عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 12-06-2002, 07:23 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

ويقول بن نبي إن الاستعمار لا يمانع في تمحور سياستنا حول مبدأ مطالبته بإعطائنا حقوقنا، دون أن نفعل نحن شيئاً لتغيير وضعنا الاجتماعي وقيامنا بالنهضة المطلوبة، وبن نبي يؤكد على هذه النقطة دوماً حتى حين يتكلم عن العلاقة بين تجمعات البلدان النامية والبلدان المتقدمة. ففي مقاله عن "مؤتمر 77" الذي نشره في جريدة "الثورة الأفريقية" – 9 نوفمبر 1967 ينتقد هذه الدول النامية التي لم تحدد التزامات صارمة لكل عضو من أعضائها بل اكتفت بمطالبة الغرب بدفع نصيب للتنمية يقول: "لقد كنا في الحقيقة ننتظر بنوداً تحدد التزامات كل عضو في الوحدة أو الجهة الاقتصادية المزمع تشييدها، لكننا لم نجد في الوثيقة سوى كراسة المقترحات التي ستقدم بنيودلهي إلى المخاطب الحاضر غير المرئي. وفي الحقيقة نجد الكراسة هذه تطالب بالكثير، من العالم المصنع، إن لم نقل إنها تطالب بكل شيء، فتطالب مثلاً 1ب% من مدخوله العام لتنمية البلدان النامية ومن الناحية الأخلاقية لعل هذا جائز، ولكن المخاطب لا ينصت لهذا المنطق ولا يتكلم هذه اللغة. وهكذا انزلقت المداولات في الحديث عن حقوق العالم الثالث عوضاً عن أن تذكره "بواجباته" نحو نفسه" ("بين الرشاد والتيه"- مقال "مؤتمر 77"- ص130.)

النهضة عند بن نبي هي مسألة داخلية أساساً وأولاً ، ومن هنا هو يقدم مبدأ الواجبات على مبدأ الحقوق، وهو باستمرار يرجع إلى ذكر ما جرى في الجزائر حين بدأت عام 1925 نهضة كبرى بقيادة العلماء الإصلاحيين كان يؤمل لها أن تغير المجتمع الجزائري.

نشأت المدارس وسرى في المجتمع روح جديد، وامتدت النقاشات المثمرة لا العقيمة في تجمعات الشعب الجزائري، وبدأت الأمة مسيرة الانبعاث الفكري والانبعاث الروحي، وتغيرت عوائد وأشياء، وحتى المدمنون للخمور هجروا الحانات وعمروا المساجد حتى احتج باعة الخمور لدى الحكومة 1927! ونشأت الحلقات الدراسية الليلية التي كان روادها رواداً سابقين لحلقات الدراويش. والذي جرى كان تبديد هذه النهضة من تحت بأوهام السياسة الفوقية، فقد شغلت الحكومة الزعماء بالانتخابات والمطالب وهكذا ضلت النهضة طريقها "ميممة وجهها شطر السراب السياسي، حيث تتوارى من ورائها بوارق النهضة والتقدم. لقد أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة، ونسينا الواجبات، ونسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغائب، بل فيما يسودنا من عادات وما يراودنا من أفكار، وفي تصوراتنا الاجتماعية بما فيها من قيم الجمال والأخلاق وما فيها أيضاً من نقائص تعتري كل شعب نائم.

وبدلاً من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة إلى الحياة فإنها أصبحت منذ سنة 1936 سوقاً للانتخابات وصارت كل منضدة في المقاهي منبراً تلقى منه الخطب الانتخابية فلكم شربنا في تلك الأيام الشاي وكم سمعنا من الأسطوانات، وكم رددنا عبارة "إننا نطالب بحقوقنا" تلك الحقوق الخلابة المغرية التي يستسهلها الناس فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب: طريق الواجبات" ("شروط.." –ص34-35)

هذه التجربة أراها في غاية الأهمية وفيها عبرة قلما يتم الانتباه إليها إذا أردنا أن ندرس تاريخ الفكر السياسي العربي في نصف القرن الأخير. لقد عانى هذا الفكر مما أسميه "فرط التسيس" فقد أغفلنا بعد النهضة الاجتماعي وركزنا على البعد السياسي المتمحور حول فكرة استلام السلطة لكل من يريد أن يطبق وصفته السحرية التي تتيح لمجتمعنا الخروج من مرضه الحضاري المزمن. وبهذه العقلية تم تأجيل أي عمل نهضوي اجتماعي "صغير" بانتظار العمل السياسي "الكبير"، وفي الحقيقة إن النهضة مؤلفة من "أعمال صغيرة" هي مجموعة من الواجبات الملقاة على عاتق كل فرد. ولكن لكي يقوم هذا الفرد بواجباته يجب عليه أن يحس بالمسؤولية، ولكن الحقيقة أن فكرنا السياسي علمه أمرين: أولاً تأجيل كل عمل بانتظار "العيد" الموعود المتمثل في التحرر من الاستعمار، أو الوحدة ،أو قيام الدولة الاشتراكية، أو قيام الدولة التي تطبق الشريعة الإسلامية، وثانياُ تعليق كل مأساة من مآسينا على مشجب عدم تنفيذ وصفة من الوصفات الجاهزة التي قامت عليها الأيديولوجيا السياسية العربية المعاصرة. فمشاكلنا كلها ناتجة عن: الاستعمار، أو التجزئة السياسية، أو النظام الطبقي، أو عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.

والاحتجاج على عدم تطبيق الشريعة الإسلامية تم بنفس الطريقة السياسية التي يصفها بن نبي بأنها التمحور حول الحقوق لا حول الواجبات. إذ لم يطرح الفرد العربي على نفسه فكرة السير بمقتضى ما تريده منه الشريعة من بناء اجتماعي متين لا تمزق "شبكة علاقاته الاجتماعية" عيوب العشائرية والإقليمية والمحسوبية الشخصية، ومن سعي جاد في سبيل المصلحة العامة، وقدرة على تجاوز الأنانية الشخصية، وتقديم الكفاءات، ووضعها في المكان المناسب، والعمل النشيط المثمر، وعدم تضييع الوقت. وكل هذه البنود النهضوية كان يمكن القيام بها حتى لو كانت السلطة السياسية لا تطبق الشريعة الإسلامية!

ومن هنا فإن مجتمعنا بحاجة إلى ثورة نهضوية سلمية داخلية تأتي من أسفل لا من أعلى، وهي بلا شك إن قامت ستجبر البناء الفوقي على أن يتماثل معها. وهذا معنى الحديث الشريف "كما تكونوا يولى عليكم"! ومعنى الآية "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"!

لا ننتظر التغيير إذاً كمنجز لقوة خارجة عنا: شخص أو دولة أو وصفة جاهزة وحيدة تحل المشاكل في طرفة عين. وكما قال بن نبي رحمه الله "لا شك في أن عقائدنا السياسية تدين لتلك القيم الفاسدة للحضارة، تلك العقائد التي تمثلت عندنا اليوم في أسطورة: "الشيء الوحيد" و "الرجل الوحيد" الذي ينقذنا (...) فالتاجر الذي تنجح تجارته يجزم بلا تردد بأن النجاة في الاقتصاد، وآخرون يرون الشيء الوحيد في البيان وتزويق الكلام، وهكذا ننتقل من وهم لنتخبط في وهم، ولا ندري كم من السنين سوف نقضيها لندرك عجز "الأشياء الوحيدة" عن حل المشكلة التي هي مشكلة الحضارة أولاً و قبل كل شيء" ("شروط.." ص158)



· المجتمع الفعال والمجتمع غير الفعال: الفعالية- المعادلة الاجتماعية للفرد- المنطق العملي- توجيه الثقافة والعمل- توجيه رأس المال



قضى بن نبي حياته وهو يبحث في سؤال الفعالية الاجتماعية، سؤال النهضة، أو سؤال إزالة القابلية للاستعمار.

وفي هذا البحث حاول تحليل قضايا مرتبطة مباشرة بهذا السؤال.

أريد في هذه الفقرة الكلام قليلاً عن أربع منها: "الفعالية" و "المعادلتان البيولوجية والاجتماعية للفرد" و "المنطق العملي" و "التوجيه".

الفعالية:

يقول بن نبي: "إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ. ذلك ما تشير إليه النظرة في تاريخ الإنسانية منذ أن بدأ التاريخ. فنرى المجتمع حيناً يزخر بوجود النشاط وتزدهر فيه الحضارة وأحياناً نراه ساكناً لا يتحرك يسوده الكساد وتغمره الظلمات (...) على أنني حينما أرى في حركة التاريخ حركة الإنسان وفي ركوده ركوده فإن ذلك يضعني أمام مشكلة تتصنف تحت عنوان الفعالية. فعالية الإنسان في التاريخ"("تأملات" –مقال "الفاعلية" –ص125).

ونظرتنا إلى التاريخ ليس لها نتائج نظرية فقط بل لها نتائج عملية أيضاً تتصل بسلوكنا، فهي تحدد مواقفنا أمام الأحداث. فإن نظرنا إلى التاريخ كسلسلة أحداث لا رابط بينها نتج عن هذا الاعتقاد بأن ما يجري في التاريخ مقدور لا يد للإنسان فيه ولا يستطيع تغييره، أما إن نظرنا إليه بصفته مجموعة من الأحداث المترابطة منطقياً فإن هذا يجعلنا ندرك الأسباب ونرى فيها منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا ونرى أن ما يجري في التاريخ متأثر بسلوكنا وبموقفنا وإرادتنا في تغيير الأشياء وفقاً للوظيفة الاجتماعية التي حددها لنا القرآن في قوله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" فشرط الفعالية هو أن ينظر الإنسان لنفسه كصانع للتاريخ ومحرك له.

والفعالية مرتبطة بالإرادة، فالطفل الذي يقود الجمل هو فاعل لأنه يملك الإرادة (بينما ينقاد الجمل لأنه يفتقد لهذه الإرادة!) وعلاقة الطفل بالجمل مثل علاقة دولة صغيرة استعمارية كإنجلترة بمجتمع ضخم تستعمره كالهند، ويستطيع القارئ طبعاً أن يرى فائدة هذا التحليل في أوضاعنا الراهنة!.

والفرد في مجتمع معين تمر عليه حالات يكون فيها فاعلاً وحالات أخرى لا يكون فيها كذلك وبرأي بن نبي أن الفاعلية تستثار في الأفراد حين يسود المجتمع القلق والشعور بالخطر وتظهر الفكرة التي تحدد له طريق الخلاص.

المعادلة البيولوجية والمعادلة الاجتماعية للفرد:

ثمة تجربة تاريخية لا ينفك بن نبي يذكرها في كتبه وهي تجربة أندونيسيا أواخر الأربعينات حين كلفت اختصاصياً ألمانياً هو الدكتور شاخت بوضع مخطط للنهوض باقتصاد أندونيسيا. وكان هذا الاختصاصي نفسه قد وضع مخططاً قاد الاقتصاد الألماني بين عامي 1933 و1936 إلى نهوض عاصف.

في أندونيسيا وضعت إمكانيات اقتصادية تحت تصرف الدكتور شاخت هي أفضل من الإمكانيات الألمانية، ولكن المخطط عينه الذي نجح نجاحاً باهراً في ألمانيا أخفق في أندونيسيا إخفاقاً ذريعاً فما السبب؟

يقول بن نبي: "لا شك أن شاخت وضع مخططه على الشروط التي يقدمها الشعب الألماني مباشرة وبطريقة آلية أثناء مرحلة التطبيق، ثم لا شك في أنه طبق هذه الشروط آلياً في التجربة الأندونيسية، أي أنه وضع مخططه على معادلته الشخصية كفرد من المجتمع الألماني، بينما ستجري التجربة الأندونيسية بطبيعة الحال على أساس معادلة الفرد الأندونيسي بحيث تعثرت التجربة الأندونيسية على خطأ مخططها شاخت في تقدير المعطيات البشرية في المجال الاقتصادي"("المسلم في عالم الاقتصاد.." ص94).

يقول بن نبي إن هناك لكل إنسان معادلتين معادلة بيولوجية يتساوى فيها البشر ولا اختلاف فيها بين المجتمعات، ومعادلة اجتماعية تختلف من مجتمع إلى آخر وفي المجتمع نفسه تختلف من عصر إلى آخر اختلاف درجة النمو أو التخلف.

أما المعادلة البيولوجية فهي منحة الله لجميع الناس، وأما المعادلة الاجتماعية فهي نتاج المجتمع وهي القاسم المشترك الذي يطبع سلوكهم ويحدد درجة فعاليتهم أمام المشكلات بما يميزهم عن أفراد مجتمع آخر أو عن جيل آخر من مجتمعهم إن كان الفاصل الزمني كافياً بين جيلين.

كيف تتكون المعادلة الاجتماعية؟

إنها إما أن تتكون بطريقة تلقائية مع الأيام، وإما أن تتكون بعمل إرادي "تريد ما تفعل وتفعل ما تريد لمواجهة ظروف وضرورات قاسية"، ويضرب مثلاً للحالة الثانية اليابان والصين الحديثتين. والمجتمع الإسلامي بدوره يجب عليه أن يختار: إما أن يسير في طريق طويل تاركاً للأيام صياغة معادلته الاجتماعية عبر التجارب والمحن، وإما أن يطرح المشكلة بصورة منهجية كما فعلت اليابان والصين. وهو يفضل الطريقة الثانية لأن هذا المجتمع كما يقول "يواجه حالة طوارئ تفرض عليه أن يتخذ قرارات صارمة بالمجال الاقتصادي، كما تتخذ قيادة عسكرية قراراتها لمواجهة ظروف استثنائية"("المسلم في عالم.." ص99) .

المنطق العملي:

يقول بن نبي: "إننا نرى في حياتنا اليومية جانباً كبيراً من اللافاعلية في أعمالنا إذ يذهب جزء كبير منها في العبث، والمحاولات الهازلة. وإذا ما أردنا حصراً لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في افتقادنا الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه، بين سياسة ووسائلها، بين ثقافة ومثلها، بين فكرة وتحقيقها فسياستنا تجهل وسائلها وثقافتنا لا تعرف مثلها العليا"("شروط.." –ص96).

نحن نشكو برأي مالك بن نبي من افتقادنا إلى "المنطق العملي" في حياتنا وهو استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة.

إن المسلم لا يحسن الاستفادة من الوقت، ولا مما لديه من العلم، ولا مما لديه من المال، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً بل هو قد يبغض الأفكار المنطقية التي يمكن أن تتحول إلى عمل ونشاط!