أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   خيمة الثقافة والأدب (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=9)
-   -   نجوم كثيرة وقمر واحد (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=36479)

يتيم الشعر 17-11-2003 06:36 PM

نجوم كثيرة وقمر واحد
 
في وداع حمزاتوف
أحمد الخميسي








توفي رسول حمزاتوف - الشاعر الذي عاش أشهر من وطنه وكان وطنه الصغير "
داغستان " الواقع في القوقاز بجنوب روسيا ينسب إليه ، فيقال في العالم " داغستان
حمزاتوف " . ومع ذلك لم يعشق حمزاتوف أرضا كما عشق أرض بلاده الصغيرة الجبلية التي
فتحها العرب في القرن السابع وظلت الثقافة العربية تسودها نحو ألف عام . يقول
حمزاتوف في إحدى قصائده عن بلده التي لا يزيد تعداد سكانها عن مليوني نسمة :

" نجوم كثيرة .. وقمر واحد ..

نساء كثيرات .. وأم واحدة ..

بلاد كثيرة .. ووطن واحد " .

ولد حمزاتوف عام 1923 في قرية بين أحضان الجبال ، وكان والده شاعرا ينظم
الشعر باللغة العربية وباللغة " الآفارية " القومية . ويروي أن والده كان يكتب كل
قصائد الغزل في النساء الأخريات باللغة العربية لكي لا تفهمها أمه إذا عثرت عليها .
ورث حمزاتوف عن أبيه موهبة شعرية خارقة استوعبت كل أساطير الجبال العملاقة وبساطتها
وحكمتها . ومكنته دراسة الأدب في موسكو من الإلمام بتراث الشعر العالمي وقوالبه فصب
فيه خبرته الخاصة التي لا تتكرر ، دون أن يفقد بكارة تجربة بلاده ، ولا تاريخها ،
ولا
صراعها الذي دام ضد القياصرة ثلاثين عاما متصلة كانت الرصاصة خلالها أعز على
القوقازي من جرعة الماء ورغيف الخبز . ولمع اسم حمزاتوف مع صدور أول ديوان له عام
1943 ، ثم واصل اسمه رحلة الصعود ، إلي أن حصل على جوائز دولية وسوفيتية عديدة
وترجمت قصائده ودواوينه وكتبه التي تربو على الأربعين كتابا إلي أغلب لغات العالم .
وكان رسول حمزاتوف أحد الذين آمنوا بالاشتراكية بصدق ، فلما انهار الاتحاد السوفيتي
، وراحت الطعنات توجه إلي كل ما مضى من تاريخ وإنجازات وسلبيات ، وقف حمزاتوف
يدافع عن نفسه وتاريخه قائلا : " لم تكن قصائدي عضوا في الحزب الشيوعي " . وفضل في
سنواته الأخيرة أن يقيم في محج قلعة عاصمة بلده داغستان في بيت صغير من طابقين مع
زوجته فاطمة . وكان أبناء وطنه إذا اقتربوا من الشوارع المحيطة ببيت حمزاتوف
يشرعون في الحديث بصوت منخفض ، فإذا ارتفع صوت أحدهم ، نهره الآخر قائلا : نحن
بالقرب من بيت الشاعر . وكان حمزاتوف شخصا بسيطا جدا ، محبا للمزاح . المرة الأولى
التي زرته فيها في شقته بموسكو قدم لي زوجته قائلا : فاطمة . ثم قدم لي ابنته
الكبرى قائلا : فاطمة . فلما أقبلت ابنته الثانية سألته : فاطمة أيضا ؟ . فقهقه
قائلا : لو كانت تلك هي الأخرى فاطمة لكنت قد أصبحت أستاذا في العلوم الفاطمية ! .
رحل حمزاتوف عن عمر يناهز الثمانين عاما . وكان يبدو أنه شخص لا يرحل ، أولا يجوز
أن
يرحل ، أو لا يصح أن يرحل ، لأن رحيله يحدث خللا شديدا في موازين الخير والشر في
العالم . وكان يكفيني - في شوارع موسكو البيضاء من الثلوج والقاسية – أن أتذكر أن
رسول حمزاتوف يعيش ويتنفس في روسيا لكي أحس أن ثمة شيئا طيبا في هذا العالم ، وأن
العالم لابد أن يصبح أفضل وأكثر دفئا وإنسانية . وكانت كل أحاديثه اليومية شعرا ..
منثورا . سألته مرة : تعيش في داغستان عشرون قومية مختلفة بعشرين لغة .. متى توجد
لغة واحدة لداغستان ؟ فابتسم قائلا : هل يصبح العالم أجمل إذا نحن جمعنا كل النجوم
في شمس واحدة كبيرة ؟ . لماذا تبحث عن لغة واحدة ؟ فلتكن هناك عشرون لغة !

في سنواته الأخيرة توفيت زوجته فاطمة ، وكانت سيدة جميلة ورقيقة . وتزايدت
عليه وطأة مرض عصبي كالشلل الرعاش ، ولكنه لم يفقد روح المرح والحكمة والنبل . في
آخر حديث لي معه قال لي : " ظهرت لدينا في روسيا الآن ما يسمى بالسوق ، ودخلنا
مرحلة من حرية الجوع الوحشية أصبحت فيها أسعار الطماطم أغلى من البشر ، وأصبح
ممكنا شراء كل شيء في روسيا : الضمير والبطولة ، الموهبة والجمال ، الشعر
والموسيقى ، الأرض والأمومة أحيانا . وقد بدل الكثيرون من مواقفهم . ربما يمكن
للمرء
أن يبدل قبعته ، ولكن لا يمكن لشخص شريف أن يبدل رأسه .

توفي شاعر عظيم . وكم أحس بالأسف لأنني لا أستطيع أن أنقل للقارئ شيئا من عظمة
ذلك الشاعر الذي كان يسخر من كل أشكال العظمة قائلا : " الحمد لله لا أحد يقول لي
إنني عبقري لأن العباقرة هم أولئك الذين يفعلون ما يعجز الناس عن فعله " وقبل أن
يموت بأيام قليلة قال حمزاتوف : " حياتي مسودة كنت أتمنى لو أن لدي الوقت
لتصحيحها " . ترى كم من البشر يتاح له أن يحيا مسودة عظيمة كتلك ؟ كل لحظة فيها
شعرا خالصا ومحبة للعالم ؟



***


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.