عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 06-05-2002, 04:15 PM
khatm khatm غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2002
المشاركات: 148
إفتراضي

وشيعة لبنان لم يرثوا سلكاً من العلماء واسعاً ومتماسكاً، وثمة مناطق في لبنان الجنوبي ومن لبنان الشرقي ترك أبناء الشيعة فيها طلب علم الدين منذ عقود، وأدى هذا الانصراف عن الدراسة على كبار مشايخ الشيعة في النجف إلى ضعف ترتيب رجال الدين رتباً ودرجات، فلم يبرز بين العلماء اللبنانيين من يقر لهم أقرانهم بالصدارة والتقدم على من سواهم؛ فهم مشتتون لم تجتمع كلمتهم على ما فيه صلاحهم، وتفكك جسم العلماء المحلي والوطني ولم تبق له صفة الجسم الواحد وقد دفعت هذه الحالة الحاج سليمان البزي ـ أحد وجهاء الجنوب ـ إلى الشيخ محمد حسين الكاظمي ـ أشهر علماء العرب في العراق وقتها ـ بطلب أحد اثنين: السيد إسماعيل الصدر، أو السيد مهدي الحكيم، وقَبِلَ الحكيم المجيء على أن يُرسَلَ له مئتا ليرة عثمانية ذهباً؛ وطَلبُ هذا المبلغ الكبير أمارة على علم الطالب بعزيز مكانته، وقبولُ وفائه علامة على الاحتياج إلى العالم. كما عزف أبناء علماء كبار أمثال: محسن الأمين، وعبد الحسين شرف الدين وغيرهم عن طلب العلم الإمامي، بل وقد خلع بعضهم العمامة ولم يكمل العلم الشرعي وانصرف لغيره. ولا يخفي جواد مغنية مرارته حين يقول: «إن ثلة من خيرة الشباب العاملي قضوا في طلب العلم والدين سنوات طوالاً، وبعد أن اجتمعت لهم الشروط تحولوا عنه مغتبطين حين وجدوا الفرصة للتحرر والانطلاق، هذه الظاهرة آيات بينات على عدم الثقة بمصير العلم ورجال الدين»(9).

وقد وصف أحد أتباع الصدر في الستينيات حال رجال الدين الشيعة فقال: «إن رجل الدين بيننا قد لبس عباءته ووضع رأسه على يده، ومضى إلى النوم، وهو لا يستيقظ إلا ليقول للآخرين أن يناموا. إن حياتـه عـاطلة، فلا يخدعنكم أنه يتحرك، ذلك أنه يتحرك للرجوع، ورجل الدين هذا يسيء بصورتين: عندما يرجع إلى الوراء، وعندما يجر الآخرين وراءه، لقد امتلأ عقله بأكثر الخيالات التي لا تقبل التصديق»(10).

وقد خاطب أحدهم يوماً عبد الحسين شرف الدين، كبير العلماء الشيعة في جبل عامل قائلاً: «هل كان هناك من يرد لك كلمة أو يعصي لك أمراً، كان الجميع مذعناً خاضعاً بين يديك يتخذ قولك الحد الفاصل بين الحق والباطل، ولو شئت أن ترمي بهم في البحر لما عصوا لك أمراً؛ فهل كانوا مقصرين في السمع والطاعة والإذعان بين يديك، وهل لك أن تعتذر بأن القوم لم يسمعوا ولم يطيعوا؟! كان ذلك إشارة إلى التقصير الشديد للقيادة الدينية في التحرك بمهام الطائفة مع الرغم من توفر ما يعين على ذلك.

لقد كانت الزعامة الدينية في تلك المرحلة عاجزة عن مقارعة الزعامة السياسية والسلطة، وذلك بسبب عجزها عن قيادة الجماهير والتأثير السياسي؛ إضافة إلى قناعتها بأن مجال عملها في الحقل الديني والتوجيه الاجتماعي»(11). «وكان طالب العلم في النجف يقيم مدة تؤهله لإصلاح إحدى القارات الخمس، فإذا عاد إلى بلده لم يحصل له من المال ما يتناوله حارس أو موظف بريد، فانحطت مكانة عالم الدين الاجتماعية والأدبية انحطاطاً ذريعاً، حتى لقد أخذ بعضهم على أهل جبل عامل ضنهم على العالم بالرغيف!!»(12).

وقد تسببت هذه الحالة في حسرة ومرارة شديدة لدى الشيعة، حيث مثلت هذه الحالة حائطاً كبيراً أمام تحقيق الأحلام المنشودة، ولهذا يقول وضاح شرارة: «ولا شك أن انصراف طلبة العلم الديني الإمامي إلى غيره وإحجام أبناء من استووا أعلاماً على التشيع، ليس في جبل عامل أو لبنان وحده، بل العالم العربي والإسلامي «الشيعي» كله عن اقتفاء سنة آبائهم، ظهر ذلك بمظهر تنكُّب تاريخ برمته، ولما كانت الجماعة العاملية التي جرى مثقفوها من علماء وأفندية وأساتذة على تسميتها بـ «الأمة» أناطت بتشيعها وببلائها وبلاء علمائها في حفظ التشيع ورعايته واستمرارها واستقلالها، وقع انقطاع المنقطعين عن طلب العلم النجفي عليها وعلى مثقفيها وقوعاً قاسياً وأليماً»(13).

وقد كان من أسباب اضمحلال التعليم الإمامي في لبنان والعزوف عنه أنه كان يؤخذ على جامعة النجف ـ إضافة إلى البعد المكاني ـ انزواؤها وانكفاؤها، وبعدها عن العالم المحيط بها ومشكلاته وقضاياه، وإذ تركها من تركها منهم أقبل على السياسة وعلى الحياة السياسية إقبال النهم وباشرها كتابة ودعاوة وتظاهراً وتنظيماً، أما من لم يتركها فقدم الدعوة إلى الإصلاح. واعتبر بعضهم أن أصل البلاء: هو عجز العلماء عن مماشاة العصر، وقال: «تطورت الحياة وجمدنا، وتكلم العصر وخرسنا، إن على العالم أن يتصل بجميع طبقات الشعب اتصالاً وثيقاً ويحيط بأحوالها مباشرة، ويسير بحسب التطور مع المحافظة على الدين الحقيقي»(14).

وبهذا فقد تمثلت المأساة الإمامية في لبنان في أمور عدة نوجزها بالآتي:

1 ـ غياب القيادة الدينية التي تمثل مرجعية واعية لتحقيق أحلام الطائفة.

2 ـ انكفاء العلم الإمامي على نفسه وعدم مواكبته لمتطلبات العصر.

3 ـ انحطاط مكانة العلم والعلماء بين عامة الناس وخواصهم.

4 ـ بُعد المدارس الدينية الشيعية الكبرى والذي يتطلب شد الرحال إليها والتحصيل منها مبالغ مالية كبيرة، وهو ما لم يكن في مستطاع الكثير من الناس وقتها.

5 ـ انصراف أبناء العائلات الدينية الكبيرة والمشتهرة بـ «بيوت علم ودين» عن طلب العلم الإمامي لأسباب مضت.

وهكذا اكتملت صورة المأساة للواقع الشيعي في لبنان، ولكن مع نهاية منتصف القرن العشرين الميلادي كانت هناك بدايات جديدة لحياة جديدة.

------------------------------
(1) أمل والشيعة، 47 ـ 48، وراجع الجنوب اللبناني في الجغرافيا والتاريخ، هاني فرحات، مجـلة الباحث، العـددان، 20، 21، ص 109 ـ 127، وهو عدد مزدوج خاص بعنوان: الجنوب اللبناني.. قضية وتاريخ.
(2)أمل والشيعة/ 43.
(3)تاريخ جبل عامل/ 106.
(4 ، 5) المصدر السابق، ص 168، 301.
(6)المصدر السابق، ص 168.
(7)المصدر السابق، ص 107، وراجع: هاني فرحات، الجنوب اللبناني في الجغرافيا والتاريخ، مصدر سابق.
(8) محمد جواد مغنية، الوضع الحاضر في جبل عامل، ص 58، نقلاً عن دولة حزب الله، ص 26.
(9)جواد مغنية، المصدر السابق، ص 24 ـ 29.
(10)الإسلام الشيعي، ص 189.
(11) راجع: غسان الشيخ علي، السلطة السياسية في جبل عامل بعد سنة 1920م، مجلة الباحث، العـددان، 20، 21/ يناير ـ فبراير 1982م، ص 102 ـ 103.
(12)الوضع الحاضر في جبل عامل، ص 47 ـ 48، 232.
(13)دولة حزب الله، ص 30 ـ 31.
(14)الوضع الحاضر في جبل عامل، مغنية، ص 43.

التثويـر قبل الثـورة
==========

دفعت هذه المرارة بعض علماء الشيعة إلى النظر بجدية للواقع اللبناني، كما كان النظر منصرفاً لحال بقية الأمة الشيعية؛ فخلال الفترة السابقة للثورة كانت الأفكار الثورية حول الحكم تتطور وتُفَصَّل في أوساط القوى المعارضة للشاه في عملية ملحوظة من التفاعل الشيعي الشامل. لقد مثلت المدارس الدينية في قم بإيران وفي النجف بالعراق _وخاصة الأخيرة_ دوراً جاذباً ونقطة التقاء للعلماء والفقهاء من إيران ولبنان والعراق؛ حيث أُرسِيَت الأسس من أجل رؤية عالمية مماثلة ـ وإن لم تكن متطابقة تماماً ـ وشبكة من الصداقات الشخصية والولاءات السياسية الدينية التي كان لها أثر هام على المنطقة ككل. كان من بين رجال الدين الشيعة اللبنانيين الذين برزوا من هذه الشبكة الإمام موسى الصدر، ومحمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسين فضل الله. وقد سبق أولئك النفر جميعاً في الاهتمام بحال الشيعة المتردية والسعي إلى إصلاحها محمد جواد مغنية(1) الذي كانت علاقاته تشوبها التوتر مع موسى الصدر.

«أما قائمة العلماء الناشطين الآخرين فكانت تضم محمد باقر الصدر الذي تابع تشكيل (حزب الدعوة) في العراق والذي كان الحزب البشير لحركات شيعية أخرى في المنطقة، ومن خلال توليه منصباً تدريسياً في النجف بين عامي 1965، 1978م كان آية الله الخميني وزملاؤه المتمركزون في إيران في قلب هذا المرجل الفكري والسياسي. إن العلاقة بين الإمام الصدر ورجال الدين الشيعة اللبنانيين الآخرين والخميني قد ساعدت في تأسيس الروابط التي سوف تسهِّل فيما بعد دخول إيران الثورية إلى الساحة اللبنانية، وعلى الرغم من الطبيعة الشيعية الخاصة بمدرسة النجف فإن هذه التجمعات ربما تكون بذلك قد ساعدت على التخفيف من حدة الطائفية الضيقة للعقيدة الثورية الجديدة»(2).

وهكذا فقد مثلت المدارس الشيعية الكبرى بؤراً أساسية لتجميع الملالي وتوحيد الأفكار الثورية، والتي كان على رأسها دولة شيعية كبرى تضم إيران والعراق ولبنان في بداية الأمر(*)

وعندما نظر علماء هذه المدارس إلى الحالة اللبنانية التي هي أحد أضلاع مثلث الحلم، كان لا بد من تذليل العقبات الكبرى التي تواجه تحقيق هذا الحلم، وكان التركيز العلاجي متوجه لحل الإشكاليات الخمس السابقة الذكر، وكان ذلك بسلوك خطين متوازيين في وقت واحد، يلتقيان في مرحلة ما فيشكلان نقطة انطلاقة واحدة، وكان الخطان هما: التثوير السياسي، والتثوير العلمي الديني، ثم ينتهيان إلى الثورة المسلحة.

---------------------------
(1)راجع ترجمة له في: الإسلام الشيعي، ص 190 ـ 192.
(


--------------------------------------------------------------------------------

) سوريا وإيران: تنافس وتعاون، أحمد خالدي، حسين .ج. آغا، ترجمة: عدنان حسن، دار الكنوز الأدبية، ط 1/1997م، ص 19 ـ 20.
(* ) بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وبعد الإحساس بتوطيد القدم الشيعي بشكل أكبر في لبنان وفي إحراز مكاسب كبيرة للطائفة، كتب أحد أبناء هذه الطائفة يقول: لقد وضعتنا المقاومة الإسلامية وأجبرتنا على التعامل مع «الميدان أولاً» كأساس في الصراع مع الاستبداد والهيمنة والديكتاتورية، الأمر الذي يدفعنا إلى مزيد من العمل على تأكيد مبدأ «الميدان أولاً» لإزالة القمع الممارس ضد أهلنا وشعبنا في العراق. انظر: ماجد الأسدي، حزب الله مشروع لتحرير الأرض والإنسان، جريدة العهد، العدد: 582، 2/6/2000م.
__________________
khatm