أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية

أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com/index.php)
-   الخيمة الإسلامية (http://hewar.khayma.com/forumdisplay.php?f=8)
-   -   قرات لكم ....!!! (http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=41169)

صدّيق 12-10-2004 07:18 AM

قرات لكم (1)
 
محمد أركون - مفهوم (الأنسنة) ومشروع (الاسلاميات التطبيقية): وقفة نقدية - د. سيّار الجميل


(بعد خمسين سنة من الاستقلال، لم نتقدم خطوة واحدة في اتجاه تفكيك التراكمات التراثية، ونشكل صورة صحيحة وعقلانية وواقعية عن تراث الامة العربية ــ الاسلامية).
محمد اركون في كتابه الجديد رفقة جوزيف مايلا (من مانهاتن الي بغداد) منحت مؤسسة (ابن رشد للفكر الحر) جائزتها للمفكر الجزائري الاصل محمد أركون (لسعيه إلي طريق التعايش السلمي للثقافات والأديان وتقديرا لدوره الريادي في البحث عن جذور عربية أصيلة في المنطق والعقلانية والتنوير). هذا ما جاء في ديباجة التكريم وأعلن مجلس أمناء المؤسسة في ألمانيا أن منح الجائزة تم بناء علي اختيار من لجنة تحكيم مستقلة يؤلفها خمسة من أبرز المثقفين العرب. ويعد اركون أحد العلماء المعاصرين في العالم العربي وهو المعارض القوي لأطروحة صراع الحضارات، وان اركون يهدف بجهوده إلي عرض التشابه بين الإسلام والغرب وليس توسيع الخلافات كما هو سائد للأسف في الموقف الراهن حيث يري أركون أن الغرب خلق صورة للثقافات الإسلامية لم تتغير منذ القرون الوسطي. ومن أهم ما طرحه اركون ــ حسب ما جاء في كتاب التكريم ــ تنبيهه الي ان العاصمة الاسلامية بغداد كانت من أكثر المدن حداثة في الوقت الذي انطفأت فيه الأنوار في أوروبا وبينما كانت المجتمعات الإسلامية قد تطورت وبدأت تعرف مفهوم الأنسنة (Humanism) كان هناك احتدام محاكم التفتيش. ويري اركون أن المجتمع الاسلامي لم تتوفر له الفرصة لممارسة تنويره الخاص والذي هو بحاجة ماسة له ولتنوير(المدونة النصية الرسمية المغلقة.
مواصفات كاتب
اثار محمد اركون جملة هائلة من العواصف ضده من قبل العرب والفرنسيين ليس بسبب نقداته القوية اللاذعة، بل لأسباب عديدة اخري، فهو صاحب مشروع سماه (الاسلاميات التطبيقية)، واسلوبه معقد جدا في الكتابة، حتي يكاد لا يفهم كله مطلقا سواء في الفرنسية ام العربية وقد تجّرد احد طلبته المخلصين منذ العام 1978 بترجمة العديد من اعماله وكتبه الي العربية، وهو الدكتور هاشم صالح سوري الاصل والمقيم بباريس، ناهيكم عن انتقادات اركون اللاذعة التي كرسها ضد اولئك الذين اختلف عن تفكيرهم ومناهجهم من المستشرقين الفرنسيين. لقد اشتهر اركون وعرف في فرنسا قبل ان تعرفه الثقافة العربية بسبب فرانكفونيته وعدم تسويق نفسه عربيا الي ان ترجم له اول كتاب الي العربية بعنوان: (تاريخية الفكر العربي الاسلامي). كان في بداية الامر يعرفه الجزائريون بحكم جزائريته ولكن لم يكن لا في كتاباته ولا في محاضراته يتداول بالعربية ابدا. لقاءاتي مع اركون
ولد محمد اركون في الجزائر العام 1928 ونشأ وترعرع فيها ايام العهد الفرنسي ودرس في جامعة الجزائر، ومن ثم رحل الي فرنسا واكمل فيها دراساته واستقر بها ودّرس في السوربون وما زال يعمل فيها وقد نشر عشرات الاعمال والبحوث والكتب بالفرنسية في الفكر العربي الاسلامي..التقيت بالاستاذ محمد اركون مرتين في الجزائر عندما كنت اقيم فيها في عقد الثمانينيات.. كانت المرة الاولي علي ما اظن في واحد من مؤتمرات الفكر الاسلامي الذي انعقد عام 1983، وكانت المرة الثانية عندما القي واحدة من محاضراته في مركز بحوث اوراسك بجامعة وهران في العام 1987 والتي كنت اعمل فيها. وكان في المؤتمر الاول قد صب عليه المؤتمرون جام غضبهم واتهموه بشتي التهم ومنهم من اعتبرها مناسبة ممتازة لتصفية الحساب معه باعتباره مخربا للاسلام وتصنيفه من تلاميذ المستشرقين.. وعبثا ذهبت محاولاته في افهام اولئك الذين هاجموه انه باحث له منهج معين في دراساته الاسلامية ! اما عندما القي محاضرته في جامعة وهران، فقد حظي بمحاورات علمية جادة وخصوصا عندما تطرق الي مفهوم الانسنة والعلمنة في الاسلام.. وكانت لي فرصة سانحة لمناقشته والرد علي بعض افكاره واحكامه وخصوصا تلك التي تتعلق بالمسألة التاريخية والمنهج التاريخي وما ردده من معلومات غير صائبة في التاريخ العثماني والعلمنة الكمالية، ثم دار جدل علمي ساخن بيني وبينه اذ واجهته بحقائق ومعلومات تاريخية كمؤرخ لم يستطع ادراكها، او هكذا اشعر الاخرين، في حين انه لم يكن مطّلعا عليها بحكم تخصصه البعيد عن التاريخ الحديث وتعقيداته المعاصرة.. وهذه مشكلة لا يعاني منها اركون فقط، بل يعاني منها العديد من اشهر الكتاب والمفكرين العرب الذين يدخلون انفسهم في معالجات ظواهر تاريخية لم يسيطروا علي معلوماتها.
بدايات تفكير اركون
يعد محمد أركون صاحب واحد من المشروعات الفكرية واستهدف فيه فتح أفق من نوع جديد في الفكر الاسلامي في ما اسماه بـتطبيق للمنجز، واعتبره منهجا عقلانيا حديثا في دراسة الإسلام. ولقد بقي يسعي جاهدا إلي ترسيخ ذلك كونه يري بأنه السبيل الوحيد لتحقيق الفهم العلمي للواقع التاريخي المتنوع للمجتمعات الإسلامية. وينتمي محمد أركون إلي جيل فرنسي عالي المستوي في ثقافته وابداعاته ومناهجه وفلسفاته، فلقد استفاد حتما من تجارب ومنجزات ميشيل فوكو وبيير بورديو وفرانسوا فوريه وغيرهم من الذين أحدثوا ثورة ابستمولوجية ومنهاجية في الفكر الحديث، فاراد ان ينحي مثلهم في دراساته وكتاباته ولكن عن الفكر الاسلامي، وقد جعله منهجه ينفصل عن مناهج الاستشراق الكلاسيكي الذي بقي مسجونا في الدوامات الفيلولوجية، فهاجمها بشراسة متناهية وكل عناصرها ومن يدور في فلكها من المستشرقين الفرنسيين. وقام ايضا بدراسات ألسنية وتاريخية وأنثروبولوجية متنوعة وحاول تطبيق ما طبقه بعض العلماء الفرنسيين علي تراثهم اللاتيني المسيحي الأوروبي، محاولا ذلك علي تراث الاسلام وتاريخية تنوعاته.. ولكن بدايات اركون لم تكن منفصلة عن مناهج المستشرقين الفيلولوجية (= فقه اللغة) المحترفة متأثرا في البداية بريجيس بلاشير الذي علمه منهجية تحقيق وتدقيق النصوص ومقارنتها ببعضها البعض ودراستها تجريبيا علي الطريقة التاريخية الوضعية، ولكن كان يرنو منذ تلك البدايات ومن باب فضوله الثقافي بقراءات لما كان ينشره لوسيان فيفر، لاسيما منهجيته في علم التاريخ. وعليه، فقد اهتم أركون بالوقائعيات وتأثيرها علي مسار الفكر فضلا عن تضمينه السايكلوجيات والسوسيولوجيات في صناعة كل من السياسة والفكر معا. وفي ستينيات القرن الماضي اهتم بالألسنيات.
ويصف نفسه بشجاعة التطرق إلي اللامفكر فيه في دراساته ومواقفه من الاستشراق منذ شبابه عندما كان طالبا في الجامعة الجزائرية يدرس اللغة العربية وآدابها في وضع قاس مطبوع بسيادة الثقافة الغربية الآتية إلي الجزائر لتحضيرها وإدخالها الحضارة حسب ادعاء المستعمر الغازي. وآنذاك سيطرت علي ذهنه الرغبة في الفهم والمزيد من معرفة الواقع وتمحيص الوضع، ولكنه آثر عدم الانخراط في النضال السياسي، إذ يعتبر نفسه أنه اختار الطريق الفكري للتحرير والتمرد الفكري عوض السياسي لأنه رغب في التحرير الفكري والعقلي للجزائر ولعموم العرب والمسلمين. ومنذ الستينات ايضا عندما أصبح مدرسا بجامعة السوريون اتبع منهجا يختلف جذريا لمنهج المستشرقين وشرع في محاولاته التحليلية المعتمدة علي المقارنة الواسعة سعيا للخروج من الإطارات الضيقة وهذا ما فعله مع الفكر الإسلامي، وهذا ما يجعلني اخالف بعض ادواته المنهجية وبالتالي اختلف مع الاستنتاجات التي يخلص بها ومن ثمّ يبني عليها سواء اصاب ام اخطأ.
مشروع أركون
لقد هدف إلي بناء (إسلاميات تطبيقية) وذلك بمحاولة تطبيق المنهجيات العلمية وقد أخضع النص لمحك النقد التاريخي المقارن والتحليل الألسني التفكيكي وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعني وتوسعاته وتحولاته. وفي هذا الصدد ركز علي ضرورة فهم المأساة التاريخية التي تتخبط فيها الشعوب الإسلامية منذ أن اصطدمت بشكل مفاجئ وعنيف بالحضارة المادية والحداثة العقلية. فلا الثورة الاشتراكية ولا الثورة الإسلامية أتيح لهما أن تحضيا بمرحلة تحضير واستعداد كاف كما حصل للثورة الفرنسية في القرن 18. إذ لم يمهد لهما عن طريق حركة ضخمة من النقد الفلسفي والعلمي للتراث، ثم لنقد الممارسة السياسية لأنظمة الثقافة الموروثة. وبذلك تراكم اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي والعربي. في حين أن الغرب كان قد انخرط منذ زمن طويل في عملية البحث عن أشكال جديدة للحداثة وقد فعل العالم الإسلامي العكس، اذ أدار ظهره للحداثة، وانه استفاق من نومه التاريخي علي الأمجاد الغابرة وراح يعاين تخلفه عن الركب بعد اكتشافه أو إعادة اكتشافه لحجم الهوة التي تفصله عن الغرب علي صعيد التقدم المادي والصناعي والتكنولوجي وعلي صعيد الفكر والعلم وقيم المجتمع والحريات وحقوق الإنسان. واستعار النموذج القومي من اوروبا وتم إقامة دول مستقلة أصبح عليها تحمل مسؤولية مواجهة المشاكل الموروثة والتصدي للتحديات التاريخية سياسيا واقتصاديا وثقافيا. لقد دعا أركون إلي التفكير في اللامفكر فيه لدراسة ما تم ويتم إغفاله أو تغييبه لأسباب سياسية بالأساس، ويلح هنا علي استخدام الأنثروبولوجيا كعلم يعطي المفاتيح اللازمة والمناسبة لاكتشاف الثقافات الأخري والمذاهب المختلفة. إلا أن هذا العلم لا يطبق عند المسلمين. وما دام الأمر كذلك سيبقي التفكير يصاحبه دوما ما لا يمكن التفكير فيه ويتم تجاهله وعزله والانقطاع عن الاهتمام به. وهنا اقول بأنني ربما خالفت الرجل في كثير من القضايا التي عالجها ليس من الناحية الفكرية، وانما من الناحية المنهجية.واخيرا : رؤيته لأحداث 11 أيلول (سبتمبر) وصدام الحضارات ويري اركون في كتابه الجديد الذي اصدره مؤخرا رفقة جوزيف مايلا: بأن احداث (11) سبتمبر تكشف بطريقة دراماتيكية صارخة، عن ذلك الصراع الطويل الذي اندلع في حوض البحر المتوسط منذ ظهور الإسلام والعالم المسيحي الأوروبي الذي عد توسع الإسلام تم علي حسابه في ضفاف المتوسط، وقد ابتدأت الخصومة وتعمقت أكثر بسبب الحروب الصليبية فالامتدادات العثمانية فالتوسعات الاستعمارية، وانتهاء بالصراع العربي ــ الإسرائيلي فالقصة طويلة لم تولد من عدم فثمة عداء مستحكم بين الطرفين منذ قرون عديدة! وهنا يناقض احكام فرديناند بروديل ويعترض علي مفهوم (صدام الحضارات) الذي غدا ظاهرة تاريخية بعد 11 أيلول (سبتمبر) من دون ان نقدم نحن العرب والمسلمين ويا للاسف الشديد حتي يومنا هذا بدائل حقيقية لـ(حوار الحضارات) الذي نسعي لتكريسه مع العالم. (فصلة من كتاب نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية لكاتب المقال).

اعلن للملأ بان هناك صحفاً عراقية جديدة تصدر في العراق تقوم بنقل واعادة نشر مقالاتي التي انشرها في صحف عربية عدة تصدر في لندن وباريس وبيروت والامارات من دون ان تستأذن مني مع تحريف جمل وفقرات.. ولما كانت تلك الصحف العراقية الجديدة تصدرها جماعات واحزاب معينة ربما لا اتفق مع اتجاهاتها وتياراتها وسلوكياتها السياسية مع احترامي لكل من يحررها.. فانني انبه بانني لا انشر عراقيا الا مقالتي الاسبوعية في جريدة (الزمان) الغراء.

جريدة (الزمان) --- العدد 1669 --- التاريخ 2003 - 11 - 22

صدّيق 12-10-2004 07:23 AM

قرأت لكم (2)
 
علي حرب
النقد القرآني .. نقد لأفكار اركون

لا ينبغي لقارىء أركون أن يعتدّ بتصريحاته عن القرآن، بل عليه أن ينتبه إلى تفكيكاته. وأركون هو أبرز مفككي النص القرآني والعقل اللاهوتي الذي جسده أو انبنى عليه. إنه يوظف ترسانة معرفية ومنهجية هائلة ضد تراث طويل من التفسير يقوم على التعامل مع القرآن بوعي ديني يتجاوز التاريخ ويعلو عليه (قراءة ص 112). ومعنى ذلك أن أركون يوظف تفكيكاته ضد المنطق اللاهوتي القرآني، ولا أقول ضد القرآن بالتحديد، ذلك أن النص، أي نص، هو في النهاية متعدد الخطوط والمساحات والطبقات. وهذا ينطبق على النص القرآني بامتياز. ففيه المتعالي والتاريخي، واللاهوت والناسوت، والقدسي والدنيوي.
من هنا فإن كلام أركون على الحجب الذي يمارسه النص الثاني على النص الأول، هو كلام مخادع مراوغ. ذلك أن هاجس أركون الأصلي هو تفكيك النص القرآني لتعرية آلياته في الحجب والتحوير والتحويل... هاجسه هو "خرق الممنوعات وانتهاك المحرمات" التي سادت فيما مضى وتسود اليوم، والتي "أقصت كل الأسئلة التي كانت قد طرحت في المرحلة الأولية والبدائية للإسلام، ثم سُكّرت وأغلق عليها" (قراءة، ص31). هذا ما يقوله أركون حرفياً. وإذا أردنا أن نعرف معنى ما يقال، فمطمح أركون هو نبش تلك الأسئلة والاعتراضات والمواقف التي جرى قمعها أو طمسها في عهد النبوة. وفي هذا إعادة اعتبار للذين أسكتهم خطاب الوحي من المشككين والمنكرين.
ولا مراء أن عمل أركون ينطوي على نزع هالة القداسة عن ظاهرة الوحي والنبوءة. من هنا أرى مدى التلاعب الذي يلجأ إليه أركون، مرة أخرى، في موقفه من مشكلة القداسة. يقول: "إن الدراسة العلمية للمقدّس لا تعني الانتقاص منه أو المس به. وإنما تعني فهماً أفضل لكل تجلياته وتحولاته، وتحذيراً لبعض الفئات أو بعض الأشخاص من التلاعب به لمصالح شخصية أو سلطوية. ويمكنني أن أقول بأن المقدّس الذي نعيش عليه أو معه اليوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام ولا حتى بالمقدس الذي كان سائداً أيام النبي" (مواقف 59_60، ص 20). هذا الكلام لا يخلو من تضليل، لأن وظيفة التقديس هي تأسيس سلطة على البشر والعمل في الوقت نفسه على حجبها وإخفائها. هذا هو مآل قول القائل: لا حكم إلا الله، إنه تمويه سلطة الواحد على الآخر بردها إلى الغائب. أليس هذا ما فعله المسلمون الأوائل. ألم يستثمروا المجال الغيبي والقدسي "للوصول إلى سدة السلطة" على ما يتساءل أركون في موضع آخر (إسلام، ص23)؟ ولا يخفى أن ناقد العقل الاسلامي الذي يرعبه كشف الأوراق يجيب في مورد السؤال. إنه يقول لنا: هذا ما حصل في زمن التأسيس: لقد استثمرت ظاهرة الوحي لتقويض سلطة وإقامة أخرى مكانها، ووظف خطاب التعالي للإعلاء من شأن أناس والخفض من شأن آخرين. بالطبع ليس هذا ما يقوله أركون بحرفيته. ولكن هذا معنى تساؤله ومآل قوله.
السؤال المرعب
بداية النقد مساءلة. ولهذا افتتح نقدي بإثارة سؤال مُرجاً طالما طرحه أركون على نفسه أو جُوبِه به من قبل قرائه ومنتقديه، أو من قبل الذين يرون اشتباهاً في كلامه. والسؤال يتعلق بالموقف من القرآن: هل يطال النقد النص القرآني أم يقتصر على الشروحات والتفاسير؟ هذا هو "السؤال المرعب" على ما يصفه أركون. وللوصف مشروعيته، لأن هذا السؤال المقموع يضعنا مباشرة أمام سلطة المحرّم ورهبة المقدّس في الثقافة الاسلامية. فكيف يتعامل معه ناقد العقل الاسلامي؟ هي يصدع بأمر الوحي أم يُخضِعه لآلته النقدية التفكيكية؟
يبدو لي أن أركون يتردد في الإجابة. إنه يجيب كل مرة إجابة مختلفة تنبىء عن الحرج والخشية في مواجهة هذه المشكلة الحساسة. بل هو يلجأ إلى الحيلة والمداورة، بمعنى أنه يجيب ولا يجيب. مرةّ يقول: من المستحيل عملياً في اللحظة الراهنة فتح مناقشة نقدية تاريخية أو حتى مناقشة تأويلية بخصوص القرآن (قراءة، ص51). ومرة أخرى يذهب إلى أن مسعاه من نقده هو "فرض قراءة تاريخية للنص القرآني" (قراءة، ص 213)، ومرة ثالثة يقول: عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن (الثقافة الجديدة عدد 26_27، 1983). ومرة رابعة يترك استخلاص الجواب لقارئه قائلاً: أجبت على هذا السؤال المرعب ولن أكرر هنا ما قلته في أمكنة أخرى (إسلام، ص 23).
وفيما يخصني، فإني لا أسأل أركون الجواب. لأن موقفه لا يؤخذ دوماً من أجوبته. وإنما يستشف من خطابه بالذات. والخطاب الأركوني هو خطاب نقدي في توجهه، حفري تفكيكي في بنيته ونسيجه. ولهذا فإن أركون إذ يتكلم على القرآن ويستعيده، إنما يُخضعه لمطرقته النقدية ويقرأه بعين حفرية تفكيكية، محاولاً بذلك استنطاقه عن مشروطيته وحدثيته، كاشفاً عن تاريخيته الأكثر مادية ودنيوية والأكثر يومية وعادية، بل الأكثر شيوعاً. (قراءة، ص91؛ وأيضاً إسلام، ص91).
أعرف أن هناك آليات دفاعية يلجأ إليها أركون بوعي أو بغير وعي، لكي يقطع الطريق على منتقديه أو بالأحرى على المتربصين بنقده من أصوليين وإسلاميين. من هذا القبيل موافقته أدونيس على وصفه لمشروعه بأنه يقوم على "تحرير النص الأول من النص الثاني، لأن هذا الأخير حجب النص الأول" (مواقف، عدد 54). والمقصود بالنص الأول القرآن، وبالنص الثاني ما وُضِع له من شروحات وتفاسير، وهذه آلية دفاعية قد تستجيب لحاجة ايمانية تقديسية عن أركون، ولكنها تتعارض مع هوى المعرفة الذي يسكنه بل يحركه. انها حيلة لا تنطلي على من يتفحص اتجاهات الخطاب عند أركون الذي يستدرك، في الحديث نفسه بينه وبين أدونيس، بالقول إن نقده للنص الثاني لا يعني استبعاد النص الأول من دائرة البحث والنقد. لأن أركون لا يريد أن يكون مجرد "إصلاحي" بين دعاة الاصلاح. بمعنى أن هدفه من قراءة القرآن ليس تعويم المعنى ولا إعادة الاعتبار إلى الظاهرة المعجزة" التي يمثلها الوحي القرآني، وإنما هدفه تفكيك المعنى بالبحث عن أصوله وتبيان كيفية إنتاجه. ولهذا لا أرى وجهاً للمقارنة بين أركون ولوثر على ما يفعل هاشم صالح. إن قراءة المشروع الأركوني قراءة إصلاحية "لوثرية" هو خداع للذات ووقوع في الأفخاخ التي ينصبها ناقد النص القرآني لقرآئه.
التقديس حجاب
لا أريد أن أضع أركون في خانة الماديين والواقعيين والعلمويين الذين يشككون بمصداقية الخطاب النبوي أو ينقضون ظاهرة الوحي الإلهي أمثال صادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد. لا ريب أن أركون هو دهري دنيوي في مفهومه للوحي وفي منهج تحليله للخطاب النبوي. ولا حاجة إلى تكرار القول في هذا الخصوص. ومع ذلك فإن أركون يختلف تمام الاختلاف عن مواقف الذين يتعاملون مع النص القرآني بطريقة تبسيطية أحادية تقوم على نفيه واستبعاده. فإن هؤلاء يرشقون القلعة القرآنية الحصينة بحجارة ترتد عليهم. أما أركون فإنه يحاول، متسلحاً بمنهجيته ذات القدرة الهائلة على الحفر والسَّبر، أن يلج إلى القلعة لكي يقوم بتلغيمها أو تفكيكها من الداخل. فهو يملك مفاتيح معرفية تتيح له أن يعرف خارطة القلعة وأن يكشف عن مخابئها السرية. ولهذا فإن محاولته هي الأكثر خطورة وأهمية، أعني بذلك أنها الأكثر فاعلية ومردودية على الصعيد المعرفي، إذ هي تسهم في تجديد المعرفة بالاسلام ونصوصه، وقد تسهم في تغيير شروط المعرفة ذاتها.
ولهذا فاني أخالف أركون أو بالأصح أخلص لما لا يخلص إليه أو لما لا يريد الخلوص إليه، وهو أن نزع هالة القداسة عن النص القرآني لا يقلّل من أهمية هذا النص، بل بالعكس يعيد للحدث القرآني اعتباره. إذ التقديس حجاب يحجب كينونة الشيء والقرآن هو نص "محجوب بتقديسه ذاته"، تماماً كما يقرأ أدونيس ظاهرة التقديس في كتابه: النص القرآني وآفاق الكتابة (ص40). هكذا للمسألة وجهها الآخر. أعني أن تعرية آليات التقديس والتعالي ليست انتقاصاً من النص القرآني، بل هي بالعكس استعادة للمنسي واستقصاء للكائن.
هذا ما يرمي إليه النقد التفكيكي. إنه يزيل الركام عن الحدث ويكشف الغطاء عن المحجوب. ولهذا فهو يشكل اعترافاً بكينونة النص. ومعنى الاعتراف هنا أن النص القرآني لا يُحيل إلى حقيقة متعالية أو إلى واقع تاريخي معين بقدر ما هو خطاب يخلق حقيقته ويولد أثره ومفاعيله. لا شك أن أركون يتحدث عن الأبعاد الأنطولوجية للنص القرآني، ذلك أن هذا النص ينطوي على قراءة للوجود ويقدّم شكلاً من أشكال التعامل مع الحقيقة. وهذا جانب لم يتطرق إليه أحد من قبل على النحو المبتكر الذي فعله أركون. ولكن الخطاب الانطولوجي عامةً يحجب ذاته ويتناسى حقيقته، أعني يتناسى وقائعيته الخطابية. من هنا ضرورة تشكيل انطولوجيا تختص بالنصوص ننتقل معها من نص الحقيقة إلى حقيقة، النص، ومن خطاب الكينونة إلى كينونة الخطاب. فالنص، أي نص، هو خطاب يفرض وجوده على قرائه، بصرف النظر عن الوقائع التاريخية التي يحيل إليها، إذ هو يحثهم دوماً على قراءته واستكشافه لفهم ما هو راهن أو استشراف ما هو كائن. وهذه الامكانية هي التي تسبغ على النص أهميته وجدارته، طبعاً هذا هو شأن أمهات النصوص وجلائل الأعمال والآثار، إنها تشغلنا بقدر ما تحملنا على الاشتغال عليها واستنطاقها عن أبعادها ومراميها.
هذا هو الجواب الذي يخشى أركون من الوصول إليه: إن تفكيك النص القرآني معناه اعتراف بكينونته كتشكيل خطابي يملك وقائعيته ويولد حقيقته. وحده مثل هذا الجواب يجعلنا نتجاوز الثنائيات القديمة في تقييم النصوص النبوية، أعني ثنائيات الإيمان والهرطقة، أو الصدق والكذب، أو القدسي والدنيوي، أو المعقول والأسطوري... من هنا مأزق أركون في قراءته للقرآن: إنه يريد القيام بتعرية أركيولوجية لزمن الوحي والتأسيس للكشف عما مارسه من حجب وتمويه على الأشياء والأحداث والأفكار والأشخاص. ومع ذلك فهو لا يريد النيل من سلطة المقدس. طبعاً إن تمزيق الحجب يصدم ويزلزل، يجرح ويفاجىء، ولا مهرب من ذلك إذا أردنا إنتاج معرفة جديدة حيّة. فكيف إذا كان شعارنا هو تنشيط الفكر النقدي الحر بتسليط الضوء على هذه القارة التي ما تزال مجهولة، أعني بها المنطقة الخارجة على التفكير بسبب هالات التقديس وأردية التعالي. هل نخشى الاعتراف بدهريتنا؟ لا أريد الاستنجاد بالحديث النبوي القائل: لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر، ولكني أقول: كلنا دهريون، مع فارق أن بعضنا يجحد دهريته ويتستر على دنيويته باسم المتعالي وتحت راية المقدس.


المصدر : الممنوع والممتنع


Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.