وهذا الحديث بلفظ «فتوفي رسول الله وهنّ ممّا يقرأ من القرآن» رواه أنس بن مالك عن عبدالله بن أبي بكر ، وقد رُوي عن غيره بدون هذا اللفظ، قال أبو جعفر النحاس : «قال بعض أجلّة أصحاب الحديث : قد روى هذا الحديث رجلان جليلان أثبت من عبد الله بن أبي بكر ، فلم يذكرا أنّ هذا فيه، وهما القاسم بن محمد بن أبي بكر ويحيى بن سعيد الاَنصاري» (1)، وقال الطحاوي : «هذا ممّا لا نعلم أحداً رواه كما ذكرنا غير عبدالله بن أبي بكر ، وهو عندنا وهمٌ منه» (2).
لكنّ خلوّ الرواية من هذا اللفظ لا يصحّح كونها قرآناً يُتلى ولا ينفيه ، قال صاحب المنار : «لو صحّ أنّ ذلك كان قرآناً يتلى لما بقي علمه خاصاً بعائشة ، بل كانت الروايات تكثر فيه ، ويعمل به جماهير الناس ، ويحكم به الخلفاء الراشدون ، وكل ذلك لم يكن» وقال : «إنّ ردّ هذه الرواية عن عائشة لاَهون من قبولها مع عدم عمل جمهور من السلف والخلف بها»(3).
السابعة : آية رضاع الكبير عشراً
رُوي عن عائشة أنَّها قالت : «نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشراً ، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها» (4).
____________
(1) الناسخ والمنسوخ : 10 ـ 11 .
(2) مشكل الآثار 3 : 7 ـ 8 .
(3) تفسير المنار 4 : 472 .
(4) مسند أحمد 6 : 269 ، المحلّى 11 : 235 ، سنن ابن ماجة 1 : 625 ، الجامع لاَحكام القرآن 14 : 113 .
--------------------------------------------------------------------------------
وظاهرٌ من هذه الرواية أنّه لم يحفظ القرآن ولم يكتبه غير عائشة ، وهو أمرٌ في غاية البعد والغرابة ، فأين سائر الصحابة والحُفّاظ والكتبة منهم ، قال السرخسي : «حديث عائشة لا يكاد يصحّ ؛ لاَنّ بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب ، ولا يتعذّر عليهم به إثباته في صحيفة أُخرى ، فعرفنا أنّه لاأصل لهذا الحديث» (1). أمّا بالنسبة لآية الرجم المذكورة في الحديث فقد تقدم أنّه لا يصحّ اعتبارها قرآنا لكونها من أخبار الآحاد ، وحكم الرجم من السنن الثابتة عن الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم إنّ هذا الحكم ـ في رضاع الكبير عشراً ـ قد انفردت به عائشة ، وعارضها فيه سائر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم تأخذ واحدة منهنّ بقولها في ذلك ، وأنكره أيضاً ابن مسعود على أبي موسى الاَشعري ، وقال : «إنّما الرضاعة ما أنبت اللحم والدم» فرجع أبو موسى عن القول به (2).
الثامنة : آية الصلاة على الذين يصلون في الصفوف الاَُولى !
عن حميدة بنت أبي يونس ، قالت : «قرأ عليّ أبي ، وهو ابن ثمانين سنة ، في مصحف عائشة : إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيُّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليماً وعلى الذين يصلون في الصفوف الاَُولى». قالت : «قبل أن يغيّر عثمان المصاحف» (3).
وظاهر أنّ هذا من الآحاد التي لايثبت بها قرآن ، وإلاّ فكيف فات هذا
____________
(1) أُصول السرخسي 2 : 79 .
(2) جامع بيان العلم 2 : 105 .
(3) الاتقان 3 : 82 .
--------------------------------------------------------------------------------
عن سائر الصحابة وكُتّاب الوحي منهم وحُفّاظه وجُمّاعه ، واختصت به عائشة دونهم ؟ ولو صحّ فهو روايةٌ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فاعتقدت عائشة كونها من القرآن فكتبتها ، حيثُ روي عن البراء بن عازب أنّه قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ الله وملائكته يصلون على الصفوف الاَُوّل» (1)، وروي عن عائشة أنّها قالت : «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ الله وملائكته يصلّون على الذين يَصِلُون الصفوف» (2)، ولعلّه أيضاً ممّا يُكْتب في حاشية المصحف، حيث كانوا يسجّلون مايرون له أهميةً وشأناً في حاشية مصاحفهم الخاصّة.
التاسعة : عدد حروف القرآن
أخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب ، قال : «القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف» (3). بينما القرآن الذي بين أيدينا لا يبلغ ثلث هذا المقدار ، قال الذهبي : «تفرّد محمّد بن عبيد بهذا الخبر الباطل» (4)، هذا فضلاً عن الاختلاف في رواية عدد الحروف ، فقد روي ألف ألف وواحد وعشرون ألفاً ومئة وخمسون حرفاً ، وقيل : غير ذلك ، الاَمر الذي يضعف الثقة بصحة صدورها .
وإذا صحّ ذلك فلعلّه من الوحي الذي ليس بقرآن كالاَحاديث القدسية؛ وقد لاحظنا في أدلّة نفي التحريف أنّه بلغ من الدقّة والتحرّي
____________
(1) المصنف لعبد الرزاق 2 : 484 .
(2) المستدرك 1 : 214 .
(3) الاتقان 1 : 242 .
(4) ميزان الاعتدال 3 : 639 .
--------------------------------------------------------------------------------
في ثبت آيات القرآن أن يحمل بعض الصحابة السيف لحذف حرف واحد منه ، فكيف يحذف ثلثاه ولم نجد معارضاً منهم ، ولا مطالباً بتدوين ما بقي من ثلثيه ؟! هذا فضلاً عن وجود كثير من الصحابة ممّن جمع القرآن كلّه أو بعضه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما سيأتي بيانه ـ حفظاً في الصدور ، أو تدويناً في القراطيس ، فكانت القراطيس شاهدة على ما في الصدور ، والصدور شاهدة على ما في القراطيس ، فكيف يضيع ثلثاه في حال كهذه؟!
وأخيراً فأنّ الملاحظ على كثير ممّا أدّعي أنّه من القرآن مخالفته لقواعد اللغة وأُسلوب القرآن الكريم وبلاغته السامية ، ممّا يدل على أنّه ليس بكلام الخالق تعالى ، وليست له طلاوته ، ولا به حلاوته وعذوبته ، وليست عليه بهجته ، بل يتبّرأ من ركاكته وانحطاطه وتهافته المخلوقون ، فكيف برب العالمين ، وسمّو كتابه المبين ؟!
ومن أراد الاطلاع على ماذكرناه ، فليراجع مقدمة (تفسير آلاء الرحمن)، للشيخ البلاغي ففيه مزيد بيان .
والملاحظ أيضاً أنّ قسماً منه هو من الاَحاديث النبوية ، أو من السُنّة والاَحكام التي ظنّوها قرآناً ، كما روي أنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « الولد للفراش ، وللعاهر الحجر » هو آية ، ولا يشكّ أحدٌ في أنّه حديث . و الملاحظ أيضاً أنّ أغلبه روي بألفاظ متعدّدة وتعابير مختلفة ، فلو كان قرآناً لتوحّدت ألفاظه .
|