من جهة أخرى، شكلت الطائفية أفق الدولة اللبنانية الذي استوحت منه تصوراتها للمجتمع والكون ونمط الوجود، وللتنظيم الاجتماعي، والتوزيع البيروقراطي، كي تجند لا جيشاً عقلانياً عسكرياً واحداً وجيشاً مدنياً منظماً واحداً (من البيروقراطيين وموظفي الدولة) بل جيوشاً طائفية مرتهنة لجماعاتها المتنطعة والمتوجهة عقلياً وعاطفياً نحو الذات الطائفية المنغلقة.
ثم بدأ طرح إلغاء الطائفية السياسية؛ لأنها سبب البلاء، ولأنها تمنع الانصهار الوطني، وتحقيق المواطنة الحقة. والمطالبون بإلغاء الطائفية السياسية أغلبهم في مواقع طائفية بعضها شديد العصبية؛ فالأحزاب المطالبة بإلغاء الطائفية أحزاب طائفية بتركيبتها، وبدهي أن المطلب الصادر من موقع طائفي هو طائفي أياً كان التعبير اللفظي عنه، ومطلب إلغاء الطائفية يعني تحديداً: استبدال ديمقراطية عددية تعني سيطرة على الحكم والإدارة بحكم العدد أو بحكم ما يظن من غلبة عددية بالديمقراطية الإصلاحية المركبة المعقدة أساساً للعيش المشترك اللبناني(7).
لقد كان لبنان في خاتمة الأمر تركيباً مرقعاً من العشائر والعقائد والمجموعات العرقية التي تعيش في توازن قلق، وهذه حالة كان معترفاً بها من خلال التقاسم المعقد للمناصب العامة والامتيازات، مهما كانت صغيرة وثانوية، على أساس الهوية الطائفية. وكان من أعجب ملامح النظام اللبناني استمرار النفوذ السياسي لحفنة من الوجهاء مدة طويلة، والانقسامات الطائفية والسيطرة على الحياة الاقتصادية من قِبَلِ شبكة من الأسر والعوائل العاملة في التجارة والصيرفة والتي تهمها أرباحها أكثر من الصالح العام. وكانت الترتيبات سبيلاً لمحاباة الأقارب، ومقاومة الإصلاح، والمناورة والتلاعب من قِبَلِ قوى خارجية أي أن هذه الأوضاع كانت تولد بنفسها الخصوم والأعداء في لبنان الذي تصل فيه الحرية للجميع إلى حد التسيب؛ حيث تطبع أكثر من خمسين صحيفة يومية من بين عدد آخر لا يحصى من الدوريات، وراحت تنمو وتزدهر مجموعات ضغط صاخبة الأصوات من خارج البرلمان، وتستورد إلى البلد مختلف التيارات والمشاجرات السياسية السائدة في العالم العربي الفسيح، وأخذ الشيوعيون، والاشتراكيون، والبعثيون، والناصريون، والقوميون السوريون، والأجنحة والفئات والتكتلات المتفرعة منهم أو المنشقة عنهم، يشنون الحملات بعضهم ضد بعض وضد الجهاز السياسي الذي لم تمتد إليه يد الإصلاح في لبنان. إن مثل هذا المجتمع المجزأ قد جعل نفسه عرضة للاختراق والتلاعب والمناورات على يد وكلاء وعملاء من البلدان المحيطة به ومما هو أبعد منها. وفي هذا «المركز» للعالم العربي، حيث تتم المتاجرة والتبادل بالأموال، والأفكار والعقائد والسياسات، اشتد الصراع على النفوذ بين (إسرائيل) وجيرانها، بين سوريا وخصومها العرب، العراق ومصر، وبين بريطانيا وفرنسا، وبين فرنسا والولايات المتحدة، وبين الاتحاد السوفييتي والغرب، مما أدى إلى اضطراب المشهد السياسي المحلي وتعكيره(8).
ويصف أحد أبرز الرموز الشيعية في لبنان، وهو محمد حسين فضل الله الواقع اللبناني فيقول: «إن الموقف اللبناني بالغ التعقيد، والموقف السياسي في لبنان أكثر صعوبة من الموقف السياسي في أي بلد آخر، وذلك بسبب هذه التعددية الواسعة الموجودة بداخله، ويخلق هذا الموقف حواجز نفسية متعددة في لبنان إلى جانب حواجز طائفية. إن كل طائفة في لبنان تتصرف كأنها دولة مستقلة لها وجودها ومصالحها الخاصة بها، ولهذا فإن من الصعب أن يكون هناك تبادل حر للأفكار بين أفراد الطوائف المختلفة، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى تجميد لبنان، وسيستمر لبنان في الانهيار طالما أن لدينا نظاماً طائفياً»(9).
ولقد كانت الدول الغربية والجهات التي تقف خلف هذا التمزق ترمي بخلق هذا الواقع المرير في لبنان إلى أهداف أخرى أشد مرارة وأكثر خبثاً، لكي تحقق أهدافها التي تريدها. «إن لبنان يُعد لكـي يكون الحفرة التي يساق إليها العـرب جميعاً برجالهم أو أموالهم أو بخلافاتهم، إنها الحفرة التي يراد منها أن ينسى العرب ما قبلها، فالإنسان لا ينسى كارثة إلا بكارثة تتلوها يراد بها أن تكون دماراً يضحى فيها بلبنان، ولكن أيضاً لكي ينسى العرب فلسطين»(10).
هذا الواقع المأزوم والمَرَضِي مثَّل مرتعاً خصباً لأحلام كل طائفة في السيطرة ـ وفي لبنان خصوصاً ـ لا تمثل قوة الطائفة إلا بمددها الخارجي وتبعيتها الدينية والسياسية والمالية. ولعل ذكر صورة لأثر التدخل الخارجي في الشأن اللبناني يوضح بعضاً من تعقيد هذا الواقع وهو ما أدى إلى أحداث الفتنة المشهورة في لبنان بين 1858م ـ 1860م. «فما أن جاءت أواخر 1857م حتى أصبحت الحالة في لبنان في منتهى التعقيد. فقد جرّ طغيان مشايخ الدروز ووكلائهم في المناطق الجنوبية خلاف الدروز والنصارى إلى هاوية الأزمة. وهنا أيّد البريطانيون الدروز، فيما أيّد الفرنسيون النصارى. أمّا في المناطق الشمالية، فلم تكن الحالة أقل سوءاً؛ إذ وقف الفلاحون والإكليروس الماروني، يؤيدهم الفرنسيون والنمساويون وجهاً لوجه أمام الأسر الإقطاعية، تشد أزرها بريطانيا. وفي الوقت نفسه دعم الفرنسيون القائمقام بشير أحمد أبي اللمع وأنصاره من الحزب الأحمدي، فيما انتصر البريطانيون للعسّافيّين. أما العثمانيون، فسعوا إلى توسيع شقة الخلاف في قائمقامية النصارى، وهكذا أصبحت القضية اللبنانية من التشابك بحيث لم تقع حادثة في لبنان إلا كان لها صدى في عواصم أوروبا، وخصوصاً لندن وباريس، وفي ذلك قال أحد زعماء اللبنانيين آنذاك: لقد أصبحت أمورنا في هذه الأيام تابعة لإنجلترا وفرنسا، وإنه إذا ضرب أحدهم رفيقه تصير المسألة إنجليزية فرنسوية، وربما قامت إنجلترا وفرنسا من أجل فنجان قهوة يهرق على الأرض»(11).
واستمرت هذه الصورة إلى الوقت القريب وكان لها نفس الأثر السلبي على البلد بكامله. «فلبنان هو ضحية اللعبة السياسية القذرة للمعسكرين الشرقي والغربي. كل المنظمات الفاعلة على الساحة اللبنانية ارتبطت بإحدى الدول العربية، أو بإحدى القوى الخارجية، وكل هذه المجموعات والمنظمات تورطت بشكل عميق وكثيف في لبنان، وكافة التطورات التي جرت فيه»(12).
وكانت الطائفة الشيعية التي يمثلها «حزب الله» سياسياً وعسكرياً ـ موضوع حديثنا ـ من تلك الطوائف التي أرادت ـ أو بالأصح أريد منها ـ أن تحقق الحلم بتكوين دولة تقوم على تبني المذهب الجعفري الاثني عشري منهجاً ونظاماً؛ فلبنان أريد به أن يكون: إما دولة نصرانية عربية بميول غربية وسط تجمع مسلم ضخم، وإما دولة شيعية عربية بميول فارسية وسط تجمع سني ضخم كذلك. والدولة الأولى: النصرانية لعل لها حديثاً آخر، أما المراد الآخر فلا بد من الوقوف فيه أولاً على بعض المرتكزات؛ حتى تتضح الصورة من بداياتها وصولاً إلى منتهاها.
---------------------
(1)كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث ، ص 28، دار النهار، بيروت، الطبعة السابعة، 1991م.
(2)حرب الألف عام في لبنان، جوناثان راندال، ص 10، ترجمة: فندي الشعار، دار المروج، 1984م.
(3)المصدر السابق، ص 6.
(4)المصدر السابق، ص 10
(5)رياض نجيب الريس، المسيحيون والعروبة، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ص 27
(6)من المسلَّم به أن الوحدة الوطنية وغيرها من الشعارات والرايات التي ملأت العالم الإسلامي ضجيجاً، لم تفلح ـ ولن تفلح ـ في حل قضايا الأمة، لعدم انطلاقها من المنهج الإسلامي القويم.
(7)انظر: د. فاطمة بدوي، الحرب، المجتمع والمعرفة، الحرب الأهلية وتغير البنى الاجتماعية والعقلية في لبنان، ص 99 ـ 118، دار الطليعة، بيروت، ط 1/1994م. وانظر: د. محمود حسن عبد العزيز الصراف، الطائفية اللبنانية من النشأة حتى الأزمة، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، 1987م، وانظر: هاني فارس، النزاعات الطائفية في تاريخ لبنان الحديث، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1980م وانظر: ألبير منصور، الانقلاب على الطائف، ص 51 ـ 57، دار الجديد، بيروت، ط/1/1993م.
(8)انظر: باتريك سيل، الأسد؛ صراع على الشرق الأوسط، 440 ـ 442، دار الساقي، لندن، الطبعة الثانية.
(9)محمد حسين فضل الله، قراءة في فكر زعيم ديني لبناني، حلقات: الإسلام والكونجرس الأمريكي، الحلقة/ 37، د. أحمد إبراهيم خضر، مجلة المجتمع، العدد: 954، ص 42.
(10)أحمد بهاء الدين، لبنان في حرب دولة لا تنتظر نصائح الملوك والرؤساء، جريدة الأهرام، 30/6/1978م.
(11)تاريخ لبنان الحديث/ 114
(12)أمل والشيعة، نضال من أجل كيان لبنان، أ.ر. نورثون، ترجمة: غسان الحاج عبد الله، دار بلال، الطبعة الأولى، 1408هـ ـ 1988م/ 139.
تابع انشاء الله
__________________
khatm
|