جدانوفية وجدانوفية...مضادة!
رد على شوقي بزيع
كتب الشاعر شوقي بزيع في الصفحة الثقافية لجريدة "السفير" – عدد29/5/2002 مقالاً بعنوان "الجدانوفية المتجددة وثقافة الحشود" هو إعادة كما يرى قارئه لنقاش طويل دار في الخمسينات والستينات والسبعينات حول السؤال عن الالتزام وتأثيره في فنية الأدب.
والذي أثار عند الشاعر بزيع هذا السؤال هو المشهد العربي السياسي الحالي وانعكاسه على الثقافة وهو يصفه كما يلي:
"ما تعيشه الثقافة اليوم شبيه الى حد بعيد بما شهدته في عصريها السالفين، القومي و<<الأممي>>. فلقد تعددت الاسباب والموت واحد. وليس من قبيل الصدفة ان تحتل الأغنيات والأناشيد القديمة الهابطة نفسها مساحة الشاشات والاذاعات والفضائيات الجديدة، وأن تُستخرج من الجعب الجاهزة مئات الملصقات واللوحات المكتظة بالأشلاء والجثث والدماء الغزيرة المراقة. ولا من قبيل الصدفة ان تغص المنابر والمهرجانات بعشرات الشعراء <<الرحَّل>> الذين تتهادى قوافلهم المتنقلة على ايقاع الطبول وزمجرة الحناجر ومعلقات التأييد او الوعيد الخالية من فكرة مبتكرة او صورة واحدة تلامس الشغاف. انها الجدانوفية الجديدة التي تتمظهر بعناوين ماركسية او قومية او دينية بينما هي في حقيقتها تنويع على اصولية تعبيرية واحدة قوامها تمجيد الشعار الحزبي والسياسي والعقائدي على حساب الإبداع. وإذا كانت المقاومة، كما الانتفاضة، هي بحد ذاتها فعل ابداعي وخلاق، فإن الأدب والفن الرديئين لا يمكن ان يكونا بأي حال تكريما للفعل المقاوم بقدر ما هما اساءة بالغة لجوهره ومشروعه ومعناه. وإذا كانت المقاومة لا تتحقق إلا داخل شرطها الانساني القائم على تغيير السائد وتقويضه، فكيف يمكن للثقافة ان تدّعي صفة المقاومة اذا كانت تستعير لغتها من السائد والجاهز والمبتذل، وإذا لم تكن قادرة على مقاومة موتها بالذات قبل ان يجف الحبر الذي تُكتب بواسطته؟"
في مرات كثيرة أجد نفسي أتساءل عن بعض أنواع الانتقاد: أهي من باب "النقد" بإثبات الدال أم هي من باب "النق" بحذف الدال! ومن الفروق بينهما أنك في "النقد" تفرق بين المفاهيم وتجعل لكل مقام مقالاً ولا تخلط بين القوانين المنظمة للبنى المختلفة فتسعى لفرض قانون بنية على بنية أخرى لها قوانينها المختلفة أما في النق فإنك تفعل ذلك غير منتبه للمفارقة المنطقية التي أوقعت نفسك فيها، ويخيل إلي أن الشعراء والفنانين أكثر عرضة للوقوع في هذا المحذور من غير الفنانين، من دارسي العلم الطبيعي مثلاً أو المهتمين بدراسات المقارنة بين ألوان الخطاب الأدبي وتصنيفها.
وكاتب هذه السطور درس لفترة من الوقت علوماً تقنية ثم انتقل إلى بعض القطاعات مما يسمونه العلوم الإنسانية فلعل هذا هو الفارق بينه وبين الشاعر شوقي بزيع العزيز على قلوب ..الحشود التي يتنكر لها في مقاله ومن هذه "لحشود" على كل حال محسوبكم!.
في هذه المدينة الأوروبية التي أقيم فيها أرى فيما أعتقد جزءاً لا بأس به من تلك المحطات الفضائية المهتمة بتقديم تلك المواد الفنية التي يتحدث عنها أخونا بزيع ولكن هذا لا يمنعني من افتراض أن جزءاً مما يراه هو لا يصلني فلأكتف بالجزء الذي يصلني وهو المحطة الفضائية السورية ومحطات الخليج –الشارقة وأبو ظبي وقطر ثم الإي إن إن ثم الجزيرة ثم المنار.
من الأناشيد التي تردد بكثرة: "أناديكم"و "ارحل" وهما للمغني أحمد قعبور (وسأستغرب إن كان الشاعر شوقي يعدهما هابطين) ثم في المنار كثير من الأناشيد الخاصة بالانتفاضة من إنتاج المحطة نفسها وهناك "أغنيات وأناشيد قديمة" لا أعرف إن كان بزيع يعتبرها هابطة مثل "الله أكبر فوق كيد المعتدي" وأغاني فرقة الثورة الفلسطينية القديمة من نوع "طل سلاحي من جراحي" "يا جماهير الأرض المحتلة" وأشباهها.
المسألة هي التالية: إن الجماعات الإنسانية استعملت عبر التاريخ أنواعاً من الفن للتعبير عن أمور حياتية مهمة: هناك أناشيد حماسية للقتال وهناك أغان للعمل وللغزل وأغان دينية أيضاً وكما كان هناك شعر فصيح فهناك زجل وكل هذه الأشكال من المنطقي أن نعاملها كبنى مستقلة لها قوانينها الخاصة التي لا يجوز أن نفرض عليها قوانين أشكال أخرى أي بنى مختلفة.
وليس من الصحيح أن هذه الأشكال تسيء للفعل المقاوم يا أخي إذ لكل شكل دور ووظيفة تختلف من وضع لوضع وأعتقد أن نشيد "الله أكبر" مثلاً له وظيفة تحريضية مباشرة للمقاومة لا يستطيع أن يقوم بها نص حديث على المقياس الذي يرتضيه الناقد ولكنه عاجز عن الوصول إلى مستوى الفعل المباشر.
وحين تحرم هذه الأشكال من حق الوجود لا تخرج من "الجدانوفية" حقاً ولكنك تدخل في جدانوفية جديدة يمكن أن نسميها "الجدانوفية المضادة" التي تتفق مع نقيضها في حصر "أهل الجنة" في فن من نوع واحد وحرمان البنى الفنية الأخرى من حق التعبير!
و"النق" هنا –وبحذف الدال كما يجب أن ننتبه!- يكمن في أن أحداً –يا أخي!-لم يمنع الشعراء مثلك من أن يكتبوا ما يشاؤون كما يشاؤون بالطريقة التي يرونها هي "الفن الحقيقي" ولا أعرف لماذا تتصور أن هذه الأشكال التي تنتقدها تقف حائلاً بين المبدعين و الفن المنبثق من "جيشان الداخل الإنساني ومساحة الحرية الضرورية لكل عمل خلاق" ومن السعي لإنتاج ثقافة مقاومة على مقاييسك "لا تستعير لغتها من السائد والجاهز والمبتذل" وتبقى خالدة ولا تختفي قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به؟
وفي الواقع أن الفن كما تريده لم يثبت في أي مكان من الكرة الأرضية-ليس عندنا فحسب- أنه قادر على أن يكون جماهيرياً. وتراجع جماهيرية الشعر بعد تبنيه للمدارس الجديدة أصبح حقيقة بحيث أن ظاهرة وجود ألوف من العرب في ندوات نزار قباني أثارت دهشة شعراء أوروبيين كثر كما أظنك سمعت!
فأنت بين خيارين على ما يبدو: أن تسمع الناس نشيداً من نوع "الله أكبر فوق كيد المعتدي" أو تسمع "نشيدا"ً من نوع "أناشيد" الفنان عمرو دياب.
والنشيد الأول، صدقني، أفضل وحتى أقرب للفن الحقيقي بكثير..
|