![]() |
وجوه وطبائع
وجوه وطبائع
تعبت كثيراً من التفكير وحيداً، فخرجت من البيت لكي أرفه عن نفسي، من عناء التكرار اليومي والروتيني للحياة. أُحاول التقاط الوجوه العابرة ، وما يقع في دائرة ملاحظتي من تصرفات الناس من حولي ،كانعكاس لطبائع النفس البشرية وتصرفاتها من خلال أدق التفاصيل. زيارة بسيطة إلى المحلات التجارية بواسطة الحافلة أو القطار، في وسط المدينة أو في الحي القريب لمكان اقامتي أو حتى إلى السوق الشعبي في إحدى ضواحي مدينة ملبورن، كفيلة بأن تضيف إلى معلوماتي ما هو جديد ومسلٍ من خلال عنصري الملاحظة والتدقيق أو بالأحرى من خلال حشريتي ورغبتي الجامحة في الغوص عميقاً في تصرفات الناس ومدى قدرتهم على التفكير والتفاعل قبل الإقدام على حركة ما أو عملٍ معين، فتأتي النتائج لتعمق فهمي بخصوصية اختلاف طبائع البشر الذين أقابلهم في كل مرة، فتلتهب أفكاري وتتملكني الحيرة، في محاولة فهم حقيقة النفس الإنسانية. فترى الناس يتزاحمون وكل منهم يجر وجهه عنوة، ليلحق بقطار الزمن الضائع، وجوه حائرة قاسمها المشترك هو اللهفة والخوف من الآتي المجهول. أن تغوص في أعماق تفكيرهم، في محاولة لإدراك وفهم دوافعهم الأساسية التي هي وراء هذا العمل أو ذاك. لتجد بأنه ليس من السهولة بمكان الإلمام بكافة الأسباب والدوافع، فالنفس البشرية كالبئر العميقة، التي ليس لها قرار نهائي، تتحكم فيها عوامل ومؤثرات كثيرة، يصعب علينا الوقوف عند تخومها. بدون عنصر الملاحظة وتفاعل الذاكرة، وعنصر النسيان، لا يمكنني تحديد هدفي وطريقي كإنسان، بل كفرد يتطلع بشوق لمعرفة كنه النفس البشرية وما يتمازج ويتفاعل داخلها ، وسبر أغوارها وحقيقتها، في محاولة للاقتراب منها وفهمها. وفي حال انعدام هذه العناصر في شخصيتي وتفكيري، أصبح إنساناً عادياً يعيش حياته بهدوء وهناء، حياة بسيطة، وذلك فقط لأنني وُجدت وخُلقت في هذا العالم. أي أنها قدري وبالتالي ليس أمامي سوى الاستسلام لهذا القدر. ولكنني في الحقيقة سعيد جداً، لأنني أمتلك قدمين أستطيع ممارسة المشي والتنقل في كهوف الحياة المتنوعة. إضافة إلى عينين ليستا على قدر من الجمال، ولكنهما تمكناني من أن أُميز وأستمتع بجماليات الحياة وروائعها، من إبداع الخالق عزَّ وجل، وتذوق جمالات الإنتاج الإنساني المتميز، ولسان أستطيع أن أعبْر به عن مكنوناتي وأحاسيسي والدفاع عن نفسي ومشاركة من حولي في هموم الحياة ومحاولة التخفيف عنهم. من هنا مواضيعي كما ستلاحظون، لن تكون جميعها شخصية تتحدث عن تجاربي اليومية، قد تجدون قليلاً من هذه التجارب في موضع هنا وآخر هناك، لكنها ستكون خلاصة تجارب الحياة اليومية، التي تنبع من الواقع والحقيقة، تماماً كما رأيتها واستطعت تصويرها بعدسة ملاحظتي من خلال فهمي المتواضع لها، ومدى تأثيرها في نفسي، دون زيادة أو نقصان، حتى لا أكون كمن يخدع نفسه ويضللها، وبالتالي يخدع أبطاله وقراءه. إنها شواهد وتجارب من حياة أُناس من حولي، علموني وكان لهم دورٌ في بلورة شخصيتي، منهم من أعرفه وتربطني به علاقة وطيدة، ومنهم من ليس لي به معرفة. أُناس بنوا معالم شخصيتي، وكان لهم دورٌ في مسرح الأيام والأحداث، سواء المرة منها أو الحلوة، الجميلة أو البشعة، القاسية منها أو الحنونة، راسمة صورة واضحة عن تلك المرحلة من الماضي القريب وجزءاً من الحاضر الذي نعيشه، موحية لي ومن خلال أخطائهم أو إبداعاتهم ، بأن على الإنسان أن يعيش الحياة كما هي. ومن هنا خطر لي فكرة الغوص في أعماق النفس البشرية في محاولة لقراءة طبائعها وتصرفاتها، من خلال المشاهد اليومية ورصدها على الطرقات، ومن ثم وضعها تحت المجهر وتحليلها، وذلك من خلال أحاديث الناس وتعابيرهم، والحركات التي يقومون بها، وطريقة عيشهم اليومي. لو استطعنا أن نقرأ جميع ما ينطبع على الوجوه البشرية، من لحظات الحزن الخفية على الآخرين، لربما استطعنا مساعدة أنفسنا وبالتالي حرصنا على أن لا تُجرح مشاعرنا وأن لا نعرضها للإحراج. فقط من خلال الفهم الحقيقي للعلاقات الإنسانية، والمحاولة الجادة، والإرادة القوية يتم بناء المجتمع الصالح! منطلقين دائماً من بناء أنفسنا واصلاحها. الألم يحيط بنا ويتحرك معنا جنباً إلى جنب، في كل لحظة ، في بعض الأحيان وعلى مسافات بعيدة وأخرى قريبة، وفي أغلبها يلامسنا على الرغم من أنه لا يمت لنا بصلة، ولا بعلاقة مباشرة. وأحياناً نلتحف التعاسة ويلف حياتنا الحزن، فنتأثر قليلاً أو كثيراً، مشاركين الآخرين في أحزانهم وأحاسيسهم المجروحة. إذاً تعالوا لنقتطف بعض المشاهد التي تحدث في يوم واحد لا على التحديد، ونرى، ونتصور بعد ذلك ماذا يحدث خلال حياة كاملة. * . بضعة أطفال من ذوي الطبع الحاد المتمرد، في المقعد الخلفي للعربة الأخيرة من القطار، يثيرون ضجة ويتصايحون بعبث، أصواتهم تشعرك بعدم الاكتراث بمن حولهم، في محاولة للفت نظر الناس واثبات وجودهم وذلك عن طريق إثارة البلبلة، معتقدين أن المستقبل لهم، كيف؟ لا يهم، ولكن هكذا يريدون، باستخدام الحرية التي تمنحهم إياها القوانين والنظم التربوية الحديثة!!! ليغيروا بعناد وأنانية عادات الناس وتقاليدهم، تلك العادات والتقاليد التي نشأ عليها آباؤهم وأجدادهم، وما زالوا يحافظون عليها. البعض من هؤلاء الأطفال في عمر الربيع (أعمارهم تتراوح ما بين اثنتي عشر وخمسة عشر عاماً) تستطيع أن ترى ملامح الطفولة البريئة على وجوههم ذكوراً وإناثا، ينفثون بإصرار مشاكلهم وقلقهم، ويطردونها بعيداً لتختفي في الهواء الطلق، كسحابة الدخان المنطلقة من سجائرهم والتي تتلاشى في الفراغ على أمل أن ينطلقوا بحرية، بعد تخلصهم من ثقل الحياة اليومية التي يعيشونها، طالما أنهم لا يستطيعون احتمالها بدون مساعدة وتوجيه مشروط. هموم يصعب عليهم احتمالها وهم في عمر الورود والرياحين. الكثيرون منهم صفعهم القدر في معترك الحياة، فظهرت على وجوههم علامات الحزن واليأس، من جراء الصراع المرير ومحاولة البقاء والعيش الكريم في غابة القرن العشرين. لم يبق إلاَّ القليل من الأطفال المحظوظين الذين يعيشون الطفولة بكل معانيها، وفرحها وسعادتها. وجوه شفافة ونقية ما زالت هنا وهناك، ولكنهم قلة إذا وجدوا افتراضاً، وسوف يتطبعون وينصهرون في الأكثرية عاجلاً أم آجلاً، أو انهم سيبدون وكأنهم متخلفون عن ركب الحضارة كغيرهم من الشباب. ليس فقط هؤلاء الأطفال وحدهم الذين لا يفكرون ولا يعيرون اهتماما بمن حولهم……. * . وإنما ذاك العجوز ذو السبعين عاماً والذي ما زال ينفث دخان غليونه من التنباك الغالي العريق، وكأن كل هذه السنين التي جرها خلفه في هذه الحياة، لم تعلمه شيئاً، أو على الأقل المسؤولية… مسؤولية الحفاظ على مشاعر الآخرين، فتراه يزرع الموت من حوله، دون أن يفكر بمن حوله، ويلوث الهواء النقي الذي هو من حق الجميع وليس له وحده. عدم الاكتراث هذا والتهرب من المسؤولية ، هو الذي يعطي المثل السيئ لأطفالنا وشبابنا. يغلق عينيه ولا يرى من حوله، بل يلغي تفكيره ولا يهتم بالذين من حوله، مكتفياً بالتلذذ في إطلاق دوائر الدخان من تبغه الثمين ذي الرائحة العطرة. فهو بذلك يشعر وكأنه ملك العالم أجمع، وهو في الحقيقة يقوم بتنفيذ حكم الإعدام التدريجي البطيء على نفسه ، وبطريقة حضارية ينفق أمواله على شراء أجود أنواع التبغ، ليرسل نفسه إلى مقصلة الموت التدريجي، ملوثاً تلك الأماكن القليلة والنادرة التي بقيت نقية، والتي هي من حق الجميع في استنشاق الهواء النقي. بقعة الهواء النقية هي في تضاؤل تدريجي، وتكاد أن تنعدم.موائد طعامنا هذه الأيام غنية جداً، ولكننا نموت ونُخنق من نقص كمية الهواء الطلق النقي….! وكأن هذا التلوث الجوي وهذه البيئة المسممة تحاول الثأر منا، وترد لنا الصاع صاعين، عما فعلناه من جرائم تلوث، نتيجة لحروبنا ونشرنا للدمار في كل مكان باسم التمدن والحضارة والدفاع عن الإنسان الضعيف. * طفل صغير على مقربة يمسك بيده بالوناً أحمراً ، يلاعبه ويطلق ضحكات بريئة تدل على فرح وسرور. على وجهه مسحة مرح وبراءة، حيوية ونشاط، وهو ينطلق في طريق الحياة التي فتحت له ذراعيها. يعتقد بأن العالم كله هو عبارة عن لعبته وأمه وطعامه، وأن الناس من حوله هم ملكه وبين يديه (هكذا يفكر ببراءة الأطفال). تهب نسمة هواء لتأخذ بالونه بعيداً عنه، فتراه ينطلق وراءه سعيداً وفرحاً، أول الخطوات،" بعيداً "، يبتعد عن أمه، خطوات تسعده، بينما هي تركض بلهفة وقلق خلفه، في محاولة منها لكي تنقذه من بين السيارات التي تمر في الشارع، وبسر عات جنونية، بينما هو فرح وسعيد بخطوته الأولى، بعيداً عن الناس، يشعر بحرية وغير ارتباط، تحرر من قبضة يد أمه التي ترتعش لمجرد التفكير بأنها قد تخسره أو أن يحدث له أي ضرر، فسعادتها وفرحها يكمنان في الحب والحنان اللذان تمنحهما إياه، مضحية بحياتها من أجله، فهو أملها الوحيد وسعادتها التي تعيشها قريبة منه. كل أحلام الطفولة مزروعة داخل البالون ذي اللون الأحمر، وكأنها شرارة حمراء تعلن بداية الحياة، يتخيل حياته بأنها سعيدة، بل سعيدة جداً، فهو في عمر ثلاث سنوات، عمر الزهر اليانع، يسعد لخطواته الأولى، وقدرته على المضي قدماً بخطوة جديدة، ثم ثانية وثالثة، يداعب ألعابه ويطاردها بفرح وسعادة، كما البالون ذي اللون الأحمر. * في الجهة المقابلة وعلى مقربة، فتاة ذات شعر أشعث، غير مسرح، تقف وفي يدها سيجارة، تنفث دخان السم الأبيض في العدم، محاولة الهروب من حظها السيء، والحزن الذي بداخلها. هكذا يبدو، فهي تنظر شاردة، وكأنها تنتظر الفرج عند انتهائها من تدخين سيجارتها، تاركة نفسها ترحل هي الأخرى مع نفاثات الدخان،تودع أحلامها ، لتسقط في وسط الطريق، مترجلة من على صهوة الحياة، تحت سيطرة الأوهام ومطاردة السراب ، الذي يؤدي في النهاية إلى الضياع. الأم اليافعة سحبت يد طفلها بعيداً، تريد أن تحميه وتبعده عن الأخطار والسموم المحيطة به، من المؤكد بأن هذا هو طفلها البكر والوحيد! من أين لهذه الأم أن تعرف، ماذا ينتظر وحيدها من صعاب وهموم وأخطار محدقة، في معترك الحياة ونحن بدايات القرن الواحد والعشرين. محركات الباصات تهدر، والسيارات تتسابق، وأصوات كوابح العجلات تزعق مزمجرة، والحياة تكبر، ويستمر تطورها بجنون. دخان الرجل العجوز، مازال يلوث الهواء النقي، بغليونه الذي يشبه محرقة داخون الشاحنات، قد يكون لهذا السبب غادر بيته، ليتسنى له ممارسة حريته والتلذذ بتدخين غليونه وسط السوق الشعبي، بعيداً عن زوجته التي تنهره دائماً، وتضايقه بملاحظاتها وتأنيبها له. و بما أن الطلاق قد أصبح موضة العصر ، فإنه قد يطلقها، ليجد حريته الكاملة، وليدخن غليونه المحشو بالتنباك الثمين ذي الرائحة العطرة بدون " نق " فما هذه الحياة وما هذه الحرية التي لا يستطيع الإنسان أن يفعل ما يريد وما يعجبه. أردنا حرية، فوصلنا إلى عدم المسؤولية والضياع. والآن وبعد هذه الجولة، أعود ثانية إلى زاويتي المفضلة، وحديقتي الجميلة، لكي أُسقي ورودي الرائعة وأنظم أوراقي المتناثرة هنا وهناك، قبل أن تعود زوجتي وأطفالي، فأمسك بالجرم المشهود، وأنا أحاول على عجل، إعادة الأمور إلى طبيعتها ورتابتها المعتادة. |
خاطرة جميلة، كانك تصف الحياة هنا في واشنطن، إلا أنهم ضيقوا على المدخنين هنا فليس لهم أن يدخنوا لا في الحافلة ولا في القطار. :)
أتلاحظ معي الفراغ الفكري الذي يعيشونه؟ |
تحية لـتأملاتك الإنسانية الجميلة ياراعي الكنغر
مع أمنياتي. أخوك :) |
لم يكن مجرد الحنين إلى تلك الأسماء والحروف هو مادعاني للتعقيب بل هو تساؤل مرير .. فكيف تمر مثل هذه الخاطرة البديعة دون أن تلقى القدر الذي تيحقة من القراءة والمتابعة والتعقيب !!
|
Powered by vBulletin Version 3.5.1
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.