"الساخر" : بما أن اللغة تعتبر من أهم مكونات الهوية العربية الإسلامية ..؟؟ هل يمكن أن يكون مشروع النهضة مبتدئا منها وبها..؟؟ أو يمكن تنحيتها..!!؟؟
الأمر أخطر بكثير مما يبدو..
ولكى ندرك أهمية اللغة العربية فى وجود الأمة العربية فلنسأل أنفسنا سؤالا غريبا: هل كان للغة العربية أن تقاوم الهجمات العسكرية والثقافية العاتية لولا نزول القرآن؟.. وهل كان يمكن للأمة أن تستمر مع انقراض لغتها؟.. أم أن ما كان سيحدث أن يبقى منا شراذم كالهنود الحمر.
إننى واثق أن القارئ سيشعر بالقشعريرة المرعبة لهذا الخاطر: ماذا لو لم ينزل القرآن؟.. ومع قليل من التمحيص سيدرك القارئ أنه كتاب حافظ على وجود أمة.. ولولاه ما بقيت.
ما نفاجأ نحن باكتشافه أدركه الغرب منذ زمان طويل وسلط سهامه على اللغة العربية، لم يسلطها على اللغات الصينية أو اليابانية أو الهندية أو حتى التركية والفارسية، كان التركيز على اللغة العربية، لأنه يدرك أنه إن نال منها فقد نال من القرآن، و إن نال من القرآن فقد انتهت مقاومتنا تماما.
بدأ الهجوم على الفصحى مع الاحتلال البريطانى لمصر على يد مهندس ري انجليزى كان من ادعاءاته المضحكة أن الفارق بين اللغة العامية واللغة الفصحى مثل الفارق بين اللغة الإيطالية واللغة اللاتينية، و أن العامة لا يفهمون على الإطلاق أى حديث بالفصحى، ورغم الكذب الفاجر فقد اتبعه بعض الكتاب المصريين والعرب منهم أحمد لطفى السيد وسلامة موسى، وكان من تلامذتهم بعد ذلك لويس عوض وغالى شكرى والاتجاهات اليسارية عموما.
المحزن، أن دعاة القومية ، الذين أصروا على تنحية الدين كعامل رئيسى فى وحدة الأمة، ووضعوا اللغة مكانه، كانوا هم أكثر من أساء إلى اللغة.
الكتاب الخونة أيضا، راحوا يشجعون العامية وهم يدركون أن يسلبون الأمة روحها، ويهدمون الأساس الذى روجوا به للقومية العربية.
اللغة ليست مجرد وسيلة للتخاطب، بل هى وعاء ثقافة الأمة ووسيلة التواصل بين أبنائها.
يقول أشهر النقاد فى العالم ت اس اليوت أن ثقافة الأمة هى دينها.
واللغة وعاء الثقافة..
لذلك فإن مجهود القضاء على اللغة العربية قد اقترن دائما بمحاولة القضاء على الإسلام.
ما ذكرناه هو بعد هام من أبعاد الهجوم على اللغة.
وثمة بعد آخر لا يقل خطورة.
وهو قضية العلاقة بين اللفظ والمعنى..
ولنبدأ بطرح القضية التى نقلها إلينا الحداثيون والعلمانيون و أدعياء الثقافة والتنوير من عباد الغرب والشيطان..
والقضية قضية لغوية.. وهى تنحصر فى التساؤل عن العلاقة بين اللفظ ومعناه أو كما يقول الحداثيون: العلاقة بين الدال والمدلول، ثم يتطور السؤال إلى: هل سبق اللفظ المعنى أم سبق المعنى اللفظ؟!!..
ما هى العلاقة بين الصوت الذى ينطلق من الحنجرة واللسان والفم وبين ما يعبر عنه هذا الصوت.
هل وجدت الأشياء أولا ثم أطلقت عليها الأسماء؟ ولماذا إذن لا تتشابه الأسماء فى اللغات جميعا؟. أم أن اللغة وجدت أولا بحيث أن مدلول اللفظ يكون كامنا فيه؟..
أطرح عليك هذا السؤال الذى يطرحه جهابذة عباد الشيطان:
لو أن الناس جميعا اتفقوا على إطلاق اسم: " لكب" على الكلب، هل كانت صفات الكلب ستتغير؟ أو أنهم أطلقوا اسم: " رشجة" على الشجرة.. أو أى اسم آخر.. لو أنهم سموها: " ذئبا " أو "كلبا" أو "ماء" فهل كان الأمر سيختلف. ثم: هل تمثل كلمة "الشجرة" الشجرة نفسها ، أم أنها تعنى غيابها؟ تعنى أننا عجزنا عن الإتيان بالشجرة فأتينا بكلمة بدلا منها، وبهذا يتضافر الحضور والغياب. ويصل هؤلاء إلى أن الناس اتفقت اعتباطيا على معنى كل لفظ، و أنه لا توجد علاقة على الإطلاق بين اللفظ ومعناه. و أن المجتمعات البشرية هى التى أعطت المعنى لكل لفظ.
لن نسوق إليهم الآن حجتنا اليقينية أن الله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء كلها.. هم أقل و أضأل من أن نسوق إليهم دليلا من القرآن الكريم.. ثم أننا نريد أن نكشف منطقهم من خلال منطقهم ذاته.
الفصل بين اللفظ ومعناه، أو بين الدال والمدلول كان بدايات أفكار البنيوية والتفكيكية التى انتشرت فى بدايات القرن العشرين على يد فلاسفة الغرب مثل دريدا وسوسير ورولان بارت وجاك كوهين وياكوبسون وغيرهم. بدأت بفصم عرى لا يتصور أن تنفصم، لكن هذا الانفصام كان نتيجة حتمية للفلسفة الإلحادية، ذلك أن الإنسان لا يتبوأ مكانه السامى إلا بإيمانه بالله. فإذا فقد الإيمان بالله ضاع، وتحول إلى مجرد حيوان، ووجب علينا أن نناقش الأصوات المنطلقة منه- من الحيوان- ولكان منطقيا أن نشك فيما إذا كانت هذه الأصوات المختلفة تعبر عن أى معنى.
كان منطقيا أن يتلو الكفر بالله الكفر بالإنسان أيضا.. ليكون مجرد حيوان..
وكان منطقيا أن تسقط كل القيم.. فالقيم لا تستمد قيمتها إلا من الله ومن كتبه ومن رسله.. و إلا فماذا يجعل الصدق خيرا وهو قد يضر؟ وماذا يجعل الكذب شرا وهو قد يفيد.. وماذا يجعل القتل جريمة وانتهاك الأعراض عارا والظلم سبّة؟!..
أدى الكفر بالله، وجحود نعمته علينا بتعليمنا الأسماء إلى فصم العري بين اللفظ ومعناه.. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.. لأن الحضارة المادية الملحدة التى عبدت المادة والعلم والعقل من دون الله ما لبثت أن اكتشفت قصورها جميعا وعجزها عن تلبية احتياجات الإنسان أو تقليل شقائه.
وهكذا أدت الفلسفات الإلحادية فى النهاية إلى سقوط الأرباب التى اتبعها أسلافهم فى القرن التاسع عشر لعبادتها من دون الله: المادة والعلم والعقل.
ولقد أدت العملية التفكيكية فى نهايتها إلى تجاوز الكفر بعالم الغيب إلى الكفر بعالم الشهادة! وسيطرت الفلسفة الألمانية وتكفلت ظاهرية هوسيرل وتأويلية هايدجر وجادامر برفض أى سلطات مرجعية، وكما يعبرون هم فقد انفرط عقد العالم بعد أن فقد كل شئ الإحالة إلى مرجع ثابت وموثوق به.
يرى ميشيل فوكوه أن كل عصر معرفى جديد يزيح العصر المعرفى السابق، وفى مرحلة معرفية سابقة تمت إزاحة المقدس من مركز الوجود ليحل محله العلم والعقلانية، أما فى المرحلة الأخيرة فقد أزيح العقل لتحل محله اللغة، ليصبح الشك وانعدام اليقين هو الحقيقة الوحيدة المطلقة، ويصبح لا ووجود حقيقيا لأى شئ خارج إطار اللغة.
لكن اللغة نفسها مراوغة والعلاقة بين اللفظ والمعنى فيها علاقة اعتباطية..
إذن: فقد انتهى كل شئ..!!..
أعرف أن الكلام صعب وغامض، بل أعرف أكثر من ذلك أن صعوبته لا ترجع إلى عمقه، بل إلى أنه هراء، سفسطة مجانين ، قد تبدو منهم هنا وهناك لمحات مبهرة كما تبدو من أى مجنون، نعم هراء أحمق مجنون يريدون منا أن نستبدله وهو الأدنى بالذى هو خير، أناس طمس الله على قلوبهم و أعمى بصائرهم فلا يفقهون، لكن المهم هنا، أن هذه الفلسفات النظرية تنجم عنها تطبيقات عملية نتلظى بنارها ونكتوي بنيرها.
الخطير فى الأمر.. الخطير جدا.. أن هذه الفلسفات والأفكار لا تدور فى فراغ.. بل إنها أشبه بدائرة التوصيلات الكهربائية والإليكترونية التى تشتريها مع أى جهاز كهربى تشتريه مع الجهاز فى كتيب يشرح تحول النظريات إلى تطبيقات. وهو كتيب لا يفهمه إلا الخبراء، وبالنسبة للشخص العادى فإن كلماته ورسوماته أشبه بالشفرة، لذلك فما من أحد منا يراجع خرائط التوصيلات الكهربائية والإليكترونية تلك – لجهاز تليفزيونه على سبيل المثال!. إنك تقتنى الجهاز واثقا فى أن من وضع هذه الرسوم لم يخدعك من ناحية، ومن ناحية أخري فإنك غير محتاج بالضرورة لفهم تلك الرسوم والخرائط كى تستطيع تشغيل أو مشاهدة جهازك التليفزيونى.
العلاقة يا قراء بين الفلسفات النظرية والتطبيقات العملية لها تشبه تماما ذلك المثل الذى طرحته عليكم.. تشبهه وتكاد تتطابق معه إلا فى شئ واحد.. وهو أنك لم تقتن جهازا للتلفاز بل قنبلة موقوتة ستنفجر فيك وتقتلك وتدمر بيتك وتشرد أهلك.. ومن هنا وجب عليك الرجوع إلى الرسوم لاكتشاف الخطر.
فلنتناول على سبيل المثال أحد التطبيقات العملية للفلسفة السابقة وللقضية اللغوية التى بدأنا بطرحها. تلك القضية الغامضة المكتوبة برموز كالشفرة لا يفهمها إلا مختص.
قلنا أنه لا وجود لشىء خارج اللغة ( والعبارة تبدو فى الظاهر بريئة، ويبدو أن معناها يفوق قدرتنا على الفهم، أو أنها بلا معنى، والواقع أنها بعد فك رموز شفرتها تعنى إنكار الذات الإلهية والأنبياء جميعا، كما يتضمن معناها فى ذات الوقت الكفر بالعلم والعقل) . كما قلنا أن ارتباط المعنى باللفظ هو ارتباط اعتباطى لم يرسخه إلا اتفاق الناس عليه آمادا طويلة، و أنه لذلك يمكن أن يتغير، لكن بشرط أن نفرض قطيعة معرفية مع الماضى كله، وهذا لا يعنى إلا الكفر.
كان هذا هو رسم الدائرة الإليكترونية الغامض الصعب والآن لننتقل إلى التطبيق.
إذ يترتب على ذلك أن كلمة الشذوذ الجنسي مثلا تحمل معنى اعتباطيا لفعل كريه يحتقره الناس، لكن هذه الكراهية والاحتقار لا تنجم من الكلمة ولا من الفعل بل من اتفاق اعتباطى طال عليه الأمد حتى أصبح كالحقائق الراسخة وما هو بحقيقة وما هو راسخ، لقد اكتسبت الصفة معانيها السلبية المهيمنة المهينة عن طريق استخدامها المستمر والمتكرر لإهانة الشواذ والتنديد بهم حسب قيم دينية و أعراف اجتماعية ومنتجات ثقافية تفرض معايير معينة، وترى الكاتبة الأمريكية الشهيرة جوديت باتلر فى كتابها: "مشاكل الجنوسة" أن على الشواذ والسحاقيات أن يصفعوا المجتمع بالكلمة بصفة متكررة ومستمرة، لأنهم بذلك سينجحون فى تغيير الأعراف المتحجرة وتفكيكها وتحطيمها، وبذلك تفقد كلمة شاذ " GAY" أو سحاقية : " LESBIAN " قدرتها على الإهانة، وربما يصل الأمر، كما يقول الدكتور عبد العزيز حمودة إلى استعمال هذه الصفات فى سياق المدح..!!
هل جال بخاطرك أن هذه العبارة البريئة الموجزة: " لا وجود لشيء خارج اللغة" يمكن أن تسفر عن هذا التطبيق البشع.. إباحة الشذوذ وتمجيده..
لن نتكلم الآن عن علاقة ذلك بقيام الغرب بالضغط على الدول الإسلامية لتعيين وزير شاذ أو رئيسة تحرير سحاقية، لن نتكلم عن ذلك فالعلاقة واضحة، لكننا نتكلم عن أمر آخر، أمر يدخل فى صميم همومنا.
ذلك أنه إن كانت تلك القضية اللغوية والخلفيات الفلسفية قادرة على قلب المعنى بهذه الطريقة، وإن كانت حققت نجاحات هائلة فى بلادهم، كما حققت نجاحا لا ينكر على أيدى الحداثيين والعلمانيين والتنويريين والتغريبيين فى بلادنا، إذا كانت قد نجحت فى ذلك، فلماذا لا تنجح أيضا فى وصم العمليات الاستشهادية بالعار والإثم الشديد، وفى اعتبار الجهاد معصية نظامهم الشيطانى الكبرى التى تستحق كل وسائل السحق والمحق.
نعم .. إن كانت قد نجحت فى ذلك فلماذا لا تنجح فى تحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق..
نعم.. لم تكن تلك أفكارا هائمة فى الفراغ بل كانت رسم الدائرة الإليكترونية الجهنمية المشفرة..
نعم.. و ما قالته جوديت باتلر فى مجال يقوله بوش فى مجال آخر.. وما نادى به دريدا يطبقه شارون ممتطيا نفس الفكرة والمنهج.
كل ذلك منطقى – بمنطق الشيطان – بالنسبة لهم ولتاريخهم الدينى والسياسي والاجتماعى. لكنه بالنسبة لنا كارثة ومصيبة وداهية وخيانة للأمة وتفتيت لها، فلماذا ساقنا حداثيونا إلى هذا المنعطف الوعر.
يقولها فلاسفة الغرب بوضوح أنه لا سبيل للتقدم إلا بالقطيعة المطلقة مع التراث، ومنه اللغة أما كتابنا الجهابذة كأدونيس وجابر عصفور والغذامى وكمال أبو ديب ، وصبيانهم كصلاح عيسي والغيطانى والقعيد، وكل كتاب السلطة، فيرون أن مجتمعاتنا لم تنضج النضج الكافى بعد، لذلك فهم يراوغون – بل يكذبون - فى إيصال المعنى إلينا. وبدلا من تلك الجملة الصريحة الواضحة القاطعة الناطقة بالكفر فإن الحداثيين فى عالمنا الإسلامى يستعملون جملا أخرى من نوع: "تحطيم القوالب المتحجرة الثابتة لمنظومة القيم البالية". وما يقصدون إلا القرآن والسنة. إلا الإسلام.
يصرخ الدكتور عبد العزيز حمودة فى كتابه المرايا المقعرة : أن هذا هو الرعب القادم، بل الرعب القائم، رعب فقدان الهوية كلها.. رعب ينتقل بنا من تفكيك اللغة إلى تفكيك الوطن.. ومن سيولة الأفكار إلى انهيار الأمم..رعب التلاشى والفناء تحت وطأة ضربات ساحقة غادرة .. بالتآمر مع حداثيينا..
هذا ما أريد أن أصل إليه..
>> تابع
__________________
عفوا أيها الادارة الحكيمه
لماذا تم ايقافي هل من سبب مقنع؟؟
ام انه خطأ ؟؟
اتمنى ان اجد الرد قريبا...!!!
|