عرض مشاركة مفردة
  #25  
قديم 25-04-2002, 04:50 AM
نور العين نور العين غير متصل
علي و على أعدائي
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2002
المشاركات: 797
إفتراضي

(1) تاريخ الطبري 2: 253 وفي تاريخ اليعقوبي مثله. وكنز العمال ومستدرك الحاكم، والكامل في التاريخ لابن الاثير. راجع علي والخلفاء: 240.
(2) ابن شهرآشوب، مناقب آل ابي طالب 2: 371. ابن كثير في تفسيره 4: 57. البيهقي في سننه 7: 442.
(3) نهج البلاغة: نص رقم 92.
(4) نهج البلاغة: من الخطبة 33.
(5) نهج البلاغة: نص رقم 92.


ب ـ كانت أُولى خطوات اميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ على هذا النهج بعد توليه خلافة المسلمين هي ترسيخ مبادئ التنزيل وبيان تأويله وحفظ سنة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فأعلن ابتداءً عن المواصفات الاسلامية المطلوبة في ولاة الامور والعمال في قوله ـ عليه السلام ـ: ((... أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وامامة المسلمين البخيل، فتكون في اموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسُّنة فيهلك الاُمّة))(1).
وبذلك ثبّت امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ الاُسس الاسلامية الخالدة في بناء جهاز الحكومة الاسلامية وفق شروط العلم والعدالة والكفاءة، لتكون قانوناً رائداً وشرعةً دائمة للمسلمين، بل لكل الانسانية التوّاقة إلى اقامة العدل والقسط في الحياة. ولم يتوانَ عن تطبيق هذه الاسس في تعيين ولاته وعمّاله، فعمد إلى عزل من لا تتوفر فيهم هذه الشروط وإحلال من يتّصف بها محلّهم، ولم تثنه عن عزمه هذا كل محاولات الضغط والصد ; وقد كان من ابرزها ما روي عن ابن عباس أنه قال: «أتيتُ عليّاً بعد قتل عثمان عند عودي من مكة فوجدتُ المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فخرج من عنده، فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: ((قال لي قبل مرته هذه: ان لك حقّ الطاعة والنصيحة، وأنت بقية الناس، وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وان الضياع اليوم يضيع به ما في غد، اقرر معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيك بيعتهم ويسكن الناس، ثم اعزل من شئت، فأبيتُ عليه ذلك وقلت: لا أداهن في ديني ولا اعطي الدنيّة في أمري. قال: فان كنت أبيت عليّ فانزع من شئت واترك معاوية، فإن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يُستمع منه، ولك حجة في اثباته، فقلت: لا والله لا استعمل معاوية يومين! ثم انصرف من عندي وأنا اعرف فيه أنه يودّ أني مخطئ، ثمّ عاد إليّ الآن فقال: اني اشرت عليك أول مرة بالذي اشرتُ وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى اللّهُ وهم أهون شوكة مما كان...)).
قال ابن عباس: فقلت لعليّ: يا امير المؤمنين أنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب، أما سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول: الحرب خدعة؟ فقال: ((بلى)). فقلت: أما والله لئن اطعتني لأصدرنهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك، فقال: ((يا ابن عباس لست من هناتك ولا من هنات معاوية في شيء)). قال ابن عباس: فقلت له: اطعني والحق بما لك بينبع واغلق بابك عليك، فان العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فانك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحمِّلنك الناس دم عثمان غداً. فأبى علي فقال: ((تشير عليَّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعني)). قال: فقلت: افعل، ان أيسر ما لك عندي الطاعة. فقال له عليّ: ((تسير إلى الشام فقد وليتكها))، فقال ابن عباس: ما هذا
برأي معاوية
نهج البلاغة, 131
رجل من بني اميّة... ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، وان ادنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم عليّ لقرابتي منك، وإن كل ما حُمل عليك حمل عليَّ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنّه وعده، فقال: ((لا والله، لا كان هذا أبداً!))(1).
ج ـ وهكذا كانت مصلحة الاسلام العليا هي المعيار الحاسم في ادارته لبيت مال المسلمين وتحقيق العدل والمساواة في العطاء ومراقبة ولاته وعمّاله وتوجيههم في طريقة ادائهم لوظائفهم الرسالية المناطة بهم، ولم تأخذه في الله لومة لائم وهو يحق الحق ويدفع الباطل في ذلك.
ومن أول وابرز خطواته لحفظ مصلحة الاسلام العليا في بيت مال المسلمين هو اعادة حق الله وحقوق المسلمين التي كانت قد اُخذت جوراً أو اغتُصبت ظلماً إلى بيت المال. وقد حاول المتضررون بذلك أن يثنوا امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عن خطواته هذه فأرسلوا اليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط مندوباً عنهم للتفاوض معه ـ عليه السلام ـ، فجاء اليه وقال: «يا أبا الحسن انك قد وترتنا جميعاً،... ونحن اخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما اصبناه من المال،... وانا ان خفناك تركناك فالتحقنا بالشام.
فردّ عليهم: ((أما ما ذكرتم من وتري اياكم، فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما اصبتم، فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم))(2).
وعندما بادر امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ إلى رد ما اقتُطع على المسلمين قطع القوم املهم في ابقاء ما كان بحوزتهم من أموال المسلمين خصوصاً عندما أعلن الامام ـ عليه السلام ـ قراره الشهير الذي قال فيه: ((والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الاماء، لرددته، فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه اضيق))(3).
ومن النماذج الرائعة في تحقيق العدل والمساواة في العطاء ما رواه ابراهيم الثقفي قائلاً: «انّ طائفة من اصحاب علي ـ عليه السلام ـ مشوا اليه فقالوا: يا اميرالمؤمنين ! اعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن تخاف خلافه من الناس وفراره.
فقال: ((أتأمروني أن اطلب النصر بالجور ؟ والله لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، فكيف وانّما هي أموالهم))(4).
المؤمنين، اني امرأة من العرب، وهذه امرأة من العجم! فقال علي ـ عليه السلام ـ: ((إني والله لا أجد لبني اسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني اسحاق))(5).

(1) الكامل في التاريخ لابن الاثير 3: 197 ـ 198.
(2) ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة 7: 38 ـ 39.
(3) نهج البلاغة، نص رقم 15.
(4) الثقفي (المتوفى عام 283 هـ)، كتاب الغارات 1: 75.
(5) الثقفي، الغارات 1: 70.

ولم يستثن ـ عليه السلام ـ في العدل أحداً حتى من كان ذا فاقة من أهل بيته، فقد روى مسلم صاحب الحنا قائلاً: لما فرغ علي ـ عليه السلام ـ من أهل الجمل أتى الكوفة، ودخل بيت المال، ثم قال: ((يا مال غرَّ غيري)). ثم قسّمه بيننا، ثم جاءت ابنة للحسن أو للحسين ـ عليهما السلام ـ فتناولت منه شيئاً، فسعى وراءها ففك يدها ونزعه منها، فقلنا: يا امير المؤمنين ان لها فيه حقاً، قال ـ عليه السلام ـ: ((إذا أخذ أبوها حقه فليعطها ما شاء))(1).
وروى هارون بن سعيد انّ عبد الله بن جعفر بن ابي طالب قد قال له: يا اميرالمؤمنين، لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فو الله ما لي نفقة إلاّ أن أبيع دابّتي !! فقال الامام ـ عليه السلام ـ: ((لا والله ما اجد لك شيئاً إلاّ أن تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك))(2).
وروي أيضاً أن أخاه عقيلاً ـ وكان ضريراً ـ جاءه يوماً يطلب صاعاً من القمح من بيت مال المسلمين ـ زيادة على حقّه ـ وظل يكرر طلبه على علي ـ عليه السلام ـ، فما كان من الامام اميرالمؤمنين إلاّ وأحمى له حديدة على النار وأدناها منه، ففزع منها عقيل، ثم وعظه: ((يا عقيل أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذى ولا أئن من لظى))(3).
أما النماذج الفريدة في مراقبة ولاته وعمّاله وقادة جيوشه وردعهم عن الباطل وارشادهم وتوجيههم نحو الحق والعدل والصواب ; فمنها ما روي أنه ـ عليه السلام ـ بلغه أن عثمان بن حنيف واليه على البصرة كان قد دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى اليها، فأرسل اليه امير المؤمنين كتاباً تأديبياً جاء فيه: ((أما بعد، يا ابن حنيف: فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل اليك الجفان. وما ظننت انك تجيب إلى طعام قوم، عائلهم مجفوّ، وغنيهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما ايقنت بطيب وجوهه فنل منه.
ألا وإن لكل مأموم اماماً، يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وانكم لا تقدرون على ذلك، ولكن اعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد))(4).
وكتب إلى مصقلة الشيباني عامله على (اردشير خرّة) مهدداً ومتوعداً ان هو اختار الباطل على الحق قائلاً: ((بلغني عنك أمر ان كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وعصيت امامك: انك تقسم فَيْءَ المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، واُريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من اعراب قومك.

(1) البلاذري، انساب الأشراف 2: 132.
(2) ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة 2: 200.
(3) نهج البلاغة، الخطبة 224.
(4) نهج البلاغة، رسالة رقم 45.

فوالذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقاً لتجدن لك عليّ هواناً، ولتخفّنّ عندي ميزاناً، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين اعمالاً))(1).
وكتب إلى بعض عماله يحاسبه قائلاً: ((أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد اسخطت ربك، وعصيت امامك، واخزيت امانتك. بلغني انك جرَّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع اليّ حسابك، واعلم انّ حساب الله أعظم من حساب الناس))(2).
وفي بعض وصاياه ـ عليه السلام ـ لجيوشه قال: ((لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم ـ بحمد الله ـ على حجة، وترككم إيّاهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم. فاذا كانت الهزيمة باذن الله، فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً(3)، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن شتمن اعراضكم، وسببن امراءكم))(4).
وكتب إلى امرائه على الجيش قائلاً: ((مِنْ عبدِ الله عليّ بن ابي طالب امير المؤمنين إلى اصحاب المسالح: أما بعد، فإنّ حقّاً على الوالي ألاّ يغيّره على رعيته فضلٌ ناله، ولا طول خُصّ به، وأن يزيدهُ ما قسم الله له من نعمة دنوّاً من عباده، وعطفاً على اخوانه.
ألا وإنّ لكم عندي ألاّ احتجز دونكم سرّاً إلاّ في حرب، ولا أطوي دونكم امراً إلاّ في حكم، ولا اُؤخر لكم حقّاً عن محلّه، ولا اقف به دون مقطعه، وان تكونوا عندي في الحق سواءً، فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة، ولي عليكم الطاعة، وألاّ تنكصوا عن دعوة، ولا تفرِّطوا في صلاح، وان تخوضوا الغمرات إلى الحق، فان أنتم لم تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحدٌ أهون عليّ ممّن اعوجّ منكم، ثم أُعظم له العقوبة، ولا يجد عندي فيها رخصة، فخذوا هذا من امرائكم، واعطوهم من أنفسكم ما يصلح الله به أمركم. والسلام))(5).
وهكذا امتلأت سيرة اميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ بمثل هذه المواقف الرائدة التي تحكي لنا اتخاذه مصلحة الاسلام العليا فيصلاً في خلافته وشؤونه الرسالية.

(1) نهج البلاغة، رسالة رقم 43.
(2) نهج البلاغة، رسالة رقم 40.
(3) المعور: الذي عجز عن حماية نفسه اثناء الحرب.
(4) نهج البلاغة، الوصية رقم 14.
(5) نهج البلاغة، كتاب رقم 50.


يتبع ان شاء الله