المقامة التميسية
 

المقامة التميسية
حدثنا يحيى بن مسعود..قال:
اشتهيت أكل التميس يوم الخميس ،فذهبت في صبيحة ذاك اليوم وقد تركت ما عزمت عليه من الصوم ،إلى محل تماس صغير ،قد احتشد حوله جمع غفير،
قد انتظموا صفوفا كما تنتظم الذبائح عند الجزار خروفا خروفا،فلم أر بداَ
من أفعل كما فعل الرجال ..قبل أن أُضرب بالأكف والنعال..وبقيت على هذه الحال
إلى ما شاء الكبير المتعال ..فما هو إلا كالصلاة على الميت أو كنداء مؤذن صيت،
حتى وصلني الدور ،فقلت طالبا على الفور :اثنين تميس وواحد فول ..كلل الله سعيك بالقبول،فما هو إلا كارتداد الطرف ..أو كسقوط هاو من جرف ،حتى
وصلني الطلب وأنا في قمة العجب ،فأخذته قرير العين ونقدته الثمن ضعفين ،
وساعة خروجي من الازدحام.. وبعد سلامة أضلاعي من الاصطدام، أبصرت
شيخا قد ارتدى عمامة .بيضاء كأنها عمامة...قد جاوز الخمسين أو كاد ..قد غلب بياضُ شعره السواد،
فنادى بصوت جريح ومنطق فصيح :
يا أهل هذا البلد..من كل والد وولد..اعلموا أنكم ما خلقتم وعلى هذه البسيطة وجدتم..إلا لغاية عظيمة ومهمة جسيمة ألا وهي عبادة الله وحده ،فعلى المسلم أن يتقي الله جهده..فقد قال جل من قائل حكيما وبشؤون عباده عليما (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) وقال (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ).واعلموا أدام الله عليكم فضله.. وجعل مصاعب شؤونكم سهلة،
أن أعظم ما يتعبد به إله العالمين..تنفيس الهموم عن عباده المسلمين..ولذلك اعلموا
وهبكم الله الحلم وزادكم بسطة في الجسم والعلم..أن فضل الله كان علي عظيما ..
وإحسانه لدي عميما.فقد وهبني بنين وبنات..وأنعام وجنات..حتى خلت أنه لا أحد أسعد مني حالا ،ولا أحد أجمع مني مالا...فما هو إلا كغمضة عين ..أو كقولك أين ،حتى هبت علينا هبوب المصائب ،واستيقظ من سباته زلزال النوائب ..وطوقتنا جيوش الهموم
وأحدقت بنا كتائب الغموم ..فنزعت منا الأقدام والخوافي ،ودهتنا بثالثة الأثافي،
فما هو إلا كساعة من عشي .. أو كمشيب فتي ، حتى تبدلت النعم وحل محلها
النقم ، فإذا بلواء السعادة يُــخفق ،وإذ بلواء التعاسة يِخفق (بفتح الياء).
وعضنا الزمان بأنيابه ..ومنى الحبيب بفقد أحبابه،فلم يبق من نسلي إلا بنت
وولد ،قد استودتهما الله في أقصى البلد ..ولقد ألحا علي أن أطعمهما التميس ..
لعله أن يباعد بينهم وبين الحظ التعيس ،فودعتهم والأسى يفت كبدي ،وليس هناك من يشد عضدي ...فمن محسن يطعمهما طعامه ، أدام الله عليه إنعامه،وأصلح حاله ..وأحسن مآله ، وجعل الجنة مثواه وأعلاها مأواه، وأحل النعمة بواديه ،
وأنزل النقمة بأعاديه .
قال يحيى بن مسعود :فلما انتهى من قولته ، وتبرأ إلى الله من حوله وقوته ،عجبت من خطبته الغراء الخالية من حرف (الراء) وقلت في نفسي :هذا أفصح من شيخنا أبي تراب ،فلم أتمالك خطاي حتى قادتني إليه ..ولم أتمالك يدي حتى وضعت الطعام بين يديه ، فإذا به شيخنا أبو تراب المدني ..قد تنكر بزي حتى لا يعرف،ولكي عن الأبواب لا يصرف ،فعـلمت أنه شرك من شراكه ،يستحيل على من وقع فيه أن يخرج من شباكه..فشعرت بغصة على الطعام الذي ذهب ،وبحرقة أشد من اللهب ،فقلت له معاتبا ولفعله مجانبا :منذ متى كان لك بنين وبنات ..وأنعام وجنات ..وقد عهدتك قبل فقيرا ..لا تملك قطميرا .
فتبسم تبسم المغضب وقال لي: لا تعجب..
إذا حللت بأرض ** وأنت فيهم غريب
ولم يكن لك فيها ** مصادق أو نسيب
ولم تجد لك بدا ** من فعل مالا يطيب
فاحتل لرزقك أنى ** هبت عليك الهبوب

-وودعني ومضى ،واعتلج في صدري هم ما انقضى...
وعزمت بعدها على عدم شراء التميس ، وألا أدع الصيام يوم الخميس.!!

**************************************************

مقامة لذيذة يا إعصار !!!

تسلم.
من الكتب،وشكرا.

تسلمي. من الكاتب و شكرا.

سلمت يداك اخي الكريم