المنتظرون.. إلى متى؟
نتعرض هنا لقضية مهمة حول «التبديل» الكبير الذي حدث في عقيدة الشيعة الاثني عشرية ومنهجهم الذي حوَّلهم من طائفة على هامش التاريخ بفعل «نظرية الانتظار» بعد دخول محمد بـن حسن العسكري السرداب وغيابه ـ على حـد قولهم ـ إلى طائفة ثورية تريد تغيير العالم كله ومواجهة قوى الاستكبار في العالم وإنارته بالإسلام «الصحيح»، وتطهير الأرض من رجس يهود!! وقد كان لحزب الله نصيب وافر من هذه الشعارات الرنانة.
وتقوم نظرية «الانتظار والتَّقِيَّة» على تحريم الثورة والإمامة والجهاد وإقامة الحود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجمعة؛ فقد تأثر الفكر السياسي الشيعي تأثراً كبيراً بنظرية وجود الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري داخل السرداب، واتسم لقرون طويلة بالسلبية المطلقة؛ وذلك لأن هذه النظرية قد انبثقت من رحم النظرية الإمامية التي تحتم وجود إمام معصوم معيَّن مِنْ قِبَلِ الله!!، ولا تجيز للأمة أن تعيِّن إماماً أو تنتخبه؛ لأنه يجب أن يكون معصوماً، وهي لا تعرف المعصوم الذي ينحصر تعيينه من قِبَلِ الله؛ ولذلك اضطر الإماميون إلى افتراض الإمام الثاني عشر، بالرغم من عدم وجود أدلة علمية كافية على وجوده.
وقد كان من الطبيعي أن يترتب على ذلك القول بانتظار الإمام الغائب، تحريم العمل السياسي، أو السعي لإقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، وهذا ما حدث بالفعل؛ حيث أحجم النواب الخاصون بالإمام عن القيام بأي نشاط سياسي في فترة الغيبة الصغرى، ولم يفكروا بأية حركة ثورية، في الوقت الذي كان فيه الشيعة الزيدية والإسماعيلية يؤسسون دولاً في اليمن وشمالي إفريقيا وطبرستان(1).
لقد كانت نظرية انتظار الإمام الغائب بمعناها السلبي المطلق تشكل الوجه الآخر للإيمان بوجود الإمام المعصوم ولازمة من لوازمها؛ ولذلك فقد اتخذ المتكلمون الذين آمنوا بهذه النظرية موقفاً سلبياً من مسألة إقامة الدولة في عصر الغيبة، وأصروا على التمسك بموقف الانتظار حتى خروج المهدي الغائب.
وسنورد هنا روايات عديدة لأئمتهم على مر التاريخ، الذين يحرمون فيه العمل لإقامة دولة في ظل غياب الإمام، وكيف كان لهذه النظرية الأثر البالغ في وقف العمل المسلح، ولننظر إلى أي مدى استقرت هذه النظرية، ثم لنرى بعد ذلك ما أحدثوه من إهدار لكل هذا التاريخ العلمي، والتبديل لهذه النظرية «العقدية».
فقد نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضـل أعمال أمتي انتظار فـرج الله ـ عز وجل ـ» يعنون به خروج الغائب المنتظر، وجعلوا الانتظار أحب الأعمال إلى الله، و«المنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان»(2).
وبالرغم من قيام الدولة البويهية الشيعية في القرن الرابع الهجري، وسيطرتها على مناطق واسعة من الدولة العباسية، فإن العلماء الإماميين ظلوا متمسكين بنظرية الانتظار وتحريم العمل السياسي، وقد قال محمد بن أبي زينب النعماني (توفي سنة 340 هـ) في كتـابه الغيبة: «إن أمر الوصية والإمامة بعهد من الله ـ تعالى ـ وباختياره، لا من خلقه ولا باختيارهم؛ فمن اختار غير مختار الله وخالف أمر الله ـ سبحانه ـ وَرَدَ موردَ الظالمين والمنافقين الحالِّين في ناره».
وقال في باب «ما أُمر الشيعة به من الصبر والكف والانتظار للفرج وترك الاستعجال بأمر الله وتدبيره» بعدما ذكر سبع عشرة رواية حول التَّقِيَّة والانتظار فـي عصـر الغيبة: «انظروا ـ يرحمكم الله ـ إلى هذا التأديب من الأئمة وإلى أمرهم ورسمهم في الصبر والكف والانتظار للفرج، وذكرهم هلاك المحاضير والمستعجلين، وكذب المتمنين، ووصفهم نجاة المسلمين، ومدحهم الصابرين الثابتين، وتشبيههم إياهم على الثبات بثبات الحصون على أوتادها، فتأدبوا، رحمكم الله، وامتثلوا أمرهم، وسلِّموا لهم ولا تتجاوزوا رسمهم، ولا تكونوا ممن أرداه الهوى والعجلة، ومال به الحرص عن الهدى والمحجة البيضاء».
وكان من تلك الروايات التي اعتمد عليها محمد بن أبي زينب النعماني في تنظيره لفكرة الانتظار، ما رواه عن أبي جعفر الباقر أنه قال: «الزم الأرض، لا تحركن يدك ولا رجلك أبداً حتى ترى علامات أذكرها لك، وإياك وشذاذ آل محمد؛ فإن لآل محمد وعلي راية ولغيرهم رايات، فالزم الأرض ولا تتبع منهم رجلاً أبداً حتى ترى رجلاً من ولد الحسين معه عهد النبي ورايته وسلاحه.. فالزم هؤلاء أبداً وإياك ومن ذكرت لك». «أوصيك بتقوى الله، وأن تلزم بيتك وتقعد في دهماء هؤلاء الناس، وإياك والخوارج منا؛ فإنهم ليسوا على شيء ولا إلى شيء». «انظروا إلى أهل بيت نبيكم؛ فإن لبدوا فالبدوا، وإن استصرخوكم فانصروهم تؤجروا، ولا تستَبِقوهم فتصرعكم البلية». «كل راية تُرفع قبل راية المهدي فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله». «كل بيعة قبل ظهور القائم فإنها بيعة كفر ونفاق وخديعة». «واللهِ لا يخرج أحدٌ منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به»(3).
وجاء في كتاب بحـار الأنـوار عن المفضل بـن عمر ابن الصادق أنه قال: «يا مفضل كل بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر ونفاق وخديعة، لعن الله المبايع والمبايَع له»(4).
وكما أثَّرت قضية الإمامة والولاية فكذلك أَثَّرتْ نظرية «الانتظار» على موضوع حديثنا، العمل الثوري «الجهاد» فتعطل، وكان مُحرَّماً. وقد نتج عن الالتزام بنظرية الانتظار، وتفسير شرط الإمام المُجمَع عليه في وجوب الجهاد أنه الإمام المعصوم نتج عن ذلك أن تَعَطَّلَ الجهاد في عصر الغيبة. فقد اشترط الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط ـ في وجوب الجهاد ـ اشترط ظهور الإمام العادل الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره، ولا يسوغ لهم الجهاد دونه، أو حضور مَنْ نصَّبه الإمام للقيام بأمر المسلمين، وقال بعدم جواز مجاهدة العدو متى لم يكن الإمام ظاهراً، ولا مَنْ نصَّبه الإمام حاضراً، وقال: «إن الجهاد مع أئمة الجور أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم، وإن أصاب لم يؤجر وإن أصيب كان مأثوماً».
وقال: «إن المرابطة في سبيل الله فيها فضل كبير وثواب جزيل، غير أن الفضل فيها يكون في حال كون الإمام ظاهراً، ومتى لم يكن الإمام ظاهراً لم يكن فيه ذلك الفضل». واشترط الشيخ سعد الدين عبد العزيز بن نحرير بن براج الطرابليسي القاضي (400 ـ 481هـ) في كتابه المهذب في وجوب الجهاد أن يكون مأموراً به من قِبَلِ الإمام العادل أو مَن نصَّبه الإمام، وحرَّم الخروج إلى الجهاد في حالة عدم وجود الإمام أو نائبه الخاص، وقال: «إن الجهاد مع أئمة الكفر، ومع غير إمام أصلي، أو من نصبه قبيح يستحق فاعله العقاب، فإن أصاب كان مأثوماً ،وإن أُصيب لم يكن على ذلك أجر». وكذلك قال الشيخ أبو جعفر محمد بن علي الطوسي المعروف بابن حمزة في (الوسيلة إلى نيل الفضيلة): «إنما يجب الجهاد بثلاثة شروط: أحدها حضور إمام عدل، أو من نصبه الإمام للجهاد، ولا يجوز الجهاد بغير الإمام ولا مع أئمة الجور». وقال السيد حمزة بن علي بن زهرة الحسيني، المعروف بأبي المكارم (511 ـ 585 هـ) في كتابه (الغنية): «الجهاد يجب بأمر الإمام العادل، به أو من ينصبه الإمام، أو من يقوم مقام ذلك من حصول خوف على الإسلام أو على النفس أو الأموال، ومتى اختل شرط من هذه الشروط سقط فرض الجهاد بلا خلاف أعلمه».
واعتبر ابن إدريس: «أن الجهاد مع الأئمة الجُوّار أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم، إن أصاب لم يؤجر وإن أُصيب كان مأثوماً»، وقال: «إن المرابطة فيها فضل كبير إذا كان هناك إمام عادل، ولا يجوز مجاهدة العدو من دون ظهور الإمام». وصرح يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع بحرمة الجهاد من دون إذن إمام الأصل، و «أن وجوبه مشروط بحضور الإمام داعياً إليه أو من يأمره». وقسم العلاَّمة الحلِّيّ في تحرير الأحكام وتذكرة الفقهاء الجهاد إلى قسمين: الأول: الدعاء إلى الإسلام، والثاني: الدفاع عن المسلمين؛ واشترط في الأول إذن الإمام العادل أو من يأمره الإمام. واعتبر الحلي في تذكرة الفقهاء القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير. واشترط في كتاب (الألفين) أن يكون الرئيس المكلف بقيادة الجهاد معصوماً؛ لأن الجهاد فيه سفك الدماء وإتلاف الأموال، فلا بد من أن يتيقن صحة قوله. وتساءل باستغراب: «كيف يقاتل وغير المعصوم لا يحصل الوثوق بقوله فتنتفي فائدة التكليف؟!».
وقال المقداد السيوري في كنـز العرفان: «الجهاد المأمور به إنه هو الجهاد مع الإمام المعصوم، لا أي جهاد كان».
وبالرغم من قيام الدولة الشيعية الصفوية تحت رعاية المحقق الكركي الشيخ علي بن الحسين، فإنه رفض تعديل الحكم في عصر الغيبة، وحصر في كتاب (جامع المقاصد في شرح القواعد) وجوب الجهاد بشرط الإمام أو نائبه، وفسَّر المراد بالنائب بـ «نائبه المنصوص بخصوصه حال ظهور الإمام وتمكنه، لا مطلقاً». وأغفل الشيخ بهاء الدين العاملي بحث الجهاد في كتابه: (جوامع عباسي) وفسر سبيل الله في عصر الغيبة ببناء الجسور والمساجد والمدارس. وحصر السيد علي الطباطبائي في كتاب: (رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل) وجوب الجهاد مع وجود الإمام العادل، وهو المعصوم أو من نصبه لذلك، أي النائب الخاص المنصوب للجهاد أو لما هو أعم. أما العام كالفقيه؛ فقال: «إنه لا يجوز له ولا معه الجهاد حال الغيبة بلا خوف أعلمه». وأكّد أن «النصوص متضافرة من طرقنا بل متواترة، منها: أن القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، ومنها: لا غزو إلا مع إمام عادل، والجهاد واجب مع إمام عادل». وصرح الشيخ جعفر في كتاب: (كاشف الغطاء في كشف الغطاء) باشتراط حضور الإمام أو نائبه الخاص دون العام في وجوب الجهاد الذي يُراد به الجلب إلى الإسلام، واعتبر أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وبمن نصبوه بالخصوص دون العموم.
وذكر الشيخ محمد حسن النجفي (1266 هـ) في (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام)، نصوصاً كثيرة حول اشتراط وجود الإمام في وجوب الجهاد، وقال: إن مقتضاها كصريح الفتاوى في عدم مشروعية الجهاد مع الجائر وغيره، (العادل غير المعصوم). وفي كتاب: (المسالك) وغيره: عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز له توليه، ونفـى علم الخلاف فيه حاكياً له عن كتاب: (ظاهر المنتهى) و (صريح الغنية) وظاهرهما الإجماع، مضافاً إلى ما سمعته من النصوص المعتبرة وجود الإمام. وأكد النجفي عدم إذن الأئمة للفقهاء في زمن الغيبة بجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان وجيوش وأمراء، وادعى علم الأئمة بعدم الحاجة إليه وإلى بعض الأمور المشابهة في عصر الغيبة، وقصور اليد فيها عن ذلك. وربط بين إمكانية الجهاد في عصر الغيبة وبين ظهور دولة الحق، أي دولة الإمام المهدي الذي لم يختفِ إلا تحت وطأة الخوف.
تابع انشاء الله
__________________
khatm
|