أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   خيمة الثقافة والأدب (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=9)
-   -   الجبارة الصغيرة (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=35888)

البسمة 21-10-2003 12:13 PM

الجبارة الصغيرة
 
الإهداء: بالطبع، إليكِ (سُندس)، حيث أنتِ...

(1)

كنتُ أبرر عجزي عن الكتابة، أنني أنتظر نهاية حتمية، لا التباس فيها..

و كنت أكتفي بممارسة الألم، و تأمله، و اختزانه، لاختزاله في قصة قصيرة، أقوم بضمّها إلى أوراقي الكثيرة المبعثرة، لتعليبها في دولابي الأمين، و عدم السماح لأحد أن يعبث بها، خوفاً من الأعين البراقة، الفضولية، و الألسنة المتشعبة، المتعطشه لخبر جديد، و كذلك كي أطمئن نفسي أنني نسيتها، ببشرتها النّديّة الطرية كعجين الصباح المُختمر، و أصابعها الطويلة الرفيعة ذات الأظافر اللؤلؤية، و عينيها الصغيرتين و أنفهما الذي كأنه رُسم بفرجار هندسةٍ لا يُخطئ الزاوية أبداً، و صوتها الناعم الحنون الذي نادراً ما سمعته..!

(2)

لم يكن يلفتني إليها سوى تكوُّر بطن أمها، و انتفاخه شهراً بعد شهر بها، و لم أكن أتصور أن تلك الكرة المحشوّة هناك، سوف تغدو هاجسي الأوحد، و المنافس الحقيقي لظلي على دوام رفقتي، و بوصلتي التي لا تمتلك إلا عقرباً يتيماً لا يعرف الإشارة إلا حيث اتجاه الحزن الممزوج بالشفقة و التساؤلات الملحة دون مجيبٍ مقنعٍ، فلم أعد أقتنع بالمبررات القائمة على (النصيب)، (هكذا شاء الله)، (التحاليل الطبية تقول)، و(صور الأشعة تُشير إلى أنّ..)، نعم لم أعد أقتنع أبدا..

(3)

مؤكد انّ الأطفال (ملائكة) و أنا أقسم بعكس ذلك، أنهم (جبابِرة)، خاصة إن سكنهم العِند، و قرروا –صائبين- عدم الاستمرار في سيرك الحياة باذخ التناقض، و مغادرته سريعاً، مخلفين ورائهم تراكمات من الأفكار، و العِبَر، و الذكرى و الكثير الكثير من الصمت الباكي. لذلك، أكاد أقسم أيضاً إن (جبارتي) الصغيرة لم تصرخ، و لم تسقط دمعة واحدة من عينيها -اللتين بلون كَرز أيار الأخضر، حين ارتطمت أول نسمة من نسمات الأرض، برئتيها الصغيرتين، لا لشيء سوى أنها قررت أن لا تلوثهما طويلاً به..

(4)

في الليلة التي حلَّقت روحها حيث خالقها، قمنا –أمها و عمتها الكبرى و أنا- بزيارتها في المشفى، و لم يكن مسموحاً لنا بذلك، ربما لأنهم –الأطباء- باتوا يدركون أن ساعتها الرملية لم يتبقَ فيها إلا حبات قلائل، لتنتقل حيث الضفة الأخرى من الحياة، لكننا و بعد استعطاف الطبيب، دخلنا إليها بشكل منفرد، و حين أتى دوري، حضنتُ يديها، كانتا باردتين كثلج كانون الثاني، موشومتين بوخز الإبر التي تركت آثاراً زرقاء في يديها الطفوليتين و كذلك كانت هناك بقعاً حليقة من رأسها الصغير، من أجل إبرة أخرى، تدخل مصل التغذية –اللعين- الذي لطالما ردّت مُحتواه عنها باستفراغه، و كأنها تذكرنا بالحقيقة الطبية التي تقول "أن الاستفراغ ليس مرضاً بل ردة فعل"، قمتُ بتقبيلها، نظرتُ إليها، خُيِّل إليّ أنّ ريشاً أبيض بدأ ينمو على يديها، لتتحولا إلى جناحين، تحلق بهما، -مفعمة بالقوة، و الثقة و الصحة، إلى ملكوت الله الأمر الذي شجعني أن أقرّب فمي حيث أذنها اليسرى أحمِّلها أمانه، أن : "يا سندس عندما تصلين إلى الله، سلّمي لي عليه و أخبريه أنني أحبه رغم كل شيء.."

(5)

لا أدري كم المدة التي بقيتها عندها، وبينما كنت أتأملها برصيدي الكبير من العجز، تذكرتُ الأوقات التي قضيتها معها لوحدي قبل نقلها إلى المشفى و الأغنية التي كنت أرنمها لها بينما أمسّد شعرها الذهبي ((طيري يا طيارة طيري، يا ورق و خيطان، بدي إرجع بنت صغيرة على سَطح الجيران...))، لكنها لم تكن تستجيب لغنائي و لمساتي على وجهها البريء..!، و بينما الآن أمسّد بيدي المترددة ما تبقى من شعرها الناعم القصير، أرعبني صفير ما، لم أدرِ مصدره لكنه كاد أن يُوقف قلبي، لأنني على يقين أنه صادر عن أحد الأجهزة الموصول بها، الأمر الذي حوّل عيني إلى فأرٍ باحثٍ عن حفرة تأويه، فبحثتا عن طبيبٍ أو ممرضة، لإنقاذها مرة أخرى من بين أنياب الموت الحادة، و لإيقاف النزف الحاد الذي حدث لأعصابي، فأتت الأخيرة وعدّلت في مُؤقّت جهاز التدفئة الذي كان يساعد على ابقاء حرارة جسدها الضعيف ضمن المعدل..!

استمر نزف أعصابي مدة لا بأس بها بعد أن صمت نقيقُ الجهاز و طمأنتني نظرات الممرضة، وكذلك قلبي احتاج إلى دقائق حتى عاد إلى ترنيمته الأولى، ربما لأنني تذكرتُ أنها كانت سوف تموت بين يدي قبل يومين، حين أشفقتُ عليها عندما لمحتُ أن الجفاف بدأ يزحف حيث شفتيها، فرطّبت أصابعي بالماء و مسحتُ حيث فمها، و أتتها نوبه اختناق، وقتها لم أعرف ماذا أفعل، لم أقل سوى ((و الله لم أفعل لها شيء، فقط رطّبت شفتيها بالماء.. لم أسقها شيء.. أي شيء..!)) لم أكن أريد أن تموت بين يدي، كما لم أكن أطيق فكرة موتها و أنا بعيدة عنها...

نهايةٌ حتمية..!

28/8/2003 الساعة الرابعة إلا عشر دقائق مساءً، و بعد أربعٍ و أربعين يوم، (الجبارة الصغيرة)، بسخرية لاذعة، غادرت قطار الدنيا دون رجعة..! تاركة قلبي فريسه لهاجس الـ ((لماذا)) و وسوسة ((ما الحكمة)) و تربّص ((الدهشة الحمقاء))، و تركتْ قلمي محموماً يبحث عن مِزراب، يستطيع من خلاله تمرير بعض حزني الماطر الهاطل من قلبي.

كما أن عشرات الصّور –التي اقتنصتها لها دون تصريحٍ منها- تبيحُ المجال لمَطارِق الذكرى بنقر رأسي دون رحمة، و لباسها الأبيض -الذي قُدِّس بدمها، أثناء عدم مبالاتها بالدنيا حين سلبتها ما تبقى من دمها- ..يعيد إلي -تارة ثانية و ثالثة ورابعة ووو ..- ذات الهواجس و الوسوسات و التربصات اللعينة إلى نفسي!

تحياتي الخالصة
بسمة فتحي

أبورند 21-10-2003 03:44 PM

حكمة الله تعالى فوق كل حكمة
 
الكاتبة الأخت ( بسمة فـتحي )
السلام عليكِ .. وبعد /
لآ أعلم كم مضى من الوقت بعد رحيل من أسميتيها ( الجبارة الصغيرة )
ولكن ما أدهش ناظري وأنا أقرأ المقال مرات عديدة هو:
على الرغم من وصفك إياها بالجبارة الصغيرة ، وأنك أقسمت على أن
الصغار ليسوا من الملائكة ..!!..
إلا أن القارئ المتمعن يلاحظ شدة ارتباطك وتعلقك بها ..!!.. لماذا؟؟
أليس هذا لأتها من القلب بمكان ..؟؟.. وأنها استحوضت على حنانك
وعطف قلبك ؟؟
أليس هذا لأنها من ملائكة الأرض المرحومة التي تقرأ البراءة من
عينيها ..؟؟..
أنا لا أتكلم عن المقال فهو بحد ذاته في تمام الروعة ..
ولكنني أتحدث عن المشاعر التي أحسست أن بها شيء من التناقض
والتباين ..
وأرجو أن تعذريني على تعبيري فربما خانتني الكلمات والجمل
والتعبيرات عن وصف ما أحسسته عند قراءتي لمقالك ..
وكم كنت أتمنى بعد قراءته أنك لو اخترت عنوانا آخر لكان أفضل ، لكنها
ربما خاصية اجتذاب للقارئ ..
ولا أخفيك سرا أن كتابتك بهذا الأسلوب والطرح المميز شيء جميل ..
لكنني أتمنى أن تكتبي بما يناسب الحال .. لا بما يناسب المقال ..
وأشكر لك هذه المشاركة الجميلة التي تنم عن إحساس أدبي رفيع
وتمكن لغوي رائع ، وإلمام بفن الجذب والتحاور ..
واعلمي ( أن اختلاف وجهات النظر لا يفسد للود قضية ) ..
وتقبلي تحياتي واحترامي لشخصك الكريم ..
( أبــــو رنــــــــــد ) ....

خشان خشان 22-10-2003 05:33 AM

بسمة

أرقب معارج كتابتك صعدا.

وفقك الله دوما وإلى الأمام.

آلمني موت الصغيرة ( أشعر بأنها واقعىة حقيقية).

البسمة 27-10-2003 11:29 AM

أبو رند
اشكر لك مرورك سيدي، الذي اسعدني جداً
وأقول لك، للاسف قصة سندس هي حياة عشتها مع طفلة أخي التي أحببتها حد التعلق، والذي فُجعت برحيلها حد اللامعقول..
لهذه يمكن ان تكون كلماتي مختلطة بين القسوة والحنية
اشكرك من كل قلبي
أختك بسمة

البسمة 27-10-2003 11:31 AM

الاستاذ المبدع خشان خشان.
كل عام وأنت بألف خير وصحة و سلامة
اعاد الله عليكم رمضان اعواما كثيرة باليمن والخير والبركات

كلماتك شهادة اعتز بها جداً، اشكرك جزيل الشكر
ولا عدمتُ مرورك أبداً أبداً

سندس رحلت إلى خالقها، لا أذاقك الله مرارة الفقد
اشكرك من كل قلبي

تلميذتك بسمة فتحي

يتيم الشعر 30-10-2003 05:35 PM

تحية من أعماق القلب و العقل

كلمات جميلة جداً و قلم سيّال

نبضٌ روحٍ حية

تحياتي


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.