كمون «حزب الله»
=========
كان محمد حسين فضل الله في ذلك الوقت يمارس دوره بهدوء بعيداً عن ضوضاء الصدر وحركته، وكانت عناية فضل الله ـ كما ذُكر قبل ـ متوجهة إلى التربية المنهجية لإعادة العِلم الإمامي الديني وتوطينه وتطويره، ولم تكن تلك المهمة لتمتد أكثر من ذلك؛ فقد بدأ الزرع يُخرج بعض الثمار، فبدأ «أبناء فضل الله» بالانتشار في نسيج المجتمع اللبناني، ومد أذرعهم في جنباته، وبالرغم من هذه الخطوة إلا أنهم لم يستطيعوا الإعلان عن هويتهم؛ إذ ما زال فيهم من الضعف ما يمنعهم من ذلك، فكان لا بد من الاحتماء بـ «أمل».
«فكانت الحركة الصدرية واقية لأنصار الدعوة والإسلاميين الخمينيين في حال ضعفهم، وحتى إعلانهم الاستقلال السياسي والعسكري، إلا أنهم في هذه الأثناء كانوا يعملون عملاً حثيثاً على بناء النواة التي في مستطاعهم إنشاء معقلهم حولها. فاتخذ محمد حسين فضل الله من مسجد الإمام الرضا ببئر العبد جامعاً ومدرسة ومنبراً ومجلساً ومكتباً، وأقام قريباً منه، ولم ينتقل وحده إلى بئر العبد، بل انتقلت معه جمعية أسرة التآخي التي رعت بناء الحسينية بالنبعة، فتملكت مكتباً قرب المسجد، ورعت مستوصفاً في الناحية نفسها. وانحاز أولئك إلى مواضع سكن جديدة، إلى المسجد وتحصّنوا فيه وبه، وامتنعوا به من الأيدي التي قد تمتدّ إليهم من خصومهم وأعدائهم. فحل المسجد أو أماكن العبادة عامة محلّ النواة العائلية الصلبة التي اتقى بها غيرهم طغيان الحركات السياسية والعسكرية، أو هذا ما سعوا إليه ولم يبلغوه بهذا القدر أو ذاك إلا بعد سنوات من العمل الدؤوب، فامتنعوا في حالة الضعف بالحركة الشيعية الجماهيرية التي انشأها ورعاها موسى الصدر، وسهروا وهم في صفوف هذه الحركة على الدعوة إلى أفكارهم وخطهم، كما سهروا على أخذ مواقع ومعاقل في أبنية الحركة الصدرية. فكان منهم حسين الموسوي الناطق باسم حركة «أمل» وعضو مكتبها السياسي حتى صيف 1982م؛ وكان منهم السيد إبراهيم الأمين رئيس مكتب حركة «أمل» بطهران حتى التاريخ نفسه»(1). وبالرغم من هذا الاحتماء بـ «أمل» إلا أنه لم يكن في حسبان الحركة الشيعية في لبنان أن تكون «أمل» هي صورتها الدائمة والمستقبلية ولا قائدة مسيرتها؛ إذ الصورة المطلوبة هي ذلك المثال «الإيراني» لا المثال «العلماني» الذي تدين به أمل، ولسوف يأتي اليوم الذي يخرج فيه الطائر ويكسر «قشرة البيضة» التي احتضنته لا محالة.
وفي ذلك الوقت لم تكن ـ كذلك ـ قد تبلورت الأفكار والمناهج والتصورات السياسية لـ «حزب الله» بل لم تكن تسمت هذه المجموعة بهذا الاسم، إلا أنها كانت تعيش أهم مستلزمات العمل الثوري، وهو ما أسمته الحركة بـ «الحالة الجهادية» أو «الحالة الثورية» أو «الذهنية الثورية» وكان الوصول إلى هذه الحال أساس التعليم الإمامي في الحوزات والحسينيات، فكان «لا بد للعلم من جهاد يكمله ويتكامل معه» وكان من لوازم التخرج من الحوزات العلمية أن تنتقل به إلى «ساحات الجهاد» وأصبحت هذه «الحال الجهادية» هي الحال التي يتمنى كل فرد منهم الوصول إليها؛ إذ هي تصل بصاحبها لـ «الشخصية المتكاملة» ولقد كان السعي لها لتتحقق أمنية الأماني: التمتع برؤية «الإمام الحسين»!! فهذا «(أبو هادي) كان على هذه الحال، وهو فتى في الثالثة عشرة، سمع أحد العلماء يتكلم عن استقبال الحور العين للشهيد حين يسقط على الأرض مضرجاً بدمه، فصرخ في العالم، وقال: «دع الحور العين لك أنت وحدك! أما أنا فحدثني كيف وأين أرى الإمام الحسين»!! ويعلق وضاح شرارة على ذلك فيقول: وهذه ـ أي رؤيا الحسين ـ هو ما يردد الرغبة فيه كل شهداء المقاومة الإسلامية بلبنان، وما يعربون عن الأمل في الحصول عليه، ويقاتلون في سبيله، ويرون فيه ثمناً لبذلهم دمهم وحياتهم. وتعمد التعبئة النفسية هذه إلى خلق المشهد والاحتفال اللذين يمهدان لهذه الرؤيا، ويبعثان على إرادتها إرادة لا ترد، ولا ينفع في دفعها أو ضبطها حساب أو رابطة من الروابط الإنسانية»(2). وعندما بدأ «حزب الله» في العمل العسكري أبقى منفذي العمليات الكبيرة التي قام بها ـ مثل تفجير موقع القوات الأمريكية والفرنسية والحاكم العسكري الإسرائيلي في صور ـ بقوا قيد الإغفال والإخفاء، وكان هذا الإغفال عاملاً مهماً في تماسك الحركة في بداياتها المتفجرة، وعدم لفت الأنظار إليها، وهي لم تستوِ بعدُ.
------------
(1)دولة حزب الله، 197 ـ 199.
(2)السابق، 282.
الخروج من الشرنقة
أولت الحركة الإسلامية الخمينية في لبنان أمر المساجد والمدارس الدينية الاهتمام الكبير؛ إذ هي في تلك المرحلة محاضنها وبيوتها التي تحميها من حمأة الانصهار في جحيم المجتمع بحربه المستعرة والحركة ما زالت في مهدها «الثوري»، وإذ هي مدارس العلم وحوزاته كذلك. وتكلم مهدي شمس الدين عن دور المسجد الهام بالنسبة إليهم في هذه المرحلة وبتلك الاعتبارات، فقال: «إن المسجد في تاريخ الإسلام كان كل شيء. وعزا تخلف المسلمين إلى تحوُّل المسجد إلى مصلى خالص، واختصاصه بالصلاة دون غيرها، فنشأ عن الاختصاص هذا، وعن زوال المسجد عن الدور الجامع: الديني والتعليمي، والعسكري، والسياسي، والاجتماعي الذي كان ينهض به أن استعاض المسلمون عنه «بفكرة الحزب والتنظيم والنادي والجمعية والرابطة الخيرية» فازدهرت هذه كلها على أنقاض دور المسجد، وازدهرت معها المشاريع «الخاصة» مثل المؤسسات التي «تخرِّج مهندسين وأطباء وصيادلة كثيرين»، وانصرف الناس عن «المشروع العام الذي يتصل بمستقبل الأمة»، وضاعت «قضية الأمة» بضياع المدارس الدينية و «غيابها» لذا، فافتتاح المدارس الدينية يقوم مقام «الأساس»: المسجد والمدرسة الدينية يقومان على كتاب الله وسنة الرسول»(1).
ولهذا فقد اتخذت الحركة طريقها الأول عند الخروج من الشرنقة لعمل حزام من المساجد والمصليات تتحصن بها، ولتؤدي من خلالها دورها المنوط بها من تحويل المجتمع إلى وجهة أخرى، وكان لهذا الحزام دور هام في انتشار الحركة وتوسعها على ما نرى.
تابع انشاء الله
__________________
khatm
|