أخي سلاف
كنت حتى مدة قريبة ومنذ ست سنوات تقريباً لا يشغلني أو لا يكاد يشغلني إلا سؤال تأصيل الثقافة العربية، وكتابات هذه المرحلة نشر قدر منها في الخيمة ورأيت منها في بعض المجلات والجرائد العربية من خلال روابط مواقع هذه الصحف على الإنترنيت التي كنت أضعها أحياناً.
ولكنني منذ أشهر انتابني شعور مختلف هو تحول نبوءة من مقالي عن شاكر إلى واقع داهم يثير القلق الجدي حتى على وجود هذه الثقافة المادي التي كنت حتى قريب مشغولاً فقط في التفكير مع قدر صالح من كتاب عرب ومسلمين في الدفاع عن حقها في التميز ومكافحة التشويهات التي تعتريها الناتجة عن تخريب متعمد أو عن استلاب.
وهذه هي النبوءة الموجودة في آخر المقال:
"العقل مع الأسف ليس هو المقرر الوحيد للتاريخ البشري وينبغي للتجارب الحضارية أن تثبت آهليتها للحياة ليس فقط بمزاياها الذاتية بل أيضاً بقدرتها على حفظ الذات والدفاع عنها في وجه التهديدات الخارجية وهذا ما أثبتته تجارب حضارات شعوب أمريكا الأصلية التي هي في ذاتها لم تكن أقل قيمة أخلاقية أو حتى أقل تقدما في مجال العلم والتقنية من الحضارة الغازية وليس كما زعم الفاتحون وصدقناهم نحن. إن هزيمة الحضارة لا تعني أن الحضارة المهزومة أقل قيمة بذاتها فحامل البندقية يغلب حياً أعزل دون أن يدل ذلك على أنه، لأنه غلب كل أفراد الحي، "أحكم الجميع" أو "أكثرهم تقدماً" وكل هذا صحيح ومهم ولكنه مع الأسف لا يكفي. التأكيد على الهوية العربية لا يكفي ليأكل العرب خبزاً أو ليهزموا من يريد بهم شراً. إن الهوية لا غنى للإنسان عنها ولكن ليس بالهوية وحدها يحيا الإنسان!"
كانت هزائم حكومات قطرية إقليمية هي بحد ذاتها وبأفرادها نزيهة تثير السؤال عن جدوى طرح مسألة السلطة حصراً:
هزمت السلطة السورية في السبعة وستين وبغض النظر عن اختلافي الفكري معها فقد كانت بأشخاصها السياسيين-رئيس الدولة ونائبه الحزبي ورئيس الوزراء على درجة عالية جداً من نظافة اليد والنزاهة الشخصية والزهد المادي الذي لا يمكن أن نتصوره في الأنظمة العربية الحالية أو في شبه النظام الفلسطيني.
وهزم الساندينيون في نيكاراغوا ولم يكونوا من الفاسدين وعلى العكس يمكن لك أن تقرأ تحليلات نعوم تشومسكي عن الطريقة التي أجبر فيها المواطن النيكاراغوي على إسقاطهم في انتخابات حرة لأنه مهدد بالجوع إن لم يفعل!
ويمكن لك يا سيدي العزيز أن تتابع كما تشاء أمثلة أخرى!
فيبدو لي أن قضية بناء المجتمع الجديد المنشود بأبعاده كلها من فكري وسياسي واقتصادي واجتماعي لا يمكن بغير نهضة اجتماعية تتجاوز الأساس القطري ولا تتعلق حصراً بسلطة قطرية مهما كان نوعها.ولعلك تقارن بين تجربة الوحدة الأوروبية الناجحة وتجربة الوحدة بين مصر وسوريا المخفقة لترى الفرق بين التجربتين فهنا في أوروبا أنجح المجتمع الوحدة بالتوازي مع نوع من السلطات يتناسب مع مجتمعه ولا ينفصل عنه! وهناك عندنا أفشل المجتمع الوحدة وأسقطها بالتعاون مع سلطة لا تقل عن المجتمع في قصرالنظر وفي التكوين الشخصي الأناني.
وتتحدث عن الانتظار وأنا أقول إن البناء الاجتماعي لا يتناقض بالضرورة مع المقاومة والانتفاضة في فلسطين حققت تماسكاً في المجتمع ورقياً في علاقاته إن شئنا استعمال مصطلح "رقي" لا مثيل له وقلما تلقى عليه الأضواء. والبنى الاجتماعية المنظمة المتقدمة الشابة التي كانت تقود الانتفاضة والشعب كاللجان الشعبية هي فيما أظن من أسباب قلق الصهيونية ومسارعتها باستيراد شلة أوسلو بتجاربها الفاسدة المجربة سابقاًلتخريب هذه النهضة الاجتماعية والعودة بالمجتمع الفلسطيني إلى وضع الفساد والانحلال الذي عملت له تلك المجموعة في لبنان من قبل. هذا مع أنني أيضاً لا تعجبني بالضرورة كل أفكار المعارضة الفلسطينية وهي تلتقي في جذر مهم منها في رأيي مع فلسفة سارت عليها حركة التحرر الفلسطينية منذ الستينات.
المجتمع الفلسطيني في اعتقادي قادر على الابتكار وهو بطاقاته الشابة المبدعة يتجاوز التنظيمات السياسية بكثير وهذا ما تجده في ابتكارات هذا المجتمع التي الانتفاضة الأولى والثانية بالذات هي من ابتكاره لا من ابتكار هذه التنظيمات.
وعن الانتظار اسمح لي بالاستشهاد بمقال لي عن المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله تنشره بعض المجلات وقرأه أحد أهل الخيمة الذي نسيت اسمه على ما أظن أو المفروض أنه قرأه وقرأك إياه وأول حرف من اسمه فيما أذكر عمر مطر!

"والمكان الوحيد الذي أعرفه لا يمكن فيه إلا المقاومة حتى لو لم يتوفر أي شرط مادي أو اجتماعي أو فكري هو فلسطين التي يواجه شعبها خطراً على وجوده الجسدي بالذات والمقاومة مفروضة عليه كخيار إجباري.ولعلي ألاحظ هنا أن المجتمع الفلسطيني قد شهد نهضة داخلية عظيمة ما كان بن نبي إلا ليفرح لها في ظل الانتفاضة.وهذه النهضة الاجتماعية التي حققت أرقى أشكال التنظيم والعلاقات الاجتماعية قلما تتم الإشارة إليها في الدراسات عن الانتفاضة.ولم يؤثر فيها الإفساد المتعمد الذي جاء من الخارج المحتل ومن الداخل السلطوي."