضعفاً _ في هذا الزمان هو ممن لم يتوفر فيه القدرُ الواجب في واحدٍ من هذه الشروط _ فضلاً عن كمالِه و تمامه _ ، و الميزانُ ظاهرٌ و الأعمال منشورة . و هذه الشروط تتعلَّقُ بِمَنْ تصدَّرَ للحكم استقلالاً دون تبعيةٍ لأحدٍ من العلماء المُتَّبَعِيْن ، و أما من يتَّبِعُ غيرَه في الحكم فهذا له ما يُحْكِمُهُ ، و ذلك من خلال ما يلي : 1) أن يكون القول و الحكم المأخوذ معمولاً به محفوظاً عند أهل الفن ، فإنه قد تَرِدُ و تُذكرُ أحكامٌ ، و قواعد على بعض المسائل في التصحيح و التضعيف لكنها لا تعدوْ أن تكونَ غيرَ مُعوَّلٍ عليها عند المحققين من المحدثين ، لأنه ما مِن ريبٍ أن المحققين من المحدثين ممن تأخرَ قد اطَّلَعوا على ما نُقِلَ عن السابقين فسبروا ذلك و حققوه ، و أثبتوا ما عليه التعويلُ و الاعتماد . قال الحافظُ ابنُ حجرٍ _ يرحمه الله _ " النكت " ( 2/726 ) : و بهذا التقرير يَبِيْنُ عِظَمُ كلامِ المتقدمين ، و شدة فحصهم ، و قوة بحثهم ، و صحة نظرِهم ، و تقدُّمهم بما يُوْجِبُ المصيرَ إلى تقليدهم في ذلك ، و التسليم لهم فيه . أ.هـ . و كلامُ الحافظ _ هذا _ يُفِيْدنا فائدتين : الأولى : أنه سبَر كلام المتقدمين في المصطلح و أصول الحديث . الثانية : أنه اعتمد ما هو محفوظٌ معمولٌ به لدى أهل الفن ، فلمْ يكن التعويل على قولٍ لم يُوافقْ عليه قائلُه ، أو شذَّ به عن جادة الصواب . فتنَبَّه . 2) أن يكون الاعتماد على المُعْتَمَدُ من روايةٍ عن الحافظ ، و من نسخةٍ معتمدة لتلك الرواية المُعتمدة ، فعندنا شيئان : الأول : روايةٌ معتمدةٌ . الثاني : نسخةٌ معتمدةٌ . فإن الرواياتِ للكتبِ منها ما هو معتمَدٌ و منها ما ليس بذاك ، فكان المُعوَّلُ على المُعتمد لازماً ، كذلك نُسخُ تلك الروايات شأنها شأن الروايات سواءً . و في هذا يقول الحافظ العراقي _ يرحمه الله _ في ألفيته : و أخذُ متْنٍ لكتابٍ لِعمل *** أو احتجاجٍ حيثُ ساغَ قد جُعِل
عرْضاً له على أُصُولٍ يُشترَط *** و قال يحي النووي : أصلٌ فقط قال السَّخاوي _ يرحمه الله _ " فتح المُغيث " ( 1/86_96 ) : إذ الأصلُ الصحيحُ تحصُلُ به الثقةُ التي مدارُ الاعتماد عليها صحةً أو احتجاجاً . أ.هـ . ثمَّ بعد هذا كلِّه يتضِّحُ لكل ذي عينين عدمُ توفُّرِ هذه الأشياء في كثيرٍ ممن تصدَّى لمهمة التصحيح و التضعيف ، و الأدهى أن بُنِيَتْ على أحكامهم أحكامٌ شرعية ، و أُظْهِرَتْ أحكامٌ ، و غير ذلك من ويلاتٍ و بلياتٍ . فلزومُ الجادةِ التي سار عليها أهل التحقيق في الفن أسلمُ من التصدِّي لِماَ ليس للمرءِ فيه طرفٌ صالح ، و الحمدُ لله أن الحالَ في سلوكهم سبيلُ استقامةٍ و فلاحٍ و ظَفَرٍ . و الله المُوفِّقُ لا ربَّ سواه ، و صلى الله و سلَّم على سيدنا محمد و على آله و صحبه . حرَّرَها عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق 19/8/1424هـ صيـــــد الفوائــــــــــــــــد |
Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.