عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 05-05-2002, 11:56 AM
shaltiail shaltiail غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2001
المشاركات: 342
إفتراضي

قال: أحدهم وما في ذلك من محذور؟
قلت: أليس في تجويز وقوع الافتراق عليهما تجويز للكذب أو السهو على الرسول صلى الله عليه وآله الذي أخبر عن عدم الافتراق ـ وهو في معرض التبليغ لاِلزامه صلى الله عليه وآله بالتمسك بهما ، وهو ما سبق أن اتفقنا على منافاته لعصمة النبي صلى الله عليه وآله ، فأهل البيت عليهم السلام إذن بمقتضى هذا الحديث معصومون ، وبخاصة فقرته الاَخيرة.
وما يقال عن هذا الحديث يقال عن حديث السفينة (19) وباب حطة (20) والكثير من نظائرهما.
والواقع يا سيدي أن هذه الاَحاديث وأمثالها مما ورد في أهل البيت عليهم السلام كانت مبعث حيرة ومعاناة لي في التماس بواعثها ، عندما حاولت أكثر من مرة أن أتحلل من رواسب العقيدة ، التي درجت عليها في أهل البيت عليهم السلام ، وأخضعها للمقاييس المنطقية التي أفهمها.
وكان أكثر ما يقف أمامي ويلح عليَّ في طلب التفسير هو اختصاص النبي صلى الله عليه وآله هذه اللمة من بين أمته، بل من بين أهل بيته بالذات ، وفيهم أعمامه وأولاد عمه ، ليؤكد كل هذا التأكيد على لزوم اتباعهم والتمسك بهم بالخصوص، ويعتبرهم أعدال الكتاب تارة، وسفن النجاة اُخرى، والعروة الوثقى (21) ثالثة، والاَمان لاَهل الاَرض من الاختلاف (22) رابعة، ويختصهم بالتطهير من الرجس، ولا يكتفي دون أن يؤكد ذلك بمختلف صور التأكيد ، ويتخذ شتى المحاولات لاِبعاد كل من يحتمل في حقه شبهة المشاركة ، حتى يبلغ به الحال أن يبعد زوجته أم سلمة ـ وهي مَنْ هي في مقامها من الاِيمان والتقوى ـ عن المشاركة في الدخول تحت الكساء الذي طرحه عليهم ، وهو يتلو : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (23) ثم لا يكتفي أيضاً دون أن يقف في كل يوم على باب علي وفاطمة عليهما السلام في أوقات الصلوات ، ليرفع صوته بتلاوته لهذه الآية ، وقد أحصيت عليه تسعة أشهر (24) وهو يكررها دون انقطاع.
إلى عشرات ، بل مئات ، من أمثال هذه الاَحاديث التي ينهى بعضها عن مخالفتهم، ويحذر من عدائهم وبغضهم، ويلزم باتباعهم وأخذ العلم عنهم، « فلا تقدموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم (25)
والصور العقلية التي تصورتها في مجالات التفسير ثلاثة ، نعرضها لنختار أمثلها وأكثرها اتساقاً ، مع ما اتفقنا عليه من إثبات العصمة للنبي صلى الله عليه وآله بالمفهوم الذي حررناه في بداية الحديث.
أولاها: الاِجمال في كلامه وعدم إعطائه اية دلالة تشريعية، وهذا ما تأباه صراحة النصوص بلزوم اتباعهم والتمسك بهم، والتعلم منهم وإثبات العصمة لهم، وقد مرت نماذج منها قبل قليل، وهي ليست موضعاً لنقاش.
الثانية: أن نسلم الدلالة التشريعية ، إلا أننا لا نسلم صدورها عن الله عزوجل، بل نعتبرها صادرة عن النبي صلى الله عليه وآله ، لاَسباب عاطفية محضة اقتضتها علقته القريبة بهذا النفر من أهل بيته عليهم السلام .
وهذا النوع من الحمل مما تأباه أدلة العصمة، لاَن دخول العاطفة وتحكمها في مجالات التشريع مما يهير فكرة العصمة من أساسها، وأي ذنب أعظم من أن يفتري على الله عزوجل ما لم يقله ، مجاراة لعواطفه وميوله وحاشاه.
على أن هذا النوع من الاِغراق في العاطفة تجاه نفر معين ، مع وجود غيرهم من أهل بيته عليهم السلام لو كان له ما يبرره في الواقع النفسي ، فليس هناك ما يبرر التعبير عنه ـ بهذه الاَساليب ـ لمجافاته، لما عرف به النبي صلى الله عليه وآله من الخلق العظيم، وهل من الخلق أن يجحف في إبراز عاطفته تجاه نفر معين ، ليس فيهم ما يميزهم عن سائر أقربائه ، وفيهم مَنْ هو أكبر منهم، كالعباس مثلاً، أليس في هذا النوع من إبراز العاطفة تحدّ لهم لا مبرر له، وهو لا يصدر من أقل الناس عادة.
الثالثة: أن نسلم دلالتها التشريعية ونعود بها إلى أسبابها المنطقية، وأهمها ما توقروا عليه من العلم والعصمة، وهذه المحاولات التأكيدية كان مبعثها تركيز هذا المعنى في النفوس وترويضها لتقبله...
فإذا امتنع الفرض الاَول لصراحة النصوص، وامتنع الثاني لاَدلة العصمة في النبي صلى الله عليه وآله تعين الاَخذ بالفرض الثالث والتعبد به.
قال أحدهم: وهل كانت هذه الصفات ـ أعني العلم والعصمة ـ واضحة لدى معاصريهم ، أي أن واقعهم التأريخي هل ينسجم مع ما يفهم من هذه النصوص.
قلت: هذا أهم سؤال يمكن أن يوجه ـ يا أخي ـ لاَنه يفتح أمامنا مجال التطوير في الاجابة على أمثال هذا النوع من الاستدلال.
فقد كان نوع الباحثين في الشؤون العقائدية ، عندما يريدون أن يتحدثوا أو يستدلوا على أية مسألة من مسائل الفكر التي ترتبط بشؤون العقيدة فإنما يتحدثون عما يجب أن يكون ولا يفكرون فيما هو كائن، وإذا فكروا فيه فإنما يفكرون في إخضاع ما هو كائن لما يجب أن يكون.
ولست أعرف فيهم من حاول تقييم أدلته على أساس من عرضها على الواقع المحسوس ـ فيما يكون له واقع محسوس منها ، ويلتمسون مدى انسجامها معه ، ثم ينطلقون من وراء ما ينتهون إليه إلى الحكم على صحة الدليل وعدمه.
وقد كانت لي محاولة ـ عندما كنت مدرساً لمادة التأريخ الاِسلامي ـ في كلية الفقه ـ أن أجعل من وسائل النقد المضموني لبعض الاَحاديث عرضها على طبيعة زمنها ، ثم بيئتها ، ثم الشخص الذي قيلت فيه ، فإن انسجمت معها جميعاً أمنت بصحتها ، إذا لم يكن في أسانيدها ما يوجب التوقف.
وكأنك ـ يا أخي ـ تريد أن تشير إلى نفس هذا المقياس في إيمانك بهذه الاَحاديث.
ومثل أدلة عصمة أهل البيت عليهم السلام آيات وأحاديث إذا كان فيها مجال لتردد ما من قبل بعض من عاصروا ولادتها، حيث أنها افترضت في الاَئمة واقعاً لم يخضع إذ ذاك لتجربة كاملة ، فهي أشبه بالتحدث عن عوالم الغيب ، فلا يقتضي أن يظل التردد قائماً بعد أن أخذ الاَئمة من أهل البيت عليهم السلام واقعاً تاريخياً عرضهم في مختلف مجالات السلوك والمعرفة، وبوسع الباحث أن يقطع تردده بدراسة سيرهم، والحكم لهم أو عليهم ، على ضوء ما ينتهي إليه.
والشيء الذي وددت التنبيه عليه أن التأريخ لم يكن في يوم ما ملكاً لهم ولشيعتهم وأتباعهم يسيرونه كيفما يريدون ، وإنما كان ـ كشأنه في أي عصرـ ملكاً للفئة الحاكمة تسيره كيف ما تريد.
ونحن نعلم أن أهل البيت عليهم السلام كانوا يشكلون في جميع أدوار حياتهم جبهة المعارضة للسلطة الزمنية ، المعارضة الشريفة التي لا يمكن أن تهادن على منكر تراه، كما لا تبخل في إرسال كلمة معروف في مشورة أو سلوك.
وكانت السلطة تعلم منهم ذلك وتحسب له حسابه وربما حسبت له أكثر من حسابه، فاتخذت له الحيطة الكاملة، وكثيراً ما تستبد بها الاَوهام والظنون فتوسع في تخيلاتها إلى أن هذا البيت ما يزال يعد عدته للعمل على الاستيلاء على السلطة والنهوض بالحكم ، وهم يعلمون أن الحكم حق من حقوقه المفروضة.
وكان من وسائل الحيطة التي اتخذتها السلطات على اختلافها محاربة شيعتهم وأتباعهم ، وضرب نطاق الحصار الاقتصادي عليهم ، ومنع وصول الحقوق والاَموال إليهم جهد ما يستطيعون ، وجعل العيون والرقباء لاِحصاء حتى عدد أنفاسهم، وربما توسعوا فحملوا أئمة أهل البيت عليهم السلام إلى عواصمهم ليكونوا تحت الرقابة المباشرة، وقد يدخلونهم السجن ، ليحولوا بينهم وبين ما يتخيلونه من نشاط وقد أنهت حياة أكثرهم بالاغتيال والقتل.
وبالبداهة إن فكرة العصمة والاَعلمية كانتا من أهم الركائز لفكرة التشيع منذ وجد التشيع لاَهل البيت عليهم السلام وكان أهل البيت أنفسهم يصرحون بذلك، ومن الطبيعي أن يبعث هذا النوع من التصريح الحزم واليقظة في مدوني التأريخ لتسليط الاَضواء على كل ما يتصل بحياتهم الخاصة أو العامة ، العثور على شيء من التناقضات بين واقعهم ، وما يدعون ، لتكون أهم وثيقة بيد السلطة للاِجهاز بها على جبهة المعارضة والقضاء عليها بسهولة، وما أيسر الاختلاق لو كان هناك مجال لتزيدٍ واختلاق، ولكن التأريخ ـ وهو ملك أيديكم فعلاً وبوسعكم تتبع أحداثه لم يحتفل ـ فيما قرأت منه ـ بتسجيل حادثة واحدة على أحد من أئمة أهل البيت « الاثني عشر عليهم السلام » تتنافى مع دعوى العصمة أو الاَعلمية.
وهناك شيء ـ وددت التنبيه عليه ـ وقد سبق أن نبهت عليه في مبحث سُنة أهل البيت عليهم السلام من كتاب « الاُصول العامة للفقه المقارن » (26) التمست تفسيره الطبيعي فلم أعثر عليه ، وعسى أن يعثر سادتي على تفسير طبيعي له ـ وهو تولي بعض الاَئمة منصب الاِمامة وهم صغار السن، بل كان بعضهم لا يزيد على العشر سنوات حين توليه لمنصبها الخطير.
ونحن نعلم أن ابن ثمان أو عشر مثلاً مهما بالغنا في إعطائه صفة النبوغ والعبقرية ، وأحطناه بالبيئة الصالحة والتربية السليمة، فإننا لا نستطيع أن نوفر له صفة الاستيعاب لمختلف مجالات المعرفة، وهي المدعاة لاَئمة أهل البيت عليهم السلام ، أو صفة العصمة عن ارتكاب كل ما يتنافى مع أحكام الشريعة مهما كانت المغريات، لاستحالة أن يتسع الوقت لذلك ، ولقصورنا نحن عن مجالات الاستيعاب.
وقد تولى الاِمامان الجواد والهادي عليهما السلام الاِمامة وهما ابنا ثمان، وكانت المعارضة في عهدهما للحكم على أشدها ، حتى اضطرت المأمون أن يظهر التنازل عن الحكم للاِمام الرضا عليه السلام والد الجواد، حتى إذا أبى عليه ألزمه بقبول ولاية العهد كسباً لعواطف الملايين من شيعته، ثم عمد إليه بعد ذلك فقتله بالسم لئلا ينتهي الحكم إليه.
وكانت أقصر الطرق وأيسرها للقضاء على المعارضة لوكان هناك مجال أن يعمد الحكام إلى هذين الاِمامين الصغيرين فيعرضونهما إلى شيء من الامتحان العسيرفي بعض وسائل المعرفة أو السلوك ، ثم يعلنون أمام الرأي العام عن سخف الشيعة التي ما تزال تؤمن بفكرة الاِمام المعصوم، وقدولت عليها أئمة صغاراً ، هم بهذا المستوى من المعرفة (27) أو الانحراف والعياذ بالله.
وأظن أن القضاء على فكرة التشيع بإعلان فضيحتهم من هذه الطريق أجدى على الحكام من تعريض أنفسهم لحرب قد يكونون هم من ضحاياها.
وهؤلاء الاَئمة لو كانوا في زوايا تحجبهم عن أعين النظار، وكان لا يمكن الوصول إليهم إلا من طريق أتباعهم لاَمكن أن يبالغوا في إضفاء المناقبية عليهم، كما هو الشأن في بعض أئمة الاِسماعيلية والباطنية، فكيف وهم مصرحون بعقائدهم ومبادئهم وسلوكهم أمام الرأي العام ، وبمرأى من السلطة ومسمعها، وما لنا نطيل ونحن نعلم أن دعوى استيعاب المعرفة لا يمكن أن يثبت عليها إنسان متعارف مهما كان له من العلم والسن ، لاَن مجالاتها أوسع من أن يحيط بها عمرنا الطبيعي ، والامتحان كفيل بإحباط كل دعوى من هذا القبيل، ومثلها دعوى العصمة بل أشد منها لتحكم كثير من العوامل اللاشعورية ـ وهي غير منطقية في سلوك الاِنسان.
وهاتان الدعويان كانتا شعاراً لاَهل البيت عليهم السلام وشيعتهم منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم نسمع بتسجيل حادثة واحدة تتعارض مع طبيعة ما ادعياه فيهما.
وما أكثر ما حفل التأريخ بتعريض هؤلاء الاَئمة كباراً وصغاراً لاَشق أنواع الامتحان من قبل السلطة وأقطاب مخالفيهم من العلماء، وبخاصة مع الاِمام الجواد مستغلين صغر سنه.
وما رأيك بأمثال يحيى بن أكثم ـ ومَنْ هو من أكابر علماء عصره ـ عندما يأمره الخليفة بإعداد أعقد المسائل وأخفاها ، ثم يتعرض بها لطفل لا يتجاوز عمره العشر، فهل ينتظر أن يخرج الطفل معافى مِنْ هذا الامتحان؟ إقرأ بعض هذه المحاورات في الصواعق المحرقة (28) لابن حجر وغيرها (29) ، وانظر تصاغر السائل فيها أمام هذا الطفل الصغير والتماس تفسيرها الطبيعي.

(يتبع)