-الإعراض عن الزواج وعن الزينة ومباهج الحياة المشروعة:
من المعروف في الشريعة أن الزواج من السنن المستحبة المندوب إليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".وقال وقد أخبر عن صحابة أراد أحدهم أن يقوم الليل فلا ينام وآخر أن يصوم فلا يفطر والثالث أن يعتزل النساء فلا يتزوج: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
ولا شك أن الإسلام جاء بالحنيفية السمحاء التي لا رهبانية فيها فامتناع الصوفية عن الزواج مناقضة لهذا المقصد العظيم من مقاصد الشريعة ويقول الصنعاني رحمه الله في"سبل السلام" معلقاً على هذا الحديث: "وهو دليل على أن المشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الانهماك والإضرار بالنفس وهجر المألوفات كلها وإن هذه الملة المحمدية مبنية شرعتها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير" .
أما الصوفية في زمان ابن الجوزي فقال أحدهم: "إذا طلب الرجل الحديث أو سافر في طلب المعاش أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا" فقال ابن الجوزي في الرد عليه: "وهذا كله مخالف للشرع وكيف لا يطلب الحديث والملائكة تضع أجنحتها لطلب العلم. وكيف لا يطلب المعاش وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن أموت من سعي على رجلي أطلب كفاف وجهي أحب إليّ من أن أموت غازياً في سبيل الله. وكيف لا يتزوج وصاحب الشرع يقول: "تناكحوا تناسلوا" فما أرى هذه الأوضاع إلا على خلاف الشرع" .
وكما حرم هؤلاء الصوفية على أنفسهم الزواج حرموا طيبات أحلّها الله لهم واختاروا لأنفسهم المظهر المزري والله عز وجل يأمر المؤمنين أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، والصوفية ألزموا أنفسهم بما لا يلزم من لبس المرقّع بلا ضرورة، قال أبو الفرج: "وإنما أكره لبس الفوط المرقعات لأربعة أوجه أحدها أنه ليس من لبس السلف وإنما كان السلف يرقعون ضرورة. والثاني أنه يتضمن ادعاء الفقر وقد أمر الإنسان أن يظهر نعمة الله عليه. والثالث أنه إظهار للزهد وقد أمرنا بستره. والرابع أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة ومن تشبه بقوم فهو منهم!" .
وأخذ أبو الفرج عليهم أنهم بهذا خالفوا السنة وتمسكوا بأمر شكلي وخالفوا مقصد الشرع في التواضع وعدم المراءاة وإخفاء الزهد وعدم إظهاره.
وبعد هذا الاستعراض لنقاط جوهرية في نقد ابن الجوزي للصوفية نقول إن هذا النقد يمثل لنا فهماً للمقاصد العامة للشريعة الإسلامية وما تريده من نظام للسلوك الاجتماعي والفردي بالتناقض مع فهم خاطئ لم يزل لحد الآن موجوداً عند المسلمين يتميز بأطروحة رئيسية تقول إن الدين يريد من الفرد أن يعرض عن العمل وعن الإقبال على مباهج الحياة وينصرف إلى العزلة والتفكير في الآخرة فقط دون تفكير في تدبير أمر الدنيا وأبو الفرج يدافع عن الفهم الإسلامي الصحيح المنسجم مع قوله تعالى "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا".
ونقول باختصار: إن هذه المناقشة تدخل في صميم الرؤية المقاصدية العامة التي كان عليها أئمة الفقه عبر العصور والخلاف الشهير بين الفقهاء والمتصوفة كان خلافاً بين من يرى في الإسلام ديناً جامعاً لمصالح الدنيا والآخرة (وهم الفقهاء غالباً) ومن يرى في الإسلام ديناً يهمل الدنيا لصالح الآخرة وعبر عن هذا التيار المتصوفة وهذا التيار استطاع مع الأسف أن يجتذب عقلاً كبيراً من أعظم عقول المسلمين بل من أعظم عقول البشرية جمعاء هو أبو حامد الغزالي رحمه الله وكتاب ابن الجوزي حافل بالرد على أبي حامد وانتقاد تراجعه في مرحلته الصوفية عن المتعارف عليه والبديهي في الفقه الإسلامي الذي كان هو بالذات من أعلامه العظام. ولا بد لي في ختام هذه الفقرة أن أنصف التيار الصوفي فأقول إنه رغم تطرفه فقد كان يشكل جانباً مفيداً من جوانب الفكر الإسلامي الذي هو الجانب التأملي ولعل في تطرفه في هجر الدنيا رد فعل مبالغاً فيه لتطرف معاكس شهده تاريخنا عند بعض الشرائح المترفة في السلطة وغيرها.
خامساً-الشاطبي ونظريته المقاصدية

توفي عام 790ه)
مع الشاطبي نحن حيال نقطة تحول نوعية في النظر الأصولي المقاصدي إذ أننا لأول مرة نجد عالماً أصولياً وضع على عاتقه مهمة التقعيد لمقاصد الشريعة فهو في كتابه الموافقات في القسم الذي عنونه "بكتاب المقاصد" يقدم "نظرية للمقاصد" على حد تعبير الأستاذ أحمد الريسوني .
وهو في هذه النظرية يدافع عن مبدأ تعليل الشريعة دفاعاً مقنعاً مستنداً إلى القرآن الكريم مخطّئاً رأي الفقهاء المنكرين لتعليل الأحكام أمثال الرازي.
والشاطبي رحمه الله يبدأ كتاب المقاصد بجملة قاطعة جازمة: "وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً" .
والشاطبي يتجاوز المماحكات التي سادت الفكر الإسلامي بين تيار المعتزلة وتيار الأشاعرة حول مبدأ التحسين والتقبيح العقليين ليعود إلى الفهم السلفي القرآني السليم الذي علمنا أن الله عز وجل علل لنا أحكامه فأرشدنا بهذا إلى جواز البحث عن هذه العلل يقول أبو إسحاق: "والمعتمد إنما هو أنّا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله يقول في بعثة الرسل وهو الأصل (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقال في أصل الخلقة (وهو الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى، كقوله بعد آية الوضوء (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) وقال في الصيام (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وفي الصلاة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وقال في القبلة ( فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة) وفي الجهاد (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) وفي القصاص (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) وفي التقرير على التوحيد (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة" .ونلاحظ في هذه الاستشهادات شمولها لأبواب العبادات والمعاملات معاً وهذا ما يبرر قول أبي إسحاق رحمه الله "إن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة" وهو في هذه النقطة على طرفي نقيض مع ابن حزم الذي رفض التعليل رفضاً باتاً بل عده تطاولاً على الخالق عز وجل والعياذ بالله ومن الطريف في هذا السياق رؤية التقاء طرفين هما في الأصل غير ملتقيين في رفض التعليل هما الرازي وابن حزم ذلك أن الأول هو من أبرز الأصوليين القائلين بالقياس على حين أن الثاني كتب ما كتب ضد التعليل والمعللين انسجاماً مع ظاهريته التي تتميز أول ما تتميز برفض القياس رفضاً باتاً. وفي رأينا أن المنسجم مع نفسه وبنيانه النظري في هذا الخلاف كان ابن حزم ولا أعرف كيف استطاع الأشاعرة أمثال الرازي أن يوفقوا بين قولهم بالقياس في الفقه والقياس يتضمن في بديهياته مبدأ "العلة" التي هي ببساطة الوصف الظاهر المنضبط المناسب الذي يكون علامة على حكمة الحكم ومظنة لوجود هذه الحكمة!
والشاطبي في "كتاب المقاصد" من سفره النفيس "الموافقات" له نظرة تاريخية رائعة لعلاقة الشريعة الإسلامية بالقوم الذين اصطفاهم الله لحمل هذه الشريعة وإيصالها للعالم فهو يكرس فصلاً خاصاً لكون الشريعة عربية ولكونها أمية أيضاً فالشريعة جاءت إلى قوم كانوا رغم انحرافهم على بقية باقية من ملة إبراهيم عليه السلام وقد أقرت الشريعة الصالح من علومهم وأخلاقهم ومحت الطالح منها يقول: "واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق واتصاف بمحاسن شيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه ، وأبطلت ما هو باطل وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضار ما يضر منه" ومن العلوم النافعة التي أقرتها الشريعة ما كان عند العرب من علوم النجوم والأنواء والطب والتاريخ وأخبار الأمم الماضية وفنون البلاغة والفصاحة ومعرفة أساليب الكلام وضرب الأمثال ومن العلوم الضارة التي أبطلتها الشريعة علم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة. وأقرت الشريعة مكارم أخلاق كانت عند العرب ونهت عن مساوئ ومن قوانينهم أقرت أشياء عددها الفقهاء مثل القراض وتقدير الدية وضربها على العاقلة وتوريث الذكر مثل الأنثيين وغير ذلك .
وأبو إسحاق يقسم المقاصد إلى قسمين: قصد الشارع وقصد المكلف ويقسم قصد الشارع إلى أربعة أنواع: 1-قصد الشارع في وضع الشريعة، 2-قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام، 3- قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها، 4-قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.