جمع القرآن
مراحل جمع القرآن :
المتحصّل من جميع الروايات الواردة في جمع القرآن أنّ مراحل الجمع ثلاث :
الاَُولى :بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حفظاً وكتابةً، حيثُ حُفِظ في الصدور، وكُتِب على السطور في قراطيس وألواح من الرقاع والعسب واللخاف والاكتاف وغيرها . أخرج الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين، عن زيد بن ثابت، قال : «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلّف ـ أي : نكتب ـ القرآن من الرقاع» (1)
الثانية : على عهد أبي بكر ، وذلك بانتساخه من العسب والرقاع وصدور الرجال وجعله في مصحفٍ واحد .
الثالثة : ترتيب السور على عهد عثمان بن عفّان ، وحمل الناس على قراءة واحدة ، وكتب منه عدّة مصاحف أرسلها إلى الاَمصار ، وأحرق باقي المصاحف .
____________
(1) المستدرك 2 : 611 .
--------------------------------------------------------------------------------
جمع القرآن وشبهة التحريف
إنّ موضوع جمع القرآن من الموضوعات التي أُثيرت حولها الشبهات ، ودُسَّت فيها الروايات ، وتذرّع بها القائلون بالتحريف فزعموا أنّ في القرآن تحريفاً وتغييراً ، وأنّ كيفية جمعه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستلزمةٌ في العادة لوقوع هذا التحريف والتغيير فيه ، حيثُ إنّ العادة تقتضي فوات شيءٍ منه على المتصدّي لذلك إذا كان غير معصوم .
قال الرافعي : «ذهب جماعة من أهل الكلام ممّن لا صناعة لهم إلاّ الظنّ والتأويل واستخراج الاَساليب الجدلية من كلِّ حكمٍ ومن كلِّ قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيءٌ حملاً على ماوصفوه من كيفية جمعه» (1).
إنّ امتداد زمان جمع القرآن إلى مابعد حروب اليمامة ، كما نطقت به الروايات ، وتضارب الاَخبار الواصفة لطريقة جمعه ، أثارا الشبهة لدى الكثيرين ، فعن الثوري أنّه قال : «بلغنا أنّ أُناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يقرأون القرآن ، أُصيبوا يوم مسيلمة ، فذهبت حروف من القرآن» (2).
إنّ حقيقة جمع القرآن في عهد الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم تُعدّ من الحقائق التاريخية الناصعة ، التي لا تحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء وإثارة الشبهات ، وتعدّ أيضاً ضرورةً ثابتةً تاريخياً دامغةً لكلّ الاَقاويل والشبهات، ولكل مادُسّ من الاَخبار والروايات حول هذه المسألة .
____________
(1) اعجاز القرآن : 41 .
(2) الدر المنثور 5 : 179 .
--------------------------------------------------------------------------------
أدلّة جمع القرآن في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
أجمع علماء الاِمامية على أنّ القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك دنياه إلى آخرته إلاّ بعد أن عارض مافي صدره بما في صدور الحفظة الذين كانوا كثرة ، وبما في مصاحف الذين جمعوا القرآن في عهده صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد اعتُبِر ذلك بحكم ما علم ضرورة ، ويوافقهم عليه جمعٌ كبيرٌ من علماء أهل السنة، وجميع الشواهد والاَدلة والروايات قائمةٌ على ذلك ، واليك بعضها :
1 ـ اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بحفظ القرآن وتعليمه وقراءته وتلاوة آياته بمجرد نزولها ، وممّا روي من الحثّ على حفظه ، قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من قرأ القرآن حتى يستظهره ويحفظه ، أدخله الله الجنّة ، وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت لهم النار » (1)وفي هذا المعنى وحول تعليم القرآن أحاديث لا تحصى كثرة ، فعن عبادة بن الصامت قال : «كان الرجل إذا هاجره دفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجلٍ منّا يعلّمه القرآن ، وكان لمسجد رسول الله ضجّة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا» (2).
وقد ازداد عدد حُفّاظ القرآن بشكل ملحوظ لتوفر الدواعي لحفظه ،
____________
(1) مجمع البيان 1 : 85 .
(2) مناهل العرفان 1 : 234 ، مسند أحمد 5 : 324 ، تاريخ القرآن للصغير : 80 ، مباحث في علوم القرآن : 121 ، حياة الصحابة 3 : 260 ، مستدرك الحاكم 3 : 356 .
--------------------------------------------------------------------------------
ولما فيه من الحثّ من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاَجر والثواب الذي يستحقّه الحافظ عند الله تعالى ، والمنزلة الكبيرة والمكانة المرموقة التي يتمتّع بها بين الناس ، وحسبك ما يقال عن كثرتهم على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعد عهده أن قُتِل منهم سبعون في غزوة بئر معونة خلال حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، وقُتل أربعمائة ـ وقيل : سبعمائة ـ منهم في حروب اليمامة عقيب وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ، وحسبك من كثرتهم أيضاً أنّه كان منهم سيّدة ، وهي أمُّ ورقة بنت عبدالله ابن الحارث ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزورها ويسمّيها الشهيدة ، وقد أمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تؤمّ أهل دارها (1).
أمّا حفظ بعض السور فقد كان مشهوراً ورائجاً بين المسلمين ، وكلّ قطعةٍ كان يحفظها جماعة كبيرة أقلّهم بالغون حدّ التواتر ، وقلّ أن يخلو من ذلك رجلٌ أو أمرأةٌ منهم ، وقد اشتدّ اهتمامهم بالحفظ حتى إنّ المسلمة قد تجعل مهرها تعليم سورة من القرآن أو أكثر .
2 ـ لا يرتاب أحدٌ أنّه كان من حول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم كُتّاب يكتبون ما يملي عليهم من لسان الوحي ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد رتّبهم لذلك ، روى الحاكم بسندٍ صحيح عن زيد بن ثابت ، قال : «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع» (2).
وقد نصّ المؤرخون على أسماء كُتّاب الوحي ، وأنهاهم البعض إلى اثنين وأربعين رجلاً ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم كلّما نزل شيءٌ من القرآن أمر بكتابته لساعته ، روى البراء : أنّه عند نزول قوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون من
____________
(1) الاتقان 1 : 250 .
(2) المستدرك 2 : 611 .
--------------------------------------------------------------------------------
المؤمنين (النساء4: 95) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ادعُ لي زيداً ، وقُل يجيء بالكتف والدواة واللّوح ، ثمّ قال : اكتب ( لا يستوي...) » (1).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشرف بنفسه مباشرة على ما يُكْتَب ويراقبه ويصحّحه بمجرد نزول الوحي ، روي عن زيد بن ثابت قال : «كنتُ أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان إذا نزل عليه الوحي أخَذَتْهُ برحاء شديدة... فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة ، فأكتب وهو يُملي عليّ ، فإذا فرغت قال : « اقرأه »، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه ، ثمّ أخرج إلى الناس»(2).
أمّا في مفرّقات الآيات فقد روي عن ابن عباس ، قال : «إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا نزل عليه الشيء دعا من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» (3)وذلك منتهى الدقّة والضبط والكمال .
3 ـ روي في أحاديث صحيحة «أنّ جبرئيل كان يعارض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في شهر رمضان، في كلِّ عامٍ مرّة، وأنّه عارضه عام وفاته مرّتين» (4) وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرض ما في صدره على مافي صدور الحفظة الذين كانوا كثرة ، وكان أصحاب المصاحف منهم يعرضون القرآن
____________
(1) كنز العمال 2 : حديث 4340 .
(2) مجمع الزوائد 1 : 152 .
(3) المستدرك 2 : 222 ، الجامع الصحيح للترمذي 5 : 272 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 43 ، البرهان للزركشي 1 : 304 ، مسند أحمد 1 : 57 و 69 ، تفسير القرطبي 1 : 60 .
(4) كنز العمال 12 : حديث 34214 ، مجمع الزوائد 9 : 23 ، صحيح البخاري 6 : 319 .
--------------------------------------------------------------------------------
على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فعن الذهبي: «أنّ الذين عرضوا القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعة: عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وعبدالله بن مسعود ، وأُبي ابن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الاَشعري ، وأبو الدرداء» (1).
وعن ابن قتيبة : «أنّ العرضة الاَخيرة كانت على مصحف زيد بن ثابت»(2)، وفي رواية ابن عبدالبرّ عن أبي ظبيان : «أنّ العرضة الأخيرة كانت على مصحف عبدالله بن مسعود» (3).
4 ـ وفي عديد من الروايات أنّ الصحابة كانوا يختمون القرآن من أوله إلى آخره ، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد شرّع لهم أحكاماً في ذلك ، وكان يحثّهم على ختمه ، فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « إنّ لصاحب القرآن عند كلِّ ختم دعوةً مستجابةٍ » (4). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « من قرأ القرآن في سبعٍ فذلك عمل المقربين ، ومن قرأه في خمسٍ فذلك عمل الصدّيقين » (5). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « من شهد فاتحة الكتاب حين يستفتح كان كمن شهد فتحاً في سبيل الله ، ومن شهد خاتمته حين يختمه كان كمن شهد الغنائم»(6).
ومعنى ذلك أنّ القرآن كان مجموعاً معروفاً أوّله من آخره على عهد
____________
(1) البرهان للزركشي 1 : 306 .
(2) المعارف : 260 .
(3) الاستيعاب 3 : 992 .
(4) كنز العمال 1 : 513حديث 2280 .
(5) كنز العمال 1 : 538حديث 2417 .
(6) كنز العمال 1 : 524حديث 2430 .
--------------------------------------------------------------------------------
|