فقد علمت أنها لا حق لها فى الميراث وان الدكتور مراد ليس أبيها وكذلك الأستاذة كريمه ليست أمها.. وأنهما قد تبنياها وكان عمرها شهور من أحدى الملجأ عندما يأسا من أمل الإنجاب مع توقهما الشديد للأطفال.. فاتخذاها ابنه لهم طوال تلك السنوات حتى بلغت العشرين من عمرها.. ولم يشعراها بأي شيء غير حنان الأب ولهفة الأم.. , لقد مادت الأرض تحت أقدامها ..وأحست بعد أن أفاقت من صدمتها أن الحائط الصلب الذي كانت ترتكن إليه قد تهاوى بها لقاع بئر عميق..أذهلتها تلك الكارثة عدة أسابيع .. قرر بعدها مواجهة الحقيقة ومصيرها المجهول...
وماذا ستفعل هي ووالدتها, تقصد مدام كريمة.. فقد جلست إليها وما ناقشتها في أمر هذا التبني وما عاتبتها عليه فلن يفيدها ذلك بشيء سوى البكاء على اللبن المسكوب... إنما سألتها كيف سيكون حالها بعد ذلك؟ والى أي مصير ستئول.. وقالت:- أين أذهب بعد تلك السنوات.. وكيف أكسب قوتى ولم أكمل دراستي بعد؟
- كفاك يا ابنتي شر الحاجة والسؤال.. وأين أنا حتى أدعك تشقين وتسعين للعمل ؟
- يكفيك تكلفا, فقد انتهى دور الأم ويكفى ما تجشمتيه من عناء طوال السنوات للقيام بذلك الدور
- يعلم الله منزلتك من نفسي.. وأنني ما شعرت نحوك بشفقة أو عطف إنما شعور حقيقي بالأمومة لم يكن به أي تمثيل أو تصنع.. – دعينا من هذا الآن, كيف سندبر حالنا بعد ذلك؟
وكم معنا من المال؟ - لقد أخذت نصيبى من الميراث, وقد أوصى لك أبيك بعمارة الإسكندرية.. كان ينوى رحمه الله أن يسجل أرض العجمي باسمك.. لكن القدر لم يمهله وجاء موته فجأة..لكنك تعلمين أنى أحبك ولن أتركك وحدك .. فقد حزمت أمري على السفر إلى الإسكندرية للإقامة بشقتنا بتلك العمارة.. وسأضع أرثى في البنك .. ثم نفكر بعد أن يستقر بنا الحال في الخطوة التالية من حياتنا.... وسافروا بالفعل إلى الإسكندرية وبصحبتهم داده وجيده فقد كانت كل ما تستطيع أن تظفر به من ذكريات ماضيها, وأستقر بهم الحال بمقرهم الجديد, وما لبثت أن ظنت أن القدر قد أسبل عليها غلاله رقيقة من الراحة بعد الشقاء... إذا بكارثة جديدة تلم بها وهى موت السيدة كريمه بعد خمس سنوات من استقرارهم في الإسكندرية, وبموتها سقط أخر حجر في الحائط الذي كانت ترتكن إليه... فاليوم لم يعد لها فى الدنيا من يحنو عليها ويشد من أزرها, وعاودها مرة أخرى الشعور بالضياع وهاجمتها موجات بكاء عنيفة.. ما كان ينجيها منها غير قوه إيمانها بالله ورضاؤها بأقدارها
, وتحتم عليها مواجهة الحياة لكن وحدها في تلك المرة... وكانت الأموال في البنك لا تكاد تكف المصروفات الأساسية فاضطرت للبحث عن عمل, حتى وجدته كمدرسة حضانة في أحدى المدارس.. فكان لهذا العمل تأثير مزدوج في نفسها فهو يوفر لها المال لمواجهة الحياة ومن ناحية أخرى يملأ فراغ حياتها ويشبع احتياجاتها العاطفية, بتواجدها بجوار الأطفال الذين لا يشغلهم سوى الألعاب و الضحكات... فيكفى نظرة واحدة لوجه طفل وهو يمرح ويلعب لتزيل التكشيرة عن وجهها وتغسل ما بنفسها من الهموم... وتبعث فى نفسها أمل جديد.. فقد كان الأطفال هم كل ملجأها وسلواها وملاذها بعد أن فقدت كل ملجأ وملاذ, وأصبحت تقضى في عملها أكبر وقت بينهم متشاغلة بهم عن همومها ولا تلبث أن تعود حتى تجد داده وجيده قد أعدت لها ما تشتهيه من الطعام .. إنها تفعل كل ما من شأنه أن يسليها ويروح عنها.. كم هي عظيمة تلك السيدة فقد أحبتها بصدق ولم تتخل عنها في من تخلوا... أحيانا كانت تسير على شاطىء البحر حتى الغروب أو تذهب للنادي لتجلس في مواجهة البحر تتأمل حال الدنيا.. وقد تهيج عليها الذكريات فينطفأ بريق عينيها وتغرق فى الدموع... فمازالت على تلك الحال حتى قابلت أحمد دون ميعاد..عله يكون منقذها بعد طول عذاب وألا يتخلى عنها كمن سبقوه... , مر كل هذا بذاكره داده وجيده كشريط سينمائي وحاولت أن تغالب دمعة أبت ألا أن تنحدر علها تطفىء بعض من نار حزنها وتهدئ توجساتها ... ثم ما لبثت أن أجبرت نفسها على التظاهر بالنوم حتى تمنع ذهنها من التفكير وتوقف تدفق شريط الذكريات...
لم تمض تلك الليلة كمثيلاتها بالنسبة لأحمد, فلم يشغل تفكيره وهو في طريق عودته لمنزله سوى منى.. انه يلمح ومضات الأمل يزيد بريقها بعد أن كاد يخبو.. ما لهذه الإنسانه من تأثير عجيب عليه.. فقد ألجمت عقله وطوقت فؤاده, انه لم يشعر انه موجود إلا بعد أن رآها, ولم يستعذب الإنصات للكلمات إلا بعد أن سمعها, ولم يغرق من قبل كما غرق في بحر عينيها.. كل ما فيها يجذبه إليها.. انه يحس إنها قدره وقد طال بحثه عنها.. كل شيء يمضى في سرعة, ذهنه مشوش إلا في اللحظات التي يفكر فيها ويستحضر صورتها وكأنه أحساس اللاهث في صحراء في لفح الشمس وقد مر بواحة رطبه هواؤها عليل وماؤها غدير... فكذلك هي بالنسبة له, وها هو يتجه إلى النادي وهو يتضرع إلى الله أن يلقاها.. وينبئه أحساس داخلي بأنها ستأتي.. فجلس ينتظر ..
وقد قاربت الشمس على الغروب.. وفجأة وهو مستغرق في أحلام يقظته شعر بيد تلمس كتفه وقد سرت منها شراره ألهبت جسده وأشعلت فؤاده.. وسمع صوتها:- هل أفزعتك؟
- لم أظن يوما أن الفزع يمكن أن يكون بهذه الروعة.. تفضلي بالجلوس, - هل تأخرت عليك ؟
- لا يهم, المهم أنك أتيت, كنت أخشى إلا تأتى. – لقد حاولت, لكنى لم أستطع.
وران صمت عميق ليفسح المجال لحديث لا تنطقه شفاه, لكنه ابلغ من أي كلام....
وتوالت بعد ذلك لقاءاتهما في مختلف الأماكن التي شهدت مولد حبهما, فلم يكن يمضى يوم دون أن يلتقيا ويتسامرا بأعزب الكلمات, فيوم أن صارحها بحبه كان أسعد أيام حياتها.. من يومها لم تعد تحسب عمرها.. وما يعنيها من العمر أن طالت أيامه أو قصرت وقد ظفرت باثمن ما كانت تتمنى.....
فها هي الشمس تشرق من جديد فى خريف حياتها, لتضيء بشعاعها ظلمة قلبها, ولتكتسي أشجار أحزانها الجدباء بأوراق جديدة خضراء من صنع حبها, لتنمو الأوراق وتتشابك بنمو حبها, لتصنع ظلا تهجع إليه في قيظها, تنسى عنده همومها, تدفن تحته أحزانها....
وفي أحدى نزهاتهما وهما يسيران في ظلال النخيل في أحدى الحدائق و قد تشابكت أيديهما, فكان كل منهما يقبض يده على صاحبه لا يريد أن يفلتها أبدا, وبينما هما كذلك.. وقد أسكرتهما نشوه حبهما أن قال لها أحمد وهو يواجهها وقد أمسك بيديه يديها وعينيه ناظره لعينيها – منى, متى أحادث والدك في أمر زواجنا ؟ ... وكأنها قد أبصرت شبحا فأفلتت يده من يده وابتعدت في شبه قفزه... فها هو الناقوس يدق محذرا بنهاية سعادتها.. وهاهي الستار تستعد لتسدل على قصة حبها التي لم تكتمل فصولها بعد.., فأقترب منها وقد أحس بوجومها ومد يده يسوى خصلة أنسدلت فوق جبينها.
قائلا:- ماذا بك يا منى ؟ أصدر منى ما يسؤك؟ .. فانفجرت باكيه مردده من بين نشيج بكائها:- لا تتركني يا أحمد.. لا تتركني مهما حدث, عدني ألا تفعل... فأسرع يضمها إليه وقد أحس بها ترتجف بين يديه.. – أعدك, بل أقسم لك انك قد غدوت روحي وكل كياني.. فمن هذا المجنون الذي يفرط في روحه؟ أطمئنى فأنا لك أبدا ولن يفرقنا إلا الموت.. فهدأت واسترخت أعصابها, وجلسا على الحشائش أسفل شجرة وارفة الظلال وقد احتضن كفها في حنان هامسا بها:- أما آن لك أن تكاشفيني بسرك الذي يقض مضجعك ؟ , - لم يعد هناك بد من المكاشفة, فقد طال تهربي لكنى لم أعد أستطيع, سأصارحك وقلبي يتمزق خشية فراقك...
- لا تخش على حبي وأنبئيني... فأحس بيدها ترتجف بين يديه وهى تحرك شفتيها بصوت هامس يقطعه نشيج بكاء راويه حكايتها وأسباب شقائها...
ولما انتهت نظرت إليه وعينيها مغرقه في الدموع تنتظر جوابه.. فما كان منه إلا أن ضمها إليه بقوه وطبع قبله حانية على كفها.. وخاطبها بحده مفتعلة:- أمجنونة أنت أن تظني أن مثل تلك الأشياء تؤثر على حبي لك ؟ فما كان يعنيني نسبك أو مالك عندما أحبتك.. ولن أفرط فيك لآجل أيا منهم.. ما لي أنا وأبيك أكان باشا أو طبيب أو لم يكون ولا أنا بطامع في أموال... لقد بحثت عن الإنسان وما أجدني قد خاب ظني فيما بحثت عنه... فكل يوم ينجلي عنك غموض يزيدك منى قربا ويدعم تمسكي بك, والآن أشعر بأنني بحاجه إليك أكثر من أي وقت مضى مثلما أنت بحاجه إلى....
لقد آن لنا أن نهجع لظل شجره بعد طول عدو في الصحراء... وبيتنا سيكون ظل تلك الشجرة الذي أريحك فيه من كل عذابات الماضي لنكتب فيه فقط حروف الحاضر والمستقبل, لقد ذهب الماضي بأحداثه و أشخاصه.. فلم يتركنا من وراءه نتعذب؟؟ّ لم يكن ذنبك أو ذنبي ما رويت من أحداث الماضي, لكن سيكون ذنبنا عظيم أن نحن أهدرنا الحاضر ولم نظفر منه بما ينسينا الم الماضي...
فأحست كأن كلماته ماء باردا قد القي على نيران قلبها فأخمدها إلى الأبد وكأن جراح قلبها قد اندملت بمجرد لمسه من يديه, وزفرت زفره عميقة أخرجت بها بقايا أدخنة نيرانها المطفأة... وألقت برأسها فوق صدره وحاولت أن ترخى أعصابها, رغم ذلك كانت تشعر أن سعادتها زائلة... , وأن شعاع الشمس الذي أشرق لها فجأة سرعان ما ستحجبه الغيوم..., غصة ما في صدرها تمنعها اكتمال فرحتها.. لكنها تحاول جاهده أن تتغلب عليها, وتتعجب من نفسها فلطالما عاشت الأحزان وتمنت أن تلقى السعادة.. وعندما وجدتها استكثرتها على نفسها.., أدارت رأسها محاوله نفض هواجسها لتستمتع بلحظتها...
قضت يومها مع أحمد في ذلك المكان المفتوح وسط الطبيعة.. فلم تعد تطيق الأماكن المغلقة, تشعر بأنها تطبق على صدرها تكاد تخنق أنفاسها, وعادت إلى البيت بصحبة أحمد الذي تعرف على داده وجيده التي أحبته و أكرمت وفادته.. ووجدت فيه خير ما تمنته لمنى, وخاطبته برنة ود:- ألن تبق معنا للعشاء؟ - لا, سأذهب الآن وسوف أعود لأصطحب منى للعشاء فى الخارج, إذا لم تمانع.
- أنا؟ .. بالطبع لا أمانع. – إذن وداعا مؤقتا.
وصافحها بحرارة وخرج بعد أن ألقى السلام على داده وجيده, وبعد أن غادر ظلت منى في مكانها على الكرسي أمام الشرفة المطلة على البحر وقد شغلها التفكير في أحمد.. عندما مرت بها داده وجيده فوجدتها على حالتها تلك فنادتها:- منى, أمازلتِ هنا؟ قومي لتستريحي لحين عوده أحمد..
- حاضر يا داده, أعدى لي ثوب السهرة الأسود حتى أستيقظ من النوم..
- - سيكون كل شيء كما تريدين, والآن أذهبي لتنامي قليلا..,
وذهبت منى لحجرتها وأغلقتها عليها وألقت بنفسها فوق السرير.. وأرخت جفونها للنوم..
وعندما عاد أحمد وجدها فى أكمل زينتها في ثوبها الأسود اللامع.. وإشراقه وجهها تنعكس على قرطها الماسي فتزيده جمالا.
- نعم.ت جاهزة ؟ - - أذن - أذن هيا بنا.
وجذبها من يدها يلتهمان درجات السلم... كانت ليله رائعة قمرها بدر, جلسا يتناولان العشاء على أضواء الشموع الخافتة, يأكلان حينا ويتناجيان أحيان.
- هل أنت سعيدة يا منى ؟ - لا اظننى قد عرفت للسعادة طعما إلا الآن..
- يا حبيبتي.., أعدك بعمري انك لن ترى بعد ذلك إلا السعادة.
قالت وقطرات دموع تنحدر منها كحبات العقد المنثور... – لا يهمني بعد ذلك... فقد عشت سعادتي فى الأيام التي عرفتك فيها.... فأبتسم لها وجفف دموعها...
وأستمر لحن شجي يعزف كأنه يأتي من خلف السحاب.. ونسمات الليل الباردة تهب فتداعب خصلات شعرها.
__________________
وطنى لوشغلت بالخلد عنه**** نازعتنى اليه في الخلد نفسى
|