لبنان.. أي أرض.. أي دولة !!؟
===============
يصف أحد المؤرخين اللبنانيين الواقع اللبناني فيقول: «إن الشعب اللبناني لم يكن في الماضي أمة واعية لكيانها، وموحدة في أهدافها، وإنما كان مجموعة من الطوائف جمع بينها حلف هو أقرب ما يكون إلى العقد الاجتماعي. وتاريخ لبنان ـ منذ القرن الثامن عشر ـ هو في المقام الأول، تاريخ تطور هذا العقد الاجتماعي وأثره في نمو البلاد»(1).
وعندما زار الجنرال ديجول لبنان بعد الحرب العالمية الثانية، قال: «إني جئت إلى الشرق المعقد بأفكار ساذجة»(2).
«فلبنان بلد صعب المراس مولع بالعنف، من المستحيل فهم الشرق الأوسط قبل فهم لبنان»(3).
«لبنان أرض سائبة يتقاتل عليها وفيها الآخرون، إنه بلد موبوء بمختلف الفيروسات الاجتماعية التي لا يرجى منها شفاء»(4).
«الوطن الأعجوبة الذي اسمه لبنان، مارس فيه المقاتلون كل أنواع العنف اللا أخلاقي والوحشية المفترسة والتعصب الطائفي والهمجية القبلية، وتشريع أبوابه على مصراعيها لكل أجنبي يتوسله ويستخدمه لا لحماية استقلاله وكيانه، بل لحماية طوائفه والحفاظ على مكاسبها، وربط ما تبقى من استقلاله في عجلة هذه أو تلك الدولة الأجنبية، ومن المؤسف أن سمعة لبنان منذ أن صار له اسم على الخريطة السياسية هي سمعة الارتماء في أحضان الحماية»(5).
إن الخوض في الأزمة اللبنانية أو حتى التاريخ اللبناني عموماً، هو خوض في مستنقع كبير قد لا يخرج الإنسان منه بشيء إلا تعب الخوض وعلامات الاستفهام الكثيرة، وقد يصيبه من طين المستنقع ومائه الآسن، فيخرج بأفكار وتصورات مركبة. هذا هو ما أريد لأي مطَّلع على الشأن اللبناني أن يخرج به، وهكذا أريد لهذا البلد الصغير أن يظل لفترة طويلة وقريبة مكاناً مناسباً للمنافسة وتصفية الحسابات وتحقيق المصالح. ولا شك أن الوضع اللبناني بالغ التعقيد، إلا أنه قابل للفهم لمن أتى الأمور من أبوابها، ولعلنا نعرض موجزاً سريعاً ومجملاً لصور ذلك التعقيد.
لن نذهب في التاريخ بعيداً، وإنما سنذكر صورة منه، فقد قامت الدولة اللبنانية على ركيزة أساسية هي «الطائفية»، وولد الاستقلال والميثاق في أحضانها، وورث الاستقلال نهجاً يجسد التفسخ الوطني في إطار علاقات سياسية تعمل على إبقاء هذا الأمر واستمراريته.
هذا النهج السياسي وقف عائقاً أمام تطوير الواقع الطائفي ومحاولة تجاوزه، وحمل الاستقلال معه كل أمراض التخلف والتعصب والتفرقة؛ لأن أبطاله لم يعملوا على استئصال الرواسب وإقامة الوطن على قاعدة الانتماء إليه؛ بل اكتفوا بوحدتهم الفوقية وتركوا التشتت الطائفي في القاعدة؛ فقام لبنان على قاعدة تعدد الطوائف المتعايشة على أرض واحدة تقتسم المغانم فيما بينها.
إن الاستقلال والدستور قد قاما على ركيزتين أساسيتين هما: تجميع الطوائف وتجميع المناطق؛ وشتان ما بين التجميع والانصهار.
لقد استبدلت الوحدة الوطنية(6)ـ كما هو الحال في الدول الأخرى ـ بوحدة الطوائف المتعايشة، ورعت دولة الاستقلال المؤسسات الطائفية لتوسع نشاطاتها ولتزيد من انقسام المواطنين.
ففي الحقل التربوي بقي لكل طائفة مؤسساتها التربوية لتلقن المواطنين ثقافات مختلفة، وعلى الصعيد التنظيمي السياسي صار لبعض الطوائف مجالس مِلّية تحولت إلى مؤسسات سياسية تسهم في السلطة بدرجة أو بأخرى. وعلى الصعيد السكاني بقيت المدن الكبرى ذات طابَع طائفي؛ وعلى الرغم من احتوائها على اختلاط سكاني من مختلف الطوائف إلا أنها تمتعت بغالبية سكانية من طائفة معينة، أو تضمنت أحياء سكانية لكل طائفة، أو لكل مذهب حي يجمع أبناء المذهب نفسه، وهذا الأمر قد سهَّل فيما بعد الانقسام الجغرافي؛ حيث هجَّرت كلُّ منطقة الأقليات الموجودة في
ها من الطوائف الأخرى؛ مما جعل السلطة عبارة عن حكم بين مختلف الأطراف «الطوائف» لا
سلطة دولة بيدها المبادرة والقرار الذي تستطيع فرضه على الجميع.
في لبنان ازدواجية سلطوية: قامت سلطة الدولة وتساكنت جنباً إلى جنب مع سلطة الطائفة، وكثيراً ما أذعنت سلطة الدولة إلى سلطة الطائفة البارعة في توظيف التمايزات الدينية لأغراض سياسية. والطائفة هنا تلعب دور الحزب السياسي المُدافِع عن مصالح الأفراد، وتحل مشكلة انتماء الفرد طالما أنه لا توجد أطر أخرى أكثر فعالية لتنظيم حياته وضمان توازنه المادي والنفسي، وهكذا يندفع الفرد إلى أحضان الطائفة؛ فالتخلي عنها ضياع لآلية التضامن الأسري والعائلي إذ لم يسنده ظهور مؤسسات تضامن جماعي نقابي ومدني أعلى، كما يعني العزلة للأفراد، ويعني الاغتراب النفسي والاجتماعي كذلك .
لقد عجزت الدولة اللبنانية عن بناء الإطار الفكري والسياسي والإداري والاقتصادي الذي يوحد الشعب ويبني إجماعاً؛ إنها لم تمتلك رسالة اجتماعية تسمح لها بأن تكون دولة الشعب لا دولة الجماعات. وبدلاً من أن ترتفع ـ باعتبارها مؤسسة سياسية وسلطة ـ فوق التمايزات والتناقضات، انخرطت هي نفسها بفعل طبيعة بنيتها وتركيبتها العصبية في التناقضات التي أخذت تمزقها، أو بالأحرى تبرز تمزقها الداخلي المستور بأيديولوجيا الوفاق والتعايش.
لقد اعترفت الدولة القانونية في لبنان بتعدد القوى السياسية، ومنحتها حق التنافس الحر حتى بلغ حد الفوضى المسلحة؛ فالتدريب والتسلح غير المشروع، وقيادة الجيوش غير النظامية، وتخريج دفعات من الميليشيات اللبنانية كان يتم في احتفالات علنية تنقلها الصحف اليومية تحت سمع الدولة وبصرها. كان نشوب الحرب بتلك الضراوة والشراسة، وقدرتها على الاستمرار لأعوام طويلة ما كان يمكنها لولا وجود ميليشيات قد أنشئت أصلاً؛ لأن لها دوراً يُنتظر أن تلعبـه.
وإثر الاعتداءات (الإسرائيلية) المتكررة على الفلسطينيين داخل الأراضي اللبنانية منحتهم الدولة حق الدفاع عن أنفسهم ضد الاعتداءات الخارجية عليهم بدلاً من أن تكون هي المسؤولة عن حماية كل من يقطن داخل حدودها سواء بالطرق السلمية أم بالقوة؛ فالدولة عادة ـ كل دولة ـ تقدم نفسها مركز استقطابٍ وحيد لممارسة العنف القانوني في المجتمع؛ فعنف الدولة له أساليبه ـ أي قانونيته ـ لكن الدولة اللبنانية بتركيبتها الضعيفة سلطوياً قد سمحت لنباتات (العنف اللاشرعي) ـ أي الخارج عن إطار الدولة ـ أن تنمو على جوانبها، ومهدت للاحتراب بين اللبنانيين عندما وقفت شاهد زور من استعداداتهم للحرب، وهي بتركيبتها الطائفية الحساسة لم تستطع التعامل مع القضية الفلسطينية كما تعاملت معها سائر الدول العربية، فمهّدت بذلك لحرب الآخرين على الأرض اللبنانية.
حتى الأحزاب التي تؤكد أنها غير طائفية من حيث المبدأ والغاية، وتلك التي ترفع شعار العلمنة والديموقراطية والمساواة لا تفلت من فخ الطائفية إلا قليلاً. والظاهرة البارزة التي نشأت في ظل الحرب هي تعدد الأحزاب والمنظمات والحركات بشكل لم يسبق له مثيل. واللافت للنظر أن إمعان الأحزاب والمنظمات في تحديد هويتها الطائفية ربما كان لاستقطاب أكبر عدد من (الأتباع) أو لإبراز(خصوصيتها).
وفي جميع الأحوال انخرطت تلك الأحزاب في لعبة الطائفية نفسها التي استخدمها الإقطاع السياسي لإحكام سيطرته وتثبيت مواقعه. أما الأحزاب العلمانية فإن كلاً منها قد اتخذ صبغة القطاع الطائفي (الكانتون) الذي يـوجد داخل حـدوده.
وحددت الأحزاب والميليشيات مناطق نفوذ لها، وأخذت تثبت مواقعها داخلها؛ واعتباراً من عام 1984م أخذت الخطوط الفاصلة بين مناطق النفوذ تتضح؛ ففي بيروت وضواحيها وفي جزء من جنوب لبنان هناك سيطرة لقوات أمل الشيعية وحلفائها، وفي ضاحية بيروت الجنوبية وبعض مناطق البقاع والهرمل هناك سيطرة لقوات حزب الله الشيعية، وفي بيروت الشرقية وضواحيها وبعض مناطق الجبل هناك سيطرة للقوات اللبنانية المارونية على جزء منها، وسيطرة فئة من الجيش اللبناني على الجزء الآخر في عام 1990م، وفي الشوف سيطرة لقوات الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزية وحلفائها، وفي الشمال سيطرة لقوات المرَدة المارونية المعادية للقوات اللبنانية، وفي أقصى الجنوب هناك الحزام الأمني الذي صنعته (إسرائيل) بينها وبين جنوب لبنان، يسيطر عليه «جيش لبنان الجنوبي» المدعوم من قِبَلِ (إسرائيل).
فماذا بقي للدولة وسط هذه (البانوراما السلطوية) حتى تسيطر عليه؟
تابع انشاء الله
__________________
khatm
|