أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   خيمة الثقافة والأدب (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=9)
-   -   التشـــــــرنق (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=65275)

ابن حوران 11-09-2007 07:09 AM

التشـــــــرنق
 

التشرنق

(1)



ما كان ينقص الرسام لو تأمل شكل (مخلف) وهو يسند ظهره الى الهواء فوق تل العتيقة، إلا الحائط الذي استعاض عنه بأن يتشبث بقصبتي ساقيه من الأمام. كان مخلف يتأمل الفضاء الرحب الذي أمامه ويتخيل كم مشى في تلك الحقول الواسعة في كل مراحلها، وهي جرداء أو محروثة أو معشوشبة أو مزهوة بسنابل القمح .. لم يزعجه تفحص المارة لعقاله الأسود الذي لاحت منه بعض خيوط قطن فاتحة من أثر قدم العقال .. ولم يزعجه لو أن أحدهم اكتشف أطراف ردن سترته أو قميصه الذي تنسلت منها الخيوط معلنة عن ضجرها من طول مدة اصطفافها بشكل نسيج محبوك .. فليس هناك انضباط في أي جماعة يدوم كما دامت تلك الأنسجة التي مر عليها عشرات السنين ومخلف يرتديها..

كان مخلف يتساءل: لماذا كل هذا التعقيد عند البشر؟ فإن أرادوا أن يخرجوا فضلاتهم من بطونهم، يخصصون عشرات الاختراعات ، هذا حمام وهذه حنفية وهذه مقعدة وهذه منشفة، وهل نبني الحمام بجانب غرفة النوم أو بعيدا عنها، وهل نجعل باب الحمام الى الشرق أم الغرب أم نستعين بفتحة في جدران الحمام لتتخلص مما يتكدس من أمونيا مع غازات مزعجة..

وإذا أرادوا أن يناموا يحتارون في اختيار نوعية الفرشة، هل نجعلها من قطن أو صوف أو إسفنج، وهل نرفع مستوى السرير أم نبقي الفراش ملتصقا على الأرض؟ عشرات الأسئلة دارت في رأس العجوز الذي قطع عمره الثمانين، وهو يتأمل عمليات الهدم في بيوت القرية أثناء شق الطريق الأول فيها، بعد أن قرر موظفو الأشغال وجوب تنفيذه ..

ماذا يعني التقدم والرقي حسب رؤية مخلف؟ إنه لم يعن شيئا، وتصور نفسه ضبعا أو ابن آوى، وهو إن قبل بأن يكون ضبعا فإنه سيرفض التطور والرقي، لأن فرصه بالحياة ستقل عندها، حيث ستتضاءل الأمكنة التي سيختفي بها ليلا، وستنعدم فرص قنصه لحيوان أو إنسان في العتمة ..

كان الضجيج الصادر عن حركة الرجال الذين يتقدمهم رئيس عمال يمهدون الطريق بعد أن تطوع أهل القرية في مساعدة من يشق الطريق دون أن يأخذوا أجورا على عملهم .. لم يكونوا متسامحين ومتفانين في خدمة التطور لشق الطريق، ولم يكونوا ماكرين، بل كانوا بين ذلك وذاك، فقد كانوا يهدمون بيوتهم بأيديهم. وعملهم هذا يمثل عمل إنزال الأنثى في قبرها على أيدي أقرب الناس لها ومن كان يحرم عليها كابنها أو أخيها أو أبيها .. وكذلك فإن هدم البيت على أيدي أصحابه، يحتاج علاقة عضوية بين الهادم والمهدوم كما كانت بين الدافن والمدفون .. فستكون ضربات الفؤوس أقل قسوة، ليس رحمة بالجدران والأسقف فحسب، بل لعل من يضرب بالفأس يستطيع استخلاص قطعة ما دون تهشيمها، مثل الحجارة أو قطع الأخشاب والقصب التي كانت في السقوف والنوافذ.

كان الطريق الذي شقته السلطات المحلية، أشبه ما يكون بثقب في غرفة نوم يسمح للمتلصلصين أن يطلعوا على عورات من في داخلها .. لقد أسقط الطريق كل الاحتياطات التاريخية التي اتخذها سكان العتيقة في تسترهم من عيون المتطفلين .. فكانت خطوط الدفاع عن خصوصيات كل أسرة تتمثل بالجدران السميكة التي كانت تبنى من طين وحجر، وتخلو من نوافذ، إلا في أعلى الجدار في قليل من الأحيان، وكان الجار هو الأخ أو ابن العم أو القريب أو أخ لم تلده أم صاحب الدار .. فجاء الطريق ليجعل كل شيء مشاع ومتاح ليسرق نظرة من داخل من في الدار أو يسمع صرخة فتاة أو امرأة وكلها عورات ..

كان مخلف وهو يتأمل هذا التحول المفصلي في حياة القرية، كمن يجلس فوق بركة تتجمع بها الضفادع في كل مراحل نموها، فهذه ضفدعة كاملة تنق وهذا (أبو ذنيبة) بساقين أماميين وذنب يساعد توجيه هذا الطور من الكائن الحي، منتظرا ليتحول الى ضفدع محترف (الضَفدَعة) في المستقبل ..

هذه المراحل لا يشهدها الإنسان وحده، دون الكائنات الحية الأخرى، بل نراها في الحشرات حيث تتشرنق وتتحول من يرقة الى شرنقة تتخفى داخل ستار عضوي، تجري فيه التحولات بمعزل عن مراقبة الآخرين .. كما تجري تلك التحولات على الحبوب والبذور المختلفة عندما تغرز بادرتها في الأرض من الجهة السفلى، لتصعد ببادرتها العلوية منبئة ومبشرة لكائن حي جديد. هكذا تكون الحياة في القرى والمدن والدول والحضارات، باتجاهين متعاكسين، اتجاه نحو الأسفل أو الماضي يستمد صفاته وقوته منها، واتجاه الى الأعلى الى الأمام يبشر في حياة متطورة جديدة ..

وتختل الحياة (هكذا فكر مخلف) عندما تكون حركة الجذور في مساحات ضيقة، فتكون أفرع النبات أو الشجرة متناسبة مع القدرة على امتداد الجذور، فالنبتة التي تزرع في (أصيص) أو (وعاء) مهما كان جميلا ومهما كان متقن الصنع، فإن حركة الفروع ستكون محدودة، حتى لو كان النبات مزروعا في شرفة قصر، فلن تشفع وجاهة صاحب القصر للنبات بالانطلاقة الطبيعية ..حتى لو تم إضافة آخر مبتكرات الأسمدة والمخصبات، فقد يظهر على أوراقه علامات العافية ولكنها ستكون كعافية كلاب وقطط أغنياء أوروبا، لا تعرف العيش إلا في أجواءها المستحدثة ..

كانت النسوة تجفل عند سماع صوت المارة من الطريق، كأنها غزالات تم التقاطها ووضعها في حظيرة قرب قصر، لا تنسى صفاتها البرية، حتى لو طمأنها من التقطها بالأمان و الهدوء .. وكان الرجال الذين تم إرغامهم على تقبل الوضع الجديد، منشغلين في تهيئة الأسوار الجديدة لحجب عيون المتطفلين من المارة ..

كان الشارع (الطريق) كأنه (خزعة) أو عينة أخذت من جسم القرية لفحصها في مختبر، فمن تتبع سير الطريق (الخزعة) سيجد أن استقامته المبالغ فيها، قد نبشت مواطن ذاكرات المكان والزمان وجعلتها (فرجة) أمام من يريد أن يتفرج. لم يكن أحد يتوقع أن دار الحاج (عواد) تقع على طبقات بناء اشترك فيها أقوام تصل الى الكنعانيين و بعدهم الإغريق والرومان والأمويين والمماليك .. فكان من يمر عليها يجد في مقطع الهدم العمودي الذي يزيد عن عشرين مترا، شكلا من أبنية تم إضافتها فوق (مغارات) وكهوف وتمت الإضافات عليها دون تأفف، في عهود متلاحقة، حتى وصلت ملكيتها الى الحاج عواد .. لم يكن هذا المتحف قد خبره أهل القرية، ولا حتى أقرب الناس الى الحاج عواد .. فقد كان يستخدم الأجزاء السفلى لخزن التبن والحبوب وتربية المواشي، وعندما يرتقي الى الأعلى يصنع جدارا حاجزا عن رؤية ما في داخل داره ..

كثيرة هي المقاطع التي أحدثها شق الطريق، ولعل مخلف كان قد تعرف على الكثير منها، واستمد حكمته وصمته و هيبته التي لم تلغيها رثاثة ملابسه وتقدمه في العمر، من هذا الحجم من المعرفة .. ولكن اليوم وقد أصبحت مصادر معرفته مشاعا أمام الجميع، فإن دوره ومعرفته أصبحت في مهب الريح .. ولعله وهو يجلس عاقدا أصابع يديه الطوال على مقدمة ساقيه، يدعو الله أن يريحه من طول عمره الذي أفضى به لرؤية ما رأى ..

ابن حوران 15-09-2007 03:36 PM

(2)

كانت (صيتة) وهي تطلب من زوجها (زعل) أن يبني غرفتين من (الباطون ) على غرار ما فعله دار خالها، تريد أن تمتحن (غلاوتها) عند (زعل)، وتريد أن تسمع ابنها محمود أنها تقف الى صفه في تهيئة أمور زواجه، علها تكسب وده ويوافقها على الزواج من ابنة أختها..

لم يطعها (زَعَل) في البداية، ولكنه أذعن في نهاية الأمر، دون أن يفصح عن إذعانه، فقد كان يشغل باله أمور كثيرة، من بينها الكلفة التي سيدفعها لإنجاز هذا البناء، ومن سيقوم بالبناء وأين سيبني الغرفتين، وهل هو فعلا يحب القيام بهذا العمل؟ سلسلة من الأسئلة والتساؤلات لم تكن لتبرز لولا ذلك الطريق اللعين الذي استفز عقل القرية للانشغال بعشرات القضايا التي لم تكن لتظهر بدونه ..

ما كان بناء غرفة في السابق يكلف شيئا غير جهد أهل الدار وجهد حميرهم التي تنقل الحجارة والتراب، مع بعض معاونة الجيران التي كانت بمثابة (تسليف) سيحين وقت سداده في مناسبة مثيلة عندهم .. أما غرفتان من (الباطون) ستحتاج لشراء الإسمنت والحديد والحصى وأسلاك التربيط والمسامير وكلها كانت تقع في قوائم سلع الرفاهية فيما مضى .. ولكنها اليوم أصبحت شرا لا بد منه ..

خرج (زعل) من بيته ليجمع معلومات عن الكيفية التي سينفذ بها بناء الغرفتين، ولم يكن هناك عنوان بعينه سيذهب إليه، فلم يكن هناك مكاتب هندسية أو نقابات لعمال البناء .. لذلك استعان بصديق له كان قد سبقه في بناء غرفة في صدر الدار .. فرح صديقه بتلك الحظوة التي حظاه بها (زعل)، فستكون مادة للحديث لمدة أسابيع مع أفراد عائلته بأن هناك من راجعه طالبا المعونة في شيء!

قرفص صديقه وتناول شظية من حجر وأخذ يخط على التراب خطوطا ليست مستقيمة بما فيه الكفاية فكانت تظهر لمن لا يعرف عن سبب جلوس الصديقين أنهما يرسمان نظارات للعيون أو (صدرية ملابس امرأة) .. وكون الناس لم يكونوا قد تعرفوا جيدا على هذين النموذجين (للمقارنة) .. فقد كانوا يتجمعون بحلقات حول (دافنشي) الذي يخط على الأرض مخطط بناء غرفتي (زعل) .. كان من السهولة على صديق زعل أن يمسح الخطوط المحفورة في التراب، ليعيد رسمها من جديد .. فقد أثاره تحلق الناس حوله، فتمتع بفكرة أن يبدو كخبير في رسم مخططات الأبنية!

لم تشفع مخططات صديق زعل في تحويل المشروع لحقيقة، فقد نصحه في النهاية بالتوجه لصالح الذي بنا له غرفته .. جاء صالح وسأل عدة أسئلة وكان قد عمل مع مقاولين في (النقطة الرابعة H4) فتعلم ممن تعلم كيفية تنفيذ بعض أعمال البناء .. وصى زعل بإحضار المواد المطلوبة .. وأشر له مكان أسس البناء .. فبادر زعل بحفرها دون الاستعانة بأجراء ..

كان زعل يتدخل في كل شيء حتى يقلل كلفة البناء على نفسه، فلم يرغب أن يوضع بالأسس أي جزء من (الإسمنت) فيكفي وضع بعض الحجارة والطين .. وكان يقوم بقطع أسلاك التربيط بعد أن تفك الأخشاب عنها، وكان يقوم بتصحيح وضع المسامير المنحنية إثر استخراجها من الخشب، ويطلب من صالح إعادة استخدام تلك المواد مرة أخرى ..

لم ترق له فكرة بقاء النوافذ مفتوحة فأغلقها بطوب من طين .. كانت الغرفتان قبيحتا المنظر، ولكنهما بنفس الوقت كانتا مصدرا لمفاخرة زعل بأنه من أوائل من شيد هذا النمط من البناء في قريته (العتيقة) ..

في محاولات تهجين الإنسان للنحل البري، حيث يأتي بكيس من قماش، ويلفه حول غصن شجرة تجمًع عليه طرد من خلية نحل نفرت من مكانها والتهمت ما في داخله من عسل، حتى أصبحت حركتها بطيئة، فيأخذها الإنسان الذي لا يضيع فرصة في استثمار ما تهبه الأرض من خيراتها، ويحبس النحل في صندوق خشبي تعلم القساوسة أبعاد عيونه السداسية، فأصبحت خلايا النحل تصنع بشكل وكأنها شقق (مفروشة) لاستقبال النحل .. ولأن النحل لا يحب إلا الطبيعة، فإن الإنسان سيبتدع طرقا لاستئناسه وترويضه وتطويعه ليصنع العسل له، مقابل تقديم هذا السكن المريح .. وكيف لا؟ ألم يستطع الإنسان ترويض الأسود والأفيال و جعلها ترقص على خشبة المسرح، وإن كانت تلك الحيوانات لا تنسى أن تبدي ما يذكر من يتفرج عليها بأنها حيوانات مفترسة، فبعد أن يقدم الأسد نمرته لا ينسى أن يقطب جبينه ويظهر أنيابه بحركة استعراضية غير مخيفة!

إن أصعب المهام التي يواجهها الإنسان في ترويض الكائنات الحية، هي ترويضه لنفسه، فمن كان يتعايش مع الألوان الرمادية من أثر الدخان الصادر من المواقد البدائية سيبقى يحن إليها حتى لو سكن في أبهى القصور وعاش بين أرقى الحضارات، وهذا يحدث مع من يعيش في الغرب يعاشر الموائد وسكاكينها و شوكات طعامها، ما أن يوضع في جو قديم، حتى يرفع ردن يمينه ويستعمل يده في تمزيق رأس خروف أو ورك شاه، وكأنه لم يغب لنصف قرن بين الشوكات والسكاكين ..

كان زعل ينظر الى الغرفتين نظرة أبهة واحتقار في نفس الوقت .. كانوا نادرا ما يلجون الغرفتين .. ولكنهم صفوا بها بعض الفرشات ووضعوا عليها بعض الوسائد انتظارا لإنجاز مراسم زواج ابنهم .. ولكن (صيتة) لا تنسى إذا أتتها إحدى قريباتها أو جاراتها أن تصطحبها الى المتحف الجديد لتتفرج الجارة على هذا المقترح الجديد .. ولتصبح الزائرة مندوبة مبيعات أو مروجة لهذا النمط المستحدث في القرية ..

في الحقل الزراعي تلجأ الدول لعمل حقل إيضاح في كل قرية تزرع فيه نوعا من المزروعات على الطريقة الحديثة. فإن كانت أشجارا، فتكون خطوط الأشجار مستقيمة ونمط تربيتها واضحا وأثر السماد وطرق الري واضحة .. فيستقدمون القادة الريفيين من الفلاحين ليطلعوا على حقلهم الإيضاحي ليتعلموا منهم وينقلوا ما رأوه الى بساتينهم وحقولهم .. ولم تنس الدولة المهتمة في نشر تلك الوسائل أن تكرم هؤلاء القادة بتقديم وجبات مجانية أو تقديم الحلويات والشراب ..

كذلك كانت (صيتة) تقوم بدور المرشد لحقل الإيضاح، ولم تنس ـ بطبيعة الحال ـ تقديم ما يكرم ضيفاتها ..

خاتون 20-09-2007 09:59 AM

بعد أن عشنا تفاصيل الحياة البسيطة في العتيقة في "ذكريات قرية لم تعد موجودة"، سنحجز مكانا لرصد مرحلة الانتقال إلى مجتمع "متمدن" وما يقتضيه هذا الانتقال من تغيرات على المستوى المادي والنفسي خصوصا.

أصفق بحرارة لأسلوبك الماتع، ولرصدك لجوانب دقيقة -وتحتاج إلى وقفات طويلة- في حياة الفرد والمجتمع.

هنيئا لك بهذا العمل الادبي الكبير.


تحياتي
خاتون


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.