المعنى الثاني : أن المراد بجمع القرآن كما أُنزل هو جمعه في مصحف رُتِّب فيه المنسوخ قبل الناسخ ، والمكّي قبل المدني ، والسابق نزولاً قبل اللاحق ، وهكذا.
وجمع القرآن بهذا النحو لم يتأتَّ لأحد من هذه الأمّة إلا لعليٍّ بن أبي طالب علي السلام.
فقد أخرج ابن سعد وابن أبي داود وغيرهما عن محمد بن سيرين ، قال : لمَّا توفي النبي صلى الله عليه وآله أبطأ عـلي عن بيعة أبي بكر ، فلقيه أبو بكر فقال : أكرهت إمارتي ؟ فقال : لا ، ولكن آليت أن لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن. فزعموا أنه كتبه على تنزيله. فقال محمد : لو أصيب ذلك الكتاب كان فيه العلم (1).
____________
(1) الطبقات الكبرى 2|238 ، المصاحف ص16 ، وراجع تاريخ الخلفاء ، ص173 ، الإتقان في علوم القرآن 1|127 ، كنز العمال 2|558 ، حلية الأولياء 1|67 ، الفهرست لابن النديم ، ص41.
--------------------------------------------------------------------------------
( 56 )
و قال السيوطي : وأخرجه ابن أشته في المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين ، وفيه أنه ـ يعني عليًّا عليه السلام ـ كتَب في مصحفه الناسخ والمنسوخ ، وأن ابن سيرين قال : تطلَّبتُ ذلك الكتاب ، وكتبتُ فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه (1).
* * * * *
وقول الجزائري : « والقصد منه عند واضعه هو تكفير المسلمين من غير آل البيت وشيعتهم ».
يردّه أن القول بأن أهل البيت عليهم السلام جمعوا القرآن كله ظاهره وباطنه ـ أي علموا تفسيره وفهموا معانيه وأحكامه كما أرادها الله سبحانه ، وأن غيرهم ليس كذلك ـ لا يلزم منه تكفير أحد من أهل القبلة ، بل إن ذلك من تمام نعم الله على هذه الأمة أن جعل فيهم أئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون.
بل حتى لو قلنا : إن المراد بجمع القرآن هنا هو جمع ألفاظه كما ظن الجزائري ، فإن ذلك لا يستلزم تكفير أحد من المسلمين الذين تلقَّوا القرآن من غيرهم ناقصاً قد سقطت بعض آياته أو كلماته ، لأنه يحتمل أن يكون الناقص مما لا يجب الاعتقاد به ، ولا يضر جهله بجاهله ، إذ ليس كل ما في القرآن يجب على كافة المسلمين أن يعرفوه ويعتقدوا به ، وإلا كان واجباً على كل مسلم أن يكون جامعاً لعلوم القرآن وأحكامه ، وعارفاً بمعانيه ، ومعتقداً بمضامينه ، وهذا لا يقول به أحد.
* * * * *
ثم إن الجزائري قد ذكر ما يستلزمه اعتقاد أن أهل البيت عليهم السلام هم
____________
(1) الإتقان في علوم القرآن 1|127.
--------------------------------------------------------------------------------
( 57 )
الذين جمعوا ألفاظ القرآن كله دون غيرهم ، وحيث إنَّا قد أوضحنا أن ما فهمه من معنى جمع القرآن غير صحيح ، فإن اللوازم التي ذكرها لا نحتاج إلى تكلّف ردّها ، إلا أنا سنذكرها مع ذلك لبيان فسادها في نفسها ، فنقول :
قال : [ يلزم من ذلك ] تكذيب كل من ادّعى حفظ كتاب الله وجمعه في صدره أو في مصحفه كعثمان وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وغيرهم من مئات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.
والجواب :
لقد نص الحديث على كذب كل من ادَّعى العلم بأحكام القرآن وفهم معانيه الظاهرة والباطنة كما أرادها الله تعالى من غير أئمة أهل البيت عليهم السلام.
أما تكذيب من ادّعى حفظه عن ظهر قلب أو في مصحف فغير مراد بالحديث كما أوضحنا ، بل إن حفظه بهذا المعنى لا يتَّجه إنكاره البتة ، بسبب وقوعه من كثير من الناس حتى الصِّبْية الذين لم يبلغوا الحلم.
اللهم إلا إذا قلنا : إن مَن جمعه في مصحف أو حفظه لم يجمعه كما أُنـزل ، أي مـرتباً على حسب النزول ، بأنْ جَمَع المنسوخ منه قبل الناسخ ، والمكي قبل المدني ، والسابق نزولاً قبل اللاحق ، فحينئذ يصح لنا أن نكذّب كل مَن ادّعى جمعه أو حفظه بهذا النحو.
ومن الواضح أن معرفة تفسير القرآن وفهم معانيه كما أرادها الله سبحانه لم تُدّعَ لأحد من علماء الصحابة وغيرهم إلا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
فقد أخرج أبو نعيم الأصفهاني وابن عساكر وغيرهما عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلا له
--------------------------------------------------------------------------------
( 58 )
ظهر وبطن ، وإن علي بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن (1).
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يخبر بذلك مراراً ، كما أخرج ابن سعد وأبو نعيم وغيرهما عن علي عليه السلام أنه قال : والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت ، وأين نزلت ، وعلى من نزلت ، إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ، ولساناً صادقاً ناطقاً (2).
وأخرج ابن سعد وغيره عن علي عليه السلام ، قال : سلوني عن كتاب الله ، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار ، في سهل أم في جبل (3).
* * * * *
قال الجزائري : [ ويلزم ] ضلال عامة المسلمين ما عدا شيعة آل البيت ، وذلك أن من عمل ببعض القرآن دون البعض لا شك في كفره وضلاله ، إذ من المحتمل أن يكون بعض القرآن الذي لم يحصل عليه المسلمون مشتملاً على العقائد والعبادات والآداب والأحكام.
وأقول :
لقد أوضحنا المراد بالحديث ، ومعنى الحديث لا يستلزم ما ذكره من ضلال أو كفر عامة المسلمين ، بل حتى لو كان معنى الحديث ما زعمه هو فلا يجوز تكفير أحد من أهل القبلة تلقّى القرآن ناقصاً كما مرَّ آنفاً.
وقوله : « إن من عمل ببعض القرآن دون البعض لا شك في كفره وضلاله » غير صحيح ، لأن مَن تلقى القرآن ناقصاً وعمل بما عنده من كتاب الله لا يجوز تكفيره ما لم ينكر شيئاً عُلِم بالضرورة أنه من الدين .
وقوله : « لأنه لم يعبد الله تعالى بكل ما شرع » غير صحيح ، لأن ما
____________
(1) حلية الأولياء 1|65 ، ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق 3|32.
(2) حلية الأولياء 1|68 ، الطبقات الكبرى 2|338.
(3) الطبقات الكبرى 2|338.
--------------------------------------------------------------------------------
( 59 )
يُفترض أنه سقط من القرآن يُحتمل أن لا يكون من الواجبات العبادية ، وعلى فرض كونه منها فقد يكون موضَّحاً في السنّة النبوية الشريفة ، ثم إن مَن لم يأتِ ببعض التكاليف لعذر كالجهل ونحوه لا يوصف بالكفر أو الضلال.
وقال : إذ من المحتمل أن يكون بعض القرآن الذي لم يحصل عليه المسلمون مشتملاً على العقائد والعبادات والآداب والأحكام.
وجوابه : أن احتمال ذلك لا يرفع احتمال عدمه ، فلعل ما يُفترض أنه ساقط من القرآن هو من الآداب والسُنن ، لا من الأصول التي يجب اعتقادها.
ولو سلّمنا بأن ما يفترض سقوطه من كتاب الله هو من العقائد التي يجب اعتقادها ، فلا يلزم من ذلك الحكم بكفر أحد ، إذ يُحتمَل أن تلك المعتقدات كانت موضّحة أيضاً في سنة النبي صلى الله عليه وآله المتواترة التي أخذ بها المسلمون وحفظوها.
* * * * *
قال : هذا الاعتقاد لازمه تكذيب الله في قوله ( إنا نحن نزَّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون ) وتكذيب الله تعالى كفر ، وأي كفر.
وأقول :
إن الاعتقاد بأن الله سبحانه قد اختص أهل البيت عليهم السلام بفهم معاني القرآن الظاهرة والباطنة ، ومعرفة أحكامه كلها ، لا يستلزم تكذيباً لله تعالى ولا لنبيه صلى الله عليه وآله كما هو واضح.
بل حتى لو قلنا : إن القرآن الكريم لم يجمعه أحد من هذه الأمة كما أُنزل إلا أئمة أهل البيت عليهم السلام ، فإن هذا القول لا ينافي الآية المباركة ، لأن المحصَّل حينئذ أن الله سبحانه حفظ الذِّكْر بأئمة الحق عليهم السلام.
--------------------------------------------------------------------------------
( 60 )
وإذا كان هذا الحديث الضعيف المروي في كتاب « الكافي » الدال على أن أهل البيت عليهم السلام جمعوا القرآن بالمعنى الذي بيَّنَّاه ، يستلزم تكذيب قول الله تعالى ( إنا نحن نزَّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون ) ، فما بالك بالأحاديث الكثيرة التي رواها أهل السنة وصحَّحوها ، التي تدل على سقوط كلمات بل آيات بل سوَر من القرآن الكريم ؟!
ألا يدل ذلك على تكذيب الله عز وجل في حفظ كتابه العزيز ، ولا سيّما أن أهل السنة لا يرون أن أحداً من هذه الأمة عنده قرآن غير هذا القرآن الذي هو في أيدي الناس.
وإذا أردت قارئي العزيز أن تطّلع على بعض تلك الأحاديث فإنّا نسوق لك شيئاً منها ، ونقسِّم ما نورده لك إلى طوائف :
( يتبع )
|