مندوب الاِيمان ـ ثم تناول السيد كتاب فجر الاِسلام من أحد رفوف المكتبة واستخرج منه ص97 وقرأ فيها ما يلي « وبعد فإلى أي حد تأثر العرب بالاِسلام، وهل أمحت تعاليم الجاهليةونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الاِسلام، ألحق أن ليس كذلك ، وتاريخ الاَديان والآراء يأبى ذلك كل الاِباء ».
« فالنزاع بين القديم والجديد والدين الموروث والحديث يستمر طويلاً، ويحل الجديد محل القديم تدريجاً ، وقل أن يتلاشى بتاتاً ».
« وهذا ما كان بين الجاهلية والاِسلام فقد كانت النزعات الجاهلية تظهر من حين إلى حين ، وتحارب نزعات الاِسلام ، وظل الشأن كذلك أمداً بعيدا ولنقصُ طرفاً من مظاهر هذا النزاع ».
« جاء الاِسلام يدعو إلى محو التعصب للقبيلة والتعصب للجنس ، ويدعو إلى أن الناس جميعاً سواء ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (3) وفي الحديث « المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم » (4) ، وخطب النبي صلى الله عليه وآله في خطبة الوداع « يا أيها الناس إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وفخرها بالاَباء ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى (5)، وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله قال : « من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية ، أو يدعو إلى عصبية ، أو ينصر عصبية ، فقتل قتل قتلة جاهلية » (6) وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله بين المهاجرين والاَنصار بعدما كان بين المكيين والمدنيين من عداء ».
« ومع كل هذه التعاليم لم تمت نزعة العصبية ، وكانت تظهر بقوة إذا بدا ما يهيجها، أنظر إلى ما روي في غزوة بني المصطلق أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج في جماعة من المهاجرين والاَنصار فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الاَنصار، فكان بينهما قتال إلى أن صرخ يا معشر الاَنصار ، وصرخ المهاجر يا معشر المهاجرين ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقال: ما لكم ولدعوة الجاهلية، فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الاَنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : دعوها فإنها منتنة، فقال عبدالله بن أبي أبن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاَعز منها الاَذل » (7) .
« أفلست ترى أن نزاعاً تافهاً ، لسبب تافه هيج النفوس ودعاهم إلى النزعة الجاهلية وتذكر العصبية المكية والمدنية ».
ومن يتصفح التأريخ يجد المئات من الشواهد أمثال ما ذكره الدكتور أحمد أمين ، ولعل أهم نقاط الضعف التي أجهز بها الخليفة أبو بكر على الاَنصار في سقيفة بني ساعدة هو إثارة هذه النزعة في أعماقهم ، عندما ذكرهم بالقتلى والجراح التي لا تداوى ما بينهم في الجاهلية ، وكان قد خدرها الاِسلام عندما ألف بين قلوبهم، ولقد ذكرت هنا مضمون حديث رواه الجاحظ يحسن أن نعود إلى نصه ففيه أعظم الدلالة على صدق ماذكره الدكتور أحمد أمين.
وهنا تناول السيد كتاب البيان والتبيين واستخرج ص181 من جزئه الثالث وقرأ فيها عيسى بن نذير قال : قال أبو بكر : نحن أهل الله ، وأقرب الناس بيتاً من بيت الله ، وأمسهم رحماً برسول الله صلى الله عليه وآله إن هذا الاَمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الاَوس، وإن تطاولت إليه الاَوس لم تقصر عند الخزرج، وقد كان بين الحيين قتلى لا تنسى، وجراح لا تداوى، فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي أسد يضغمه المهاجري ويجرحه الاَنصاري ».
قال ابن دأب فرماهم والله بالمسكتة. (8)
وكان من نتائج تأثير هذه الخطبة التي دللت على مدى ما يملكه الخليفة من خبرة بالواقع النفسي أن حولت ذلك الواقع الذي أبعده الاِسلام إلى أعماق اللاشعور ، بفضل تأليفه بينهم إلى واقع شعوري متجسد يعمل عمله في الفرقة بينهم، وهكذا أجهز عليهم من أقرب نقطة ضعف ، وحملهم على التسابق إلى بيعته خشية أن يستأثر بالخلافة أحد الفريقين ، وكان أسرع الفريقين إليها أبناء الاَوس لاَن المرشح الوحيد للاَنصار إذ ذاك كان سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج كما تعلمون.
فإذا صح هذا من وجهة نفسية عدناإلى ما سبق أن قلناه من أن عنصر الحماية الذي يجب توفره في رأس الدولة يستدعي أن لا يحمل رأس الدولة في أعماقه أية رأسية على خلاف المفاهيم الثورية الحديثة ، وإلا لكانت الرسالة هي أو بعض مفاهيمها عرضة للتصدع متى استأثر الباعث اللاشعوري في توجيه صاحبه الوجهة المعاكسة.
وضمان هذه الناحية موقوف على أن يتولى دور الحماية شخص لا يملك اية راسبةفي أعماقه على خلاف هذه المفاهيم الثورية ، بالاِضافة إلى إيمانه العقلي بكل ما صدعت به من أفكار وأحكام.
قال أحدهم: وكيف يتهيأ مثل ذلك الشخص ليقوم بهذا الدور ، وهل في المسلمين إذ ذاك شخص لم يعش فترة من حياته في الجاهلية ليتولى دور الحماية كما تريدون.
قلت: يا سيدي ـ إذا كانت الفكرة سليمة فإن على الاِسلام أن يهيء مثل ذلك الشخص إذا كان يريد لنفسه ضمان التطبيق السليم ، وأنتم تعلمون أن قيمة الرسالة لا تبرز بمجرد التشريع ، وما قيمة تشريع لا يضمن له تطبيق سليم يتمشى مع الاَهداف الاَساسية التي تبرر وجوده ، وتقديم آلاف الضحايا في سبيل تركيز ذلك الوجود.
قال أحدهم: إن هذا صحيح جداً ولكن على الصعيد النظري فحسب ، لما فيه من طوبائية تتجافى مع الواقع العملي لنوع الناس.
قلت: قد يكون ذلك كما تقولون لو كانت الرسالة غير سماوية ، وكانت المخططات لها من صنع بشر عادي يكون معرضاً للخضوع للعوامل الذاتية في تصرفاته ولا أقل من خطئه واشتباهه.
أما وأن الرسالة سماوية ومخططها هو الله عزوجل فليس هناك ما يمنع من وضع مخطط لتهيئة مثل أولئك الاَشخاص وإيداع ذلك إلى النبي لتنشئتهم وفق ذلك المخطط.
على أن دعوى الطوبائية لا أفهم لها دلالة في أمثال هذه المواضع مع إدراكنا لدور التربية السليمة في بناء الاَشخاص وفق المفاهيم التي يراد لها التطبيق ، ونحن نعرف أن الشخص الذي يُربى على أسس معينة لمفاهيم وقيم خاصة ، إذا أبعد عن كل ما يتجافى مع تلكم المفاهيم منذ صغره يكاد يستحيل عليه أن يصدر في تصرفاته عما يخالفها ، وأمامنا في واقعنا المعاش كثير من القيم الحضارية السائدة في بعض البلدان المتحضرة كالدول الاَسكندنافية مثلاً لا يمكن لاَهلها أن يخرجوا عليها ، وبعض هذه القيم انتزعت من واقع مفاهيمنا الاِسلامية كالصدق والاَمانة وغيرهما.
على أن الذي يكفينا الآن ـ ونحن نتحدث عما يجب أن يكون ـ هو اعترافنا بصحة هذه الفكرة على الصعيد النظري لننتقل بعد ذلك إلى دراسة ما هو كائن ثم نرى مدى انسجامه مع هذا الواقع الذي انتهينا إليه.
وأول ما يلفت نظرنا ونحن نستعرض هذا الجانب أن نرى في بعض تصرفات النبي صلى الله عليه وآله ما يبحث عن تفسير ما دامت تصرفاته ـ بحكم رسالته ـ تصرفات كلها هادفة.
وأول ما يبحث عن التفسير احتضانه للاِمام علي عليه السلام من بداية حياته والاِشراف على تربيته بنفسه وهو صبي ، ثم وضع مخطط لاِبعاده عن جميع الاَجواء المعاشة إذ ذاك لاَمثاله من صبيان قريش ، يقول الاِمام علي عليه السلام وهو يتحدث في نهجه الخالد عن لون تربيته في هذه الفترة: « وضعني في حجره ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وآله ـ وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده ، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر اُمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة حراء (9) ، فأراه ولا يراه غيري » (10).
وهذه الخطوط التي رسمها الاِمام لاَسلوب تربيته على يد النبي صلى الله عليه وآله ليست طبيعية لو لم يكن الهدف منها أسمى من وجهها البارز ، فهي تريد له الاِبعاد عن جميع الاَجواء التي كانت سائدة إذ ذاك ، مع بنائه على لون من السلوك يختلف عنها في جملة ما له من خطوط ، فهو صلى الله عليه وآله يرفع في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمره بالاقتداء به ، ولا يكتفي بذلك دون أن يصحبه حتى لمواقع تحنثه وعبادته في غار حراء ، فليس غريباً بعد ذلك أن لا يكون لهذا الصبي من الرواسب الجاهلية ما يتجافى مع الاُسس الجديدة التي رسمها النبي صلى الله عليه وآله للسلوك ، وأكد منها الاِسلام بعد ذلك في جملة ما جاء به من تشريعات.
ومن هنا كان من الطبيعي جداً أن يكون هذاالصبي أسرع الناس إلى الاِيمان بالرسالة التي أرسل بها صاحبه لملاءمتها لواقعه النفسي، ولقد تظافرت جملة من الروايات على تسجيل هذا الواقع ومنها ماأثر عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: « لقد صلت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين وذلك أنه لم يصل معي غيره » (11) ومن مأثور ما نقل عن الاِمام نفسه قوله في إحدى خطبه: « اللهم لا أعرف أن عبداً لك من هذه الاَمة عبدك قبلي غير نبيك ثلاث مرات ، لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعاً » (12) ثم شده النبي صلى الله عليه وآله إلى هذه الرسالة شداً ، ومكنها من نفسه عقيدة ، يفنى من أجلها ويعيش.
وفناؤه في الدفاع عنها وعن صاحبها وهو في مكة أشهر من أن يتحدث عنه.
والعقيدة متى تمكنت من أعماق صاحبها ولم يكن لها في نفسه ما يزاحمها من الرواسب المعاكسة استحال عليه عادة الخروج على تعاليمها ، أو التخلف عما تدعو إليه وتتطلبه من تضحيات ، وهو معنى العصمة الذي نريده ونذهب اليه.
ونجاح هذا الجانب من الاِعداد على يد النبي صلى الله عليه وآله هو الذي أوجب أن يؤهله ( وما ينطق عن الهوى ) (13) للخلافة من عبده ويعد النفوس لتقبل ذلك مبكراً ، وأول نص وصل إلينا في هذا الشأن ما روي على لسان غير واحد من المؤرخين قوله صلى الله عليه وآله لعشيرته الاَقربين وقد أمر بإنذارهم، وقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فايكم يؤازرني على أمري هذا قال علي7: فقلت : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي فقال : إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا » يقول الراوي « فقام القوم يضحكون، ويقولون لاَبي طالب قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي » (14)
ثم توالت بعد ذلك التصريحات منه صلى الله عليه وآله : « لكل نبي وصي ووارث ، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب » (15) وقوله لعلي « ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » (16) إلى عشرات أمثالها بالاِضافة إلى نوع من التصريحات يتخذ طابع الملاشاة لجميع الفوارق بينه وبين الاِمام ، إلا ما يتصل بالنبوة فهو نفسه في آية المباهلة ، وهو الذي يؤدي عنه ، لاَنه منه كما في حديث براءة ، وحديث « إن علياً مني وأنا من علي ، وهو ولي كل مؤمن بعدي ، لا يؤدي عني إلا أنا أو علي » (17)
والنص الذي اتخذ طابع البلاغ العام هو نص الغدير ، وكان بعد عودته من حجة الوداع وقد صوره ابن عباس ورسم أجواءه بقوله « لما أمر الله رسوله أن يقوم بعلي فيقول له ما قال « فقال : يا ربي إن قومي حديثو عهد بجاهلية ، ثم مضى بحجه فلما أقبل راجعاً ونزل بغدير خم أنزل عليه ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك... ) (18) الآية فأخذ بعضد علي فقال: أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم، قالوا: بلى يا رسول الله قال: اللهم من كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأعن من أعانه ، واخذل من خذله ، وانصر من نصره ، وأحب من أحبه ، وأبغض من أبغضه » (19) .
ومن هنا يتضح أن اختيار النبي صلى الله عليه وآله لعلي ما كان وليد الصدفة ، وإنما كان وليد إعداد وتهيئة ذات جذور عميقة ، تقتضيها طبيعة الحماية للمبادىء الثورية التي أنزلت من السماء لهدم أمة وبنائها من جديد، وعلي هو الوحيد الذي كان إذ ذاك لا يحمل في رواسبه مخلفات الجاهلية بفضل احتضان النبي صلى الله عليه وآله له من صغره، وإبعاده عن جميع أجوائها المعاكسة ، بما هيأ له من وسائل التربية السليمة.
فالفكرة إذن سليمة وليس فيها شيء من الطوبائية كما نتخيل ، ويصدقها واقع الاِمام علي عليه السلام وسلوكه المنسجم معها داخل الحكم وخارجه ، كما يصدقها واقع خلفائه من أهل البيت الذين أعد لهم الاِمام نفس الاسلوب الذي اتخذه النبي صلى الله عليه وآله في تربيته الخاصة ، وقد سبق في أحاديثنا عن العصمة والتماسها في واقعهم التأريخي ما يلقي الاَضواء على ذلك.
( يتبع )
|