اما عن مالك بن نبي فقد جاء في مقدمة الدراسة التي اعدتها الدكتورة نوره السعد مايلي
=========================
لقد كان التغيير الاجتماعي ولا يزال من أهم الموضوعات التي جذبت أنظار واهتمام علماء العلوم الإجتماعية ، ومنهم على وجه الخصوص علماء الاجتماع الذين تنوعت مناهجهم في الدراسة ، وتعددت آراؤهم في التصور ، وقد كان لابن خلدون قصب السبق في العناية بهذا الموضوع ، فهو من أوائل المفكرين الاجتماعيين الذين أدركوا أهمية النظرة الحركية للمجتمع من خلال تحليلة للحياة في المجتمع البدوي ، ومقارنتها بالمجتمع الحضري للوقوف على أسباب التغيير التي تلحق بالمجتمع البدوي فتصبغه بالصبغة الحضرية ... بواسطة نظريته المشهورة في دورة الدولة مع ريادته في إظهار خصوصية المجتمع الإسلامي .
أما النظريات الغربية فقد تباينت في تناولها لمفهوم التغير الاجتماعي ، وازداد هذا التباين بين مختلف المفكرين مع تطور الزمن ، وامتداد تأثيره إلى الواقع المنهجي لبعض الدراسات والبحوث الاجتماعية في الوطن العربي التي تُنفّذ في عزلة عن السياق الاجتماعي والظروف التاريخية التي تظهر وتتطور فيها الظواهر الاجتماعية موضع الدراسة في مجتمعنا ، من خلال ممارسات بعض علماء الاجتماع العرب ينقلون هذه النظريات ويحللون من خلال منظورها الظواهر الاجتماعية في المجتمعات العربية الإسلامية ..
إن هذه النظريات الاجتماعية الغربية التي تزخر بها أدبيات علم الاجتماع قد لا تصلح في الغالب للتطبيق على مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، لأنها قامت على أسس منهجية لها ظروفها التاريخية وتصوراتها العقدية الخاصة بها ، وتطرح مشكلات اجتماعية من نوع خاص ، وتصدر في تحليلاتها وتفسيراتها من منظومة فكرية خاصة ، لا تناسب الثقافات كلها ، ولا تستجيب إلى الأوساط والبيئات كلها ، لهذا لابد لنا من إيجاد البدائل النظرية التي تستمد مقوماتها من الإسلام، وتراعي خصوصية المجتمع الإسلامي .. وفي هذا العصر جاءت محاولات عدة تتبنى هذا الاتجاه وكان من أبرزها المحاولة التي قام بها مالك بن نبي المفكر الجزائري الذي يأتي في طليعة المفكرين الذين قاموا بدراسة الواقع المتخلف الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية منذ أن خرجت من دائرة الضوء العلمي الحضاري دراسة تحليلية تسعى لفهم أسباب تخلفه من خلال سياقه التاريخي وتسعى لإيجاد الحلول للمشكلات التي تعاني منها معظم المجتمعات الإسلامية برؤية تأخذ في اعتبارها عمومية الظاهرة ، وخصوصية المجتمع المسلم .
لقد كانت الحضارة لدية هي الواقع الذي لابد من منهج يتناولها لا على أنها سلسلة من الأحداث يعطينا التاريخ قصتها ، بل بصفتها ظاهرة يرشدنا التحليل إلى جوهرها ، إلى " قانونها " أي إلى سُنّة الله فيها ، ومن ثم يتضح لدينا العديد من القضايا التي يتشكل منها هذا الواقع المتخلف .
وقد اجتهد مالك في جميع مؤلفاته وكتاباته لتقديم الحلول الاجتماعية والعملية القابلة للتطبيق في مجتمعنا الإسلامية للخروج من هذا الواقع المتخلف ، وإحداث التغيير الاجتماعي الذي يبدأ بالفرد ثم بالمجتمع بما يتفق مع خصوصيتنا الثقافية الإسلامية ، وبيئتنا الإجتماعية ، وكان يؤكد على ضرورة الخروج بالحركات التغيرية الاجتماعية من مرحلة الشعارات إلى الواقع العملي ، أي إلى مجال الفعل الاجتماعي .. لذا فإن المؤلفة قامت في هذه الدراسة بقراءة كتابات وتحليلات مالك بن نبي في التغيير الاجتماعي وقضاياه التي صاغها من استقراء أحداث ووقائع المجتمعات في الحضارتين الإسلامية والمسيحية ، لاستخلاص وتشكيل Formulation نظريته في التغيير
الاجتماعي وفق أدوات التحليل في علم الاجتماع .
وهي ترجو أن يكون هذا العمل موضع اهتمام وتقييم علماء الاجتماع لمزيد من الإثراء للجانب النظري والتطبيقي لهذا العلم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية .
=======================
اما (( الاتجاه الفكري لمالك بن نبي ) فتقول عنه :
إن دراسة مالك بن نبي في طفولته للقرآن الكريم ونشأته في أسرة مسلمة غرست فيه قيم الخير والإحسان ، كما أن المؤثرات الثقافية والفكرية التي واكبت مراحل دراسته في الجزائر وفي فرنسا كل ذلك شكل الأولويات في تحديد مساره الفكري المبني على عقيدة إسلامية قوية مع انفتاح فكري لكل العلوم وخبرة بكل التيارات الفكرية والمذهبية التي كانت سائدة في عصر انفتاحه الفكري الإصلاحي .
لقد غرست هذه الأولويات الفكرية في عقلية مالك نزعة التغيير ، وضرورة الخروج من ربقة التخلف والانحطاط اللذين يعيشهما العالم الإسلامي .
وعلى درب الإصلاح كان مالك متأثراً بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في المملكة العربية السعودية ويعتبرها " الفكرة الإسلامية الوحيدة التي تصلح بما فيها من طاقة متحركة لتحديث العالم الإسلامي المنهار منذ عهد ما عبد خلافة بغداد 00 إذ إن هذه الدعوة بما جاءت به من تركيز على فكرة التوحيد ، وتنزيه العبادة عن البدع أمّنت دفعاً إيجابياً ترك بصماته على كل دعاة الإصلاح بعدها ، ومنها حركة جمعية العلماء المسلمين التي تبنت هذه الفكرة لتواجه تحديات الاستعمار
ولهذا كان مالك يتابع الدور التربوي الإصلاحي الذي كانت تقوم به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، وقد زار الشيخ عبد الحميد بن باديس وناقش معه بعض القضايا حول وضع الريف الجزائري ، وكان يرى أن ابن باديس له دور إيجابي في تثبيت فكرة الإسلام الصحيح ، وتنقية العقلية الجزائرية من الوثنيات التي وفدت إليها في عهد الاحتلال ، ولهذا أخذ على الجمعية وعلمائها الذهاب إلى باريس في عام 1936م ضمن الوفد الجزائري للمطالبة بحقوق الجزائر ، ورأى في ذلك خروجاً على المنهج الذي رسمته الجمعية لنفسها ، وهو توعية الشعب الجزائري وتعليمه ، وتهيئة الطريق أمامه للتغيير ، وكان يرى أن مفتاح القضية في روح الأمة وليس في أي مكان آخر .
وقد أسهم مالك بأفكاره وكتاباته في نشر مبادئ البرنامج الإصلاحي وتابع تطوراته وانعكاساته على الجماهير الإسلامية ليس فقط في الجزائر المحتلة بل في كل موقع تعليمي أو توجيهي كان يجد نفسه فيه ، فأثناء دراسته في باريس كان له حضور بين أوساط الجزائريين والتونسيين والمغاربة في الحي اللاتيني ، وأسهم في مناهضة الاستعمار من خلال توزيع المنشورات أو إلقاء المحاضرات في التوعية الدينية والفكرية رغم أنه لم ينتسب إلى حزب أو جمعية ، هذا المنحنى الإصلاحي في فكر مالك كان سبباً في محارة الاستعمار له التي بدأت منذ أن ألقى مالك محاضرة أمام الطلبة المسلمين في فرنسا بعنوان ( لماذا نحن مسلمون ؟ ) وكانت تحض على قيام المسلم بواجبه من أجل حياة كريمة حرة وتبرز انحراف المسلم المعاصر عن جادة الحق والصواب وكان ذلك في عام 1931م ، منذ ذلك الحين بدأت مضايقات المخابرات الفرنسية له ، وابتدأ الاستعمار الفرنسي ممثلاً ف أجهزته الإدارية والفكرية ، يحارب مالك ، ويضايقه بكل والوسائل إذ طُرد والده من عمله وأقام في وجهه العوائق وحاصر ما يصدر عنه من كتب أو مقالات 0
كما أن تعميق مالك في الثقافة الأوروبية كان سبباً في تحريره من نفوذها ومعرفته لمصادرها ومواردها ، ولدوافعها الخفية ، وبواعثها العميقة 00بالإضافة إلى أنه يختلف عن كثير من المفكرين الذين عادوا من أوروبا في تلك الفترة التي كانت فيها الهجمة الغربية على الإسلام تشحن الجو الفكري الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، بالإضافة إلى أن الأقطار العربية قد عرفت معظم التيارات التي نشأت في الغرب ، عرفت الليبرالية ، والعلمانية ، والقومية بكل أشكالها وعرفت النزعات الاشتراكية والجماعية بشتى صورها في الفترة نفسها ، واختلاف مالك عن بعض هؤلاء المفكرين يكمن في أنه لم ينحرف مع هذا التيار الجارف ، ولم ينبهر بحضارة أوروبا المتقدمة صناعياً وتقنياً ، ولم يحدث عنده تحول نوعي في أفكاره وآرائه كما حصل للبعض بل أن خط مالك الفكري أن تسبب له الاضطراب والتشتت ولكنه تجاوز هذه الإشكالية بقوة عقيدته ورؤيته الشاملة لمشكلات العالم الإسلامي . فقد كان يرفض المنطق الذري 00أي تجزيء مشكلة التخلف والانحطاط التي يعاني منها المجتمع العربي والإسلامي ومن هنا كان تميزه عن بقية المفكرين الإسلاميين الذين غالباً ما جزءوا مأساة الأمة الإسلامية إلى عدة مستويات وجوانب فظهرت الحلول عند بعضهم من خلال البعد السياسي ، وعند الآخرين من خلال البعد التربوي ، أو الثورة على الماضي ، أو العكس أي بالعودة إليه ، بينما أن المشكلة كما يراها مالك أي ( مشكلة المسلم ) واحدة تتمثل في انحطاطه ، وكيف يعود إلى حلبة التاريخ من جديد ، وبالتالي كان يدعو إلى حل مشكلات المسلمين في أي جزء من العالم الإسلامي عبر اعتماد ما أسماه المعادلة الجبرية التي تجمع عناصر الإشكالية على اختلافها عوضاً عن استعمال المعادلة الحسابية التي تجزئ الإشكالية إلى عناصر متعددة يتم تناولها كل على حده دون النظر في الرباط الذي يجمعها.
من هذه المقدمات نستطيع القول أن مسار مالك الفكري اتجه إلى البحث عن أسباب التخلف في العالم الإسلامي ، وكيفية الخروج من مأزق التخلف هذا ، كما أنه حاول أن يخرج بالخطاب الإسلامي من مرحلة الدفاع عن الإسلام إلى مرحلة النظر العلمي الموضوعي الموجه بقيم الإسلام وعقيدته ، لإيجاد الحلول العلمية لهذا الكم الهائل من مخلفات عهد ما بعد الموحدين) .
|