- عصران متزامنان
لا بد لفهم ذلك من الخروج من الإطار الحدسي– الصوفي (أو الصوفي المزعوم بالأحرى فقد فعل أدونيس بالصوفية الحقيقية التاريخية ما فعله بالشعر العربي: أبقى عليها لفظياً وأعاد تأويلها على طريقته ومزاجه) الذي صاغ به أدونيس حكمه الصارم وإعادة القضية إلى بعدها الواقعي: إن عصرنا الثقافي هو بالفعل عصران متغايران: عصرنا الطبيعي وعصر الغرب وحين نكون امتداداً لعصرنا الخاص فإننا نكون في قطيعة مع عصر الثقافة الأخرى والحال أن هذا بالضبط ما يدعوه الحداثي بالتخلف عن "العصر" إذ أن الممثل الشرعي الوحيد للعصر عند الحداثية العربية هو الغرب والعصرية هي الثقافة الغربية والتقليدية هي الثقافة المحلية أو سمات الثقافة المحلية التي لم تتغرب بعد.
- مرجعية الغرب في تحديد الشعرية والنثرية
وقد يهدينا هذا التحليل إلى تفسير لا يخطر على البال لظواهر من نوع نشوء الشعر النثري فقد نسأل: إذا كان الأقدمون كما يقول الأستاذ حجازي و أدونيس أيضاً في بعض المواضع كانوا رواداً للنثر الشعري (في مقال حجازي الذي ذكرته قبل قليل يذكر من أمثلة هذه الريادة لغة القرآن والتوراة ولغة التصوف وإشارات أبي حيان التوحيدي) فلماذا لم يخطر على بالهم أن يسموا هذه الكتابات شعرا؟ً وأعني طبعاً الأمثلة جميعها باستثناء القرآن الكريم الذي لا نجادل نحن المسلمين لا قديماً ولا حديثاً في أنه ليس شعراً ولا نثراً بل هو كلام الله وحسب.
ولنعكس السؤال لنصل إلى بيت القصيد: لماذا يصر المحدثون على تسمية هذا النوع من الكتابات شعراً مع أن اللغة لم تضق بأنواع التسميات الممكنة؟
وأنا أعرف أن هذا السؤال سيبدو لإخواننا هؤلاء غريباً جداً ذلك أن الحداثة العربية لم تبدأ إلى الآن بنقد نفسها ومراجعة مسلماتها ومن أسباب ذلك أن هذه المسلمات قد أتت من مرجع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ألا وهو الغرب.
وجوابي أنا على هذا السؤال هو أن أصحابنا سموا هذه الكتابة شعراً لأن مثل هذه الكتابة تسمى في الغرب كذلك!
ولأجل الاقتناع بذلك ما علينا إلا أن نمارس تمريناً عقلياً يسمونه "سيناريو تخيلياً" فنقول: لنفرض أن هذه الكتابة لا تسمى في الغرب شعراً وإنما تسمى مثلاً باسم ثالث فيكون في الغرب ثلاثة أشكال هي النثر والشعر وهذا الشيء الثالث. ألن يلجأ أصحابنا عند ذلك إلى ترجمة هذا الاسم الثالث بكلمة أخرى غير "النثر" و "الشعر" ويعدوا تميز هذا الكائن الأدبي عن النثر وتميزه- وهنا بيت القصيد- عن الشعر مسلمة بديهية كما يعدون انتسابها إلى الشعر الآن مسلمة بديهية؟
- تضييق هوامش الإبداع
النزعة الحداثية للمصادرة هي بآن واحد نزعة لتضييق هوامش الإبداع ولاستبعاد أشكال الإبداع التي لا تتناسب مع الدوغما الحداثية أو لا تتناسب مع تفضيلاتها الجمالية ذات الأصل الاستلابي غالباً كما ذكرت في مقالات كثيرة سابقة.
وبالمقارنة مع هذه النزعة الحداثية الاستبعادية الاستبدادية كانت الثقافة العربية قبل الحداثة أوسع أفقاً وأكثر قبولاً للتنوع الإبداعي فأجدادنا تقبلوا الشعر الفلسفي كما تقبلوا شعر المجون وتقبلوا الشعر الفصيح كما تقبلوا الزجل وتقبلوا بحور الخليل كما تقبلوا الموشحات والدوبيت وتقبلوا أبا تمام كما تقبلوا والبة وأبا نواس ولم يحاولوا أن يصدروا فرماناً يحدد شروطاً صارمة لمن يريد أن يدخل البلاط الشعري ومن العجب حقاً أن تعبر الحداثة العربية عن كل هذه النزعة للاستبداد ثم تظل تؤكد أنها هي ولا أحد غيرها المبشرة بعصر حرية الإنسان وتحرره من القيود!
|