الموضوع: مقال
عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 08-11-2002, 02:26 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

إن التبرير الذي يقدمه التقرير لتضمين مؤشر <<تمكين النوع>> هو أنه <<يعكس قصور تمكين المرأة في المنطقة العربية>> (ص18). ففضح التقرير نفسه. إذ هل كل شيء يعكس شيئاً سيئاً في المنطقة العربية يجب تضمينه، بينما يجب استبعاد كل شيء إيجابي لدينا، كقوة الارتباط العائلي مثلاً أو انخفاض درجة انتشار العنف والجريمة؟ أم هناك سبب أهم حتى من هذا، يبرر الاهتمام بمسألة <<تمكين النوع>> وهو ازدياد نفوذ الحركات النسوية في العالم الغربي، وأن أي تضمين لمثل هذا المؤشر في التقرير العربي سوف يضمن رضى المؤسسات الدولية التي سيصدر عنها التقرير؟
أما الاتصال بشبكة الإنترنت، فيبرر التقرير إدخاله في المقياس بأنه <<أحد متطلبات الانتفاع بفرص العولمة في هذا العصر>>. فهل استقر الرأي إذن واتضح الأمر على نحو لا يحتمل الشك على أن أي شيء يؤدي إلى مزيد من العولمة هو أفضل من غيره، حتى من حيث الارتفاع بمستوى آدمية الإنسان؟
ثم فلنتساءل عن فائدة الجمع بين كل هذه الاعتبارات المختلفة في طبيعتها أشد الاختلاف في مقياس واحد. لنفرض أننا بعد عشر سنوات قيل لنا إن مرتبة دولة عربية، كمصر مثلاً، قد تحسنت طبقاً لمقياس التنمية الإنسانية خلال هذه السنوات العشر فأصبح ترتيبها 82 بدلاً من 92 (كما يقول لنا التقرير الآن)، وأن ترتيب دولة كالكويت قد تحسن أيضاً فأصبح 60 بدلاً من 70 (كما هو الآن طبقاً لهذا التقرير). فما المطلوب من المصريين والكويتيين في هذه الحالة؟ هل يتعين على المصريين الابتهاج أم يستحسن الانتظار حتى نعرف مصدر هذا التحسن بالضبط: هل هو زيادة قدرة النساء أم زيادة الاتصال بالإنترنت؟ أو فلنفرض أن هذا التحسن الذي طرأ على ترتيب مصر كان نتيجة زيادة الاتصال بشبكة الإنترنت فقط، ولكنها كانت زيادة كبيرة لدرجة عوضت انخفاضاً شديداً في قدرة النساء وفي حجم الحريات المتاحة. فهل يجب على المصريين الابتهاج رغم ذلك، ما دام الترتيب النهائي الذي وصل إليه تقرير التنمية الإنسانية في هذه الأمور مجتمعة قد تحسن؟
ولنفرض أيضاً أن التحسن في ترتيب الكويت كان ناتجاً عن تخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (التي يقيس بها التقرير درجة تلوث البيئة) بينما كان التحسن في ترتيب مصر نتيجة لزيادة قدرة النساء، فأي الشعبين يحق له الابتهاج أكثر؟ لا نعرف بالطبع لأننا لا نعرف أيهما أهم: النساء أم ثاني أكسيد الكربون!
هل كان من الممكن حل هذه المشكلة بإعطاء المؤشرات الستة <<أوزاناً>> تعكس درجة الأهمية النسبية التي نعلقها على كل منها بالمقارنة بالمؤشرات الأخرى؟
لا أعتقد أن هذا الحل مُرْضٍ على الإطلاق، إذ من الذي يستطيع أن يقرر ما إذا كانت الحرية أهم أم المعرفة؟ <<تمكين النساء>> أهم أم نظافة البيئة؟ وحتى إذا كان هذا ممكناً، فمن الذي يستطيع أن يعطي لهذه المقارنة أرقاماً، فيقول مثلاً إن النساء أهم من البيئة ثلاث أو أربع مرات، أو أن زيادة العمر المتوقع عند الميلاد أهم بمقدار الثلث أو الربع من الحرية؟!
ولكن التقرير بدلاً من أن يعترف بهذه الصعوبة، ويتبع المسلك القويم بالتخلي عن هذه العملية العبثية التي تجمع وتطرح ما لا يجوز جمعه وطرحه، قرر من باب تسهيل الأمور دون التخلي عن وجاهة التعبير الرقمي، أن يعتبر كل هذه المؤشرات الستة على القدر نفسه من الأهمية، ومن ثم أن يعطيها أوزاناً متساوية. ودافع عن هذا المسلك بقوله:
<<وكما ينبغي أن يكون معلوماً فإن افتراض تساوي الأوزان يعبر عن الفرض الإحصائي القائل بتساوي الجهل، بمعنى أنه عندما لا يوجد مبرر قوي، بناءً على معلومات، لاختلاف الأوزان، يفترض تساويها>> (ص20).
لم يوضح التقرير بالضبط ما الذي يقصده بالجهل هنا. والأرجح أنه يقصد بالجهل أحد معنيين:
هناك أولاً الجهل الناتج عن مجرد اختلاف الموقف القيمي، الذي يعبّر عنه مثلاً قولي إني لا أستطيع أن أحكم بما إذا كانت زيادة تمكين المرأة أهم أو أقل أهمية من رفع مستوى المعرفة أو زيادة العمر المتوقع عند الميلاد. فأنا قد أعتبر تمكين المرأة أهم ويعتبر غيري أن رفع مستوى المعرفة هو الأهم. وقد يسمى هذا الاختلاف وصعوبة حسمه <<جهلاً>> لا حيلة لنا معه إلا إعطاء المؤشرات كلها الوزن نفسه. ولكن هناك ثانياً الجهل الناتج عن مجرد استحالة التعبير عن أهمية مؤشر بالنسبة لآخر تعبيراً رقمياً. فأنا مثلاً قد أكون واثقاً من أن الحرية أو رفع مستوى العمر المتوقع عند الميلاد أهم من زيادة تمكين المرأة ولكني عاجز عن أن أقول إن هذا أهم من ذاك بمقدار كذا، أو إن هذا أهم من ذاك بمقدار الضعف أو الثلث.. إلخ. قد يسمى هذا أيضاً جهلاً. ولكن هذين النوعين من الجهل لا يبرران أبداً استخدام أوزان متساوية، إذ إن هذا لا بد أن يؤدي إلى نتائج غريبة وغير مقبولة. فمن ناحية، لا يجوز أن يؤدي اختلافنا في تقييم الأشياء إلى القول بمعاملة الأشياء كلها وكأنها متساوية، فهذا المسلك لن يرضي أحداً في الحقيقة، وسيسبب لدى الجميع شعوراً بعدم الارتياح إذ لن يعتبره أحد معبراً عن قناعاته وآرائه. وهذا هو بالضبط ما أدى إليه استخدام أوزان متساوية في استخراج هذا التقرير لمقياس التنمية الإنسانية، إذ لا بد من أن يشعر المرء بالاستغراب عندما يرى ترتيب البلاد العربية طبقاً لهذا المقياس، فيرى الأردن في القمة تليها الكويت والإمارات. . إلخ.
(ينشر بترتيب مع <<كتاب وجهات نظر>>).
غداً: تعدد الثقافات يحول دون اعتماد مقياس واحد في التطبيق
التغريب والاغتراب في تقرير <<التنمية الانسانية العربية>> (2) تعدد الثقافات يحول دون اعتماد مقياس واحد
جلال أمين
الرد مع إقتباس