عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 15-06-2002, 01:54 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

وهذه النظم المتسلطة، أليست محسوبة، هي نفسها، في عداد النخبة؟ بلى، وبلا شك. بل إنها كما هو معروف ومتفق عليه تقف في رأس النخبة، ولهذا فإن مسؤوليتها تعتبر الأولى في اعوجاج مسارنا في هذه الأعوام الخمسين التي انتهت بنا الى ما نحن فيه من ضعف وتفرق، ومن خذلان وهوان.

منذ خمسين عاما، او قبلها بسنوات معدودات، فتحنا أعيننا على الخطر الذي يتهددنا والذي أخذ يتظاهر أمامنا بوضوح ودون مواربة. لنا عدو كان يتستر بمسكنته وادعائه الضعف والاضطهاد، مستثيرا العواطف الانسانية لرأفة العالم به. اكتشفنا عندما تفتحت أعيينا ان ذلك العدو ما تمسكن، في خمسين عاما سبقت هذه الخمسين الأخيرة، إلا ليتمكن. وإذا كنا، نحن العرب، لم ندرك أبعاد هذا الخطر في الخمسين الاولى من السنين فذلك لأسباب متعددة قد يكون اهمها انشغالنا، ولا سيما في أقطارنا المشرقية، بالجهاد للتخلص من قيود الحماية والوصاية والاستعمار التي كانت تكبلنا. وبعد طول جهاد بلغنا الغاية التي سعينا اليها وملكنا أمرنا، كاملا او في معظمه. وكان مفروضا بنا، بعد أن اصبحنا احرارا، ان يكون تصدينا للخطر الجديد الذي تفتحت أعيننا عليه اكثر فاعلية وأكبر حسما. غير ان هذا لم يحدث.
لم يحدث، لأن نظمنا التي قلت إنها هي رأس النخبة تلهت، في احسن احوالها، بالعمل لإيديولوجياتها وبنزاعاتها القبلية والحزبية وبالمصالح الخاصة لقادتها. وكثيرا ما كانت مصالح اولئك القادة مادية ووضيعة. هذا في أحسن الأحوال. وثمة احوال سيئة لم يكن الأمر فيها مجرد تله او نقص في الكفاءات او غفلة، بل كان اجراما متمثلا بالعمالة والخيانة. قد لا تكون هذه الأحوال الأخيرة كثيرة، ولكن النتيجة التي انتهت الامور اليها في هذه وتلك كانت واحدة.
إذن فمنذ خمسين عاما استوجب الأمر ان نعمل لنبعد عن أمتنا وأوطاننا الخطر الذي تبينت لنا حدته وجديته بعد ان كان متسترا بالمسكنة يستجدي المعونة والرأفة. خطر الصهيونية ومطامحها في إنشاء دولة عبرية أعني. كانت بنا قوة هي، على محدوديتها، قادرة على التصدي لذلك الخطر واستئصال شأفته. هذه القوة تتمثل بين ما تتمثل به بكثرتنا الفائقة عدديا وبسعة أقطارنا وبضخامة مواردنا، بالنسبة الى ضآلة عدد العدو وضيق الرقعة التي يسكنها وتحدد امكانياته او، على الأقل، صعوبة ورود تلك الإمكانيات اليه من بقاعها المبعدة. غير أننا نمنا على حرير الكسل والتهاون واستبعاد الكفاءات، إذا لم نقل اضطهاد اصحابها، طيلة خمسين عاما تحول فيها عدونا القزم الى عملاق، وتحولنا نحن فيها الى اعجاز نخل خاوية. واستفقنا اليوم على فظاعة ما يجري في ارض فلسطين والجرائم التي ينزلها بأخوتنا ابناء فلسطين جيش اسرائيل وسكان مستوطناتها بسلاح اميركا ودعمها ومناصرتها.
اقول استفقنا. ولكن، أترانا استفقنا حقا؟
هذا السؤال ألقيه على نفسي وعلى كل مواطن عربي واع، لأجيب عليه بقولي: لا، ومع الأسف الشديد، لم نستفق. كثيرون الذين سيعجبون من جوابي هذا، وكثيرون الذين سيسفهون الحكم الذي اصدرته فيه. سيقولون: كأنك لم تر هياج الناس واحتجاجهم، وغضبهم وصخبهم، وكأنك لم تقرأ العناوين الضخمة في الجرائد والمقالات المطولة فيها، ولم تستمع الى الهتافات او تحضر المحاضرات التي تلقى على المنابر في كل المدن منبهة الى مطامع العدو ومؤكدة على عروبة فلسطين وحق العرب فيها. او كأنك لم تشاهد المظاهرات والمسيرات التي تتعطل فيها اعمال المكاتب والمدارس والدوائر، ولا وقعت عينك على اللافتات واللوحات العريضة المغروسة في رؤوس الشوارع حافلة باللعنات على العدو وداعية الى استمرار الانتفاضة والى دعمها. ثم كأن مشاهد حرق أعلام العدو وأعلام مسانديه في الساحات العامة وفي مقدمة كل مسيرة لم تكحل نظرك، مع ان نشرات التلفزيون في كل البلاد العربية من المحيط الى الخليج مستمرة في عرضها على المشاهدين في كل يوم، بل في كل ساعة او ربع ساعة. أتريد يا عزيزنا استفاقة اكبر من هذه الاستفاقة؟
ردي على هذه التعليقات هو أن ما نراه ونسمعه من هياج وغضب ومن استنكار واحتجاج، وحتى من دعوات الى دعم الانتفاضة والتبرع لها بالمال، ليس استفاقة وإنما هو تململ نائم رأى في نومه حلما مزعجا او أحس بلسعة ذبابة عابرة. إنها تململ ما فتئ يعاودنا بين حين وحين، وما فتئنا نعود بعد تحركنا العقيم فيه الى الرقاد الذي ذكرته آنفا. رقاد على حرير الكسل والتهاون، واستبعاد الكفاءات التي تحاول ان تنبهنا من نومنا وأن تعمل على توضيح الطريق الذي يجب ان نسلكه للخروج من مستنقعات نحن غارقون فيها الى الأذقان. إنه النوم الذي استمررنا فيه، وأستمرأناه، منذ خمسين عاما ولا زلنا فيه مستمرين.

سيقال لي: إذا كنت ترى أن ما نحن فيه اليوم لا يزال رقادا، فكيف تكون الاستفاقة؟
في رأيي أن الاستفاقة تكون حين لا نقتصر في نظرتنا وفي تأثرنا على ما تراه أعيينا في الحاضر. اذا ظللنا على هذا فكل فاعليتنا تظل منحصرة بالندب والانتحاب، وبالصراخ والضجيج، وبالاحتجاج والاستنكار. هذا لن يقدمنا خطوة في طريق الخلاص مما نحن فيه اليوم، ولن يعيننا في التوقي مما ينتظرنا في غد. الغد الذي سيكون بلا شك أسوأ مما نحن فيه اليوم اذا ظللنا في مكانك راوح.
الاستفاقة تكون حين نتأمل في ما وراءنا باحثين في العوامل التي انتهت بنا الى هذا الحال الذي نحن فيه. باحثين في العوامل، لا باحثين عن تلك العوامل، لأنها معروفة جيدا منا. فما من مواطن واع بيننا لا يعرفها جملة وكثير منا يعرفها تفصيلا، بظروفها وتسلسلها وبرجالاتها. وأنا أصر على القول بأن الاستفاقة لم تتحقق حتى الآن، لا عند جماهيرنا ولا عند النخبة من تلك الجماهير. دليل ذلك أني، في كل ما قرأت وما سمعت وما شاهدت في أيامنا الصاخبة التي نعيشها، لم أقرأ وأسمع او أشاهد كلمة عن العوامل التي أتحدث عنها. العوامل التي بلغت بنا ما بلغناه اليوم من الضعف والهوان اعني.
لماذا لا يقدم أحد في امواج الكلام المتحدث به والمهتوف به والمكتوب على قول كلمة عن هذه العوامل، ليكون ذلك مقدمة للعمل الذي نسير به الى الخلاص؟ ألسنة الجماهير التي قد تتهم بسطحية التفكير لا تتعرض بشيء اليها لأن ما من أحد ممن هم على عمق في تفكيرهم، وأعني بهم النخبة، يفتح فمه بالحديث عن اسباب وصولنا الى الوهدة التي نحن متردون فيها. هل هذه النخبة قاصرة في وعيها، او هامدة في نشاطها، او حريصة على مكاسب تخشى ان تسلبها إياها الاستفاقة؟ أم هي معقولة اللسان بالخوف من بطش الأنظمة التي قادتنا، واعية او غير واعية، نحو القاع، حتى تتجنب العمل الصحيح وتلتزم السكوت التام؟
لعل هذه الأمور مجتمعة تكاتفت ومنعت التفكير السليم والجهد الواجب اللذين يسيراننا في الطريق المستقيم. ولهذا أقول إننا، ما دمنا غير قادرين على التملي في ماضينا طيلة خمسين عاما فاتت على الأقل، فإن صخبنا ونواحنا وضجيجنا على ما تقاسيه امتنا في الحاضر، لا يعدو أن يكون تململا لنائم رأى في رقاده كابوسا مزعجا. إنه مجرد تململ، وليس الاستفاقة التي نحن في حاجة اليها.

منذ بضعة اشهر، وفي خلال متابعة جماهيرنا في كل المواطن العربية اخبار انتفاضة الأقصى على الارض الفلسطينية والتصدي الوحشي لها من جانب اسرائيل، أنبئت أنني اخترت عضوا مؤسسا في هيئة تألفت من عاصمة بلادنا من شخصيات مرموقة في قطرنا، وأن عليّ ان احضر اول اجتماعاتها في دمشق. هذه الهيئة هي اللجنة التي اسمها <<دعم الانتفاضة ومقاومة المشروع الصهيوني>>. اعتذرت بأن ظروفي لا تمكنني من قبول هذا الاختيار ورجوت إعفائي منه. وكررت اعتذاري حين جاء بعض الأعضاء المؤسسين الى الرقة بلدتي وأرسلوا إليّ يطلبون ان اشاركهم في نشاطات هذه اللجنة.
ليس من شك في أن دعم الانتفاضة، بأي شكل كان، مطلب خطير وواجب على كل مواطن أن يساهم به حسب قدرته وإمكانياته. ولكن إقامتي في بلدتي المبعدة عن العاصمة وظروف عملي في عيادتي تجعل عسيرا عليّ ان اشارك في اجتماعات اللجنة، او اللجان. وهي اجتماعات ستكون في دمشق وستكون متكررة، وسيكون العمل فيها على ما اتصور نظريا يستطيع ان يؤديه كثيرون مثلي وخيرا مني. لذلك فإن حجتي التي قدمتها في اعتذاري كانت حجة صادقة، وقد شكرت لمن قدمتها اليهم قبولها مني، وسررت بأن اللجنة قد استمرت في عملها الثمين دون ان ينقص غيابي عنها من قيمته. على أنه لا بد من القول إن افكارا اخرى كانت قد ساورتني حين تلقيت الدعوة اليها وعززت عزمي على تقديم ذلك الاعتذار. وفي ما يلي أبسط للقارئ بعض تلك الأفكار.
اول ما اريد قوله هو استغراب قد لا يجد القارئ العادي له داعيا او يرى فيه خطورة. هذا الاستغراب أثارته في نفسي تسمية اللجنة: دعم الانتفاضة ومقاومة المشروع الصهيوني. <<دعم الانتفاضة>> تسمية في محلها، ولكن <<مقاومة المشروع الصهيوني>> ماذا تعني؟ لقد اصبح المشروع الصهيوني الذي خطط له اليهود منذ اكثر من مائة عام واقعا اسمه دولة اسرائيل، فأي مقاومة للحيلولة دون تنفيذ مشروع تم تنفيذه؟ إنها تسمية في غير محلها، بل لعلها توحي بفكرة ضالة، هي القبول باسرائيل الحاضرة كواقع، وبأن المقاومة ستكون للمشروع الذي يعده غلاة الصهيونية ويتهيئون لتطبيقه بكل السبل، أعني مشروع اسرائيل الكبرى ودولتها التي تمتد من النيل الى الفرات!
غريب أن يكون ما قلته قد غاب عن أذهان المؤسسين لهذه اللجنة السامية المرامي وكلهم، على ما قرأته في قائمة اعضائها، ذوو مراكز مرموقة في مجتمع بلادنا وفي هيئاته السياسية. اعرف بين هؤلاء المؤسسين اشخاصا يوحون بكفاءتهم وإخلاصهم ونزاهتهم كل الثقة لمن كان مثلي. غير ان بعض التساؤل قد تسلل الى تفكيري حين رأيت ان جلهم من ذوي العلاقة بالهيئات الرسمية، مع أن اللجنة في ما أعلنته هي لجنة شعبية لا علاقة للمؤسسات الرسمية بها. في هذه الحالة لا بد للمرء أن يتصور أن نشاطاتها ستكون بعيدة عن روح الاستفاقة التي نبحث عنها والتي نحن في حاجة إليها، وأنها ستظل متصفة بروح التململ التي عودتنا نظم الحكم في مختلف اقطارنا العربية على العمل بموجبها. أعني أنها تظل مرتبطة بالحاضر، تعاجل اصاباته بالمسكنات، غير قادرة الى الالتفات الى الماضي لتعرف كيف تعمل للمستقبل.
الرد مع إقتباس