وسئل في حوار معه (4) : بالأمس دعوتم إلى التدرب على الحب «كما تدربنا على السلاح في لبنان» فهل يعني ذلك أن زمن السلاح قد ولى برأيكم؟ فأجاب: «ليس من الضروري أن يكون زمن السلاح في المطلق ولى؛ لأن الحياة تحتاج بحسب طبيعتها إلى حركية السلاح وترتبط بها في الجانب الإيجابي أو السلبي؛ لكن المسألة التي أحب أن أؤكد عليها دائماً أن قضية الحب هي قضية الحياة، بحيث إنك عندما تملك السلاح ، يجب أن تعيش معنى الحب في حركية السلاح في يدك؛ بحيث لا تحركه إلا من خلال خدمة الإنسان وخدمة الحياة بدلاً من أن تحركة لإسقاط الحياة، ومن المؤسف أن الناس لا يتدربون على الحب بل إنهم يتدربون على البغض والحقد حتى أصبحنا نتحدث عن الحقد المقدس وعن البغض الإنساني». هذا الكلام يجب أن نتذكر معه قول فضل الله وهو يخاطب جمهور المصلين في بلدة النبي عثمان قائلاً: «وعلينا أن نخطط للحاضر والمستقبل؛ لنكون مجتمع حرب!!»(5).
ثم يحاول الهروب من دوره في تعبئة الناس للحرب والتأكيد على دوره في ذلك في آنٍ واحد بقوله: «لا بد للشعب أن يعبر عن نفسه؛ ويأتي التعبير إما عبر الوسائل التقليدية، أو بغير الوسائل التقليدية؛ ولهذا نجده اختار الهجوم الانتحاري، وهذا شكل آخر من أشكال الصراع ويعتقد من يفعل ذلك أنه يصارع إذا حوَّل نفسه إلى قنبلة حية، ويصارع أيضاً لو كانت هناك بندقية في يـده، ولا فرق أن تموت بقنبلة في يدك أو أن تفجر نفسك، وهذه المفاهيم التي أتحدث عنها مفاهيم عقلية!! في مواقف الصراع، أو في الحرب المقدسة عليك أن تجد أفضل الوسائل لتحقيق أهدافك، نعم إنني أتحدث عن الشعب الذي يواجه الخطط الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، لكنني لم أقل لهم على وجه الخصوص «فجروا أنفسكم» وقد سمعت من يتهمني بأنني أبارك الهجوم، أنا في الواقع أدعو إلى الحرية، إنني أدعو إلى التحرر من الاستعمار. إذا كان الاستعمار يظلم الناس فعلى الناس أن يحاربوه، أما أن نقول إني أتزعم الناس في أعمال عنف فلا». ثم يلتفت ويستدير للوجهة الأخرى من سياسته ويقول: «إننا يمكن أن نأتي بالتغيير في لبنان بتعليم الشعب وتنويره داخل المؤسسات الاجتماعية، وهناك طرق أخرى يمكنك أن تلجأ إليها، أن تبدأ بإقناع الناس، وهي نفس الطريقة التي يعظ بها المسيحيون، أو يفعلها الماركسيون ـ حتى لا يكون شاذاً في عرضه ـ إنك حين تقنع الأغلبية السائدة بأن تهتدي بالإسلام يكون وقتها لدينا الظروف السياسية المناسبة، ووقتها تستطيع أن توجد جمهورية إسلامية»، ثم يعرِّج على الدور العام للخدمات الاجتماعية الكبيرة التي يقدمونها للناس بقوله: «إن قوتنا تكمن في قدرتنا على صنع الناس والجماهير، وعلى أن نضع أوامرنا موضع التنفيذ؛ إنهم ينفذون أوامرنا؛ لأنهم يعرفون أننا أقرب الناس في تحقيق مطالبهم»(6).
فهذه عجالة من أفكار الرجل(7) التي يُبَيّنُ أهدافَها الواقعُ، كما تَبِينُ مراوغاتها الفكرية، وقد حقق فضل الله ـ كما حقق الصدر ـ عدة نجاحات هامة للشيعة في لبنان نوجزها فيما يلي:
1 ـ توطين العلم الإمامي:
كانت إحدى الإشكالات الكبرى التي تواجه المجتمع الشيعي اللبناني بُعد المدارس الدينية الكبرى، وكثرة المعوقات التي تحول دون الالتحاق بها، وكان من أكثرها تعويقاً للاتصال بها تلك المعاناة المالية التي لا بد أن يتحملها الطالب وأهله طوال مدة طلبه للعلم الإمامي، لذا كان الدور الذي أُنيط بفضل الله عند عودته من النجف أن ينقل معه هذه المدرسة في صورته وصورة مهدي شمس الدين، وتم اعتماد ذلك على أنه بمثابة السفر إلى النجف أو إلى قم، فأنشأ فضل الله «المعهد الشرعي الإسلامي» وبدأ في التدريس فيه، وأنشأ كذلك جمعية أسرة التآخي وحسينية الهدى، ثم بدأت المدارس في الانتشار فيما بعد.
كما تم اعتماد سياسة تعليمية تسهل الالتحاق بهذه المدارس، وقامت هذه السياسة الجديدة على:
1 ـ تكثير المدارس ونشرها في الأرياف الشيعية والضواحي، وحيث تكثر تجمعات الشيعة .
2 ـ إجراء وظيفة أو رواتب على الطالب.
3 ـ قبول الطلبة من غير شرط مدرسي أو شرط يتعلق بالسن(8). وقد أتاحت هذه السياسة للطلبة الانسلاخ من الأهل الذين يعارضون فكرة الالتحاق بهذه المدارس للعوارض السابقة، كما ساعدت على تكثير سواد الطلبة الجدد.
2 ـ تطوير العلم الإمامي:
كانت التقليدية والجمود الذي أصاب العلم الإمامي إحدى الإشكالات التي كان ينبغي التوجه إلى علاجها والتأكيد عليها، وكان مما قاله الخميني في ذلك: «قدِّموا الإسلام للناس في شكله الحقيقي، حتى لا يتصور شبابنا أن وظيفة رجال الدين أن يجلسوا في أحد أركان النجف أو قم لتدارس أمور الحيض والنفاس، بدلاً من شغل أنفسهم بالسياسة، ومن ثم يستنتج الشباب أنه يجب فصل الدين عن السياسة»(9).
«والمعهد الشرعي الإسلامي سعى إلى إخراج «العلم» الإمامي بلبنان، من شرنقة العائلات الدينية التقليدية، وقصد إلى جلاء صورة جديدة لرجل الدين تميل به عن صورة «الشحّاذ»، العاطل عن العمل، أو واعظ الناس «مواعظ تقليدية»، ومحدّثهم في الصلاة والصوم، ومرغبهم في الجنة، إلى صورة، بل إلى حال مختلفة يصح معها نزوعه إلى دور الولاية العامّة، وإلى محلّ الصدارة في ميادين النظر والعمل كافة، فأقبل على المعهد الشرعي الإسلامي طلاب حرص بعضهم حرصاً شديداً على الظهور بمظهر محصّلي العلم «العصري»، وعلى النجاح أو التفوق في مضماره ، ورمى الطلاب، ومرشدوهم، من وراء ذلك، إلى رفع ما لحق برجل الدين التقليدي من ازدراء به، وإلى محو وصمة البطالة والفراغ والجهل عنه. فلا يؤول ذلك إلى نفض الغبار عن دوره فحسب، بل تحلّ قوة العلم في دعوته وفي كلامه ومواقفه، ويشق الطريق أمام المحتذين على مثاله والمقتدين به، فيتكاثر عدد السالكين طريق علوم الدين. وجمع طلاب المعهد بين التحصيل الديني وبين أنشطة حياة عادية ووجوهها. ومثل هذا الجمع ضروري وحيوي للدعوة وحزبها»(10). «ولا يخفي القائمون على الحركة الإسلامية الشيعية بلبنان ما يتوقعونه من طلبة المدارس الدينية بمثل ما يقدمه الثوريون المحترفون قُوّام الحزب الشيوعي اللينيني والستاليني، من مرونة العمل، والتعبئة السريعة والانتشار العريض في ثنايا المجتمع الذي يعملون لأجل حكمه، والقبض على أزمَّته؛ فهؤلاء الطلبة هم الأطر، والكوادر ـ بحسب الاصطلاح الشيوعي ـ فهم من يُسرع إلى الاشتراك في الحرب وفي العمليات الخطيرة»(11).
وقد صب هذا التطوير للتعليم الديني في مجرى تحقيق الهدف الأساس من تحويل المجتمع اللبناني الشيعي إلى دولة شيعية قد تتوافق بداياتها مع البدايات الإيرانية أو تلحق بها فيما بعد فلا تقتصر السياسة على الوجه المتصل بالمدارس والتدريس، وعلى سلك العلماء وإعداده، فهي تعد الجسم الديني بغية تأطير «المجتمع الإسلامي» وقيادة المعقل الشيعي، فما العلماء، والطلبة من بعدهم وورائهم، إلا المبلِّغون عن الثورة، وعن مرشدها، ودولتها، وحوزاتها، وقد أوْلى التراث الشيعي العلماء والمبلغين والدعاة دوراً خطيراً، وأناط بهم نقل العلم الإمامي، أو الأدلة إليه. فكان التشيع الإمامي بين أُولى الفرق التي برعت في إعداد الدعاة وتنشئتهم ووضع رسوم عملهم. ولا يستقيم عمل العلماء الدعاة إلا بتدبير يتناول مواضع الدعوة ومطارحها ومظانها، وهي المساجد والنوادي الحسينية وغيرها.
---------------------------
(1) من سكان بئر العبد في الضاحية الجنوبية. هو ابن آية الله السيد عبد الرؤوف فضل الله، من قرية عيناتا الجنوبية، ولد السيد محمد حسين فضل الله في مدينة النجف العراقية في عام 1935م أو 1936م. ودرس على يد آية الله أبو القاسم الخوئي، من كبار مراجع الشيعة في العالم. قدم فضل الله إلى لبنان في عام 1966م وأقام في النبعة في ضاحية بيروت الشرقية، وعيّن في عام 1976م وكيلاً للإمام الخوئي (ممثله الشخصي) في لبنان. أقام في النبعة ـ حيث وعظ وكتب ـ إلى أن استولى عليها حزب الكتائب في 1976م فاضطر لمغادرتها كما فعل جميع سكان الحي من الشيعة. انظر ترجمة وافية له في: «العلاَّمة فضل الله وتحدي الممنوع» علي حسين سرور، الشركة العامة للخدمات الإنمائية، الطبعة الأولى، 1413هـ ـ 1992م.
(2)أمل والشيعة: 168 ـ 169.
(3)حوار نشر ضمن حلقات الإسلام والكونجرس الأمريكي، أجراه معه. د. جورج نادر، ونُشر تحت عنوان: قراءة في فكر زعيم ديني لبناني، الأعداد: 953، 954، 955 من مجلة المجتمع.
(4)جريدة الأنباء الكويتية، العدد: 8364/29/8/1999م.
(5)جريدة النهار اللبنانية، 14/5/1986م.
(6)قراءة في فكر رجل ديني لبناني، مجلة المجتمع، الأعداد: 953، 954، 955 مصدر سابق.
(7) يمكن مراجعة كتابه: «الحركة الإسلامية هموم وقضايا» دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1412هـ ـ 1991م، وكتاب: قضايا إسلامية معاصرة، حوار مع السيد محمد حسين فضل الله» لـخالد اللحام، دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1413هـ ـ 1993م.
(8) انظر: دولة حزب الله ، 135 ـ 136 ، 155 ـ 156.
(9) الدين والسياسة والاتجاهات الأيديولوجية في إيران المعاصرة، ص 42.
(10)وضاح شرارة، ص 88 ـ 89.
(11)المصدر السابق، ص 161.
تابع انشاء الله
__________________
khatm
|