عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 13-05-2002, 05:38 AM
مراقب الاسلامية مراقب الاسلامية غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2002
المشاركات: 60
إفتراضي

منطق الحلول السياسية في الحضارة الإسلامية

لا نتصور المسلمين خارجين عن سنن التاريخ البشري؛ لذا فإعادة قراءة منطق الخلاف في سياقاته التاريخية هام.

والمعلوم أن المسألة السياسية قد كانت منطلق الحرب الأهلية/المذهبية التي عاشتها الحضارة الإسلامية منذ مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه إلى الآن بين الفريقين، والمعلوم كذلك أن هذا التاريخ ما يزال يعرض عرضا عقديا فيعتبر صراعا بين حزب الملائكة وحزب الشياطين بلغة القدماء وحزب التنويريين وحزب الظلاميين بلغة المحدثين. ومن عجائب الأمور أن هذا العرض مشترك لعموم المفكرين من السنة والشيعة. وكان الإنصاف يقتضي أن يُقرأ التاريخ بعين ناقدة وموضوعية تبين أن المواقف التي تتغاضى عن شروط بناء الحضارات الجديدة قد حالت دون هؤلاء المفكرين وفهم دور بناة الدولة الإسلامية الأولى والضرورات التي جعلتهم يكونون ما كانوا ويفعلون ما فعلوا، بغير حاجة ولا حكمة من إعادة تدويرنا للتاريخ ولا للنزاع.

فالخلاف الذي حصل حول خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم عبر عن نفسه بصيغتين، إحداهما كانت صريحة عاد بمقتضاها المسلمون (الذين كان جلهم من العرب في بداية الدعوة) إلى الانقسام بحسب محور لم يتخلص بعد من العصبيات الجاهلية، ويرمز إليها عبارة: "منا أمير ومنكم أمير". والثانية كانت ضمنية وشرع المسلمون في ولوجها، وفيها سيصبح الانقسام بحسب محور بات قريبا من مذاهب الحكم التي ستتحدد لاحقا، ويرمز إليها تأخر الإمام علي في المبايعة. أما الحل الذي حصل في التاريخ فكان بالضرورة أشبه بعدم الحل منه بالحل مما آل بالأمر إلى الحرب الأهلية التي يحدد خصائصها المبدآن اللذان تتضمنهما الصيغتان بعد أن وصلا إلى صورتهما الكلية: فمبدأ العصبية الجاهلية اتسع ليصبح مبدأ العصبية القومية، ومبدأ العصبية السياسية اتسع ليصبح مبدأ العصبية العقدية. وهما المبدآن اللذان حكما الحرب الأهلية التي تكونت في ظلها الحضارة الإسلامية وازدهرت رغم كونها قضت على وحدة الدولة الإسلامية. وقد عمل هذان المبدآن بالتناوب والتصاحب على النحو التالي: فالصراع العقدي تغلب في الأول (الحرب الأهلية كانت عقدية في بدايتها)، ثم انقلب إلى الصراع القومي (حيث تبنت الشعوبية الفارسية الدعوة الشيعية الخالصة بعد أن فشلت محاولة الجمع بين الدعوتين العباسية والعلوية)، ثم عاد الصراع العقدي (ثم أصبح الصراع بين الشيعة عامة بقيادة الفرس والسنة عامة بقيادة الترك)، ثم عاد الصراع القومي (بين الأتراك والعرب) فكان القشة التي قصمت ظهر الخلافة. لكن هذا التناوب لم يستثن التصاحب لكون كل قومية كان الصراع فيها متضمنا للصراع بحسب العقيدة؛ إذ إن كل قومية من قوميات الأمة كانت تتضمن المذهبين مع غلبة التشيع على الفرس لذلك آلت إليهم قيادته حينا، والتسنن على الترك لذلك آلت إليهم قيادته حيناً آخر، فحال هذا الأمر دون التمييز بين البعد العقدي والبعد الشعوبي في الصراع بين المذهبين.

وهذه الحرب بدأت منذ توقفت محاولات الخليفتين الأولين تأجيلها بسعيهما الحثيث إلى تخليص الأمة من تطرف المبدأين.

فالمبدأ القبلي انضم إليه بُعْد الشعوبية ليصبح صراعا قوميا فبعث الوعي بالقومية الفارسية وكون الوعي بالقومية العربية (وهو أمر لو لم يحصل لما وجدت آداب الأمتين اليوم بين أيدينا). والمبدأ السياسي انضم إليه بعد المذهب ليصبح صراعا عقديا؛ فكون الوعي بالفهم السني والوعي بالفهم الشيعي للرسالة المحمدية (وهو أمر لو لم يحصل لما وجد فكر الإسلام الفلسفي والكلامي في أهم معضلات الوجود الإنساني عامة والمسألة السياسية على وجه الخصوص). وقد تراكبت المقابلتان تراكبًا جعل الصراعين متواليين في التاريخ الإسلامي بالتداول (بين العرب والفرس ثم بين الفرس والترك ثم بين العرب والترك)، ومتصاحبين دائمًا في كل قوم من أقوام الأمة الإسلامية (بين السنة والشيعة من هذه الأقوام جميعا). وذلك –لحكمة الله- كان هو سر حيوية الحضارة الإسلامية. ولا معنى لهجاء مثل هذه الظواهر ومدح مقابلاتها. فتوسع المبدأ القبلي إلى مبدأ العصبية القومية وتوسع المبدأ الحزبي إلى مبدأ العصبية العقدية لم يقضيا على وحدة الحضارة الإسلامية رغم قضائهما على وحدة الدولة فتمكنت الأمة من تحقيق دورها الكوني بتوحيد غايتها، أعني طموح الأمة الروحي أو نشر الرسالة المحمدية (القضاء على الردة وتوحيد القرآن الكريم في المصحف العثماني) وتوحيد أداتها، أعني طموح الأمة التاريخي أو تكوين دار الإسلام (توحيد المسلمين ضد العدو الخارجي ببداية الفتح خارج الجزيرة)، فكان التوسع الجغرافي والتأثير الحضاري، وكان الجدل الفكري والصراع التأويلي أساسًا لكل الفلسفات الإسلامية.

ومن ثم فلا معنى حسب رأينا للموقف المتحسر على ما كان ينبغي أن يكون فما كان حصل وما وقع، والذي علينا أن نفهمه لتكوين من نتمنى تحقيقه بحسب مبدأ العمل على علم. وعلينا أن نبحث في طبيعة الخلاف السياسي الذي لم يكن خلافا طرأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يتصور البعض بل كان خلافًا موجودًا حتى في حياته لكونه من جوهر الرسالة الإسلامية ذاتها: فالرسالة التي تختم الرسالات ينبغي أن تتضمن بطبعها أعقد مشكل عرفه العقل الإنساني: كيف يكون الأمر في إدارة الشأن الإنساني الديني والسياسي بعد توقف الوحي الذي يختم الوحي وحتى قبل هذا التوقف كما في حالات تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم تصرفًا غير مستند إلى الوحي؟ فأهم مفارقات الدين الإسلامي التي هي جوهره موجودة فيه منذ حياة الرسول حتى وإن لم تبرز بوضوح إلا بعد وفاته. إنها مميزه الأساسي الذي جعله يقوِّم تحريف الدينين المتقدمين عليه صراحة (المسيحية واليهودية)، ويصلح تحريف الفلسفتين المتقدمتين عليه (اليونانية والرومانية).

فليس أساس الحكم ربوبيًا (ثيوقراطيًا)، وإلا أصبح ختم الوحي غير قابل للفهم؛ إذ من شرط هذا الحكم أن يكون الوحي محتاجا لتوالي الأنبياء أو لمؤسسة الأوصياء التي تنوب عنهم (الكنيسة: الجماعة الروحية/ أحبار الشعب المختار). وليس أساسه بشريًا (أنثروبوقراطيًا) كما هو الشأن في الفلسفات، وإلا أصبح وجود الوحي غير قابل للفهم؛ إذ من شرط الحكم الأنثروبوقراطي أن يكون العقل مكتفيا بتوالي العقلاء أو بمؤسسة الحكماء التي تنوب عنهم (الجمهورية: الجماعة العقلية). إنما الأساس أمر فريد النوع: وهو تنظيم رابطة بين الديني والسياسي يكون فيها الديني غير مستثن للسياسي والسياسي غير مستثن للديني، وكلاهما على أرضية إنسانية عقلانية، ولهما مظلة من الوحي هادية. وهذا يقتضي أن تكون الأمة كلها -بالشورى الملزمة- مشاركة في السلطانين الروحي والعقلي تحديدا للغايات والأدوات وقياما بالأمرين قياما ذاتيا، والمشاركة فيهما بآليات ومؤسسات وإجراءات تم ترك تحديدها للاجتهاد البشري كفرض عين. وكل تحريف لطبيعة النظام السياسي حصل في تاريخنا كان مصدره جعل هذه المشاركة فرض كفاية، وعجزا عن تصور المؤسسات والآليات التي تحقق فرض العين هذا، أعني أساس البيعة العامة أو الديموقراطية الحقيقية.

تلك هي صيغة المفارقة التي كان على الفكر الإسلامي علاجها وهي صيغة طرحها الإسلام لتجاوز الحلين اللذين يعتبرهما محرّفين، أحدهما صراحة، والثاني ضمنا (الحل العبراني المستند إلى الاستبداد الذي تبرره النخبة الروحية، والحل اليوناني المستند إلى الاستبداد الذي تبرره النخبة العقلية). وهما حلان عرفتهما ومارستهما الرقعة الحضارية التي بُعث الإسلام في قلبها. لكن قلة من المسلمين ألغت هذه المفارقة بسرعة عجيبة، وأحلّت جمع خصائص الحل العبراني وخصائص الحل اليوناني، متناسية نفي الإسلام الصريح لفرعي هذين الحلين. ويبدو هذا المهرب من دعوة الإسلام كما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم معقولاً ومتناسقًا بل وبدهيًا لكونه يعالج ما في ختم الوحي من تناقض ظاهري: إنه حل يعوض اتصال الوحي الذي ينفيه الوحي المختوم بعلم الأئمة المعصومين الموصى لهم بحكم المسلمين وعلمهم الذي يقوم مقام الوحي المتصل (وهذا الحل لم يتغير منذئذٍ ولا يمكن لهذا الحل- الذي لقب منذئذٍ بحل شيعة الإمام علي كرم الله وجهه- أن يتطور حسب رأينا إلا بالتخلص منه). والخوف هو أن يحصل التخلص بالصورة التي تمخضت عن وحدة الحل العبراني واليوناني الحديثة في التوراتية المحدثة الجرمانية، أعني صورة الفصل بين الدين والدولة، وهو ما يجعل الشيعة مرشحة لتحقيق العلمانية إذا لم تتحرر من مهربها السهل من دعوة الإسلام كما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم. لذلك فلا عجب إذا رأينا في التاريخ الإسلامي كيف أن هذا الإلغاء ازداد تدعيما بفضل الحل الصوفي المستند إلى لدنية علم الأولياء رغم تناقض الحلين. وبفضل الحل الفلسفي لكون التقارب بين الحل العبراني والحل اليوناني تم بتوسط الكلام المسيحي اليهودي في العهد الهلنستي.

أما غالبية المسلمين فإنها لم تلغ المفارقة ولم تهرب إلى الحل السهل بل فرضت على نخبها تجريب الحلول الممكنة عقلاً لفهم هذه المفارقة التي لا نظير لها في تاريخ الحل الروحي والحل العقلي المعلومين، أعني التقليد العبراني والتقليد اليوناني. فقد ظل المشكل عندهم معضلة المعضلات وصار فكرهم السياسي بحثا دائمًا عن حله بالتجريب العقلي والفعلي لكل الحلول السياسية الممكنة عقلا. لذلك ففهم منطق هذا التجريب هو المبدأ الذي يساعد على فهم تاريخنا السياسي كما نحاول وصفه وصفًا نسقيًا ومنطقيًا يخرجنا من تحليل الفكر والتاريخ بالاتكاء على المهارب القديمة أو بالاستناد إلى الموقف النفساني التحكمي.

وهذه الوسطية هي التي ينبغي أن ينطلق منها الضمير الإسلامي وكما يقتضي مفهوم الفطرة. فالإسلام يعتبر إطلاق الفصل بين المبدأين عين التحريف الذي يتنافى مع سنن الله. وتحقيق هذه المؤسسات الشورية هو جوهر الثورة التي سعت إليها الرسالة المحمدية من خلال تحديدها شروط المؤسستين الضروريتين لذلك، وهما:

1 - مؤسسة الاجتهاد العقلي التي مبدؤها التواصي بالحق لمعرفته معرفة هي فرض عين على الجميع.

2 - مؤسسة الجهاد العادل التي مبدؤها التواصي بالصبر للعمل به عملاً هو فرض عين على الجميع.

ويمثل جدل الفكر السياسي بين السنة والشيعة خاصة وبين كل الفرق عامة في الفكر الديني محاولة لفهم الدلالة السياسية لهاتين المؤسستين ولتجريب الحلول الممكنة عقلا. لكن هذا التجريب غلب عليه الفشل بحكم تأثير تعاضد التحريفين اللذين أرادت الثورة المحمدية إصلاحهما، أعني التحريف الروحي العبراني والتحريف العقلي اليوناني والمرتزقة من الجند والمجرمين الذين استولوا على السلطة السياسية: المؤسستين الشارطتين لتحقيق هذا الوسط الذي يجعل الفعل على الإباحة في الاجتهاد والجهاد ويغني عن مؤسسة الأوصياء المعصومين (الكنيسة) والحكماء المطلقين (الجمهورية أو المدينة الفاضلة) أعني المؤسستين المحرفتين اللتين أفسدتا شرط التغيير الإسلامي النظري كما صاغه الرسول (الاجتهاد النظري بما هو فرض عين أو التواصي بالحق) وشرطها العملي (الجهاد العملي بما هو فرض عين أو التواصي بالصبر).

يتبع . . . . . /3