عرض مشاركة مفردة
  #42  
قديم 27-04-2002, 01:04 PM
shaltiail shaltiail غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2001
المشاركات: 342
إفتراضي

إذا تقرّر ذلك فها هنا أُمور:

1 ـ هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب بيده ليكون الحديث دليلاً على قدرته على الكتابة بعد النبوة بإفاضة من الله سبحانه وتعالى ـ وان كان قبلها لا يتلو من كتاب ولا يخطه بيمينه ـ أو يامر أحداً من الحاضرين بالكتابة؟ فيه وجهان. وربّما يأتي بعض الكلام حوله في المقصد الثاني.

2 ـ ما هو الموضوع المهم الذي أراد النبي أن يكتبه في تلك الحالة ولا يرى أن يكتفي بالبيان القولي، فهل كان امراً جديداً لم يبيّنه لاَُمّته الى ذلك اليوم، او بيّنه لكنّه أراد كتابته في آخر أيام حياته تأكياً وتخليداً له؟
العقل يحكم بالوجه الثاني؛ لاستحالة اخفاء النبي أمراً لا تهتدي الاَُمّة بدونه، ورضاه ببقاء الناس على الضلالة مساوق لابطال رسالته ـ وهو كما ترى ـ إلاّ ان يدفعه أحد بما يجيء في الاَمر الرابع والسادس.

3 ـ مع الغض عن الاَمر الثاني، يخطر في اذهاننا ما هو هذا الاَمر العظيم الذي تقع الاَُمّة بعده في الضلالة حتى مع الكتاب والسنّة؟
هل كان الاَمر الحاضر في ذهنه صلى الله عليه وسلم من مباحث التوحيد أو المعاد أو شيء من المعارف الاعتقادية فهذا شيء بعيد غايته، فإنّ الاركان الاعتقادية والاَُصول الدينية قد تقرّرت في الكتاب والسنّة في حياته، ولم يبق شيء منها يشترط في صحة الاسلام أو الايمان، مع ان المناسب على هذا الاحتمال لزوم التعبير بـ: «لا تكفرون بعدي» مكان «لا تضلّون بعدي».
وهل هو من مباحث الحلال والحرام وتفصيل أحكام المسائل الجزئية الفرعية؟ وان شئت فقل تكميل الفقه وبيان فروعه؟ لكنّه غير محتمل؛ لاَنّ بيانها كان يحتاج الى زمان طويل وكتاب مبسوط قطور.
ثم أقول: هذا المخزون في ضميره صلى الله عليه وسلم ليس من أُصول الدين ولا من فروعه؛ لاَنّ الله سبحانه اخبر قبل ذلك اليوم بثلاثة اشهر ـ بزيادة ايام أو بنقيصتها ـ مخاطباً الاَُمّة الاسلامية: (اليومَ أكملتُ لكُمْ دينكُمْ وأتممتُ عليكُمْ نعمتي ورَضيتُ لكُمْ الاسلامَ ديناً)، والدين عبارة عن الاَُصول الاعتقادية والاحكام الفرعية(في العبادات والمعاملات والحدود والديات وغيرهما ممّا هو مسطور في الكتب الفقهية اليوم) وموضوعاتها المستنبطة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والاعتكاف ونحو ذلك، فمع اكمال الدين لا يبقى شيء يوجب تركه ضلال الاَُمّة.

4 ـ في الحديث نكتة مهمة لا بدّ من لفت النظر اليها، وهي انّ هذا الذي أراد صلى الله عليه وسلم ان يكتبه انّما كان يوجب حفظ الاَُمّة عن الضلال بعد حياته حيث قال: «لن تضلّوا» أو «لا تضلّوا»، أو «لا تضلون بعده»، أي بعد هذا الكتاب، فانّه كان عالماً ـ باعلام الله تعالى ـ انّه ذاهب في القريب العاجل الى ربه والى الرفيق الاعلى، فهذا الاَمر لا يتعلّق بهداية الناس في حياته وإلاّ لبيّنه للناس قبل ذلك في مكة أو في أوائل هجرته، فانّ تبليغ ما أُنزل اليه من ربه واجب عليه، فان لم يفعل فما بلغ رسالته.
وبعبارة أُخرى انّ الذي قصد كتابته أمر خطير وحافظ من ضلال الاَُمّة، لكنّه ليس متعلّقاً بايام حياته صلى الله عليه وسلم، بل يتعلّق بحال المسلمين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي يستفاد بوضوح من قوله صلى الله عليه وسلم: (بعده)، يؤكده قوله تعالى: (اليومَ أكلمتُ لكُمْ دينكم...) فكما انّه ليس من أُمور التوحيد والمعاد وسائر أُصول الاسلام وليس من فروعه أيضاً كما عرفت، كذلك ليس مورداً لابتلاء المسلمين الى ذلك اليوم والى حين وفاته وإلاّ لتوجّه الايراد عليه صلى الله عليه وسلم أولاً: بانّه لم يبيّنه لحد الآن، وثانياً: بانّ الله اكمل الدين فما معنى ضلال المسلمين بعده.
5 ـ من الواضح انّه يخطر في ذهن كثير من أهل العلم وغيرهم انّ مجرد منع جماعة من الصحابة بقيادة عمر ( رضي الله عنه ) لا يكفي لانصراف النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة هذا الامر المهم المانع عن الضلال، فلم انصرف عنها ولِمَ لم يبيّنه قولاً وشفاهاً حتى طردهم عن بيته وسكت عن مراده؟ وهذا سؤال مهم جداً.
وجوابه عندي انّ النبي صلى الله عليه وسلم علم انّ تأكيده على مراده بالكتابة لا يفيد تلك الفائدة بعد ما قال عمر ( رضي الله عنه ) قوله وقبله جمع آخر، إذ لو فرض انّه يكتب بعده ما اراده صلى الله عليه وسلم بكل تأكيد وتغليظ كان بوسع المخالفين ان يقولوا انّه صلى الله عليه وسلم لشدة مرضه هجر وهذى، فلا موجب أو لا مجوّز للعمل به، فلا يتحقّق مراده، ولاجله انصرف عنه.

6 ـ بعد اللتيا والتي يبقى السؤال السابق بحاله، وانّه ما هو مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المكتوب؟ وأقول في الجواب: لا بدّ من لفت النظر الى ما تفرّقت الاَُمّة عليه بعد وفاته وضلّوا وسقطوا في الفتن والحروب والتقاتل والتكفير والتضليل الى يومنا هذا؟ وهذا الشيء هو مقصوده بالكتابة.
ونحن نعتقد بانّ كل منصف إذا تطهّرت نفسه من العصبية والتقليد يفهم انه هو امر الخلافة بعده وتعيين خليفته بشخصه وعينه.
أليس وقع الاختلاف بين علي ( رضي الله عنه ) وغيره في أمر الخلافة ولم يبايع أبا بكر ( رضي الله عنه ) ستة أشهر طيلة أيام حياة فاطمة، وانّما بايعه حين استنكره وجوه الناس كما نقله البخاري فيما يأتي عن عائشة (رض).
ألم يقع التشاجر بين الانصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة والتكلم بما لا يليق بمسلم؟ وهلا يرجع سبب الفتن الواقعة في خلافة عثمان ( رضي الله عنه ) الى هذا الامر المقصود بالكتابة؟
أليست حروب الجمل وصفين والنهروان من أوضح آثار الاختلاف في الخلافة؟
ما هو سبب قتل الخليفتين عثمان وعلي وبقاء ما ترتّب عليه الى يومنا هذا، أليس تفرّق المسلمين شيعة وسنة نتيجة الاختلاف في الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أليست الحروب الداخلية بين المسلمين التي افسدت الحرث والنسل لاجل ذلك؟ أليس ما ابتلى به المسلمون ـ حتى يومنا هذاـ
من الانحطاط والتأخر والانحراف هو نتيجة ذلك الاختلاف الذي ادّى الى تسلّط حكّام الجور من بني أُمية وبني العباس؟ وهكذا وهكذا.
وبعد هذا لا اظن بمسلم عاقل يشكّ في مراد النبي صلى الله عليه وسلم وما اراد أن يكتبه، وانّه هو تعيين خليفته بعده أو الخلفاء بعده، فلو كتبه صلى الله عليه وسلم وقبله الصحابة بعده ما ضلّ الناس بعده أبداً، وحيث انّ جماعة من الصحابة منعوه من الكتابة فقد ضلّ الناس كما عرفت.
لا يقال قد ذكرت ان آية اكمال الدين اخبرت عن عدم بقا أمر ديني موجب للضلال فيعود الاشكال عليك أيضاً. فانه يقال انّ الآية الشريفة تدلّ على اكمال أمر التشريع والتقنين في الاَُصول والمعارف وكليات الفقه وحتى أمر الخلافة اجمالاً، كما يظهر من استدلال الشيعة واهل السنة بالآيات والروايات الصريحة أو المشيرة ـ بزعمهم ـ على أمر الخلافة.
واما تعيين مصداق الخليفة وشخصه، فهذا لا يمس باكمال التشريع حتى إذا فرضنا(خلافاً للشيعة وجمع من أهل السنّة القائلين بتعيين الخليفة من قبله صراحة على حد زعم الشيعة أو اشارة على حد زعم جماعة من أهل السنّة.
) اهماله من جانب صاحب الرسالة الى هذا اليوم، لعدم حلول وقت الابتلاء به الى حين وفاته صلى الله عليه وسلم، فبيان الحكم أمر وتعيين مصداقه ومتعلّقه أمر آخر وبينهما بون بعيد، ولذا قال بعض الباحثين ان مراده صلى الله عليه وسلم هو التنصيص على خلافة أبي بكر.

7 ـ بقي في المقام سؤالان خطيران مهمان:
الاَول: نسبة الهجر الى النبي المعصوم الذي قاله فيه سبحانه وتعالى: (وما ينطقُ عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى) يوجب الردّة أو الفسق قطعاً، وهذا لا يجتمع مع عدالة الصحابة، بل مع الايمان، بل لو فرضنا
صحّة جملة (قد غلبه الوجع، أو: قد غلب عليه الوجع) مكان جملة (هجر، أو: أهجر)، بل لو فرضنا انهم قالوا بأبي أنت وأُمي يا رسول الله لا تكتب شيئاً في هذه الحالة لبقي أصل الاشكال بحاله، فإنّ عصيان الرسول محرم ينافي العدالة.
الثاني: انّ منع الكتابة أوجب ضلال الاَُمّة ضلالاً ذهبت به الاَموال وسفكت به الدماء ووقعت به البغضاء والعداوة والتفرقة الواسعة بين المسلمين الى يومنا هذا(ولقد خاف النبي من هذه الحالة حيث حذر اصحابه في حجة الوداع بقوله: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض». (البخاري 121 كتاب العلم) وكرره برقم 4143 و6475 و6669.) فوزر هذا الضلال الكبير على المانعين في ذلك المجلس، أو انّه معفو عنهم لاجتهادهم؟! لكن الاجتهاد في مقابل النص لو فرض جوازه لارتفع وجوب اطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت بالآيات الكثيرة الواردة في القرآن وبالضرورة من الدين والعقل. على ان في خصوص المقام قامت قرينة واضحة على ابطال هذا الاجتهاد، وهو غضب النبي أو عدم رضاه بالمنع المذكور، وكثرة اللغط واللغو حتى طردهم من عنده بقوله صلى الله عليه وسلم: «قوموا عني»، فامرهم بتركه وقيامهم عنه، ولعلّه لا نظير له في تمام حياته، فانّي لم اجد مورداً اخرج النبي أحداً من اصحابه من بيته حتى في ليلة عرسه مع كراهته لبقائهم في البيت حتى نزلت آية الحجاب كما نقل في الصحاح.
وأيضاً صرّح النبي صلى الله عليه وسلم لهم: بانّ الذي انا فيه هو خير ممّا تدعونني اليه، أي هذا المرض المميت خير مما تدعونني اليه من ترك الكتابة، فادّعاء الاجتهاد في المقام غلط واضح، وصدق ابن عباس حيث يقول: انّ الرزية كل الرزية ما حال بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كتابه. وله حق البكاء، بل ينبغي ان يبكي عليه كلّ مسلم يحب دينه.
لكن المانعين، من الصحابة وعلى رأسهم عمر وهو الخليفة الثاني، فما هو المخرج من هذه المشكلة العويصة المحيّرة للعقول؟ وقد ذكر علماء الحديث والكلام أعذاراً كثيرة، لكنّها غير مقنعة عند من نجاه الله من التقليد والعصبية ووفقه لتطبيق الاعتقاد على الحق دون تطبيق الحق على الاعتقاد(انظر ـ من باب المثال ـ الى شرح النووي في تأويل الحديث، فكل ما قاله أو نقله فهو وهن ضعيف، ولا يخفى على أهل العلم بطلانه بل هو واضح البطلان.)، ولا شيء أفضل من ان نقول والله العالم، وانا لله وانا اليه راجعون.

8 ـ ثم انّ في مقالة عمر: (حسبنا كتاب الله) اشكال آخر، وهو انّ قول النبي وفعله وتقريره مصدر ثان للتشريع، ولا شكّ في عدم كفاية القرآن وحده من دون السنّة النبوية لنجاة المسلمين، فكما يجب العمل بالقرآن، يجب العمل بالسنّة بدلالة آيات من القرآن، فرد أمر الرسول ردّ للقرآن أيضاً. على ان عمر واتباعه يعلمون ـ اتم علم ـ بانّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم اعلم منهم ومن كل أحد بالقرآن، فلو كان القرآن كافياً لهم لَما قال لهم اكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده أبداً، فاستدلالهم هذا رد اعتقادي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا اقبح من منع اتيان ما يكتب فيه، فانّه مجرد عصيان عملي.

(23) وعن العرباض قال: نزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر... فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «يا ابن عوف اركب فرسك ثم ناد...» فقام صلى الله عليه وسلم فقال: «أيحسب أحدكم متكئاً على اريكته قد يظن انّ الله لم يحرم شيئاً إلاّ ما في هذا القرآن، ألا واني والله قد وعظت وأمرت ونهيت عن اشياء، انّها لمثل القرآن أو أكثر...»(1).
أقول: كان عمر حاضراً في خيبر وسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً لاَنّ الصحابة كلّهم اجتمعوا بأمر النبي للصلاة كما صرّح في الحديث.
ويمكن ان نقدم اعتذاراً من قبل الخليفة واتباعه انّهم لم يلتفتوا الى لوازم كلامهم هذا في تلك الساعة. وكم كنت احب ان لا تصدر هذه الجملة وهذا العمل من هؤلاء الصحابة، وكم كنت احب ان لم يعص النبي الرحيم الرؤوف في بيته ولم يهن في آخر حياته الشريفة بهذه الجملة، وكم كنت احب ان لم يضبط التاريخ المعتبر الموثوق به هذه الواقعة في صدره حتى لا يخجل المسلمون من اهل الكتاب وغيره، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السُفُنُ.

(يتبع)