كتاب الكافي فيه الصحيح والضعيف
إن علماء الشيعة الإمامية لم يعطوا كتاب الكافي ولا غيره من كتب الحديث تلك المنزلة التي أعطاها علماء أهل السنة إلى صحيحي البخاري ومسلم ، الذين أجمعوا على صحة كل ما فيهما من أحاديث ، وحكموا بأنها صادرة من النبي صلى الله عليه وآله قطعاً. وإنما حكم علماء الإمامية بأن ما في الكافي من الأحاديث ، منه الصحيح المعتبر ، ومنه الضعيف الذي لا يُحتج به ولا يعوَّل عليه.
قال المحقق السيد الخوئي أعلى الله مقامه : لم تثبت صحة جميع روايات الكافي ، بل لا شك في أن بعضها ضعيفة ، بل إن بعضها يُطمأن بعدم صدورها من المعصوم عليه السلام (1).
وقال السيد محمد المجاهد قدس سره ( ت 1242هـ ) : الذي عليه محققو أصحابنا عدم حجية ما ذكره الكليني ، ولهذا لم يعتمدوا على كل رواية مروية في الكافي ، بل شاع بين المتأخرين تضعيف كثير من الأخبار المروية فيه سنداً... وقد اتفق لجماعة من القدماء كالمفيد وابن زهرة وابن إدريس والشيخ والصدوق الطعن في بعض أخبار الكافي... وقد ذُكرت عباراتهم في الوسائل (2).
وبهـذا يتضح أن علـماء الإمامية وقفوا من كتاب الكافي موقفاً معتدلاً ، لم يجنحوا فيه إلى طرف الإفراط بتصحيح كل أحاديثه ، فيسـاووه بكتاب الله العزيـز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولم يميلوا إلى جانب التفريط بإسقاطه عن الحجية والاعتبار فيبخسوه حقه.
____________
(1) معجم رجال الحديث 1|92.
(2) مفاتيح الأصول ، ص334.
--------------------------------------------------------------------------------
( 23 )
قال السيد هاشم معروف : ومع أنه نال إعجاب الجميع وتقديرهم لم يغالِ به أحد غلو محدِّثي السنة في البخاري ، ولم يدَّعِ أحد بأنه صحيح بجميع مروياته لا يَقبل المراجعة والمناقشة ، سوى جماعة من المتقدمين تعرضوا للنقد اللاذع من بعض من تأخر عنهم من الفقهاء والمحدثين ، ولم يقل أحد بأن من روى عنه الكليني فقد جاز القنطرة كما قال الكثيرون من محدّثي السنة في البخاري ، بل وقف منه بعضهم موقف الناقد لمروياته من ناحية ضعف رجالها ، وإرسال بعضها ، وتقطيعها ، وغير ذلك من الطعون التي تخفف من حدة الحماس له والتعصب لمروياته (1).
فأحاديث الكافي إذن فيها الصحيح وفيها الضعيف ، بل إن الضعيف منها أكثر من الصحيح كما نص عليه كثير من الأعلام ، مثل فخر الدين الطريحي ( ت 1085هـ ) (2) ، والشيـخ يـوسف البحـراني ( ت 1186هـ ) عـن بعـض مشائـخه المتـأخرين (3) ، والسيد بحر العلوم (4) ، والميرزا محمد بن سليمان التنكابني ( ت 1310هـ ) (5) ، وآغـا بزرك الطهراني (6) ، وغيرهم.
قـال الطـريحي قـدس سـره : أمـا الكـافي فجميع أحاديثه حُصرت في [16199 ] ستة عشر ألف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثاً ، الصحـيح منها باصـطلاح مَن تأخر [ 5072 ] خمسة آلاف واثنان وسبعون ، [ والحسن مائة وأربعة وأربعون حديثاً ] ، والموثَّق [ 1118 ] ألـف ومـائة وثمانية عشر حديثاً ، والقوي منها [ 302 ] اثنان وثلاثمائة ، والضعيف منها [ 9485 ]
____________
(1) دراسات في الحديث والمحدثين ص132.
(2) جامع المقال ، ص193.
(3) لؤلؤة البحرين ، ص394.
(4) رجال السيد بحر العلوم 3|331.
(5) قصص العلماء ، ص420.
(6) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 17|245.
--------------------------------------------------------------------------------
( 24 )
أربعمائة وتسعة آلاف وخمسة وثمانون حديثاً ، والله أعلم.
والحاصل أن الكليني رضوان الله عليه مع أنه حاول أن يجمع في كتابه الكافي الأحاديث الصحيحة التي يكون بنظره عليها المعوّل ، وبها يؤدَّى فرض الله عز وجل كما أوضح في مقدمة الكتاب ، إلا أن علـماء الإمـامية لـم يتابعوه في تصحيح كل الأحاديث التي رواها في كتابه ، وفي جواز العمل بها ، بل ضعَّفوا كثيراً من أحاديثه كما تقدم ، مع أنه من أجَل الكتب عندهم وأكثرها فائدة ، من حيث إنه حوى أكثر من ستة آلاف وسبعمائة حديث معتبر.
وبذلك يتضح الفارق بين نظر أهل السنة إلى صحيح البخاري ، ونظر الشيعة إلى كتاب الكافي ، فإن مكانة صحيح البخاري التي تبوَّأها عند أهل السنة إنما حصلت بسبب إجماع علماء أهل السنة على صحة أحاديثه كلها (1) ، بخلاف الكافي وغيره من كتب الحديث عند الشيعة الإمامية ، فإنها لم تنل هذه المنزلة عندهم.
ولهذا نرى جمعاً من حفَّاظ الحديث من أهل السنة مع أنهم صنَّفوا
____________
(1) قال الحافظ أبو نصر الوايلي السجزي : أجمع أهل العلم ـ الفقهاء وغيرهم ـ على أن رجلاً لو حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن النبي قد صح عنه ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قاله ، لا شك أنه لا يحنث ، والمرأة بحالها في حبالته ( مقدمة ابن الصلاح ، ص13 ). وقال أبو المعالي الجويني : لو حلف إنسان بطلاق امرأته ان ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما ألزمته الصلاق ولا حنثته ، لإجماع علماء المسلمين على صحتهما ( صحيح مسلم بشرح النووي 1|20 ، تدريب الراوي 1|131 ). وقال ابن تيمية في كتابه علوم الحديث ، ص72 : ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث ، كجمهور أحاديث البخاري ومسلم ، فإن جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين ، وسائر الناس تبع لهم في معرفة الحديث.
--------------------------------------------------------------------------------
( 25 )
كتباً التزموا فيها جمع الصحيح من الحديث بنظرهم (1) ، إلا أن كتبهم تلك لم تنل مكانة صحيح البخاري عند أهل السنة ، فإن العلماء لم يُجْمِعوا على صحَّة كل ما روي فيها من أحاديث ، كما كان الحال في أحاديث صحيح البخاري.
ومن ذلك يتضح أن حال كتاب الكافي عند الشيعة الإمامية حال المستدرك على الصحيحين أو صحيح ابن حبان وغيرهما من المصنفات التي حاول مؤلفوها جمع الصحيح فيها فقط ، ولم يتحقق إجماع على قبول كل ما فيها من أحاديث.
وحينئذ فلا مناص من عرض أحاديث هذه المجاميع على قواعد علم الدراية ، لتمييز الصحيح من غيره ، فيُحكم بصحة ما كان مستجمعاً لشرائط الصحة ، وبضعف ما لم يستجمع تلك الشرائط وإن حكم مؤلفٌ ما بصحة هذا الحديث أو ذاك ، لأن اجتهاد مجتهد لا يكون حجَّة على غيره من المجتهدين.
لا يُحتج بكتاب الكافي في إثبات المذهب
وهذه المسألة تتضح بأمور :
1ـ أن كتـاب الكـافي ـ كمـا أوضحنا ـ فيه الأحاديث الصحيحة المعتبرة ، وفيه الأحـاديث الضعيفة ، وعليه فلا يصح الاستناد في إثبات شيء من الأحكام الشرعية الفقهية ، فضلاً عن إثبات المذاهب الكلامية والأصول الاعتقادية على أي حديث مروي في كتاب الكافي ما لم يستجمع شرائط الاعتبار والحجية.
____________
(1) مثل كتاب المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ، والمسند الصحيح على التقاسيم والأنواع ، المعروف بصحيح ابن حبان ، وكذلك صحيح ابن خزيمة.
--------------------------------------------------------------------------------
( 26 )
2ـ أن أصول الدين لا يصح إثباتها بأخبار الآحاد (1) وإن كانت تلك الأخبار صحيحة ، وذلك لأن المسائل الاعتقادية يشترط فيها أن تكون قطعية ، وأخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن الذي لا يجوز التعويل عليه في هذه المسائل.
قـال السيد المرتضى أعـلى الله مـقامـه ( ت 436هـ ) في معرض الجواب عـن جـواز الرجـوع في تعرُّف الأحـكام إلى رسالـة « المقنعة » للمفيد ، أو رسالة ابن بابويه ، أو كتاب « الكافي » للكليني ، أو غيرها : إن الرجوع فيالأصول إلى هذه الكتب خطأ وجهل (2).
وقال في النكير على من يعمل بأخبار الآحاد مطلقاً : ألا ترى أن هؤلاء بأعيانهم قد يحتجّون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة بأخبار الآحاد ، ومعلوم عند كل عاقل أنها ليست بحجة في ذلك (3).
وقال الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري أعلى الله مقامه ( ت 1281هـ ) : ظاهر الشيخ [ الطوسي ] في « العُدّة » أن عدم جواز التعويل في أصول الدين على أخبار الآحاد اتفاقي ، إلا عن بعض غَفَلة أصحاب الحديث. وظاهر المحكي في « السرائر » عن السيد المرتضى عدم الخلاف فيه أصلاً (4).
وقال شيخنا الشهيد الثاني أعلى الله مقامه ( ت 966هـ ) في « المقاصد العلية » بعد أن ذكر أن المعرفة بتفاصيل البرزخ والمعاد غير
____________
(1) وهي الأحايث غير المتواترة. وكون أكثر أحاديث الكافي من أخبار الآحاد مما لا نزاع فيه.
(2) رسائل الشريف المرتضى 2 | 333.
(3) المصدر السابق 1 | 211.
(4) فرائد الاصول 1 | 372.
--------------------------------------------------------------------------------
( 27 )
لازمة : وأما ما ورد عنه صلى الله عليه وآله في ذلك من طريق الآحاد فلا يجب التصـديق بـه مطلقاً وإن كان طريقه صحيحاً ، لأن الخبر الواحد ظني ، وقد اختُلف في جواز العمل به في الأحكام الشرعية الظنية ، فكيف بالأحكام الاعتقادية العلمية ؟! (1).
وعليه ، فالـذي يجب اعتقاده هـو مـا دلَّ عليه ظاهر كتاب الله المجيد ، وما عُلم بالتواتر من أقوال النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين من أهل بيته عليهم السلام وأفعالهم وتقريرهم ، وما عُلم بالضرورة أنه من دين الإسلام.
وأما ما عدا ذلك فهو موضوع عن الناس ، لا يجب عليهم الاعتقاد به إلا إذا حصل لهم العلم به.
قال الشيخ الأنصاري قدس سره : المستفاد من الأخبار المصرّحة بعدم اعتبار معـرفة أزيد مما ذُكـر فيها ـ وهو الظاهر من جماعة من علمائنا الأخيار ، كالشهيدين في الألفية وشرحها ، والمحقق الثاني في الجعفرية وشارحها وغيرهم ـ هو أنه يكفي في معرفة الرب التصديق بكونه موجوداً ، وواجب الوجود لذاته ، والتصديق بصفاته الثبوتية الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث ، وأنه لا يصدر منه القبيح فعلاً أو تركاً...
ويكفي في معرفة النبي صلى الله عليه وآله معرفة شخصه بالنسب المعروف المختص بـه ، والتصديق بنبوته وصدقه ، فلا يعتبر في ذلك الاعتقاد بعصمته ـ أعني كـونه معصوماً بالملكة ـ من أول عمره إلى آخره...
إلى أن قال : ويكفي في معرفة الأئمة صلوات الله عليهم معرفتهم بنسبهم المعروف ، والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحق ، ويجب الانقياد إليهم والأخذ منهم ، وفي وجوب الزائد على ما ذُكر من عصمتهم الوجهان...
____________
(1) المصدر السابق 1|371.
--------------------------------------------------------------------------------
( 28 )
ويكفي في التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله التصديق بما عُلم مجيئه به متواتراً من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات ، والسؤال في القبر وعذابه ، والمعاد الجسماني ، والحساب والصراط والميزان والجنة والنار إجمالاً...
ثم قال : وما استقربناه فيما يعتبر في الإيمان وجَدْتُه بعد ذلك في كلام محكي عن المحقق الورع الأردبيلي في شرح إرشاد الأذهان (1).
( يتبع )
|