السلام عليكم
قال الحسن البصري : ( التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلاّ في قتل النفس التي حرّم الله ) ( فتح الباري ج 12 ص 279 ) .
ومن كل ذلك يظهر أن التقية تشريع إلهي شرّعه الله سبحانه وتعالى في كتابه ومارسه الصحابة والتابعون ومن أتى بعدهم من المسلمين حال تعرّضهم لظروف تفرض عليهم ذلك ، وهذا الرّجل – رئيس منظمة أهل السّنة في باكستان – الّذي يشنّع على الشيعة في قولهم بالتقية ويستنكر عليهم اعتقادهم وقولهم بها إنّما يردّ على الله تشريعه هذا الوارد في كتابه بنص صريح ، وأنّه بوصفه للتقية بأنها نفاق وكذب يتجرأ على الله عزّ وجل بجعله مشرّعاً للنفاق والكذب والعياذ بالله ، ولا نعلم كيف جعل الأخوة أهل السّنة في باكستان مثل هذا الرّجل المفتري والمتجرأ على الله رئيساً لمنظمتهم ؟ .
وأمّا بالنسبة للروايات التي ذكرها أعلاه من كتاب الكافي فالرّواية الأولى ضعيفة سنداً لجهالة أحد رواتها قال العلامة المجلسي في مرآة العقول ج9 ص 166 عن هذا الحديث بأنّه ( مجهول ) . وبغض النظر على ضعف هذه الرواية فإننا نقول أنه لو لاحظنا الموارد التي حرّمت فيها التقية قياساً إلى الموارد الجائزة منها لما كانت تساوي شيئاً نسبة إليها فأهل السّنة أنفسهم قد جوّزوا استخدام التقية في الدّين بشكل واسع جدّاً في التفظ بكلمة الكفر والطلاق عند الإكراه ، والهبة ، والعتق ، والبيع ، والإبتياع ، والنذر ، والأيمان ، والزنا ، والإقرار ، والرجعة ، والنكاح ، والإنكاح ، وأكل لحم الخنزير ، ولحم الميتة ، والدم ، وشرب الخمر ، وشرب البول ، والسرقة ، وإتلاف مال الغير ، وأكل طعام الغير ، وشهادة الزور ، وقذف المحصنات ، والإفتراء على المسلم ، وترك الصلاة ، والإفطار في شهر رمضان ، ومداراة الظالمين ، والعطية لهم ، والإقبال بالوجه عليهم ، وغير ذلك من الأمور الكثيرة جدّاً الواقعة تحت دائرة الإكراه فما نصت عليه كتب الفقه لديهم ، وبالجملة فإنّ التقية تدخل في جميع أبواب الفقه من عبادات ومعاملات ، وعقود ، وإيقاعات بل جوّزوها في الأفعال العرفية التي لا تختص بالأحكام كما يتّضح من أبواب مداراة الناس في كتبهم الحديثية ، وعليه يكون قوله عليه السلام – على فرض صحة صدوره منه – ( إنّ تسعة أعشار الدين في التقية ) ناظراً إلى هذا المعنى ، أي كثرة ما يبتلى به المؤمن في دينه ، ولا مخرج من ذلك إلاّ بالتقية ، خصوصاً إذا كان في وسط يسود فيه الظلم والطغيان ، وتكثر فيه الفوضى وإنعدام الأمان .
وأمّا بالنسبة للرواية الثانية وهي قول الإمام الباقر عليه السلام : ( التقية من ديني ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقية له ) وهذا الحديث صحيح سنداً ، وقد أثبتنا أن التقية من دين الإسلام وتشريع من الله سبحانه وتعالى فلا إشكال في قول الإمام عليه السلام : التقية من ديني ودين آبائي وأمّا قوله عليه السلام ، ولا إيمان لمن لا تقية له فهذا الكلام غير محمول على إطلاقه أي ليس المراد منه نفي الإيمان عمّن لا تقية له بل نفي كمال الإيمان وقد ورد في كتاب الكافي ما يدل على ذلك فعن عبد الله بن عطاء قال : لأبي جعفر عليه السلام رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما : ابرآ من أمير المؤمنين ، فبرىء واحد منهما وأبى الآخر ، فخلّي سبيل الّذي برىء وقتل الآخر ؟ فقال : ( أمّا الّذي برىء فرجل فقيه في دينه ، وأمّا الذي لم يبرأ فرجل تعجّل إلى الجنّة ) ( أصول الكافي ج 2 ص 175 باب التقية ) .
وأما الحديث الثالث وهو : ( عن أبي عبد الله عليه السلام قال : أتقوا على دينكم واحجبوه بالتقية فإنه لا إيمان لمن لا تقية له ) فهذا الحديث ضعيف لجهالة بعض رواته ولكن مع جهالته فليس فيه ما يشنّع به على الشيعة فالإمام عليه السلام يأمر شيعته بالمحافظة على دينهم باستخدام التقية فيما إذا إضطروا لذلك ولم يكن في استخدام التقية أي مفسدة أعظم على الدّين والمجتمع من عدم استخدامها وأما قوله : ( لا إيمان لمن لا تقية له ) فقد مرّ الكلام حوله أعلاه عند الكلام عن الحديث الثاني فراجع .
وأما حول الرواية الرابعة وهي : ( عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عز وجل (لا تستوي الحسنة ولا السيئة) قال: الحسنة: التقية، والسيئة: الإذاعة، وقوله عز وجل: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) قال: التي هي أحسن: التقية ) فهذه الرواية في سندها إرسال ولكن بغض النظر عن ذلك فما ورد فيها هو أحد وجوه تفسير الآية الكريمة ، وتفسيرها بهذا التفسير له وجه وجيه فما أدري ماذا في هذه الرواية مما يدل على ما يريد أن يثبته هذا المفتري من أنّ التقية عند الشيعة معناها النّفاق أو الكذب .
والرواية الخامسة وهي : ( عن درست الواسطي قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، أن كانوا يشهدون الأعياد ويشدون الزنانير فأعطاهم الله أجرهم مرتين ) فهي كذلك – أي ليس فيها شيء مما يريد أن يثبه ويدلل عليه من افتراء افتراه على شيعة محمد وآله صلى الله عليه وعليهم أجمعين ، فهي تشير إلى أن الفتية من أصحاب الكهف مارسوا التقية بمصانعتهم الكفار والمشركين في زمانهم وستروا عقيدهم بالله وأبطنوها وأظهروا خلافها ، فكانوا يشاركونهم في مراسم الأعياد الخاصة بهم ويشدون الزنانير على أوساطهم كما كانوا يفعلون ولقد أثبتنا أعلاه أن مصانعة الكفار والمشركين والظلمة والطغاة حفاظا عن النفس والعرض والمال هو قول جميع علماء المسلمين مع العلم أنّ هذه الرواية ضعيفة من حيث السند .
(يتبع)
|